أدب أم قلة أدب؟
في طفولتي كانت لي صديقة وحيدة، تقول ما لا يقوله الناس، لم يكن عقلي يلتقط كل ما تقوله، وإن أدركه جسدي بقشعريرة خفيفة لا تخلو من اللذة، يشوبها بعض الخوف أو الإحساس بالإثم، كأنما أنا المسئولة يوم الحساب عما تقوله صديقتي. لم يكن عقلي يفهم كلمات كثيرة غامضة يُرددها الناس كل يوم، منها كلمة الإثم ويوم الحساب. أسمعهم يقولون إن الغامض هو المستور، أمَّا صديقتي فكانت تقول إن الغامض هو الظاهر أمام عيوننا وآذاننا، وتقول أيضًا إن الناس لن يفهموها، وإن فهموها أنكروها وتنكروا لها، من أجل إثبات براءتهم غير البريئة، كما تقول صديقتي، فهي ترى عوراتهم المستورة بورق الشجر، مثل زرقاء اليمامة، ورأت المستور مكشوفًا، والناس مثل النعامة تُخفي رأسها في الرمال وتظهر العورة فوق السطح.
في المدرسة قبل دخولنا الجامعة، كتبت صديقتي بعض أبيات من الشعر على قصاصة ورق، وقعت في يد الناظرة، فأصدرت قرارًا بفصلها، لحسن حظها خرجت صديقتي من المدرسة، وكتبت قصيدة أخرى قالت فيها إذا اشترط أبي على أمي الإخلاص مقابل الإنفاق، فهل أشترط الإخلاص على زوجي لأني أنفق مثله؟ ما علاقة الإنفاق أو الفلوس بالإخلاص في علاقات الحب والجنس أو الزواج؟
لم تكن صديقتي تكتب الشعر أو النثر كما يكتبه الناس، كانت تكتب لنفسها، لا تنشر ما تكتبه، لا ترسله هدية لنُقَّاد الأدب، داخل كتاب، وتقول: إن قرأ نُقَّاد الأدب كتاباتها، فسوف يتهمونها بالفجور؛ لأنها تحاول الفصل بين الفلوس والشرف، أكاد أفهمها رغم الاضطراب والقشعريرة، فأنا لم أتزوج أستاذ في الجامعة إلَّا بعد أن دفع لي المقدم عشرين ألفًا، والمؤخر تم تحديده في العقد خمسين ألفًا، أضاعفه إلى مائة ألف في كلامي مع الناس، ويصبح المقدم أربعين ألفًا، والمؤخر مائة ألف. كنت أتصور أن قيمتي تزيد بازدياد ما يدفعه الرجل لي. وقالت صديقتي إن العكس هو الصحيح، قيمة المرأة تنحدر بمقدار ما يدفعه الرجل لها. أكاد لا أفهم، وإن فهمت يشتد اضطرابي، كأنما أدرك مدى انحداري، مدى سقوطي في البئر المظلم، ليس معي إلا جسدي، أشعله بعود ثقاب لأرى الطريق أمامي، جسدي هو الشمعة الوحيدة المضيئة، في كل خطوة يكمن الخطر، يتغير شكله في كل لحظة تمر، لا يمكن أن أعيش اللحظة مرتين، أو أنزل البحر الواحد أكثر من مرة، كل شيء يتحرك، حتى الأرض تحت قدمي، فوق شاشة الكمبيوتر تبدو الذرة مثل الكرة الأرضية، تموج بالحركة اللانهائية، دائرة داخلها عدد لا نهائي من النقط، تزداد كثافتها عند المركز، حيث يكون الإلكترون وحيث لا يكون، لا يمكن التأكد من أي حقيقة مادية، فما بال الحقيقة غير المادية أو الروحانية؟
وتقول صديقتي: أغلب الناس سقطوا في البئر مثلي، أصبح الجنس أو الجسد هو المكان أو طريق السقوط، وإذا سقط الرئيس الأكبر للقوة العظمى في العالم، فهل ينجو الآخرون؟
وكتبت صديقتي قصيدة أخرى تقول فيها: رغم انكشاف جسد المرأة، فهو أكثر غموضًا من المستور وراء عظام الجمجمة، أو ما يسمُّونه العقل أو الروح، تكشف صديقتي في كتاباتها الروحية الغامضة عن أسرار الجسد العاري، وتقول إن الروحانيات في أغلب بلاد العالم حطمت أرواح الناس، تحت اسم «الروح» سقط الملايين من البشر قتلى، شربت الأرض دماءهم، تحت اسم الصليب المعقوف أو غير المعقوف، تحت اسم الشمس أو القمر أو الهلال، كوكب الزهرة، نجمة داوود، المطرقة والمنجل، السيف والكتاب المقدس، تحت اسم الحرب النظيفة أو غير النظيفة، تحت اسم السلام العادل أو غير العادل.
وتبتسم صديقتي في أسًى وتقول: منذ اكتشاف العملة والسوق، لم يَعد الشرف موجودًا في الحب أو الحرب، في الشرق أو الغرب. إذا اشترى الرجل لمرءوسته في العمل أو زوجته في البيت هدية من السوق الأبيض أو الأسود، فهل يشترط الإخلاص مقابل العملة، وإذا خان الرجل زوجته رغم وجود العقد، فهل تخلص المرءوسة أو العشيقة الحرة بدون عقد؟ ألا تبيع المرأة الرجل في السوق بمثل ما اشتراها؟ أيهما يدفع أكثر يكسب الشرف! ألا تمدد العملة كل شيء حتى قرارات الحرب العظمى؟
تقول صديقتي: إنه البئر المظلم، يسقط فيه المتنافسون والمتنافسات في السوق الحرة، والحرية هنا لمن يملك العملة، الإنفاق مقابل الطاعة في البيت أو المكتب. وتكتب صديقتي تقول: ماذا يشترط الرجل العاجز عن الإنفاق؟ سؤال آخر يَرِد إلى الذهن، وماذا تشترط المرأة القادرة على الإنفاق؟
صديقتي بعد أن طردتها الناظرة، سافرت إلى مكانٍ آخر هادئ تكتب فيه الشعر. اشتغلت في معبد يلجأ إليه الناس للتخفف من آثامهم، قبل الخروج يدفعون شيئًا في صندوق النذور تكفيرًا عن الذنب، يخرجون بأرواحهم النظيفة المغسولة من الإثم، وكتبت صديقتي قصيدة صغيرة تقول فيها: لم يكن معي قطعة واحدة من العملة أدفعها، وبقيت ذنوبي معي وروحي غير نظيفة! وقعت القصيدة بالصدفة في يد خادم المعبد الأمين، ناولها لسيده دون أن يفتحها، قرأها سيد المعبد وأصدر قراره مثل الناظرة، الفصل النهائي دون محاكمة، دافعت صديقتي عن شرفها وطالبت بمحاكمة علنية أمام الناس.
لم يسمع أحد ما تقول، كانوا جميعًا داخل البئر العميق، والمحاكمات كلها سرية، حكموا عليها غيابيًّا بالكفر، أباحوا دمها، هربت في الليل إلى مكان آخر بعيد، وكتبت قصيدة جديدة تقول فيها: لماذا يخافون المحاكمات العلنية؟ وإذا عرف الناس المستور، هل يسقط المعبد على من فيه؟
خمسة وثلاثون عامًا مرَّت، ثُمَّ التقيت بصديقتي صدفة، كنت أمشي في الشارع أتكئ على عكازي، أصابني التهاب في المفاصل وترهل في العضلات، لم أكن أتحرك إلا داخل البيت، أو داخل المكتب، أربعة جدران لا تدخلها الشمس، ألف رأسي خوفًا من الهواء وعيون الناس، أغلق الأبواب والنوافذ حتى لا يسمع الجيران صوت زوجي. منذ اكتشفت بالصدفة أن له عشيقة وهو يزعق كي لا أرى شيئًا، ضعف بصري من قلة الرؤية، ضعف سمعي من قلة الزعيق داخل البيت والضجيج في الشارع، لم يَعُد في إمكاني عبور الشارع دون أن يمسك يدي.
كانت صديقتي تمسك يدي وأنا أعبر الشارع، لم أعرفها، كانت تبدو شابة ممشوقة الجسم، تتحرك بسهولة، تجتاز الشارع كأنما هو بيتها، يدها حانية حول يدي، تسألني عن أحوالي، أسألها عن قصائد شعر في الدرج لا يقرؤها أحد أو واحدة إلا هي، أخفي عكازي وراء ظهري وأسألها، كيف انتشلت نفسها من البئر؟ تواصل الضحك وتقول لي: الطريق بسيط نحو الصعود من القاع، يبدأ بكلمتين اثنتين لا غير «أريد نفسي.» إن رفضني العالم فأنا أكسب نفسي، كنت أظن أنني ابنة أبي، ثُمَّ اكتشفت أني ابنة أمي، كلنا أبناء وبنات أمهاتنا، هذا العالم كله خرج من رحم المرأة، إنه مكان مقدس؛ أعني رحم المرأة، هذا الجزء من جسدي، الذي كان مبعث الخزي والعار، فأصبح المكان حيث الشرف والفخر، كان سبب السقوط، فأصبح سبب الصعود.
تركتني صديقتي واقفة فوق الرصيف، أذناي مسدودتان بأصابعي، رأسي ملفوف بالقماش السميك، كلمة «رحم» المرأة تخدش حيائي، مع أنني أقرأ كل يوم عن العشيقة السرية لأكبر رئيس دولة في عالمنا وسائله المنوي على فستانها الشهير … ولا شيء يخدش حياء العالم إلا قصيدة شعر تقول ما لا يقوله الناس، لا ينشرها أحد، وإن تسربت إلى آذان نقاد الأدب، قالوا إنها لا تنتمي إلى الشعر أو الأدب، تجاهلوها بالصمت والإنكار، باعتبارها قلة أدب.