موت كاتب كبير
جنازته ممدودة من قبل ميدان التحرير إلى حارة العبيد، رجالات البلد كلهم والنساء، من قمة الهرم إلى السفح، يصعب التمييز من القفا بين الرجل والرجل، كلها محلوقة بالموس أو الماكينة، الأعناق مشدودة داخل الربطة السوداء، الأكتاف والصدور محشوة بالقطن أو القش، الدقون ناعمة بلا شعر أو يتدلى شعرها تقرُّبًا لله. ورئيس الحزب، في الصف الأول، يتوسطه الرأس المربع «أبو الهول»، النظارة السوداء والسبحة الصفراء والزبيبة، إلى جواره نائبه، صورة بالكربون إلا القامة الأقل، والحشو الأقل في الكتفين والصدر، يتناقص الحشو من المركز إلى الأطراف، إلى الأعضاء المعينين أو المنتخبين، كلهم يأتون بالتعيين لا فرق، إلا نوع الحشو، طويل التيلة أو قصيره، نظرة العين مقلوبة إلى الداخل أو الخارج.
اللحن الجنائزي يجعل شعور رءوسهم تنتصب، أو جلدة الرأس الملساء بعد أن سقط الشعر، النعش ملفوف في العلم، جسده داخل الكفن يهتز مع اهتزازة النعش، يتنفس الصعداء داخل الصندوق مع تصاعد الروح، الراحة النهائية والامبالاة، اهتزازة النعش أو العرش كلاهما زائل مع ملذات الدنيا.
كنت أتمشى في الصف الأخير مع عمال النظافة، الرجال من القاع، أحمل ملامح أمي، قامتها الطويلة، نظرها البعيد، واسمها سأحمله يوم القيامة، بعد أن تزول الدنيا يزول معها اسم الأب، لا يبقى إلا الصحيح.
رغم المسافة البعيدة أراهم، أعرفهم، لا أحد منهم يراني أو يعرفني، قسمة عادلة، يمتلكون الشرعية والشرف، وأنا أمتلك المعرفة والرؤية. لم أرث ملامحه ولا اسمه ولا العمود، في الطفولة كنت أقرؤه مثل الشاعر المتنبي والأنبياء. في الزمن القديم كان كل شيء سهلًا، يصبح الرجل نبيًّا دون أن يعرف القراءة أو الكتابة، الطفل المولود يصبح ملكًا، والمولود يتكلم لحظة خروجه من الرحم، ويُصبح نبيًّا. وكان هو يكتب داخل الرحم، فهو أبي غير الشرعي. يحلم وهو طفل صغير أن يكون كاتبًا كبيرًا، أدخله أبوه المدرسة ليتعلم الكتابة، خرج منها دون أن يتعلمها، داخل مدارس أخرى، انتقل من مدرسة إلى مدرسة، ومن حزب إلى حزب: الإخوان، البعث، ماركس والاقتصاد محرك التاريخ، من ماركس إلى الحج في بيت الله الحرام، عاد باللحية والسبحة والزبيبة، وأصبح الله محرك التاريخ، تغير العنوان بعد قليلة، كلمة «الكالشر» أصبحت مكان كلمة الله، تعني في نهاية المطاف العودة إلى المنبت، الفول النابت، كتاتيب القرية والهوية.
في الصف الأول تمشي بعض النساء، قليلات العدد، رءوسهن ملفوفة بالطرح السوداء، الحزن، الإيمان بالله، والأنوثة. امرأة واحدة رأسها عارٍ محلوق من الخلف، شعرها مصبوغ بلون الحداد، والفستان أسود مشقوق من الجنب بطول السمانة والفخذ، الشق المشروع، يتمشى مع الموضة، رفيع كالشعرة، لا يكشف عن شيء مما يغضب الله، تسير بخطوة متزنة، رغم الكعب العالي الرفيع، تختفي وراء نظارة سوداء كبيرة، ملامحها معروفة للجميع، من حقها التنكر، لها مكانها في الصف الأول، نصيب من ميراثه، تحمل اسمه حيًّا وميِّتًا.
إلى جوارها تمشي زوجته الشرعية القديمة، تلف رأسها بحجاب أسود وثوب محتشم لا يكشف ولا يشف ولا يرف، تبسمل وتحوقل وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، بطرف عينها ترمق الجسد الأبيض تحت الفستان الأسود، يكاد ينطق، والشق الطولي يكشف عمَّا حرم الله، لا تريد رؤيته حيًّا أو ميِّتًا، لولا أنه زوجها الشرعي القديم، أبو الأولاد والبنات، اسمه كبير، عموده طويل، يمتد في الداخل والخارج، عائلته ممدودة إلى سلالة الملك والأنبياء، جده معروف في التاريخ، عمه كان شاعر الملك بلقب وزير، خاله نائب وزير، سفير، نائب رئيس تحرير. لا تقل درجة الرجل فيهم عن أفندي أو سيد، بعضها سقط في التاريخ، بعضها لم يسقط بعد، وكلها تنم عن ارتفاع الرجل، لا تصدر إلا بالقرار أو المرسوم العالي، مع المرسوم من المال السايل وماء الوجه.
أمي إلى جواري تمشي في الصف الأخير، زوجته غير الشرعية لحسن حظها، وإلا أخذوها معهم في الصف الأول، لتتلقى العزاء، ترسم الحزن فوق وجهها رغم أنفها، تنحني قامتها الطويلة لتصافح ذوي القامة القصيرة، تقبل رأس خوفو وأبي الهول وخفرع ومنقرع، ذوي الأعمدة المقدسة، عواميد الحجر، الكلمات المسلحة بالأسمنت، يتنافسون عليها بالمناكب والأسنان، والأقلام الرصاص. المساحة محدودة ممنوحة بالعمود أو نصف العمود، أو الثلث أو الربع، بالطول أو بالعرض أو بالبنط العريض أو الرفيع أو الوسط، بدون الصورة أو بالصورة أو نصف الصورة، من الأمام أو الجنب البروفيل، بالابتسامة أو نصف الابتسامة، أو نصف تكشيرة أو تكشيرة كاملة، شرود النظرة بعيدًا، لفتة خفيفة بجانب العين إلى مركز الضوء، اليد اليسرى تحت الخد الأيمن، أو اليد اليمنى تحت الخد الأيسر، لا يمكن للرجل منهم أن يمارس التفكير دون هذا «البوز». والمرأة تنتقل إليها العدوى إن حملت العمود، تظهر صورتها برأسها المكشوف، أو الملفوف بالحجاب، أو نصف الحجاب، مع نظرة مائلة ناعمة مشروعة لا توحي بالإغراء أو الفتنة.
حين وقعت الهزيمة جاء أبي لزيارة أمي، لم يكن يزورها إلا في الهزائم، تنسحب الدنيا وزيناتها من تحت قدميه، تغضب زوجته الشرعية الجديدة وتترك البيت، زوجته الشرعية القديمة غاضبة من قبل، أولاده الشرعيون تركوا الهوية و«الكالشر» وهاجروا إلى بلاد لا تعرف الله. يجد نفسه وحيدًا قعيد البيت، يفتح دفاتره القديمة، يفتش عن صداقات الطفولة، علاقات حب غير شرعية سقطت من الذاكرة، وحين يأتي أناديه بلقبه مثل الغرباء، فهو أبي غير الشرعي، لا تربطني به إلا لحظة عابرة طائشة في حياته السابقة، يندم عليها إن أقبلت عليه الدنيا، وإن أدبرت يأتي إلينا يشكو ذبحة صدرية، جلطة في القلب أو المخ، تكشيرة خفيفة عابرة فوق جبين الذات العليا، رئيس المؤسسة، وإن كانت مؤسسة الدواجن، كان يجلس في مقعده منفوشًا كالديك. يضع الساق فوق الساق، لا أحد يجلس هذه الجلسة إلا هو، أو نائبه في غيابه، أو نائب النائب في غياب النائب، وفي غياب هذا الأخير يمكن للرجل منهم أن يضع الساق فوق الساق دون جلطة في المخ.
كنت أرى أبي يتسلل إلى بيت أمي، أصبح عجوزًا، ظهره محني. لا يذكر الرجل منهم زوجته غير الشرعية إلا بعد انحناء الظهر، زوال الفحولة الذكورة، انكسار القلب، تهشم العظام، وجفاف ماء الوجه، يأتي متسللًا كأي زوج غير شرعي. وكنت أعيش مع أمي في شق مهجور وعائلة مجهولة، ليس فيها رجل واحد يحمل لقب أفندي، دخلت أمي المدرسة خلسة وخرجت منها خلسة، علمت نفسها القراءة والكتابة خلسة. عرفت الحب خلسة، والأمومة خلسة، كل شيء في حياتها انتزعته خلسة من وراء الزمان والمكان، عاشت في الشق مجهولة، وإن كتبت شيئًا يظل مجهولًا. وكنت مثل أمي أحب أبي خلسة، وهو حب بلا مقابل، أو الحب غير المحترم في نظر الرجال المحترمين والنساء المحترمات، لا تقع الواحدة منهن في الحب قبل أن يُسَجَّل العقد بحضور الشهود، ويُدْفَع المقدم والمؤخر وتُوَقَّع قائمة العفش.
وكانت أمي فتاة عذراء، تحلم بالبيت والزوج والأطفال حسب شرع الله. قال لها أبي: أحبك. صدقته على الفور بحكم النقاء والطهارة. وكان أبي من أسرة عريقة، يتطلع إلى ابنة أو نائبة أو نائب نائبة، أو رجل آخر من أولاد الذوات، يفصلون بين الجسد والروح: تنجذب روحهم إلى الطبقة العليا، ينجذب جسدهم إلى الطبقة السفلى. أباح الله لهم الملذات، في الدنيا والآخرة، يعاقرون الشعر والأدب والنساء والخمر والنقد. وكان النقد غير شرعي، يُسيء إلى سمعة البلد، ثُمَّ أصبح شرعيًّا، بشرط عدم المساس بالذات العليا، يتنافسون عليه بالمناكب، يشبعونه بقصائد المدح، يتربصون لموته لاحتلال مكانه، يتعانقون في كل لقاء، يتبادلون القبلات، يتصاهرون، يتناسلون، يتعاطون المعاصي، وكلها صغيرة لا ترقى إلى الكبائر، يمكن إزالتها بالصلاة يومًا بيوم، أو بالطائرة إلى قبر الرسول على نفقة الدولة، أو الاعتكاف في قصر الجنوب أيام البرد، أو الساحل الشمالي أيام الصيف، يطلبون المغفرة، والله يغفر الذنوب جميعًا إلا أن يُشرَك به.
وكان أبي طاهر الذيل، لا يؤجل إزالة المعاصي إلى الغد، تتفوق سعادته الروحية على الإحساس بالذنب، لم تكن له تجارب في الماضي إلا مع النساء، لا شيء يلوث سمعة الرجل إلا الماضي السياسي. وكان أبي كالفتاة العذراء، بلا ماضٍ إلا علاقاته غير الشرعية، وهي خبرات في الحياة، لا تنال من قيمة الرجل المحترم، بل ترفعه إلى مصاف الخبراء، وكبار الأدباء والشعراء، يهبط الوحي عليه من أعلى، فهو يؤمن بالذات العليا أو بالآخر في علاقته بالذات، وهو مرهف الحس والإحساس، يتجلط الدم في عروقه لأقل هزة تحت العرش، أو سحابة رقيقة تعبر وجه الذات العليا، أو وخزة من وخزات الضمير حين يصحو، أو أكلة ريفية حين يعود إلى «الكالشر» والهوية، قطعة فطير مشلتت أو ورك بطة. الممنوعات تزداد بازدياد السن والمكانة، جلطة المخ تتكرر بتكرار الكوارث أو الهزائم. ثُمَّ تنتهي النوبة، تتحول الهزيمة إلى نصر بقدرة قادر، ترتدي اسمًا تنكريًّا، تطل الهزيمة من وراء النقاب بعين واحدة أو نصف عين، وتزول الأزمة، تتسع الابتسامة في الصورة أو تضيق، حسب حجم الهزيمة أو النصر، ويصبح الكاتب الكبير مؤيِّدًا معارضًا، منتصرًا مهزومًا، صاحب عمود دون أن يكتب، كمن يشرب الخمر دون أن يسكر، أو يقع في الحب دون أن يحب، أو ينهزم في معركة لا يدخلها. وإن جاء النصر بلا تدخل منه، يركب الموجة كالمرأة بعمود واحد أو نصف عمود، يكتبه له الساعد الأيمن أو الأيسر، فإذا به زعيم محمول فوق الأكتاف، يتلقى الوسام في المدينة المنورة بجوار الحرمين الشريفين، وفي مدينة النور وراء البحار يقيمون له تمثالًا.
بعد الدفن والصلاة نفضوا أيديهم منه، عادوا إلى حياتهم يتنازعون مكانه وعموده، وصورته انسحبت من البرواز، ظهر وجه رجل آخر، ورث المساحة بالروح أو بالدم، أو صلات الرحم، وكلها علاقات شرعية. رجالات ونساءات يتنازعون الميراث والتراث، لا يكفون عن التنقيب عن أملاكه المجهولة، أرصدة غير مرصودة، وأعمدة غير منشورة. أكثرهم تنقيبًا كانت زوجته الشرعية الجديدة، كان يخفي عنها أشياء كثيرة داخل الأدراج السرية، تزداد أسرار الرجل منهم بارتفاع المكانة، حتى رأس الهرم، ويجد الواحد منهم نفسه واقفًا فوق القمة على قدم واحد أو محمولًا داخل النعش فوق الأعناق.