ليس لها مكان في الجنة
ببطن الكف تحسَّست الأرض من تحتها، ولم تجد التراب، فارتفع الجفنان من فوق العينين الضيقتين، ومدت عنقها نحو الضوء، وظهر وجهها طويلًا نحيلًا أسمر البشرة إلى حدِّ السواد.
لم ترَ وجهها في العتمة، وليس في يدها مرآة، لكن الضوء الأبيض سقط على ظهر يدها فأصبحت بيضاء، وعيناها الضيقتان اتسعتا في دهشة وملأهما الضوء. وبدت عيناها في اتساعهما المملوء بالنور كعيون الحور.
وحركت رأسها إلى اليمين وإلى اليسار في شبه ذهول. مساحة هائلة من الأشجار المورقة فوق رأسها، وهي جالسة تحت الظل، وجدول الماء كشريط من الفضة، وعنقود حباته كاللؤلؤ، ثُمَّ ذلك الصحن الغويط المملوء بالحساء حتى الحافة.
شدت جفنيها لتفتح عينيها عن آخرهما، وظل المشهد كما كان، لم يتغير، تحسَّست بكفها جلبابها، فوجدته ناعمًا كالحرير، ومن فتحة الثوب سرت إلى أنفها رائحة المسك أو العطر الطيب.
ورأسها ثابت فوق عنقها، وعيناها أيضًا ثابتتان، خشية أية حركة من الجفن، فيتغير المشهد أو يتلاشى كما كان يتلاشى.
واستطاعت رغم الثبات أن ترى بطرف عين الظل الممدود إلى ما لا نهاية، الشجر الأخضر، ومن بين جذوع الشجر البيت من الطوب الأحمر كالقصر، والسلم الرخام يقود إلى حجرة النوم.
ظلت ثابتة في مكانها لا تقوى على التصديق، ولا تقوى أيضًا على التكذيب، ولا شيء يضنيها مثل تكرار الحلم، وأنها ماتت ثُمَّ صحت ووجدت نفسها في الجنة. وكان الحلم يبدو لها مستحيلًا؛ لأن موتها يبدو كالمستحيل، وصحيانها بعد الموت أكثر استحالة، وذهابها إلى الجنة هو المستحيل الرابع.
ثبتت عنقها أكثر، وبزاوية عين حملقت في الضوء، لا زال المشهد هو هو لم يتغير، ولا زال البيت بالطوب الأحمر كبيت العمدة، والسلم العالي يقود إلى حجرة النوم، والحجرة غارقة في الضوء الأبيض، ونافذة تطل على الأفق البعيد، وسرير عريض تدور حول أعمدته ستائر من الحرير.
أصبح الأمر حقيقيًّا غير قابل للتكذيب، ولكنها لا تزال في مكانها تخشى الحركة وتخشى التصديق، فهل من المعقول أن تموت وتصحو بهذه السرعة، ثُمَّ تذهب إلى الجنة؟
والشيء الذي لا تصدقه في كل هذا هو السرعة فقط، فالموت سهل، وكل الناس تموت، وموتها هي بالذات أسهل من موت أيِّ أحد، فهي عاشت حياتها بين الموت والحياة، أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. وأمها حين ولدتها رقدت عليها بكلِّ ثقلها حتى ماتت، وأبوها ضربها على رأسها بالفأس حتى ماتت، وحمى النفاس بعد كل ولادة حتى البنت الثامنة، وضربة قدم الزوج في قاع بطنها، وضربة الشمس في النافوخ تحت عظام الرأس. حياتها كانت صعبة، والموت عندها أسهل، وأسهل منه الصحيان بعد الموت، فلا أحد يموت ولا يصحو، وكل الناس تموت وتصحو، إلا الحيوان، فهو حين يموت يظل ميِّتًا.
وذهابها إلى الجنة أيضًا وارد، وإذا لم تذهب هي إلى الجنة فمن يذهب؟ وفي حياتها كلها لم تفعل شيئًا واحدًا يغضب الله أو الرسول، حتى أطراف شعرها الأسود المجعد، كانت تلفها بفتلة من الصوف على شكل ضفيرة، والضفيرة تلفها بمنديل الرأس الأبيض، والرأس تلفه بالطرحة السوداء، ولا شيء يظهر من تحت جلبابها إلا طرف كعبيها، وفي كل حياتها منذ وُلدت حتى ماتت لم تعرف غير كلمة حاضر.
قبل الفجر حين تلكزها أمها وهي راقدة، لتحمل السباخ فوق رأسها، لا تعرف إلا حاضر. وإذا ربطها أبوها في الساقية بدل البقرة المريضة لا تقول إلا حاضر. وزوجها لم ترفع عينيها في عينه مرة واحدة، وحين يرقد فوقها وهي مريضة بالحمى لا تنطق إلا حاضر.
وفي كل حياتها أيضًا لم تسرق ولم تكذب، وإذا جاعت أو ماتت من الجوع فلا يمكن أن تمدَّ يدها إلى طعام غيرها، وإن كان هو أباها أو أخاها أو زوجها. وكانت أمها تلف الطعام لأبيها في رغيف، وتجعلها تحمله إلى الحقل فوق رأسها، وطعام زوجها أيضًا، كانت تلفه أمه في رغيف. وتراودها نفسها وهي سائرة في منتصف الطريق أن تتوقف تحت ظل شجرة وتفتح الرغيف، لكنها في كل حياتها لم تتوقف مرة واحدة، وفي كل مرة تراودها نفسها تستعيذ بالله من الشيطان، حتى يبلغ بها الجوع مداه، فتقطع من جانب الطريق عود سريس أو جعضيض، تمضغه تحت أسنانها كاللبان، ثُمَّ تبتلعه مع حفنة ماء تملؤها كفها من حافة الترعة وتشرب حتى ترتوي، ثُمَّ تمسح فمها في كم جلبابها، متمتمة بصوت خافت: الحمد لله، ثلاث مرات ترددها، الحمد لله، وخمس مرات في اليوم تركع، ووجهها على الأرض، وتشكر الله، وإذا أصابتها الحمى واحتقن رأسها بالدم كالنار لم تذكر إلا الله. وأيام الصيام تصوم، وأيام العجين تعجن، وأيام الدودة تلم الدودة، وأيام العيد ترتدي الحداد وتذهب إلى القرافة.
وفي كلِّ حياتها لم تغضب من أبيها أو أخيها أو زوجها، وإذا ضربها زوجها حتى الموت وعادت لبيت أبيها أخذها أبوها وعاد بها إلى زوجها. وإذا عادت مرة أخرى ضربها أبوها ثُمَّ أعادها، وإذا أخذها زوجها ولم يطردها، ثُمَّ ضربها وعادت إلى أمها تقول لها أمها: عودي يا زينب ولك الجنة في الآخرة.
ولم يكن خيالها حين تذكر حسنين يتسع لأكثر من إمساك اليد في اليد، والجلوس تحت الظل في الجنة، لكن أمها نهرتها، وقالت لها إن الجنة لن يكون فيها ابن جارهم حسنين ولا ابن أي جار آخر، ولا يمكن لعينها أن تقع على رجل خلاف أبيها أو أخيها. وإذا ماتت بعد الزواج ودخلت الجنة فليس هناك إلا زوجها، وإن راودتها نفسها في اليقظة أو المنام، ووقعت عينها على رجل آخر غير زوجها، ومن قبل أن تمسك يدها في يده، لن ترى الجنة بطرف عين، ولن تشم رائحتها من ألف متر.
ومنذ ذلك الحين أصبحت كلَّما رقدت وراحت في النوم حتى الموت، لا ترى في المنام إلا زوجها، وزوجها في الجنة لا يضربها، وكوم السباخ لم يَعُد فوق رأسها، ولا التراب يلسع تحت قدميها، وبيتهم الطيني الأسود أصبح من الطوب الأحمر، وداخل البيت السلم العالي، ثُمَّ السرير العريض، وزوجها جالس على السرير يمسك يدها في يده.
ولم يكن خيالها يتسع لأكثر من إمساك اليد في اليد داخل الجنة، ويدها في كل حياتها لم تصبح أبدًا في يد زوجها، وثمانية أولاد وبنات أنجبتهم منه دون أن يمسك يده في يدها. وفي ليالي الصيف يرقد في الحقل، وفي الشتاء يرقد في الجرن أو فوق الفرن، وطول الليل ينام على ظهره دون أن ينقلب، وإذا انقلب نادى عليها بصوت كعواء ذئب: يا بت! وقبل أن ترد بنعم أو حاضر، يكون قد ركلها الثانية، وإذا لم تتأوه ولم تنطق جاءتها الركلة الثالثة والرابعة حتى تنطق، ولم يحدث أن أخطأت يده مرة وأمسكت يدها، أو ذراعه امتدَّ والتفَّ حولها.
ولم يظهر أمامها في كلِّ حياتها اثنان يتعانقان من الإنس ولا من الجن، اللهم في برج الحمام حين تصعد، وعلى حافة الجدار يظهر الزوجان، ومنقارهما متلاصقان، أو في الزريبة حين تهبط من وراء الجدار يظهر الاثنان من البقر أو الجاموس أو حتى الكلاب، والعصا الخيزران تمسكها أمها وتظل تلسعهما وهي تلعن الحيوان.
وفي كلِّ حياتها لم تفك الطرحة السوداء من حول رأسها، ولا المنديل الأبيض المعقود تحت الطرحة، اللهم إلا حين يموت أحد، تفك المنديل الأبيض وتشد المنديل الأسود حول رأسها، وحين مات زوجها عقدت المنديل الأسود فوق جبينها عقدتين، وظلت ترتدي الحداد ثلاثة أعوام. وجاءها رجل يطلبها للزواج بغير أطفالها، فبصقت أمها في فتحت جلبابها وأسدلت الطرحة فوق وجهها وهي تهمس: يا عيب الشوم، وهل تترك الأم أطفالها من أجل رجل؟ ومضى العام وراء العام، وجاءها رجل يطلبها للزواج بأطفالها، فشهقت الأم بأعلى صوتها: وماذا تريد المرأة من الدنيا بعد أن تصبح أمًّا ويموت زوجها؟
وأرادت يومًا أن تفك المنديل الأسود من حول رأسها وتربط منديلًا أبيض، لكنها خشيت أن يظن الناس أنها نسيت زوجها. وظلت بالمنديل الأسود وملابس الحداد، حزينة على زوجها، حتى ماتت من الحزن.
ووجدت نفسها ملفوفة بالكفن الحرير داخل الصندوق، ومن وراء النعش سمعت عويل أمها حادًّا عاليًا كالعواء في الليل، أو كصفارة القطار: ستلحقين بزوجك في الجنة يا زينب!
ثُمَّ انقطع الصوت، ولم تسمع إلا الصمت، ورائحة تراب، والأرض تحتها أصبحت ناعمة كالحرير، وقالت: لا بُدَّ أنه الكفن. ومن فوق رأسها سمعت صوتًا غليظًا كعراك رجلين، ولم تعرف لماذا يتعاركان، حتى سمعت أحدهما يذكر اسمها، ويقول إنها تستحق أن تذهب إلى الجنة قفزًا دون المرور بعذاب القبر. لكن الرجل الثاني كان يعارض ويصرُّ على أن تنال شيئًا ولو قليلًا من العذاب داخل القبر، ولا يمكن أن تصعد هكذا إلى الجنة في قفزة واحدة، وكل الناس تمر بعذاب القبر. لكن الرجل الأول ظل على رأيه، ويقول إنها لم تفعل شيئًا تستحق عليه العذاب، وأنها كانت زوجة مخلصة لزوجها مائة في المائة. وعارضه الرجل الثاني قائلًا إن أطراف شعرها كانت تظهر من تحت المنديل الأبيض، وأنها كانت تصبغ شعرها بالحنة الحمراء، وكعباها يظهران من تحت الجلباب حمراوين كالدم.
واعترض الرجل الأول قائلًا إن أطراف شعرها لم تظهر أبدًا من تحت المنديل، وأن ما رآه زميله لم يكن إلا ضفائر الصوف، وأن جلبابها كان طويلًا سميكًا، ومن تحته جلباب آخر أشد سمكًا وأكثر طولًا، ولم يكن لأحد أن يرى كعبيها الحمراوين.
لكن زميله اعترض، وأصرَّ على أن كعبيها الحمراوين كانا يسببان الفتنة لكثير من رجال القرية.
وظل العراك بينهما طول الليل، وهي راقدة وجهها ناحية الأرض، تضغط بأنفها وفمها على الأرض، تكتم أنفاسها وتتظاهر بالموت، وقد يشتد عذابها إذا اتضح أنها لم تمت، وقد يشفع لها الموت، وأنها لم تسمع شيئًا مما دار بينهما، ولا يمكن لأحد من الإنس أو الجن أن يسمع ما يدور في القبر بعد الموت، وإذا حدث وسمع، فلا بُدَّ أن يتظاهر بعدم السماع، أو بعدم إدراك ما أدركته. وأخطر ما أدركته هو أن الرجلين ليسا مَلَكَي القبر، وليسا ملائكة من أي نوع، فلا يمكن للملاك أن تغيب عنه الحقيقة التي عرفها كل إنسان في القرية له عينان، ذلك أن كعبيها لم يكونا أبدًا حمراوين مثل كعبي بنت العمدة، وكانا دائمًا مثل وجهها وكفيها مشققين سوداوين بلون تراب الطريق.
ثُمَّ انتهى العراك قبل الفجر دون تعذيب، وشكرت الله حين انقطع عنها الصوت، وبدأ جسمها يخف ويعلو كأنها ستطير، وظلت محلقة كأنما في السماء، ثُمَّ سقط جسمها وارتطم بأرض طرية رطبة، وشهقت: الجنة.
ورفعت رأسها بحذر شديد، فرأت المساحة الهائلة من الخضرة، والشجر أوراقه كثيفة ومن تحتها الظل.
رفعت نصفها الأعلى كله من فوق الأرض، ورأت الأشجار تمتد أمام عينيها إلى ما لا نهاية، وهواء نقي يدخل صدرها، ويطرد التراب والغبار ورائحة الروث.
بحركة خفيفة نهضت حتى انتصبت تمامًا فوق قدميها، واستطاعت أن ترى البيت وسط فروع الشجر مبنيًّا بالطوب الأحمر، وأمام عينيها كان المدخل.
دخلت مسرعة تلهث، تصعد السلم العالي وتلهث، وأمام حجرة النوم توقفت لحظة تلتقط أنفاسها، قلبها يرفع ضلوعها إلى أعلى ويدق وصدرها يعلو ويهبط.
كان الباب مغلقًا، فمدت يدها بحذر شديد ودفعته، ورأت أعمدة السرير الأربعة تدور حولها الستائر الحرير، ومن تحت الأعمدة الأربعة رأت السرير العريض ومن فوقه زوجها، جالس فوق السرير كالعرش، وعن يمينه امرأة، وعن يساره امرأة ثانية، وكلاهما ترتديان ثوبًا شفَّافًا، يشف من تحته البشرة البيضاء كالشهد، وعيناهما واسعة مليئة بالنور كعيون الحور.
ولم يكن وجه زوجها ناحيتها فلم يرها، وكانت يدها لا تزال على الباب، فشدته إلى الوراء وانغلق، وعادت إلى الأرض مرة أخرى وهي تقول لنفسها: ليس في الجنة مكان لامرأة سوداء.