كرباج ورا

نظر «تختخ» إلى الرجل … لا … ليس هو زعيم العصابة … صحيح أن هناك تَشابهًا واضحًا بينهما … ولكنه ليس هو … ونظر «تختخ» إلى المفتش، وهزَّ رأسه يمينًا ويسارًا، وأدرك المفتش أنه يقول له: لا …

جلس الرجل أمام المفتش … لم يكن يبدو عليه أي ارتباك … وسأله المفتش: ألَا تُريد أن تقول لنا من أين حصلتَ على هذه النقود المزيَّفة؟

وردَّ الرجل: لقد قلتُ من قبلُ إنني لا أعرف مصدرها … إنني تاجر قطن، وتجار القطن يتعاملون بألوف الجنيهات، وقد وصلَت هذه النقود إليَّ ضمن مبلغ قبضتُه ثمنًا لكمية من القطن بعتها.

المفتش: من شخصٍ واحد؟

الرجل: بل من عدة أشخاص.

المفتش: ألَا تذكر من الذي أعطاك هذه النقود بالذات؟

الرجل: مطلقًا!

كان «تختخ» يرقب الرجل ويفحصه وهو يتحدَّث … لقد كان ثابتًا حقًّا، ولكن «تختخ» لاحظ أن إحدى قدمَيه تهتز بعصبية … هل هذا دليل على شيء؟ قد يكون دليلًا أو لا يكون … فالشخص البريء إذا دخل قسمًا للشرطة فكثيرًا ما يرتبك وتثور أعصابه …

لم يكن أمام المفتش إلا أن يُخلي سبيل الرجل بعد أن سجَّل اسمه وعنوانه، ثم التفتَ إلى «تختخ» قائلًا: آسف … لقد كانَت رحلتُك بلا فائدة.

ابتسم «تختخ» قائلًا: من يدري؟ … لعل فائدتَها تكون أكبر ممَّا تتوقَّع.

المفتش: سأقوم باستيفاء بعض الأوراق لفترة ساعة تقريبًا، وسوف أعود إلى «القاهرة» … هل تعودان معي؟

نظر «تختخ» إلى «محب» فقال: طبعًا … فلم يعُد لنا هنا ما نفعله.

تختخ: في هذه الحالة سنخرج للمشي على كورنيش النيل … فهم يقولون إن الكورنيش في «المنيا» من أجمل ما يكون …

المفتش: لا بأس، وسأكون في انتظاركما بعد ساعة.

وخرج الصديقان … كانَت أول مرة يزوران فيها «المنيا»، فسألا عن طريق الكورنيش … وسارا يُحاولان الاحتماء بالظل من الشمس القاسية … ووصلا إلى «كازينو» جميل ذكَّرهما ﺑ «الكازينو» الجميل المطل على النيل في مدخل «المعادي»، فجلسا يتحدَّثان عن النقود المزيَّفة والعصابة … وبعد أن تناولا مشروبًا مثلجًا نظر «محب» إلى ساعته وقال: بقيَت ربع ساعة على موعدنا مع المفتش، فهيا بنا.

وقاما يسيران على الكورنيش مرةً أخرى، ولكن فجأةً نظر «محب» إلى رجل يسير مسرعًا على الجانب الآخر نظرةً فاحصةً كانَت كافيةً لتغيير مصير رحلتهما إلى «المنيا»؛ فقد أمسك «محب» بذراع «تختخ» وقال: انظر إلى هذا الرجل يا «تختخ»! نظر «تختخ» إلى حيث أشار «محب»، فشاهد الرجل الذي كان بقسم الشرطة … وقال «محب»: أليس هو «يوسف» الذي استجوبه المفتش أمامنا؟

ردَّ «تختخ»: نعم … إنه هو … ولكن ما أشدَّ ما تغيَّر … لقد خلع ثيابه البلدية وارتدى البدلة … لقد أصبح شخصًا آخر! …

محب: وهل يدل هذا على شيء بالنسبة لك؟

تختخ: ربما، هيَّا بنا نتبعه.

وأسرع الصديقان ينتقلان إلى الرصيف الآخر، وتبعا الرجل الذي كان يحمل حقيبةً صغيرةً ويمشي مسرعًا … ولم تمضِ سوى دقائق حتى وجداه ينحرف إلى محطة «الأوتوبيس»، ثم يقفز إلى «أوتوبيس» متجه جنوبًا إلى «أسيوط» … ودون أن يُفكِّر الصديقان قفزا خلفه … كان قد ركب في الدرجة الأولى، فركبا في الدرجة الثانية حتى يكونا بعيدَين عنه … وانطلق «الأوتوبيس» مسرعًا … ومال «محب» برأسه على «تختخ» قائلًا: ما هذا الذي فعلناه؟

تختخ: لا أدري … لقد نسينا المفتش الذي ينتظرنا الآن!

نظر «محب» إلى ساعته، ثم قال: لقد مضَت الساعة التي حدَّدها المفتش، وسوف يُصاب بقلق بالغ إذا لم نعُد في موعدنا.

تختخ: سنجد وسيلةً للاتصال به … المهم الآن أن نعرف أين يذهب هذا الرجل؟

محب: لقد تسرَّعنا يا «تختخ»، وقد لا يكون للرجل علاقة بعملية تزييف النقود أو العصابة.

تختخ: لقد ركبنا «الأوتوبيس» وانتهى الأمر.

وقطع عليهما الحديث الكمساري وهو يقترب منهما يطلب ثمن التذاكر … وحمد «تختخ» الله لأنه أحضر معه ما يكفي من نقود، فدفع ثمن تذكرتَين إلى «أسيوط»، ووقف هو و«محب» في الزحام و«الأوتوبيس» منطلق بهما، دون أن يعرفا ماذا يمكن أن يحدث بعد ذلك.

ومضَت ساعتان، واقترب «الأوتوبيس» من مدينة «أسيوط» … وكان الزحام قد اشتدَّ داخل «الأوتوبيس» الذي وقف في عدة محطات … وعندما توقَّف في النهاية أسرع الصديقان ينزلان برغم الزحام إلى الشارع، ويختفيان خلف «أوتوبيس» قريب. وأخذا يُراقبان النازلين في انتظار ظهور «يوسف» … ولكن «يوسف» لم يظهر مطلقًا … وخلا «الأوتوبيس» من رُكَّابه تمامًا … ولكن «يوسف» … كان قد تلاشى!

التفتَ «محب» إلى «تختخ» قائلًا: ما الذي حدث؟ … لقد اختفى الرجل!

تختخ: شيء مدهش! … ولكن هل نزل في إحدى المحطات التي توقَّف بها «الأوتوبيس» في الطريق … أو نزل هنا ولم نرَه؟!

محب: لقد كنا أول من نزل من «الأوتوبيس» … ولو كان فيه لرأيناه … ومن المؤكَّد أنه نزل في محطةٍ على الطريق …

تختخ: لقد كان أدهى منا كثيرًا … لعله شاهَدَنا في «الأوتوبيس» وخدعنا ونزل …

محب: وماذا نفعل الآن؟

تختخ: لا شيء أكثر من العودة فورًا إلى «القاهرة»!

واتجها إلى محطة السكة الحديد … وسألا عن القطار القادم من «أسوان» إلى «القاهرة»، فقال ناظر المحطة: هناك تأخير لا نعرف مدته … فقد وقع حادث في الطريق، ونحن نفعل ما بوسعنا، ولكن لا أستطيع تحديد موعد وصول القطار. كانَت صدمةً لهما … ونظر «تختخ» في ساعته، وكانَت تُشير إلى السادسة مساءً … وقال: إنني جائع جدًّا … تعالَ نأكل، ثم نُفكِّر فيما نفعل بعد ذلك.

وسارا يبحثان عن مطعم قريب … ووجدا فندق «أسيوط» السياحي، وبه مطعم أنيق، فدخلاه وطلبا الطعام، وجلسا في انتظاره …

كان «تختخ» يجلس بجوار النافذة ينظر إلى الشارع وقد ملأَت الخواطر رأسه … على حين كان «محب» يتأمَّل الجالسين حوله في المطعم … وفجأةً قفز «تختخ» واقفًا، وقال ﻟ «محب» وهو يُسرع خارجًا: ابقَ مكانك!

خرج «تختخ» مسرعًا إلى الشارع، و«محب» يرقبه مندهشًا … ماذا حدث؟ لا بد أن «تختخ» شاهد شخصًا يعرفه … وقد كان ذلك صحيحًا … لقد شاهد «تختخ» من خلال زجاج النافذة الرجل ذا الكتف المرتفعة … مساعد رئيس العصابة … وسرعان ما كان يسير على مبعدة منه … ولاحظ «تختخ» أنه اتجه إلى صيدلية قريبة ودخلها … ووقف «تختخ» خارج الصيدلية ينتظر خروجه، ولم يغِب الرجل طويلًا … فقد خرج مرةً أخرى يحمل ربطةً في يده، ثم قفز إلى عربة «حنطور»، وطلب من السائق أن ينطلق مسرعًا …

لم يكن أمام «تختخ» … إلا حلٌّ واحد … لم تكُن معه درَّاجته العزيزة … ولا كان أمامه تاكسي يركبه … وهكذا في ثانيةٍ واحدة كان قد تعلَّق بمؤخرة «الحنطور» كالأطفال الأشقياء، وانكمش على القضيب الحديدي الخلفي … كان منظرًا مثيرًا للانتباه … ولد سمين في ملابس نظيفة يتعلَّق ﺑ «الحنطور» … وسرعان ما كانَت تعليقات الناس تُطارده … وأخذ الأولاد في الشوارع يصيحون بالسائق صيحتهم التقليدية: كرباج ورا!

وسمع «تختخ» فرقعة السوط في يد السائق، وأحسَّ بطرف السوط وهو يهبط على جسده … لحسن الحظ على الحذاء … وزاد انكماشه، ولكنه ظلَّ متعلِّقًا ﺑ «الحنطور» برغم تكرار فرقعة السوط … لقد كانَت فرصة العمر بالنسبة له أن يرى عضو العصابة … بل مُساعد الزعيم شخصيًّا … ومضى «الحنطور» يشق طريقه والعيون تتعلَّق بالولد السمين … والسوط يُدوِّي بين فترة وأخرى … وفي أكثر من مرة أصابه السوط بلسعةٍ هائلة كأنه سكين يشق جلده … ولكنه ظلَّ متشبِّثًا بمكانه. ولم يطُل المسير … وأحسَّ «تختخ» بالحصان يُبطئ من خطوه، فأدرك أن «الحنطور» سيقف، وبخفة وسرعة قفز جانبًا، واختبأ في مدخل أول بيت صادفه، ثم وقف ينتظر …

على بعد نحو عشرين مترًا وقف الحنطور ونزل الرجل … ووقف يدفع الحساب، وبرغم بُعد المسافة فقد تأكَّد ﻟ «تختخ» أنه هو الرجل المطلوب … بطوله الواضح ونحافته … ودخل الرجل المنزل الذي توقَّف أمامه «الحنطور» … وانتظر «تختخ» لحظات، ثم خرج من مكمنه واتجه إلى المنزل … كان منزلًا مُكوَّنًا من ثلاثة أدوار يحمل رقم «۲۸»، ولم يتوقَّف «تختخ» طويلًا حتى لا يلفت إليه الأنظار، بل سار حتى أول الشارع، وقرأ اللافتة التي تحمل اسمه «شارع الخزان».

كان «الحنطور» قد ابتعد قليلًا، فأسرع «تختخ» خلفه … إنه لا يعرف «أسيوط» وخشي أن يتوه، ثم إنه يُريد أن يعود إلى «محب» سريعًا، وسرعان ما كان يُنادي السائق، ثم طلب منه توصيله إلى مطعم «أسيوط» السياحي … وعندما جلس في «الحنطور»، وعادَت دقَّات أقدام الحصان على الطريق، وفرقع السوط … لم يتمالك «تختخ» نفسه من الابتسام … لقد كان منذ لحظات قليلة مُعلَّقًا في مؤخرة «الحنطور» يتلقَّى لسعات السوط، وهو الآن يجلس داخل «الحنطور» بمنتهى العظمة … وتحسَّس آثار السوط على جسده، وهزَّ رأسه في أسًى …

وصل «الحنطور» إلى المطعم، وأعطى «تختخ» الرجل عشرة قروش، ثم قفز إلى الأرض وأسرع إلى داخل المطعم … ووجد «محب» جالسًا في انتظاره وأمامه الطعام لم يمسَّه، فمدَّ يده وتناول قطعةً من اللحم وألقاها في فمه، ثم قال: لماذا لم تأكل؟

قال «محب» في ضيق: كيف آكل وقد أفزعتني؟! … ماذا حدث؟

ردَّ «تختخ»: لقد وقعنا على صيدٍ ثمين …

محب: أي صيد؟

تختخ: سأقول لكَ كل شيء … كل بسرعة فنحن في أشد الحاجة إلى كل دقيقة! وانهمكا في الطعام … وفي دقائق قليلة كانا قد انتهيا … فقاما … وبعد أن دفعا الحساب وغسلا أيديهما، قال «تختخ»: لقد رأيتُ مساعد رئيس العصابة!

محب: الآن؟!

تختخ: نعم … مرَّ بجوار نافذة المطعم … واتجه إلى «شارع الخزان» … ودخل المنزل رقم «۲۸».

محب: ولماذا أضعتَ وقتنا في الطعام؟

تختخ: لقد دخل صيدليةً واشترى بعض الأدوية، ومعنى ذلك أنه مريض أو أنه ذاهب إلى شخص مريض … فهناك وقت لنلحق به.

محب: ولكنك قلتَ إننا في حاجة إلى كل دقيقة!

تختخ: نعم … ولكننا في أشد الحاجة إلى الطعام أيضًا!

كانا قد خرجا من المطعم، فقال «محب»: ما هي خطتك؟

نظر «تختخ» إلى ساعته، ثم قال: السابعة والربع … سوف يهبط الظلام بعد قليل، وقد قرَّرتُ مراقبة المنزل.

محب: أليس من الأفضل أن نُبلغ الشرطة؟

تختخ: وهل تتصوَّر أنهم سيُصدِّقوننا؟! إن أحدًا لا يعرفنا … والمفتش «سامي» على بعد مئات الكيلومترات … وليس لنا إلا الاعتماد على أنفسنا.

ومرةً أخرى استدعى «تختخ» «حنطورًا»، وقفزا فيه … وطلب «تختخ» من السائق الاتجاه إلى «شارع الخزان» … ومشى «الحنطور»، وعندما وصلا إلى أول الشارع طلب «تختخ» من السائق التوقُّف، ثم سارا على حذر متجهَين إلى المنزل رقم «۲۸»، وكانَت الشمس قد غربَت …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤