استنتاجات

أحسَّ «محب» بفرحة طاغية … لقد كان متأكِّدًا أن «تختخ» سيجد وسيلةً ليُرسل له رسالة … وقد حدث … وسأل الناظر: هل ركب «توفيق» القطار؟

قال الناظر: لا أدري … لقد ظهر فجأةً وقال لي الرسالة، ثم اختفى … وقد كان يبدو عليه الانفعال الشديد …

محب: وبكم تذكرة السفر إلى «القاهرة»؟

الناظر: ٧٥ قرشًا في الدرجة الثالثة … وسيأتي القطار بعد ساعة تقريبًا …

ومرةً أخرى أحسَّ «محب» أن كل شيء على ما يُرام … لقد سبقه «تختخ» إلى «القاهرة» والنقود التي معه تكفي … بل إن معه زيادةً خمسة عشر قرشًا … وقرَّر أن يُكافئ نفسه بزجاجة «كوكاكولا» ثانية … وبعد أن قطع تذكرة السفر … اشترى روايةً قديمةً يتسلَّى بها، وشرب زجاجة «الكوكاكولا» … ثم جلس تحت مصباح المحطة يقرأ … ومضَت الساعة، وسمع صفير القطار القادم فاستعد … ولم يكَد القطار يقف حتى أسرع إلى أحد أبواب عربات الدرجة الثالثة … كان يرجو أن يجد مكانًا للجلوس … ولكن كان ذلك حلمًا … فقد كان القطار مزدحمًا تمامًا … وأُضيف إليه رُكَّاب «أسيوط» أيضًا … وبالكاد وجد مكانًا للوقوف بجوار النافذة … أغلق «محب» الكتاب ووقف يتأمَّل من حوله … لقد علَّمَته التجارِب والمغامرات التي مرَّ بها أن يكون يقظًا ومتنبِّهًا … فكثيرًا ما كانَت كلمة أو نظرة كافيةً لحل لغز … أو بداية لغز جديد …

ومضى القطار يشق طريقه في الظلام متجهًا إلى «القاهرة» … لم يكن بين الركاب من لفت نظر «محب»، ولكن أحاديث الناس عن الحادث الذي أخَّر قطارات الصعيد استرعَت انتباهه، وكم كانَت دهشته عندما علم أن الحادثة وقعَت لقطار بضاعة وليس لقطار من قطارات الركاب! … إذن فعضو العصابة المصاب لم يُصَب في حادثة القطار كما تصوَّر هو و«تختخ» … ولكي يتأكَّد سأل أحد الركاب: هل كان هناك مصابون في الحادث؟

قال الرجل: على قدر علمي لم يكن هناك مصابون على الإطلاق.

قال «محب» لنفسه: شيء غريب … لقد أقمنا استنتاجات كثيرةً على إصابة الرجل في حادث القطار … ولكن الرجل أُصيب في حادث آخر!

عاد «محب» ففتح الكتاب ليقرأ، وحاول قضاء وقت مفيد؛ فالقطار ممَّا يقف على محطات المحافظات … ويأخذ وقتًا طويلًا إلى «القاهرة» …

ومضَت الساعات، واقترب القطار من «القاهرة»، واتجه «محب» إلى الباب … ولم يكَد القطار يصل إلى الرصيف حتى نظر إلى ساعته … كانَت تُعلن منتصف الليل … ولم يكُن معه إلا ثلاثة قروش … وعليه أن يركب «الأوتوبيس» إلى محطة «باب اللوق» … ولم يُضيِّع وقتًا … ووجد نفسه بعد نصف ساعة يقترب من «المعادي»، وأحسَّ بسعادة بالغة وهو يقطع الطريق ماشيًا بسرعة وهو يُفكِّر: هل يمر على «تختخ» الآن … أو ينتظر إلى الصباح؟ …

وقرَّر أن يمر به … فإذا وجد نورًا في غرفته أطلق صيحة «البومة». وهكذا عندما وصل إلى حديقة منزل «تختخ» دخل، ونظر إلى غرفة «تختخ»، وكانَت النافذة مفتوحة … والنور مضاء … فأطلق صيحة «البومة» … وسرعان ما أطلَّ رأس «تختخ» من النافذة وقال: «محب»! سأفتح لكَ الباب فورًا …

وردَّ «محب»: سأصعد على الشجرة اقتصادًا للوقت.

وقفز «محب» القوي على الشجرة، وتسلَّق الأغصان، ثم قفز إلى الغرفة، وتلقَّاه «تختخ» مُرحِّبًا، ثم نظر إليه قائلًا: ياه! … إنك مُغطًّى بالتراب.

محب: لقد ركبتُ في الدرجة الثالثة … ووصلتُ إلى هنا. لم يبقَ مع أية نقود.

تختخ: لعلك جائع؟

محب: جدًّا!

تختخ: تعالَ ننزل إلى المطبخ … ولكن اغتسل أولًا حتى أُعِد لكَ لقمةً سريعة … ودخل «محب» الحمَّام، على حين أسرع «تختخ» نازلًا إلى المطبخ … وبعد دقائق كان الصديقان يجلسان معًا، و«محب» يلتهم الطعام، و«تختخ» يسرد عليه كل ما مرَّ به بعد أن تركه «محب» في «شارع الخزان».

قال تختخ: بعد انصرافك أخذتُ أسير أمام المنزل … كانَت أضواء الطابق الثالث مضاءة، ولكن النوافذ مغلقة … ومضى الوقت وأنا واقف، ثم حضر أحد الأشخاص … وبدا لي من سرعته أنه أحد أعضاء العصابة.

محب: وبدون أن أُقاطعك … كان قصير القامة … ورأسه كبير … ويلبس قميصًا أزرق اللون.

تختخ: تمامًا … كيف عرفت؟

محب: سأُخبرك عندما تنتهي من حديثك.

تختخ: ترك الرجل «الحنطور» أمام الباب، ثم صعد إلى أعلى، وأدركتُ من وِقفة «الحنطور» أمام الباب أنهم سينزلون، فأسرعتُ أبحث عن تليفون، وفعلًا وجدتُ محلًّا لبيع السجائر به تليفون … وأخذتُ أطلب رقم الفندق السياحي … ولكن الرقم كان مشغولًا باستمرار، وخشيتُ أن يُغادروا المنزل بدون أن أراهم … فتركتُ التليفون وعدتُ مسرعًا إلى المنزل … فلم أجِد «الحنطور» أمام الباب … وجريتُ في الشارع … ولحسن الحظ رأيتُ «حنطورًا» من بعيد … لم أكُن مُتأكِّدًا أنه هو … ولكني قرَّرتُ أن أتبعه وأبذل كلَّ ما أستطيع … وجريتُ خلفه … كانَت المسافة كبيرة … وأنت تعرف …

محب: أعرف أنك لا تستطيع أن تجري بسرعة …

ابتسم «تختخ» قائلًا: سأُحاول أن أُخفِّف وزني، وأتمرَّن على الجري … فقد كادوا أن يُفلتوا مني … ولكني وجدتُهم يتجهون إلى المحطة …

عاد «محب» يُقاطع «تختخ»: لقد نقلوا المصاب إلى «القاهرة»!

مرةً أخرى قال «تختخ» مندهشًا: كيف عرفت؟

محب: سأقول لكَ بعد أن تُكمل حكايتك.

مضى «تختخ» قائلًا: أدركتُ أنهم سيركبون القطار … فأسرعتُ إلى المحطة، ولكني لم أجد أثرًا ﻟ «الحنطور» … وصعدتُ إلى المحطة أبحث عنهم، ووجدتُ القطار قد وصل، فتصوَّرتُ أنهم ركبوا قبلي … فأسرعت إلى ناظر المحطة وتركتُ لكَ الرسالة، ثم قفزتُ إلى القطار وهو يتحرَّك.

وسكت «تختخ» قليلًا، ثم قال: وتجولتُ في القطار أبحث عنهم … ولكني لم أعثر لهم على أثر.

محب: شيء غريب!

تختخ: فعلًا … ولكن هناك استنتاجًا … إنهم ركبوا في إحدى عربات النوم، وأنت لا تستطيع أن تفتح كل الأبواب … وتسأل عن شخص مصاب … أو تُفتِّش عنه فوق الأَسِرَّة … ولكني قرَّرتُ أن أنتظر حتى الوصول إلى محطة «القاهرة»، وأنتظرهم …

وسكت «تختخ» قليلًا، ثم قال: ولكن؟

وعاد إلى الصمت مرةً أخرى، وبدا كأنه يخجل ممَّا سيقوله … ثم قال: ولكن حدث أني نمت … نعم نمت … لا أدري كيف حدث أني استسلمتُ للنوم … لقد كنتُ متعبًا فأسلمتُ عيني للرقاد لحظات … ولم أستيقظ إلا وأحد فَرَّاشي القطار يوقظني قائلًا: إننا وصلنا إلى «القاهرة» … وبالطبع لم أجد أحدًا … وحضرتُ إلى هنا!

محب: على كل حال لقد حضروا إلى «القاهرة».

تختخ: كيف عرفت؟

محب: لقد مررتُ بمغامرة فاشلة أيضًا، ولكني شاهدتُ وسمعتُ ما يكفيني لأن أُؤكِّد أنهم الآن في «القاهرة» … ولكن لن أروي لك حكايتي الآن … إنني متعب أنا الآخر، وسأذهب لأنام … وغدًا صباحًا سنجتمع مع الأصدقاء وأحكي لكم كل ما حدث … إنني لا أستطيع أن أروي الحكاية مرَّتَين.

تختخ: ولكن كيف تتركني دون أن أعلم؟

محب: لقد قلتُ لك … إنهم في «القاهرة» … ولكن التفاصيل غدًا …

وتصافح الصديقان … وانطلق «محب» عائدًا إلى منزله …

•••

في صباح اليوم التالي كان هناك اجتماع حافل للأصدقاء … كانَت هناك تحيات وقبلات … ثم جلس الخمسة وبجوارهم «زنجر» في «الكشك» الصيفي في حديقة منزل «عاطف» الواسعة …

وبدأ «تختخ» فقدَّم للأصدقاء تفاصيل المغامرة منذ بدأَت في لغز «الفهود السبعة»، وقصة عصابة التزييف، ثم روى هو مغامرته و«محب» … في «المنيا» و«أسيوط» … ومغامرته عندما راقب المنزل، وكيف جرى وراء «الحنطور». وهنا قال «عاطف» باسمًا: لا بد أنكَ لم تجرِ كثيرًا؛ فما زلتَ من الوزن الثقيل …

تختخ: إنكَ تجلس هنا في «المعادي» ولا تفعل شيئًا سوى إلقاء النكت!

واحمرَّ وجه «عاطف»، ثم قال «تختخ»: والآن سيروي لكم «محب» ما مرَّ به. إني أعتقد أنه حصل على معلومات هامة … فقد سمعتُ بعض استنتاجات تدل على أنه شاهد وسمع الكثير.

والتفتَت «نوسة» … إلى «محب» … وقالَت: هيا يا «محب»!

لوزة: إننا أصبحنا مستمعين فقط … فلم نشترك في اللغز الماضي اشتراكًا فعليًّا … وها نحن أولاء أنا و«نوسة» نقوم بدور المستمعين.

تختخ: ولكن لا تنسَي يا «لوزة» … أن الاستنتاجات جزء هام جدًّا من حل اللغز … بل هي أهم جزء على الإطلاق …

محب: لقد لعبَت الصدفة دورها فيما سمعتُ وشاهدت … فعندما اتفقتُ مع «تختخ» على الذهاب للحديث مع المفتش «سامي» تليفونيًّا، تصادف أن وقفتُ بجوار «كابينة» التليفون، وسمعتُ شخصًا يتحدَّث إلى شخص آخر في «القاهرة» … وفهمتُ من الحديث أن هنالك شخصًا مُصابًا مطلوب نقله إلى «القاهرة» … وظننتُ أنه قد يكون أحد رجال العصابة … فاستمعتُ إلى كل الحديث …

ثم روى «محب» للأصدقاء مغامرته … والاستماع إلى المكالمة التليفونية، والتحدُّث إلى المفتش «سامي» … ومقابلة المفتش «أحمد»، والذهاب لتفتيش المنزل … ثم الرسالة التي تلقَّاها من ناظر المحطة … وما سمعه في القطار عن حادث قطار البضاعة … وبعد أن انتهى «محب» من روايته قال «تختخ»: والآن … مطلوب منا أن نُخرج من هذه المعلومات باستنتاجات مُحدَّدة، نصل بها إلى العصابة.

سكت الأصدقاء لحظات يُفكِّرون، ثم قالَت «لوزة»: الشيء الذي أُحسُّ أنه مهم فعلًا هو حادث قطار البضاعة … ماذا كانَت العصابة تفعل في قطار بضاعة؟

محب: ولكننا لم نقُل إن العصابة كلها كانَت في قطار البضاعة، لقد قلتُ إن فردًا واحدًا منها أُصيب … وحتى ذلك لسنا متأكِّدين منه؛ فقد يكون قد أُصيب في حادث سيارة، أو أي حادث آخر.

لوزة: يبدو أنكَ بدأتَ تُصاب بالنسيان … لقد قلتَ لنا إن الرجل الذي كان يتحدَّث في التليفون قال إن المصاب قد جُرح في القطار!

احمرَّ وجه «محب» قليلًا، ثم قال: فعلًا … فعلًا … إنني أتذكَّر أنه قال هذا … إذن فسؤالكِ له أهمية فعلًا.

قالَت «نوسة»: بالإضافة إلى القطار … هناك شيء هام جدًّا … رقم التليفون الذي طلبه عضو العصابة في «القاهرة» … إن المعتاد في مكتب التليفونات أن يُنادوا على الرقم بصوت مرتفع … فإذا كنتَ قد سمعتَه يا «محب» … وحفظتَه؛ ففي إمكاننا عن طريقه أن نصل إلى مكان العصابة في «القاهرة»!

تحوَّلَت الأنظار كلها إلى «نوسة» … في إعجاب، ثم اتجهَت إلى «محب» الذي ضرب جبهته بيده قائلًا: معك حق … كيف لم أحصل على هذا الرقم؟! إنني للأسف الشديد لا أذكر شيئًا منه على الإطلاق؛ لأني لم أكُن أعرف أن هذا الرجل له صلة بالموضوع إلا بعد أن سمعتُ كلامه وهو يتحدَّث بالتليفون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤