سقوط رئيس دولة عظمى١
جمع أوراقه الشخصية، أرصدة وصفقات غير معلنة، خطابات غرامية سرية، ميداليات وأوسمة محفور عليها اسمه وأبيه وجده نهض من وراء مكتبه البيضاوي، جسمه ثقيل على غير العادة، زوجته جالسة في البهو تنتظره، واضعة الساق فوق الساق، لم تنزل ساقها حين رأته كما كانت تفعل، يشمخ بأنفه في حركة رجولية تذكِّره بأبيه.
– هيا بنا يا عزيزتي.
يمتد ذراعه نحوها، رعشة خفيفة في ساقيه، تتراءى له أمه وهو طفل يتعلم المشي، ويداها التي تمتد إليه قبل أن يسقط.
يُحرك عينيه بعيدًا عن زوجته، يتفادى نظرة أمه لأبيه حين سقط.
يمشي إلى جوارها حتى سيارتهما الخاصة، ليست السوداء المهيبة يرفرف عليها العلم، وليس هناك الحرس المهيب بالبدل الرسمية والأزرار الذهبية، ولا الأيادي المرفوعة بالتحية، ولا الموسيقى تعزف النشيد الوطني.
عيناه شاردتان من خلال النافذة، لم يَعد العالم هو العالم، والكوبري لم يَعُد الكوبري، والأضواء لا تنعكس من السماء إلى الأرض.
زوجته جالسة إلى جواره صامتة. الصمت ثقيل، يُشبه الصمت في بيت أبيه وهو طفل، وفي عينيها نظرة أمه.
في كل فشل كان يرى هذه النظرة في عينيها، طبق الأصل من نظرة أمه، كانت تنحني أمام أبيه بفنجان الشاي وهو جالس الساق فوق الساق يقرأ الجريدة، أو وهو يتابع الأخبار على الشاشة، أو مباراة الكرة، وفي الصباح لا مانع من ذهابها إلى مكتبها في المجلس الوطني أو الحزب الجمهوري أو الجمعية الخيرية، وحصولها على المال والشهرة، بشرط أن يظل هو الرئيس في الحزب والبيت والسرير.
إذا احتدم يسود رأيه لأنه الرجل كما خلقه الله، إنها إذن مشيئة الخالق سبحانه في السماوات العليا.
– اسمعي يا هيلاري لن أكون أبدًا مثل أبيك، ولن تكوني أبدًا مثل أمي، ولن تنظري إليَّ في يوم من الأيام تلك النظرة.
لم تطاوعه زوجته طويلًا، تتركه يشاهد البيسبول مثل أبيه، يذهب إلى عشيقاته بعد صفقاته السرية، لم يكن من سبب للصراع إلا تشبثه بذكورته الموروثة منذ العبودية، عيناه يثبتهما في عينيها لإثبات الرجولة، لكن الرأي الصائب كان يسود في النهاية بصرف النظر عن الجنس.
يشتد الصمت داخل السيارة، تفتح الزوجة جريدة الصباح، ترى صورته أصغر مما كانت، بضعة سطور تحت الصورة تقول: مسكين بيل كلينتون، رغم ضعفه أمام النساء كان عنيفًا مع الأعداء واتخاذ قرارات الحرب، لكن إخلاصه للوطن يغفر له خياناته الزوجية حسب مبادئ حضارتنا الإنسانية.
كانت أمه تتنبأ له بالفشل والتعاسة مثل أبيه، وأقسم بعد موت أمه أن يكذب نبوءتها، وأن ينجح وينجح حتى يسود العالم، في السرير يحوم شبح أمه يؤكد له الفشل، يصحو كل يوم بإرادة أصلب من الحديد.
يوم فوزه بالحكم قال لأمه في النوم: خابت نبوءتك يا أمي.
وحين أعلن الحرب ودكت قنابله العراق قال لها: أصدرت يا أمي قرارًا يعجز عن إصداره أعتى الرجال.
من وراء الزجاج سمع زوجته تقول وهي واضعة الساق فوق الساق: وماذا أخذت يا بيل من كلِّ هذا النجاح السياسي إلا انتصارات جنسية سرية؟
زم فمه المزموم من قبل وقال: تتكلمين الآن مثل أمي وقد أصبحت شكلها بالتجاعيد. ثُمَّ تسكت الزوجة كما كانت تسكت، وقالت بصوت مرتفع لم يسمعه من قبل: وأنت أصبحت شكل أبيك بالتجاعيد والسعي لدى الفتيات لاستعادة الذكورة. دبَّ الصمت ثقيلًا طويلًا.
ثُمَّ عادت الزوجة إلى الحديث:
الاستبداد والعنصرية وقتل الأبرياء والخضوع لشهوة المال والجنس هي بعض التهم الموجهة إليك. قاطعها بعنف:
أنت ترددين ما يقوله أعدائي!
– لا يا بيل، أنا زوجتك المخلصة، غفرت لك سقطاتك السياسية والجنسية؛ لأني كنت أحبك، لأني كنت أحبك فعلًا.
– كنت تحبينني! كنت! يعني أنك لا تحبينني الآن يا هيلاري؟! هذا بالضبط ما يحدث لكل الزوجات حين يمر الزوج بأزمة، منذ طفولتي عرفت أن عش الزوجية وهم كبير يطيره الهواء في أية لحظة.
قهقهت الزوجة حتى اهتز لقهقهتها الكون.
– أنا التي حافظت على هذا الوهم من أجل طفلتي وليس من أجلك، لولاي لطار هذا العش لأي نزوة من نزواتك العابرة، ومع ذلك أقسم لك أنني أحبك الآن أكثر مما كنت أحبك وأنت في الحُكم.
– طبعًا؛ لأنك تحبين هزيمتي ولا تحبينني أنا!
لمحت الدمعة من تحت اللمعة في عينه، فأمسكت يده وتطلعت إلى الأفق:
لم يبقَ لنا في العمر كثيرًا يا بيل، فلماذا لا نعيش في سعادة؟! انظر يا حبيبي إلى أشعة الشمس المنعكسة على حمام السباحة، هيا بنا نأخذ غطسًا. حرك الرئيس رأسه الساقط ناحية الأفق، وكانت السيارة قد وصلت القصر والشمس أوشكت على المغيب، وهو واقف إلى جوار زوجته في الشرفة، راح يتأمل ألوان السماء المبهرة لحظة الغروب، خرج من صدره زفير عميق طويل من تحت حزام البنطلون المشدود حول بطنه، عيناه تذوبان في ألوان الطيف، منذ طفولته لم يشهد هذه الألوان الساحرة، صمت طويلًا يمتص اللحظة بجفونه نصف المغلقة وبفتحات أنفه وشفتيه نصف المفتوحة.
تنهَّدَ هامسًا لنفسه: الدنيا جميلة كما كانت، لكن الناس تغيرت، إنها طبيعة العبيد!
تبسمت زوجته بسخرية: وإنها طبيعة الأسياد أيضًا، فالسيد والعبد وجهان لعملة واحدة!
رشفت الزوجة من كوب الويسكي: ولماذا نلوم الطبيعة يا بيل، لماذا نعلق آثامنا على الله؟ إنها الذكورة أو الرجولة والطموح ولذة السلطة.
– أليس هو الله الذي خلقني ذكرًا؟
– أنت لم تُولد ذكرًا، ولكنك أصبحت ذكرًا بالتربية والتعليم في البيت والمدرسة والحزب، أصبحت ذكرًا وفقدت إنسانيتك، تمسك الإنجيل في يدك وتعلن قرار الحرب، ضاعفت عدد الفقراء في العالم وقتلت الأبرياء دون أن يرتعش لك رمش أو يطرف لك جفن، تخطب بصوت جمهوري عن عدالة المسيح، وتتحدث عن السلام ويداك مضرجة بدماء القتلى.
وهو راقد إلى جوارها في السرير يسمع صوتها من تحت الوسادة، لا تكف عن الكلام وإن سكتت ففي بطنها مخزون من الكلام المضغوط تحت المشد المطاط، يضع وسادتين فوق رأسه ويعطيها ظهره، يواجه الحائط بعينيه المفتوحتين ويهمس: كيف اختزنت يا حبيبتي كلَّ هذه الكراهية لي كلَّ هذه السنين؟
– كنت أخاف يا حبيبي من رئيس الدولة.
– وأنا كنت أخاف يا حبيبتي من السيدة الأولى!
يجهش بلا صوت فوق صدرها، وتجهش بلا صوت فوق صدره، أنفاسهما تختلط وصوتهما يختلط.
– ربما، ربما نتخلص معًا من الخوف يا حبيبي.
– نعم يا حبيبتي.