أُمسية حافلة

بعد أن سارا مسافةً أشار «تختخ» إلى أحد المنازل وقال: هذا هو المنزل الذي دخله الرجل … سنمشي على الرصيف المقابل له ونرقبه.

قال «محب»: إنني أقترح يا «تختخ» أن يذهب أحدنا إلى مكتب التليفون ويطلب المفتش «سامي» … في «القاهرة» … إنه بالتأكيد قد وصل الآن إلى هناك … ونُخطره بما رأيته … ونطلب منه الاتصال بالشرطة هنا في مدينة «أسيوط» ليُساعدونا بدلًا من الوقوف وانتظار الأحداث …

ردَّ «تختخ» بعد تفكير قصير: لا بأس يا «محب» … اذهب أنت إلى مكتب التليفون واطلب المفتش «سامي» وأخبِره بما يحدث … وسأقف هنا في الانتظار …

محب: إذا افترضنا أن شيئًا حدث قبل أن يصل رجال الشرطة فماذا نفعل؟

تختخ: لا أدري … المهم أسرع الآن … وإذا تحرَّكتُ أنا فسوف أترك لك رسالةً تليفونيةً في الفندق السياحي حيث تغدَّينا … فقد حفظتُ رقم تليفونه …

أسرع «محب» يسأل أقرب شخصٍ قابله عن مكتب التليفونات … وعندما عرف مكانه سار مسرعًا في الطريق إليه … وبعد مسيرة نحو عشر دقائق وصل إلى المكتب … ووقف في طابور طالبي الحديث خارج المدينة … أخذ يُفكِّر في «تختخ» … هل يتمكَّن من الاتصال به تليفونيًّا؟ … لنفرض أن الرجل غادر المنزل الآن … هل يتركه «تختخ» ينصرف بدون أن يتبعه؟ وإذا تبعه هل يجد فرصةً للحديث التليفوني ليترك له الرسالة؟

كان الطابور يتحرَّك في بطء … و«محب» … يشعر كأن الدقائق قد أصبحَت ساعات لفرط لهفته … وأخيرًا جاء دوره، فطلب الرقم ودفع النقود وأخذ الإيصال، ثم جلس على أقرب مقعد … وأخذ ينتظر سماع الرقم عندما يُنادى عليه … كان صوت الرجل يرتفع بين لحظة وأخرى صائحًا: «٥٢٥٦١ المنيا»، «كابينة» رقم ثلاثة … تفضَّل يا سيد … وتمضي لحظات، ثم يَصيح مرةً أخرى «٩٨٩٣٤٤ مصر» … «مصر» … الأستاذ الذي طلب «مصر» … «الكابينة» رقم واحد … تفضَّل يا أستاذ …

ووجد «محب» سيدةً عجوزًا تقف في انتظار مكالمة … فقام من مكانه ورجاها أن تجلس مكانه … ثم أخذ يتمشَّى ببطء في المكتب … كان قريبًا من «الكابينة» حيث يتحدَّث الزبائن … وسمع رقمًا ﻟ «القاهرة»، ثم رأى شخصًا يُسرع إلى الكابينة ويُغلق الباب خلفه ويتحدَّث … لم يكن الباب مغلقًا جيدًا، فاستطاعَت أذنا «محب» الحادَّتان أن تسمع كلمات شدَّت انتباهه … سمع الرجل يقول: نعم … في منزل «شارع الخزان» … إنه مصاب … نعم في القطار … أحضرنا له أحد الأطباء … إصابته خطيرة ولكننا لم نتركهم ينقُلونه إلى المستشفى …

كان ذهن «محب» يعمل بسرعةٍ خارقة، ويربط بين الحديث وبين ما سمع من «تختخ» … رجل مصاب في «شارع الخزان» … هل هو عضو العصابة؟!

ووجد «محب» نفسه يقترب أكثر من «الكابينة» ليسمع بقية الحديث … كان الرجل يقول: استطعنا إغلاق العربة … ليسَت هناك مشاكل حتى الآن … نعم … لا … حاضر … النقود معنا … حاضر …

ووضع الرجل السمَّاعة … وأسرع «محب» يبتعد … ورأى الرجلَ يخرج من «الكابينة»، وراقبه جيدًا حتى انطبعَت صورته في ذهنه … وفكَّر … هل يتبعه؟ ولكن الرجل سيذهب إلى المنزل في «شارع الخزان» و«تختخ» هناك … فمن الأفضل إذن أن ينتظر المكالمة …

ومضَت الدقائق بطيئة … ثم سمع «محب» الرقم الذي طلبه … والرجل يقول: «كابينة» رقم ثلاثة من فضلك … وأسرَع إلى «الكابينة» … وسرعان ما كان يسمع صوت المفتش «سامي»، وقال «محب»: أنا الآن في «أسيوط» … طبعًا أنتَ قلقتَ علينا … ولكن بعد أن خرجنا من عندك قرَّر «تختخ» أن نتبع الرجل الذي استجوبتَه عندما رأيناه بملابس مختلفة، وكان يسير مسرعًا … فسرنا خلفه، وركب «الأوتوبيس» من «المنيا» إلى «أسيوط» فركبنا خلفه … ثم فقدنا أثره … وحاولنا أن نعود ولكن القطار الذاهب إلى «القاهرة» مُعطَّل بسبب حادثة في الطريق … ثم شاهد «تختخ» … أحد رجال العصابة … فتبعه … إنه الآن في منزلٍ ﺑ «شارع الخزان» … و«تختخ» يُراقب المنزل … نُريدك أن توصي رجال الشرطة هنا ليُساعدونا …

واستمع «محب» لحظات، ثم مضى يقول: وقد استمعتُ إلى مكالمة تليفونية هامة الآن … ولكن الوقت ضيق … سأقول لكَ فيما بعد …

واستمع «محب» مرةً أخرى، ثم قال: المفتش «أحمد»؟ سأذهب إليه فورًا … لا أدري متى نعود؟ … سنتصل بك. أرجو الاتصال بالأصدقاء وإخطارهم أننا بخير …

أنهى «محب» المكالمة وهو يقول: حاضر … سنُحافظ على أنفسنا … وسأُسرع الآن إلى مديرية الأمن في «أسيوط» …

ووضع «محب» السمَّاعة وخرج مسرعًا يسأل عن مكان مديرية الأمن … وعندما وصل إليها سأل عن المفتش «أحمد»، ولكن المفتش لم يكن موجودًا.

وقف «محب» في صالة المديرية وحيدًا مرتبكًا … ماذا يفعل؟! ومرةً أخرى سأل: هل يمكن الاتصال بالمفتش في منزله؟ وبعد إلحاح استطاع أن يتصل به، قال له: إنني من طرف المفتش «سامي» … نعم مفتش البحث الجنائي في «القاهرة» … نعم … هناك أخبار عندي عن عصابة التزييف التي يُطاردها رجال الشرطة منذ شهور … نعم … ظهرَت النقود في «بني سويف» وفي «المنيا» وقد تظهر هنا … ومعي زميل يُراقب منزل العصابة الآن!

استمع «محب» إلى المفتش، كان صوته يأتي ومعه موسيقى وأصوات مختلفة أخرى … كان المفتش يقول: سأحضر إليك فورًا … أعطني الضابط الموجود الآن … اسمه «حسين».

وطلب «محب» من شرطي التليفون أن يُحوِّل المكالمة إلى الضابط «حسين» … ثم فكَّر قليلًا وسأل عن مكان الضابط واتجه إلى مكتبه …

عندما دخل «محب» كان الضابط يتحدَّث مع المفتش «أحمد» وكان يقول: حاضر يا أفندم … حاضر يا أفندم …

ووضع السمَّاعة، ثم التفتَ فرأى «محب» … فقال: أهلًا وسهلًا … تفضَّل … حضرة المفتش «أحمد» سيحضر حالًا … ثم قام الضابط فأصدر بعض التعليمات … إعداد سيارة، وعدد من الرجال.

لم تمضِ دقائق حتى كان المفتش «أحمد» قد وصل. قال ﻟ «محب»: آسف إذا كنتُ قد تأخَّرت … عندي حفلة عيد ميلاد ابني … هيا بنا … هل تعرف المكان؟

محب: نعم … إنه المنزل رقم «۲۸» في «شارع الخزان» …

ونزلوا مسرعين … وركبوا سيارة الشرطة التي انطلقَت مسرعةً إلى الشارع المذكور … وعندما وصلوا إلى هناك أشار «محب» إلى المنزل … وبدأ الرجال يُغادرون السيارة، وأخذ المفتش يُصدر تعليماته … أمَّا «محب» … فقد كان ينظر حوله … كان يبحث عن «تختخ» … ولكن «تختخ» لم يكن له وجود … ودقَّ قلب «محب» وكاد يخرج من بين جنبَيه … أين «تختخ» الآن؟! أين ذهب؟! هل ترك له رسالةً كما اتفقا … أو لم يتسع له الوقت؟!

وشاهد «محب» رجال الشرطة وهم يدخلون المنزل، فأسرع خلفهم … وسأله المفتش: في أي طابق؟

ردَّ «محب»: لا أدري!

دخل المفتش والرجال … تجمَّع بعض المارة أمام الباب … ودقَّ المفتش جرس أول شقة في المنزل … وفُتح الباب، وأطلَّ وجه سيدة تسأل من الطارق، فقال المفتش في أدب: آسف جدًّا … إننا نسأل عن رجل مصاب!

ردَّت السيدة: لا مصابين عندنا … ربما في الدور الثالث فقد شاهدتهم ينقُلون رجلًا مصابًا قرب العصر.

أسرع المفتش ورجاله ومعهم «محب» إلى الدور الثالث … كانَت هناك شقتان إحداهما مضاءة والأخرى مطفأة … ومرةً أخرى كان المفتش يدق جرس الشقة المضاءة … ولكن «محب» جذبه من ذراعه … فأمام الشقة المظلمة … وعلى ضوء السلَّم، كانَت على الأرض قِطَع من القطن مُلَوَّثة بالدماء … وفهم المفتش، وتقدَّم ومعه رجاله وقد شهروا أسلحتهم في الشقة المظلمة … ودفع المفتش الباب بيده … وكم كانَت دهشتهم عندما وجدوه مفتوحًا! … تسلَّل الرجال إلى الداخل، وأضاء المفتش نور الصالة … كانَت خالية … وطافوا بالغرف كلها … وكانَت جميعها خالية … لم يكن هناك أي أثر لأحد … ففي غرفة للنوم شاهدوا فراشًا بجواره بعض قِطَع القطن المُلَوَّثة بالدماء …

قال المفتش: لقد أفلتوا!

تشمَّم «محب» رائحة الغرفة، فاشتمَّ رائحة سجائر ما زالَت في الجو فقال: لقد انصرفوا منذ قليل … لا بد أنهم كانوا في انتظار هبوط الظلام.

قال المفتش: وأين زميلك الذي تحدَّثتَ عنه؟

ردَّ «محب»: لا أدري، ولكنه اتفق معي أن يترك لي رسالةً تليفونيةً في الفندق السياحي حيث تغدَّينا … هذا إذا كانَت هناك فرصة لذلك …

ونزل الرجال مرةً أخرى بعد أن ترك المفتش أحد رجاله يحرس الشقة؛ فقد يعود رجال العصابة إليها … ومرةً أخرى تحرَّكَت السيارة مسرعةً إلى الفندق السياحي، وأسرع «محب» والمفتش إلى عامل التليفون … وسأله «محب»: ألم تصِلك مكالمة تليفونية باسم «محب»؟

ردَّ الرجل وهو يُفكِّر: «محب»! لا أذكر أن أحدًا سأل عن هذا الاسم. وقف المفتش و«محب» في وسط الفندق … كانَت الحياة تمضي … الناس يدخلون ويخرجون … ويأكلون … وكلاهما واقف في صمت يُفكِّر في الخطوة التالية … ثم قال المفتش: آسف جدًّا … لكني مضطر للعودة إلى منزلي … إن عندي ضيوفًا. تفضَّل معي.

ردَّ «محب»: شكرًا … سأبقى هنا … فقد تصل رسالة من صديقي …

المفتش: على كل حال إنني في انتظار مكالمة إذا جدَّ جديد … وتستطيع الاتصال بمديرية الأمن إذا احتجتَ إلى مساعدة …

وعرَّف المفتشُ «أحمد» رقمَ تليفون منزله ﻟ «محب»، ثم انصرف … ووجد «محب» نفسه وحيدًا وسط الفندق … ونظر إلى ساعته، وكانَت تقترب من التاسعة … ماذا يفعل؟

اتجه إلى أقرب مائدة وجلس، وطلب زجاجةً من «الكوكاكولا»؛ فقد كانَت ليلةً شديدة الحرارة …

جلس «محب» يرتشف المشروب البارد … وذهنه ينتقل من فكرة إلى أخرى … ومن مكان إلى آخر … ولكنه كان ينتهي دائمًا بهذا السؤال … أين «تختخ»؟! وأخذ يتذكَّر مغامراتهم السابقة … لقد مرُّوا بظروفٍ أسوأ من هذه بكثير … ولكن المشكلة الآن كيف يتصرَّف؟ … كيف يجد «تختخ»؟ هل يُسافر إلى «القاهرة» ويعرض كل التفاصيل على الأصدقاء وعلى المفتش «سامي»؟ ولكن كيف يترك «تختخ» وحيدًا في هذه المدينة؟ وهل ما يزال في المدينة؟! أسئلة كثيرة … ولكن بلا إجابة واحدة!

كان الوقت يمضي وهو جالس لا يدري ماذا يفعل … ثم تذكَّر فجأةً شيئًا هامًّا … وضع يده في جيبه يبحث عمَّا بقي معه من نقود … لقد كان «تختخ» يحمل النقود كلها معه، ولم يكن مع «محب» الكثير … وأخذ يُحصي نقوده … ووجد أن كلَّ ما معه لا يزيد على تسعين قرشًا … مشكلة أُخرى … هل ينام الليلة في «أسيوط»؟ هل يُسافر؟ ومن أين النقود؟! هل يطلب من المفتش «أحمد» قرضًا؟ إنه يخجل أن يفعل هذا!

وقام … لا بد أن «تختخ» ترك له رسالةً في مكان ما … فما الأماكن التي يمكن أن يُفكِّر فيها «تختخ»؟ وبعد أن دفع ثمن ما شرب خرج يمشي في الشارع، وقادَته قدماه إلى محطة السكة الحديد … ووجد نفسه يتجه إلى ناظر المحطة وسأله: هل تمَّ إصلاح الخط؟

ردَّ الرجل بدون أن ينظر إليه فقد كان مشغولًا: تمَّ إصلاح الخط … وبدأَت القطارات تنتظم في السير.

وبدأ «محب» يتحرَّك مغادرًا الناظر، ولكن الناظر رفع بصره ينظر إليه … وضاقَت عينا الناظر لحظة، ثم قال: ألم تأتِ هذا المساء مع زميل لكَ تسألان عن القطارات الذاهبة إلى «القاهرة»؟

ردَّ «محب»: نعم كان معي زميل وهو سمين قليلًا.

قال الناظر: إذن أنتَ «محب».

ردَّ «محب» وقلبه يدق سريعًا: نعم … أنا «محب»!

قال الرجل: عندي رسالة لك من صديقك «توفيق». يقول لك … اركب فورًا إلى «القاهرة» … لقد سبقك إلى هناك!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤