البنات تعيش
في الصمت، والليل ثقيل يغرق مدينة القاهرة، الغائبة في النوم كالمقهورة، والظلام له كثافة السائل الأسود كالزئبق، أو القطران الذائب في الأسفلت، كانت البنت واقفة داخل ثوب أبيض (بلون ثوب الزفاف) متكئة بذراعها على حافة النيل، تنظر إلى وجهها الشاحب الطويل، فوق صفحة الماء كالمرأة السوداء، يتعرج تحت ضربات الهواء إلى ملايين التعرجان الدقيقة كالتجاعيد أو الموجات الرقيقات السابحات من الجنوب، والمدينة غارقة في السواد والصمت كالموت، إلا الدقات البطيئات تحت ضلوعها الموشكة على التلاشي، وعيناها السوداوان تتسعان داخل الماء فوق الجسد الممدود الطافي، لا يرتدي ثوبها الأبيض، يسبح في ارتخاء كامل أشبه بالراحة المطلقة، بلا رأس ولا ساقين، كتلة طويلة سوداء يُغطيها العشب، يسميه أهل المدينة «ورد النيل»، وريقات سوداء بلا ورد، تشوبها خضرة موشكة على التلاشي، تتلاصق في جسدٍ واحد، يلمع تحت الضوء كالجثة العارية، وعيناها مشدودتان إليه، الحدقتان تتسعان، تطل منهما مُقلتان سوداوان تلمعان في الظلمة، وصوت جدتها يحمله تيار الهواء: «عروس النيل، يَزفُّوها في العيد لإله الفيضان، موتها يحمي البلد من الغرق، وبعد ما بنينا الجسر.» وتدب جدتها بقدمها الكبيرة الحافية على الجسر: «الإله مات، والبنات تعيش يا بنت ابني.» ومن فوق الجسر يلوح لها وجه ابنة عمتها «زهرة» ترتدي جلبابًا برتقاليًّا له كشكشة فوق الصدر، لم يبرز من النهدين إلا برعم صغير، تصحو قبل الفجر مع العصافير، تحمل الزلعة لتملأها من البحر (كان النيل في قريتها يسمُّونه البحر)، تكنس الزريبة وتجمع من تحت أقدام البهايم الروث، تعجنه على شكل أقراص كبيرة بحجم الرغيف، ترصُّها تحت الشمس فوق السطح (كانوا يسمُّونها الجلة)، وفي يوم الخبيز تلقيها مع عيدان الحطب في نار الفرن … وتعود من الحقل عند الغروب حاملة الزكيبة فوق رأسها، تربط البهايم وتكنس الدار، وتنام بجوار الماعز فوق حصيرة من القش، تنادي الماعز باسم أختها الميتة «عزيزة»، تقول لها كل فجر: صباح الخير يا عزيزة. وتطلق ضحكتها ترن في الصبح كزقزقة عصفور. ترد عليها الماعز بمأمأة كالضحكة. وفي يوم ظلت فيه الماعز صامتة لا تُمأمئ، ومكان «زهرة» فوق الحصيرة كان خاليًا، والدار غارقة في الصمت، والعيون حين تنظر إليها تتعرج في نظرة غير مستقيمة، وإن نطقت اسم «زهرة» انقطع الكلام أو بدأ الهمس بعد الصمت. وغادرت القرية إلى المدينة لتدخل المدرسة، وذاب وجه «زهرة» في آلاف الوجوه والشوارع والعمارات والأنوار، والميادين الواسعة، والمدرسة، والجامعة، والمظاهرات ضد الحكم والاحتلال، والخطب من فوق المنصة، والصوت الدافئ المليء بالإيمان وحب الله والوطن، والعيون تلتقي، والأيادي تتلامس في ضوء القمر، والثقة مثل النهر تتدفق، والعطاء يصبح كاملًا بلا مقابل، والحدقتان السوداوان تتسعان وتتسعان فوق كتلة العشب الميتة، يطل منها وجه «زهرة» بعد أن غاب عنها السنين، كأنما ذاب في العدم منذ كانت في التاسعة، وطفولتها تبدو بعيدة في الزمن كالدهر، منذ آلاف السنين، منذ خوفو وخفرع ومنقرع وإيزيس وأوزوريس. ويبرز وجه «زهرة» في الضوء كما كان، كأنما لم يغب عنها إلا لحظة، ترى البقعة البيضاء فوق خدها الأيمن … ووجهها الأسمر الشاحب يتورَّد بالضحك، والغمازاتان تظهران فوق الخدين البارزين، والبرعمان الصغيران يهتزان تحت الكشكشة البرتقالية، والجلباب الواسع الطويل تشمره (لكنس الدار أو الزريبة)، كاشفة عن ساقَين رفيعتَين وقدمَين صغيرتَين حافيتين، يلتف حول الرسغ الأيمن خلخال ثقيل كالحديد، والحدقتان السوداوان اللامعتان تتسعان أكثر وأكثر، كأنما العقل هو الذي يتَّسع داخل عظام الرأس، وتمسك رأسها بيديها الاثنتين، تمسك الضوء قبل أن ينزلق في خلايا الظلمة، وتقبض على السؤال المجهول بلا جواب الذي عاش معها السنين: راحت فين زهرة؟ وتخلع حذاءها الأسود بلون ليل الزفاف، وتمد قدمها الحافية إلى الماء تشبه قدم «زهرة»، ثقيلة كالحديد بغير خلخال، وتلقي نفسها في النيل، تكاد تغرق في القاع، لولا أن اليد الكبيرة تمتد من حيث لا تدري، تشدها كأنما المياه أو الأرض تنشق عن هذه اليد، تشبه يد أمها أو أبيها أو يدًا أخرى لها خمسة أصابع في المدينة، أو كأنما هي المدينة نفسها تصحو من النوم فجأة، وتمد يدها الضخمة تنقذها في اللحظة الأخيرة، سمراء ومعروقة ومشققة تُشبه جدتها، وصوتها مليء بالتجاعيد، يسبح مع تيار الهواء الدافئ من الجنوب: «الإله مات، والبنات تعيش.»