شوقي في الميزان (توطئة)
كنا نسمع الضجة التي يقيمها شوقي حول اسمه في كل حين فنمر بها سكوتًا كما نمر بغيرها من الضجات في البلد، لا استضخامًا لشهرته ولا لمنعة في أدبه عن النقد، فإن أدب شوقي ورصفائه من أتباع المذهب العتيق هدمه في اعتقادنا أهون الهينات. ولكن تعففًا عن شهرة يزحف إليها زحف الكسيح، ويضن عليها من قولة الحق ضن الشحيح، وتطوى دفائن أسرارها ودسائسها طي الضريح، ونحن من ذلك الفريق من الناس الذين إذا ازدروا شيئًا لسبب يقنعهم، لم يبالوا أن يطبق الملأ الأعلى والملأ الأسفل على تبجيله والتنويه به، فلا يعنينا من شوقي وضجته أن يكون لهما في كل يوم زفة، وعلى كل باب وقفة. وقد كان يكون هذا شأننا معه اليوم وغدًا، لولا أن الحرص المقيت أو الوجل على شهرته المصطنعة تصرف به تصرفًا يستثير الحاسة الأخلاقية من كل إنسان، وذهب به مذهبًا تعافه النفس. فإن هذا الرجل يحسب أن لا فرق بين الإعلان عن سلعة في السوق والارتقاء إلى أعلى مقام السمعة الأدبية والحياة الفكرية، وكأنه يعتقد اعتقاد اليقين أن الرفعة كل الرفعة والسمعة حق السمعة أن يشتري ألسنة السفهاء وبكم أفواههم، فإذا استطاع أن يقحم اسمه على الناس بالتهليل والتكبير والطبول والزمور في مناسبة وغير مناسبة وبحق أو بغير حق؛ فقد تبوأ مقعد المجد وتسنم ذروة الخلود، وعفاء بعد ذلك على الأفهام والضمائر، وسحقًا للمقدرة والإنصاف، وبعدًا للحقائق والظنون، وتبًّا للخجل والحياء؛ فإن المجد سلعة تقتنى ولديه الثمن في الخزانة، وهل للناس عقول؟!
ومن كان في ريب من ذلك فليتحققه في تتابع المدح لشوقي ممن لا يمدح الناس إلا مأجورًا. فقد علم الخاصة والعامة شأن تلك الخرق المنتنة، نعني بها بعض الصحف الأسبوعية، وعرف من لم يعرف أنها ما خلقت إلا لثلب الأعراض والتسول بالمدح والذم، وأن ليس للحشرات الآدمية التي تصدرها مرتزق غير فضلات الجبناء وذوي المآرب والحزازات، خبز مسموم تستمرئه تلك الجيف التي تحركها الحياة لحكمة، كما تحرك الهوام وخشاش الأرض، في بلد لو لم يكن فيه من هو شر منهم لماتوا جوعًا أو تواروا عن العيون. هذه الصحف الأسبوعية، وهذا شأنها وتلك أرزاق أصحابها، تكيل المدح جزافًا لشوقي في كل عدد من أعدادها، وهي لا تنتظر حتى يظهر للناس بقصيدة تؤثر، أو أثر يذكر، بل تجهد نفسها في تمحل الأسباب واقتسار الفرص، فإن ظهرت له قصيدة جديدة وإلا فالقصائد القديمة المنسية في بطون الصحف، وإن لم يكن شعر حديث ولا قديم فالكرم والأريحية والفضل واللوذعية، وإن ضاقت أبو اب الدعاء والإطراء فقصيدة أو كلمة ينشرها شاعر آخر فيستطال عليه بالشتم، ويعيَّر بالتقصير عن قدر شوقي والتخلف عن شأوه. وهكذا حتى برح الخفاء وانتهكت الدسيسة، والعجب أن يتكرر هذا يومًا بعد يوم، ويبقى في غمار الناس من يحتاج إلى أن يفهم كيف يحتال شوقي وزمرته على شهرتهم، ومن أي ريح نفخت هذه الطبول.
وشرفاء الناس كافة يتبرءون من شبهة تربطهم بتلك الصحافة ويعلمون أنها آفة وأي آفة: مدحتها تهمة، وذمها نعمة، وتقيمها وتقعدها لقمة، وبقاؤها على المجتمع المصري وصمة، إلا شوقي؛ فإنه يعتدها آلة شرف وأحدوثة حسنة، فهو يغمس نفسه في تقريظها ويستزيدها منه، والطامة الكبرى أن ينصب عجاجات من أوباشها للتكريم بين الناس، ولو عمدة قرية في مثل ثروته بصر به يمد يده بالسلام الخفي لأولئك الأوباش في خلوة من خلواته، لرآها نقيصة يخزى لها ويود أن تكتم عليه. ونقول في مثل ثروته اكتفاء بعزة العرف ولا نرهقه بما فوق ذلك من عزة خواص الإنسانية وشمم أفذاذ العبقرية، فأما أن تكرم البطالة كما تكرم جلائل العمال، وأن يدعى الناس إلى المحافل لحمد التسول كما يدعون لحمد الإحسان والمروءة، وأن يتنادى إلى الاحتفاء بناهشي الأعراض كما يحتفى بمهذبي الأرواح وهداة العقول، وأن يؤيد نفاية المجتمع وشذاذه كما يؤيد نوابغ البشر وأفراد العصور؛ فتلك الهاوية التي لا يبدو قرارها … ووا خجلة مصر! من الذي يصنع ذلك فيها؟! شعراؤها، الشعراء في كل مصر عشاق المثل الأعلى وطلاب الكمال الأسمى لا يرضون بما دون غاية الغايات مطمحًا لإعجابهم وقبلة لتزكيتهم. ونحن هنا يزكي شعراؤنا من يعد رفق السجانين بهم ضعفًا، وتجاوز الشرطة عنهم ظلمًا، واتساع المجتمع لهم رزءًا … إلا أنه والله العار وشر من العار، ولقد استخف شوقي بجمهوره واستخف واستخف حتى لا مزيد، ما كفاه أن يسخِّر الصحف سرًّا لسوقه إليه واختلاب حواسه واختلاس ثقته حتى يسخرها جهرة، وحتى يكون الجمهور هو الذي يؤدي بيده أجرة سوقه واختلاسه. وأقسم لو فعلها رجل في أوروبا لما قدر أن يمكث بعدها أسبوعًا واحدًا في بيئة محترمة، ولئن لم يعرف شوقي مغبتها أدبًا زاجرًا وجزاء وافرًا يعلمه الفرق بين سوق البقر وسوم البشر، ليكونن بلدنا هذا بلدًا يجوز فيه كل شيء ولا يؤنف فيه من شيء، ولا يصد المرء أن يخلع فيه عاريًا إلا اتقاء طوارئ الجو وعوارض الحر والبرد. أما الحياء فلا ولا كرامة.
إن امرأً تبلغ به محنة الخوف على الصيت هذا المبلغ لا ندري مم يستنكف في سبيل بغيته، وأي باب لا يطرقه تقربًا إلى طلبته، والحقيقة أن تهالك شوقي على الطنطنة الجوفاء قديم عريق، ورد به كل مورد وأذهله عما ليس يذهل عنه بصير أريب، وليس المجال منفسحًا للتفصيل ولا الفرصة سانحة لجلاء الغوامض، ولكننا نذكر هنا ما فيه الكفاية لمن يفقه، أما الذين لا يفقهون فلا شأن لنا معهم. نقول: إن تهالك شوقي على الشهرة قديم عريق، وقد وجد في مركز أمكنه من قضاء هذه اللبانة؛ إذ كان أشبه بملحق أدبي في بلاط أمير مصر السابق، وكانت وظيفته وسيلة لارتباطه بأصحاب المؤيد واللواء والظاهر وغيرها من الصحف المتصلة بالبلاط، فكانت لا تبخل عليه بالتقريظ والتهليل، وتتحاشى أن توسع صفحاتها لنقده كما توسعها لنقد غيره، وأنت إذا قلبت الصحف القديمة رأيت فيها مئات المقالات في نقد الأدباء المشهورين كُتابًا كانوا أو شعراء، ولا ترى اسم شوقي عرضة لمثل ذلك من حملاتها، واستثن مقالتين أو ثلاثًا بدأ بها المويلحي نقده في صحيفته مصباح الشرق ثم قطع سلسلتها، وهذا أدعى إلى الريبة.
وكان في أمانة شوقي وموظفين آخرين بالبلاط هبات محبوسة على أقلام الكتَّاب والأدباء، فكان شوقي يوظف منها المرتبات على من يتوسم الناس فيهم العلم بالأدب ويعهدون فيهم سلاطة اللسان؛ ليمدحوه في الصحف ويلغطوا في المجالس بتفضيله وتقديمه، ولو شئنا لسردنا أسماءهم واحدًا واحدًا وأكثرهم أحياء يرزقون. أضف إلى هؤلاء من يمدحونه لمشاركتهم إياه في العادات الخصوصية والمنادمات الليلية، وهم غير قليل، ومن اعتادوا أن يرتبوا المواهب على حسب الوظائف والألقاب، فمن هؤلاء من كنت تسأله ترتيب الشعراء فيقول لك: أولهم محمود سامي باشا البارودي (لأنه باشا عتيق)، وثانيهم إسماعيل صبري باشا (لأنه أحدث عهدًا بالباشوية والوزارة)، وثالثهم أحمد شوقي بك (لأنه بك متمايز)، ورابعهم حافظ بك إبراهيم (لأنه أحرز الرتبة أخيرًا)، ويلي ذلك خليل أفندي مطران (لأنه حامل نيشان)، فطائفة الأفندية والمشايخ وهلم جرًّا. كأنما يرتبونهم في ديوان التشريفات لا في ديوان الآداب! فبذلك وما شاكله اعتاد الناس أن يسمعوا اسم شوقي مشفوعًا بأفخم الألقاب غارقًا في صيغ الإطناب والإعجاب، وكأنه يخشى أن ينسى الجمهور اليوم ما وُصف به أمس، فلا يرضيه إلا أن تكرر تلك الصيغ في كل مرة يُذكر فيها اسمه، ففي كل قصيدة هو شاعر الشرق والغرب وشاعر العرب والعجم وأمير الشعراء وسيد الأدباء، وليت شعري ما ضرورة هذا التكرار كله إن كان مفهومًا بذاته؟! ولما رسخت هذه الألقاب المأجورة صدَّقها العامة وأشباه العامة ومن يجاملون السمعة والوجاهة فتناقلوها ورددوها، ولِمَ لا يصدقونها ويرددونها وأكثرهم لا يعني من الأدب بكثير ولا قليل، وجلهم إنما يعرفه بالسماع ويلقنه بالإشاعة! فإن كان في الأمر موضعٌ للعجب، فهو أن تسمع ثناء متكررًا ولا تسمع نقدًا، مع أن الإغراق في الثناء أحجى أن يغوي بالمنافسة ويكثر من النقاد، ومتى علمت علة السكوت فقد زال موضع العجب.
وأظن السنَّ قد فعلت فعلها في نفس هذا المعذب بمرض الصيت، فغلبه الشك وزاده شحًّا وقلقًا، فأصبح لا يقنعه أن يعلل بالدهان، ويؤكد له التفرد والرجحان، حتى يرتج أبو اب المدح ومنافذه على الخلق قاطبة، فلا يروى لأحد شعر، ولا يستحسن قول، ولا ينادى باسم، ولا تقرن إلى شهرته شهرة. وإلا فعقوبة من يرتكب جريمة الإجادة معروفة! وما أطول عذابه إن لج به هذا الوسواس! وإن المحنة لتستدر الرحمة، ولكن أرحم الناس خليق أن يضحك ممن يخال أنه يعقم بطن الطبيعة، ويسد الآذان ويضيق رحب الفضاء بالأجرة.
ولو شئنا لاتخذنا من كلف شوقي بتواتر المدح ليلًا على جهله بأطوار النفوس، فإن الآذان أشد ما تكون استعدادًا لقبول الذم إذا شبعت من المدح، وأسرع ما تكون إلى التغير إذا طالت النغمة. وإذا تعود الناس أن يسمعوا ضربًا واحدًا من الكلام عن إنسان تاقوا إلى سماع الكلام عنه من ضرب آخر. ويا رُب مشهور انقلبت عليه القلوب بين يوم وليلة وأكبر ذنبه عندها أنها أفرطت في محاباته، فهل يدري شوقي أنه يؤجر أذنابه على النيل منه حين يبذل الأجر على المبالغة في مدحه؟! إنه لا يدري، ولا يبرئ المريض أن يدري بدائه.
وعلى نفسها جنت براقش، فنحن نكتب هذه الفصول لنظهر لشوقي ومن على شاكلته عجز حياتهم ووهن أسلحتهم، ونضطرهم إلى العدول عن أساليبهم المستهجنة بأسًا من صلاحها في هذه الأيام.
إذ يعلمون أنها لا تعصم من النقد الصحيح ولا تموه على الناس أقدارهم إلا ريثما تنكشف أسرارهم، ونقول لشوقي إن سنة الله لم تجر بأن يقوض الغابرُ المستقبلَ، ولكنها قد تجري بأن يقوض الحاضرُ الغابرَ والمستقبلُ الحاضرَ، فإن كان يكربه أن يتنفس الناس الهواء كما يتنفسه، ولا يشتفي إلا بأن يصفر الدهر من كل بقية صالحة؛ فلا شفى الله نفسه من غيظها ولا أبرد عليها وغرة قيظها.
وإنه لَيلذُّ لنا أن نكون نحن حربه وبلاءه، وأن نستطيع الإدالة للحق من الباطل في غرض من الأغراض، فإنها لذة نادرة في هذا العالم.
وإنه على قدر استفاضة الشهرة المدحوضة يكون نفع النقد ولزومه، فإن أبلغ ما يكون العيب إذا كان فاشيًا، وأضر ما يكون إذا كان متخذًا نموذجًا للإحسان وقياسًا للإتقان. وليس قصارى الأمر أن يقول عامة القراء تلك قصيدة جيدة ونقول نحن إنها قصيدة رديئة، فإن الذوق والتمييز إذا اختلَّا لم يكن اختلالهما في الأدب وحده.
وأنت إذا استطعت أن تهدي الطبقة المتأدبة من أمة إلى القياس الصحيح في تقدير الشعر، فقد هديتهم إلى القياس الصحيح في كل شيء، ومنحتهم ما لا مزيد لمانح عليه. وإن الأمم تختلف ما تختلف في الرقي والصلاحية، ثم يرجع اختلافها أجمعه إلى فرق واحد: هو الفرق في الحالة النفسية أو بالحري الفرق في الشعور وفي صحة تمييز صميمه من زيفه إذا عرض عليها فكرًا وقولًا أو صناعة وعملًا.
فليس إصلاح نماذج الآداب بالأمر المحدود أو القاصر على القشور، ولكنه من أعم أنواع الإصلاح وأعمقها، وسنتناول شعر شوقي قصيدة قصيدة أو معنًى معنًى حتى نتبين الأثر جليًّا في تحول الآراء وسلامة القياس، وسيرى القراء أننا نغلظ له البلاغ ونصخه صخًا شديدًا، وكذلك ينبغي أن يجزى الزيف والدسيسة والاستخفاف بالعقول والاستطالة على الناس بالمقدرة على كم الأفواه وتسخير المأجورين، على أننا لا نحتاج أن نقول إن ذلك ليس بمانعنا اعتزام الحق والتزام الصواب، وفي غنى نحن عن الاحتيال باللين والمداراة على القارئ ليقتنع بما نقول، فإننا لا نسأل أحدًا اقتناعه. ومن كان يحتكم برأيه إلى غير الحجة القاطعة والكلمة الناصعة فليحفظه لنفسه، فما تعودنا أن نوجه لمثله كلامًا. وإنا لبادئون.