الأم السويسرية القاتلة
الوجه الملائكي الرقيق، الأنف المستقيم الدقيق، الشفتان الحساستان، والصوت الدافئ العميق، وأعمق منه العينان ذات النني اللامع والنظرة المتعددة المعاني والطبقات.
ذكرتني ملامحها بزينب المصرية، وكاترين الأمريكية، وميديا اليونانية بطلة يوربيدس، الوجه الملائكي نفسه … كوجه طفلة في السادسة عشرة، وعمرها تجاوز العشرين بأربع أو خمس سنوات.
أمسكت يدها في يدها، يد رقيقة صغيرة ناعمة كيد طفلة، وجرح صغير كالخدش البسيط ربما من أثر الضغط على السكين، وهي تطعن ابنها الأول تسع طعنات في ظهره، وتطعن ابنها الثاني سبع طعنات في صدره، وتتسرب القوة من يدها حين تطعن نفسها، فتفرغ زجاجة الحبوب في جوفها، لكن عربة الإسعاف تنقلها إلى المستشفى، لتعيش من جديد تحت رقابة البوليس والأطباء، وقد تُرسل إلى المصحة العقلية، أو تُقدَّم للمحاكمة كأم قاتلة.
كلمة «الأم» تتناقض في آذاننا مع كلمة «القتل»، وخاصةً قتل الأم لطفلها، فالأم هي واهبة الحياة، فكيف تقتل؟
لكن القادر على وهب الحياة، قادر أيضًا على أخذها، كما يقول يوربيدس.
وعيناها تشبهان عيني «ميديا» بطلة يوربيدس منذ ألف وخمسمائة عام، لكن «ميديا» نجحت في قتل نفسها بالسكين ذاتها التي قتلت بها طفليها. وعلى مسرح الأكروبول في أثينا، رأيت «ميديا» تصعد في السماء، تلمع عيناها بالانتصار، بعد أن انتقمت من زوجها الخائن.
خيانة الزوج في عهد يوربيدس كانت تسبب للزوجة غضبًا شديدًا، بمثل ما كانت خيانة الزوجة تسبب للزوج غضبًا شديدًا.
وإذا قتل الزوج الغاضب فهو لا يصبح قاتلًا، وإنما شهم مدافع عن شرفه.
وإذا قتلت الزوجة الغاضبة فهي تصبح على الفور قاتلة مجرمة، وليست شهمة مدافعة عن شرفها.
فلم يكن للمرأة في عهد يوربيدس شرف تدافع عنه، لكن المرأة في ذلك العهد كانت لا تزال قادرة على الغضب إذا خانها زوجها مع امرأة أخرى.
ولم يكن سيجموند فرويد قد أخرج إلى العالم بعد نظريته المعروفة عن سيكولوجية المرأة والتي أنكرت على النساء الشعور بالغضب. وكان أرسطو ما زال يؤمن أن المرأة وعاء خالٍ من الحياة، والرجل وحده هو مصدر الحياة.
واستطاع يوربيدس أن يسبق أرسطو في إدراك أن الأم هي مصدر الحياة، وأنها إنسانة كالرجل، وقد تغضب مثله إذا خانها، وقد تستولي عليها فكرة الدفاع عن شرفها إلى حد القتل، قتل الزوج، أو قتل نفسها وأطفالها منه.
تسلطت هذه الفكرة على «ميديا» حين هجرها زوجها إلى امرأة أخرى كانت قد منحته الحب كله وحياتها كلها، وصدمتها الخيانة، وانقلبت طاقتها على الحب والعطاء إلى طاقة للدفاع عن شرفها والانتقام لكرامتها.
ورأت أن أشد انتقام من الأب هو أن تحرمه من أطفاله، فهو الذي سيشعر بفقدانهم، أمَّا هي فلن تشعر بشيء؛ لأن روحها ستلحق مع أطفالها إلى السماء.
ما زلت أحدق في وجهها الملائكي، ويدها الصغيرة الناعمة، وهي راقدة في سريرها بمستشفى السلام الدولي. أحاول أن أذكر نفسي أن اسمها «سابينا أنا ماريا» وليست «ميديا»، وليست كاترين، ولا هي خديجة أو زينب.
ابتسامة طفولية أضاءت وجهها كحنان الأم الطاغي، انتهت قبل أن تبدأ، وخلفت تعبيرًا كالسحابة الصفراء، أو الخوف الغامض الدفين، انقشعت هي الأخرى بسرعة، وزحفت الغمامة الرمادية كشبح الغضب الخفي، لا يريد أن يكشف عن نفسه. ثُمَّ بدأ في عينها الخوف. ليس كالخوف الأول الغامض، ولكنه خوف واضح صريح، بغير سحابة ولا غمامة، امتلأت عيناها الصافيتان بكل اتساعهما الأبيض الصافي بنظرة مذعورة، لمعت في عينيها بلون أسود، وبحجم النني الكبير تشوبها زرقة داكنة.
ثُمَّ انطفأ اللمعان فجأة كما بدأ، وحومت ابتسامة شاحبة، تراجعت بسرعة، وامتلأت عيناها بالحزن الغريب، كالطبقة المعتمة تكسو بياض العين، والسواد أصبح لونه أخضر باهتًا بلون الماء الراكد، وطفا فوق السطح تعبير جديد ينم عن الإحساس الدفين بالذنب، زحف طافيًا فوق سطح العين بلون أخضر، كورقة الشجر الميتة، وشفتاها الرقيقتان الشاحبتان تنفرجان عن كلمة «الله».
حين رأيت كاترين الأمريكية لم يكن هذا في المستشفى، كانت في السجن، راكعة إلى جوار السرير، منكفئة بوجهها على «الإنجيل»، والسجانة من خلفها متأهبة للإمساك بذراعيها إذا تركت الكتاب المقدس لتخنق نفسها.
خديجة المصرية، رأيتها في السجن أيضًا، تمسك في يدها «القرآن»، وحين ترقد تضعه تحت رأسها وتخاطب الله: يا رب أنت العالِم أني لم أقتل ابني إلا حين أمرتني يا رب، وأمسكت يدي الضعيفة ومنحتني القوة من عندك.
وتحركت عيناها نحوي وهي تقول: هل هناك أم تقتل طفلها؟ أنا لم أقتله، الله هو الذي قتله، ربنا أخذه ليرحمه من الجوع.
أمَّا زينب فقد عجزت عن قتل طفلتها، وظلت رغبة القتل تراودها، وكلما احتضنت طفلتها لترضعها شعرت كأنما قوة خفية تضغط بيدها على ابنتها.
وقد ظنَّت زينب أن الله يكرهها؛ لأنها لم تَعُد تحب زوجها، وكراهيتها امتدت من زوجها إلى أطفالها، ثُمَّ إلى نفسها.
أصبحت تكره نفسها وتظن أن الله يكرهها أيضًا …
ربما لأنها لم تكن طاهرة كما يجب، أو أن شيئًا مدنسًا راودها في طفولتها أو مراهقتها، وتظل تبحث في ماضي حياتها عن خطيئةٍ ما فعلتها في اليقظة أو المنام، ولا بُدَّ أن تجد شيئًا، وإن كان مجرد حلم.
وفي عصرنا الحديث استطاع الطب النفسي أن يكتشف مرضًا اسمه «الاكتئاب»، يُصيب المرأة أو الرجل.
لكن نسبة الإصابة أكثر بين النساء، وتبلغ حوالي ٩٪ بين النساء، و٧٪ بين الرجال. ويصيب الاكتئاب جميع شعوب العالم، ويسمُّونه مرض العصر التكنولوجي، وله علاقة كبيرة بارتفاع قيمة الدولار وانخفاض قيمة الإنسان.
وتزيد نسبة الاكتئاب بين أطباء النفس على غيرهم من الرجال، ويعجز معظم الأطباء الرجال عن فهم الدوافع الحقيقية وراء اكتئاب النساء، فالطبيب كغيره من الرجال ما زال يتصور أن الله قد خلق المرأة لتكون خادمة للرجل، فإن غضبت ورفضت دور الخادمة هذا، فهي مريضة وتحتاج إلى علاج.
وما زال معظم الأطباء في العالم يتصورون أن الأم التي تقتل أطفالها تعاني مرضًا عقليًّا، أو تغيُّرًا كيمائيًّا في المخ، أو نقصًا في هرمونات الأنوثة والأمومة، أو خللًا ما عضويًّا أو نفسيًّا. وإذا اتسع أفق الطبيب ليشمل شيئًا من علوم الوراثة، فقد يفكر في الكروموسومات، أو انتقال المرض عبر «الجينات» من الأب أو الأم. وإذا اتسع أفق الطبيب أكثر ليشمل شيئًا من العلوم الاجتماعية، فقد يفكر في مشاكل المجتمع أو الأسرة، مثلًا قسوة الأب وغلظة قلبه، أو إدمانه للخمور أو المخدرات، باعتبار أن هناك علاقة ما بين الإدمان ومرض الاكتئاب.
لكن قليلًا جِدًّا من الأطباء من يفهم حقيقة الصراع النفسي في أعماق الأم التي تقتل طفلها، ولا تزال البحوث العلمية في مجال سيكولوجية المرأة نادرة، وأغلبها يرث أفكار «فرويد» الذي كان يشكر الله كل صباح؛ لأنه لم يخلقه امرأة. والمرأة السليمة نفسيًّا في نظره لم تكن إلا تلك التي استطاعت أن تقتل «الأنا العليا» أو تقتل «طموحها الفكري» كخادمة للرجل، وتصلي لله شكرًا.
وإذا رفضت المرأة هذا الدور، أو قبلته بضيق أو غضب، فهي مريضة نفسيًّا وتُعالَج بالحقن أو الأقراص أو الجلسات الكهربية. ويُسَمَّى هذا العلاج في الطب بالعلاج النفسي، وهو يلعب الدور الأخير في قتل البقية الباقية من «الأنا العليا» وطموح المرأة الفكري.
تصبح المرأة بعد العلاج مطيعة هادئة، مستسلمة لدور الخادمة أو الوضع الأدنى، ويُقال عنها إنها «مثالية»، وفي أعماقها تشعر أنها «مقتولة» أو «ميتة».
وقد تختلف قصص هؤلاء الأمهات القاتلات في بعض التفاصيل، إلا أنهن يتفقن جميعًا في ذلك الإحساس العميق أنهن مقتولات، وتقول الواحدة منهن بلغات مختلفة ولكن بنفس المعنى: في داخلي أشعر أنني ميتة، أو هناك شيء ميت في أعماقي.
وقد تختلف أسباب الاكتئاب عند هؤلاء النساء، لكنهن يتفقن في أنهن متفرغات للخدمة في البيت أو البيوت.
وقد تعمل المرأة خارج البيت، لكن عملها يندرج تحت أعمال الخدمة، ويُعد امتدادًا لواجباتها المنزلية … وقد يكون الأب هو الذي أجبر ابنته على ترك الدراسة التي تحبها، أو الزوج هو الذي أجبر زوجته على ترك عملها الذي يحقق لها بعض الاستقلال أو السادة. وقد يتخذ الإجبار شكل العنف الواضح أو غير الواضح، وقد يستتر تحت ستار رقيق من الحب، أو الحماية، أو التضحية من أجل الحب، أو من أجل الأطفال.
وكم من المآسي تحدث لكثيرٍ من البنات والنساء باسم الحب، أو الحماية، أو التضحية، وتجد الواحدة منهن نفسها بين الجدر الأربعة، وقد تكتشف فجأة أو بالتدريج أن حياتها خاوية تمامًا كعدم الحياة. وهنا تحدث الصدمة النفسية لهؤلاء النساء، وتُسَمَّى في علم النفس بصدمة «انعدام المؤثرات في الحياة»، وهي تشبه صدمة الموت، لكن الجسد يظل على قيد الحياة.
وقد تختلف الصفات النفسية والجسمية لهؤلاء الأمهات القاتلات، إلا أنهن يتفقن في صفة تكاد تكون واحدة، وهي الرقة الشديدة، وملامح الملائكة أو القدِّيسات. وهن بالفعل قديسات، متدينات، منتظمات في الصلاة وشكر الله على وضعهن الأدنى، وتخلو حياتهن تمامًا من الأخطاء، بمثل ما هي خالية من كل شيء آخر، بما فيها الرغبة الزوجية.
ويُفسِّر بعضُ الأطباءِ هذا البرود العاطفي أو الجنسي على أنه السبب وراء الاكتئاب، مع أن هذا البرود ليس إلا نتيجة لسبب آخر؛ فالمرأة لا يمكن أن تُقْتَل فكريًّا، وتظل رغبتها الجنسية صاحية وحدها هكذا. إن النشاط الجنسي في حياة المرأة جزء من النشاط الفكري، ويدركها البرود حين يتبلَّد فكرها، ويدركها الموت أيضًا حين يموت فكرها.
ولكن كيف تنقلب هذه الرقة الملائكية لتصبح عدوانًا يبلغ حد القتل؟!
إن الرقة الشديدة والعدوان الشديد وجهان لعملة واحدة. وأخطر القتلة لهم ملامح أرق من الملائكة.
والرقة هنا ليست هي الرقة الحقيقية، ولكنها الخضوع الأنثوي، والاستسلام الأبدي، والطاعة العمياء، والقدرة الدائمة على إخفاء الغضب تحت ابتسامة رقيقة.
لكن الخضوع قد لا يكون أبديًّا كما نتصور، وقد يحدث شيءٌ صغيرٌ كالقشة، لكن البعير يسقط على الأرض، وتقصم القشة ظهره، كالوعاء فوق النار بدون ثقب يخرج منه البخار، وبعد قليل أو كثير نسمع صوت الانفجار.
وتعترف الأم منهم أنها قتلت طفلها؛ لأنها أحبته، ولأنها أرادت أن تحميه من الألم أو العذاب أو الموت. إنها تخشى عليه الموت، لكنها تعالجه بالموت، هذا هو التناقض الذي لا تستطيع أن تدركه هذه الأم، فهو تناقض عاش معها في اللاوعي، منذ الطفولة أو المراهقة، حين خشي عليها أبوها الموت الاجتماعي أو الأخلاقي إذا لم تتزوج بسرعة، وحكم عليها بالموت الفكري والنفسي حين أخرجها من المدرسة، وفرض عليها زوجًا لا تريده.
كثيرٌ من الناس يقتلون بناتهم فكريًّا ونفسيًّا باسم الحماية الأخلاقية والاجتماعية، وباسم الحب تموت كثيرٌ من الزوجات والأمهات فكريًّا ونفسيًّا.
لكن القتل عندنا ما زال نوعًا واحدًا، وهو القتل الجسدي الإكلينيكي، وهو القتل الذي يُحاكَم عليه الإنسان. أمَّا القتل الفكري والنفسي، فنحن لا نعرفه بعد، ولا يُحاكَم بسببه أحد.
إن وراء كل حالة قتل جسدي حالة قتل أخرى لا ينتبه إليها أحد، ويواصل الجاني جرائمه دون أن يكتشف البوليس أو الطبيب الشرعي. وقد ينتبه إليه أحد أطباء النفس، لكنه لا يُحاكَم ولا يُحاسَب، فنحن لا نرى إلا المرأة القاتلة، أمَّا المرأة المقتولة فلا يراها أحد.