رحلة على غير انتظار

التفتَ «تختخ» إلى الأصدقاء قائلًا: يبدو أن اللغز سيُصبح مثيرًا … لقد عرفوا مصدر النقود المزيَّفة … إن مُروِّج هذه النقود بقال قرب محطة سكة حديد «بني سويف»!

محب: وهل قبضوا عليه؟

تختخ: لا … لقد أغلق محلَّه واختفى! والسؤال الآن … لماذا «بني سويف»؟! إن من عادة مُزيِّفي النقود أن يعملوا في المدن الكبيرة مثل «القاهرة» … حيث يصعب تتبُّعهم … أمَّا في المدن الصغيرة فمن السهل اكتشافهم.

لوزة: لعل العصابة تُزيِّف النقود في «القاهرة» … ثم تُروِّجها خارج «القاهرة».

تختخ: هذا ممكن، ولكن لماذا في «بني سويف»؟!

محب: مجرَّد صدفة … فمن الممكن أن يُروِّجوها في أي مكان.

عاطف: شيء متعب … لماذا يذهبون بعيدًا هكذا؟! ألم يكن من الأفضل أن يُروِّجوها في «المعادي» ليكونوا قريبين منا؟

ابتسم الأصدقاء، وقالَت «نوسة»: على كل حال يمكنك البحث عنهم في «المعادي» … كالنكتة القديمة التي تقول إن شخصًا فقد قرشًا في شارع مُظلم … فذهب يبحث عنه في شارع آخر مضاء!

محب: لقد كنا نتحدَّث عن مُساعد زعيم العصابة … ذلك الرجل ذي الكتف اليسرى المرتفعة … وكنا نتساءل … ماذا يجعل كتف شخص ترتفع عن الأخرى؟ … أو ما هي المهنة التي تُؤدِّي إلى هذا؟

نوسة: لا أدري لماذا أرى هذا الطريق عقيمًا؛ فما الفائدة إذا عرفنا ماذا يشتغل؟ … هل يُؤدِّي هذا إلى القبض عليه؟!

عاطف: سيُقرِّب لنا معرفته.

نوسة: لا أعتقد … فلو فرضنا مثلًا أن عرفنا أنه يشتغل مهندسًا أو ملاكمًا … أو طبيبًا … فهل يعني هذا أننا وصلنا إليه؟ … إن في بلادنا آلاف المهندسين والملاكمين والأطباء … فكيف نعرفه من بينهم؟

تختخ: إن هذا هو الخيط الوحيد الذي نعرفه ويمكن أن نسير خلفه يا «نوسة».

نوسة: إنه خيط، أوهى من خيط العنكبوت … ولا أجد له أية فائدة!

قالَت «لوزة» في إحدى شطحاتها المفاجئة: إنني أُفكِّر في شيء … أُفكِّر في أن تكون مكنة التزييف في محل البقالة … نعم لماذا لا تكون فيه؟ إن أي محل بقالة له مخزن في الغالب … وفي هذا المخزن يمكن أن يضعوا مكنة تزييف النقود … ويمكن أن يقوموا بطبع النقود بدون أن يُحس بهم أحد … في ضجة دخول القطارات وخروجها من المحطة …

كان كلام «لوزة» معقولًا … وقال «تختخ» متأمِّلًا: إن فكرة وضع المطبعة قرب السكة الحديد معقولة جدًّا؛ فضجة القطارات يمكن أن تُغطِّي على صوت المكنة وهي تدور … إنني سأتصل بالمفتش «سامي» الآن وأطلب منه تفتيش محل البقالة.

واتجه «تختخ» إلى التليفون … ووضع يده على السمَّاعة … وقبل أن يرفعها دقَّ الجرس وكان المتحدِّث — لدهشة «تختخ» الشديدة — هو المفتش «سامي»، وقال «تختخ»: لقد كِدتُ أتصل بك الآن!

المفتش: لماذا؟ … هل توصَّلتُم إلى شيء؟

تختخ: نعم … إن «لوزة» لها وجهة نظر معقولة جدًّا.

ثم شرح «تختخ» للمفتش فكرة «لوزة»، ولكن المفتش قال: إنها فكرة معقولة حقًّا … ولكننا فتَّشنا المحل فعلًا، ولم يكن هناك أثر لمطبعة أو أي شيء يمكن أن يُفيدنا في البحث عن زعيم العصابة وشركائه.

كان «تختخ» ينظر إلى «لوزة» وهو يستمع إلى المفتش … وهزَّ رأسه، ففهمَت «لوزة» أن فكرتها … وإن كانَت معقولة … إلا أنها لم تُؤدِّ إلى شيء …

قال «تختخ» للمفتش: وهل ثمَّة جديد عندكم؟

المفتش: نعم … لقد اتصلتُ لأقول لكَ إن النقود المزيَّفة ظهرَت في «المنيا».

تختخ: في «المنيا»؟

المفتش: نعم … ولعلك تُلاحظ أنها المحطة التالية بعد «بني سويف» في خط السكة الحديد!

تختخ: طبعًا … إنها ملاحظة هامَّة فعلًا.

المفتش: هل يوحي لكَ هذا بشيء؟

تختخ: سنُفكِّر أنا والأصدقاء.

المفتش: من المحتمل أن هناك شخصًا يركب قطارًا ويُوزِّع هذه النقود على مراكز توزيع مُعيَّنة في المحطات.

تختخ: وهل تتبَّعتُم مصدر النقود كما تمَّ في «بني سويف»؟

المفتش: ما زلنا نُحاول … فقد وصلني التقرير منذ دقائق قليلة … ولا أدري ماذا يحدث هناك.

تختخ: إن أمر هذه العصابة مُحيِّر … لكن المعلومات الآن أكثر من ذي قبل … وسوف نجد شيئًا … ولكن هل النقود المزيَّفة التي وُجدَت في «المنيا» من النوع نفسه الذي وُجد في «بني سويف» … ومن النوع نفسه الذي ضبطناه في «المعادي»؟

المفتش: نعم … النوع نفسه … التزييف المتقن نفسه … هل هناك أسئلة أخرى؟

تختخ: مؤقَّتًا لا … ولكن قد نتصل بسيادتك بعد فترة.

المفتش: في الأغلب سوف أُسافر إلى «المنيا» … وإذا جدَّ جديد فسأتصل بكم من هناك.

تختخ: أرجو ألَّا تتأخَّر إذن … فقد يخطر ببالنا شيء.

ووضع «تختخ» السمَّاعة … وروى للأصدقاء الذين كانوا يُنصتون إلى المحادثة ما قاله المفتش «سامي» … ولم يكَد «تختخ» يفرغ من كلامه حتى قالَت «لوزة»: إنني أتوقَّع أن تظهر النقود في المحطات التالية.

تختخ: ممكن جدًّا.

نوسة: إن بعد «المنيا» … «أسيوط» … و«الأقصر» و«سوهاج» و«أسوان» … فإذا كانَت العصابة تُوزِّع نقودها المزيَّفة على المحطات … فلا بد أن تكون المحطة التالية هي «أسيوط».

تختخ: ليتني لفَتُّ نظر المفتش «سامي» إلى هذه الحقيقة!

عاطف: إنها ليسَت نقطةً غامضة … والمفتش رجل ذكي جدًّا … وبالطبع سوف يتنبَّه لهذه الحقيقة.

لوزة: للأسف يبدو أن دورنا في هذا اللغز لن يزيد على الجلوس هنا والحديث عن نشاط العصابة ونشاط رجال الشرطة، وهي جلسة ثقيلة ومُملة …

وافق الأصدقاء على ما قالَته «لوزة» بهز رءوسهم … ولكن الأمور لم تسرِ كما تصوَّروا؛ فقد دقَّ جرس التليفون مرةً ثالثة، وكان المتحدِّث هو المفتش الذي قال ﻟ «تختخ»: لقد قبض رجالنا على شخص في «المنيا» وأوصافه تُشبه أوصاف زعيم العصابة … ولأنك الشخص الوحيد الذي رآه فإني أُريدك أن تأتي معي الآن إلى «المنيا» … وسيقوم قطار من محطة «القاهرة» بعد ساعة … فقابلني هناك.

تختخ: هل أستطيع إحضار الأصدقاء معي؟

وأخذ الأصدقاء ينظرون إلى «تختخ» وهو يتلقَّى ردَّ المفتش بهزِّ رأسه … ثم قال «تختخ»: فهمت … بعد ساعة على المحطة.

ووضع «تختخ» السمَّاعة وقال: آسف جدًّا … لم يُوافق المفتش على حضوركم جميعًا … لقد وافق على حضور «محب» فقط معي … وقال إن وجودكم جميعًا سيُربك تحرُّكاتنا … بالإضافة إلى أن الجو حار جدًّا الآن في الصعيد، وهو يخشى عليكم من ضربة الشمس.

لوزة: وهل الشمس تضرب أيضًا؟

تختخ: عندما يتعرَّض إنسان لشمس قوية مُدةً طويلة؛ يُصاب بدوار شديد، وترتفع درجة حرارته، ويُسمَّى ذلك ضربة شمس … على كل حال إذا وجدتُ الأمور تسير على ما يرام … وكان هو زعيم العصابة، فلن يكون لحضوركم فائدة … أمَّا إذا كانَت المغامرة ما زالَت مستمرَّة؛ فقد أُرسل إليكم، أو أتحدَّث إليكم تليفونيًّا لتحضروا … هيا يا «محب». وأسرع الصديقان كلٌّ إلى منزله، وجهَّز كلٌّ منهما حقيبةً صغيرةً بها ملابس إضافية، ومعجون، وفرشاة الأسنان، ثم انطلقا إلى محطة «القاهرة» … كان المفتش في انتظارهما مع أحد رجاله الذي قدَّمه لهما باسم الضابط «نبيل» … وسرعان ما كان الأربعة يجلسون في أحد «صالونات» الدرجة الأولى في القطار المتجه إلى الصعيد.

وقال «تختخ»: لقد خطر لنا بعد مكالمتك أن ظهور النقود المزيَّفة في «بني سويف» ثم في محطة «المنيا»، معناه أن العصابة تُوزِّع نُقودها بانتظامٍ على محطَّات الصعيد … وكنا نرى أن تضعوا كمينًا على محطة «أسيوط» وهي المحطة التالية بعد «المنيا» … فلعلكم تقبضون على العصابة.

قال المفتش مبتسمًا: لقد فعلنا ذلك بالضبط … بل إننا وضعنا كمائن على جميع المحطات التالية.

تختخ: وما هي أوصاف الرجل الذي قبضتُم عليه؟

المفتش: ليسَت هناك أوصاف دقيقة … فقد كانَت مكالمةً تليفونيةً سريعة … ولكن بعض هذه الأوصاف تتشابه مع الأوصاف التي رويتَها عن زعيم العصابة … فلعله يكون هو.

تختخ: إن اللغز يُحَل بسرعة حقًّا لو تبيَّن أنه هو.

وصمت الأربعة … واستغرق كلٌّ منهم في خواطره … وكان «تختخ» يستمع إلى دقات العجلات على القضبان … ويتذكَّر قول «لوزة» إن مطبعة التزييف يمكن أن تكون قرب المحطة … فصوتها سيختفي في ضجيج القطارات الداخلة إلى المحطة والخارجة منها … ولكن تفتيش المحل القريب من محطة «بني سويف» لم يؤدِّ إلى العثور على المطبعة … فهل هي في «المنيا»؟ … ربما.

وكان «محب» يُفكِّر هو الآخر … في الشيء المُعيَّن الذي يربط بين ظهور النقود في «بني سويف»، ثم في «المنيا»، هل القطار يمكن أن يكون هو أو يكون شيئًا آخر؟!

كان «محب» يجلس بجوار النافذة فألقى ببصره إلى الخارج … كان «الإكسبريس» يقطع الطريق كالبرق … والأشجار وأعمدة التليفونات تظهر وتختفي كالأشباح الهاربة، وصوت القطار على القضبان يدق بانتظام ورتابة … واستسلم «محب» لخواطره وكأنه يستسلم للنوم، لولا أن صوت المفتش أيقظه وهو يقول: «محب»، هيا نتناول الغداء.

وقاموا جميعًا إلى عربة الطعام … وجلسوا يتناولون غداءهم ويتحدَّثون … كان «تختخ» ينظر إلى الركاب الذين ملئوا عربة الطعام وهو يُدقِّق البصر فيهم … كان يُفكِّر: هل يمكن أن يركب أحد أفراد العصابة القطار معهم؟ … رجل يُوزِّع النقود المزيَّفة على المحطات … وقرَّر «تختخ» شيئًا لم يقُل لأحد عليه … ثم انهمك في تناول طعامه … وعندما انتهَوا من تناول الطعام قال «تختخ»: أترككم الآن؛ فقد نويتُ أن أمر بالقطار من أوله إلى آخره؛ فإنني أُحب رؤية الناس.

مضى «تختخ» يقطع القطار … كان يمشي بين المقاعد وهو ينظر إلى الوجوه جيدًا … إنه يتوقَّع أن يجد شيئًا … فكرة ما خطرَت بباله، ربما كانَت نتيجتها مُهمَّةً جدًّا في هذه المغامرة.

ولكن تفتيشه لم يُسفر عن شيء … لقد دقَّق في كل وجه … ولاحظ كل إنسان، ولكنه في النهاية عاد إلى مقعده، وهو في غاية التعب دون أن يصل إلى شيء ممَّا دار في رأسه …

كان القطار يقترب من «المنيا» … ولم تبقَ سوى دقائق ويقف … بدأ الأربعة يقفون ويحملون حقائبهم … وعندما وقف القطار تمامًا نزلوا إلى المحطة … وصاح «محب»: يا لها من حرارة! … إن التكييف في القطار أنساني كم هو حار نهار الصيف في الصعيد …

كان في انتظارهم أحد الضبَّاط الذي رفع يده بالتحية إلى المفتش، ثم ركبوا إحدى سيارات الشرطة إلى مبنى مديرية الأمن في «المنيا» … وعندما وقفَّت السيارة دقَّ قلب «تختخ» سريعًا … فبعد لحظات سيُواجه الرجل الذي قبضوا عليه ومعه النقود المزيَّفة … فهل هو زعيم العصابة؟

ودخل المفتش مسرعًا إلى المبنى وهم خلفه، ثم دخل إحدى الحجرات حيث كان بعض الضباط ورجال المباحث يجلسون، ودخل «تختخ» … و«محب» … خلفه، وأشار المفتش إلى «تختخ» قائلًا: هذا هو الشخص الوحيد الذي شاهد رئيس عصابة التزييف … ولعله الرجل الذي قبضتُم عليه … فهناك تشابه بين أوصاف الرجلَين.

وجلس «تختخ» … وفُتح باب جانبي، ودخل رجل منه، ونظر إليهم جميعًا … وكانوا جميعًا ينظرون إلى «تختخ» في انتظار ما سيقوله …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤