شوقي في الميزان (٢)
عرضنا «شوقي» في الميزان لأول مرة فارتج به ارتجاجًا عنيفًا، وأيقظه من غفلة كان فيها سادرًا، وما هو إلا أن حط به، ثم شال حتى تمنى أن يركز به على حال، وذهب يوطِّن نفسه على جاه غير جاه الشعر، ويقول لخلطائه وسماسرته: «هبوني لست بالشاعر، أليس لي فخر آخر أدل به؟»
نقول أجل، ولكنه على كل حال ليس بفخر الفحول.
أما القراء فقد بلغ الكتاب بينهم من الأثر ما كنا نقدره لأربعة أجزاء، فكان استعدادهم لتلقيه دليلًا على ظهوره في أوانه؛ أسرعوا إلى اقتنائه، حتى نفدت نسخه في أسبوع أو أقل، ونادرًا ما كانت تقصر النسخة منه على قارئ واحد، وتوالى الطلب له في المدينة والأقاليم، فلم نر بدًّا من التعويل على إعادة طبعه، وقد كان قراؤه من طبقات الناس على افتراق نظراتها إلى الأدب.
فمنهم شيوخ وكهول من فضلاء الجيل الماضي ذوي العقول المتزنة والفطر المستقيمة والاطلاع المجدي، وموافقتهم عليه مرضية ورأيهم فيه جميل، ومنهم أذكياء الشبان الدارسون أو السالكون على الجادة، وكثير بينهم المشايعون بل المتهللون. وطائفة أخرى حظها من السماع أكثر من حظها من الاطلاع، وجدناها إلى الموافقة المشفوعة بالدهش أميل منها إلى المنافرة والعنت، وربما عز على بعضهم أن يشهد على نفسه بين يوم وليلة بالخطأ ويتهم ناقدته بالانحراف، فهو يتلمس المعاذير ويدرب لسانه على التغيير، وفي هؤلاء أمل لا يضيع، ولا سيما بعد هدأة الدهشة وتطامن المفاجأة؛ لأن نزاهة الشباب تغلب مع الاقتناع كل مراوغة ومكابرة، ويقال على الجملة إن أثلام المحراث اشتبكت بصعيد صالح ليس فيه من يبوسة الحصباء ما يشق تسويته أو يعسر عند اليأس منه نبذة. وأما التذمر فقد استقبلنا معظمه من حيث كنا ننتظره، ولا نتوقع غيره، ونعني فريق القراء — وبالحري المتحدثين — الذين لم نوجه إليهم خطابًا، وهما فريق المعجبين على الإشاعة الذين يطربون لما يطرب له الناس فرارًا من تهمة الجهل والغرارة، ويغرمون بالشعر كما يغرم بعضهم بجمع العاديات والمخطوطات أو بتربية الديكة، ويغار على صيت شاعره كما يغار على اللعبة التي فتن بها. ومن أظرف ما يروى عن أحدهم أنه سمع جملة في نقد رثاء شوقي لعثمان غالب، وفيها تسخيف للمناحة التي أقام لها الأزهار والرياحين، وسؤال عما كان من القطن بأصنافه في تلك المناحة، فظن — صان الله لشوقي إعجابه — أننا إنما أنكرنا سكوته عن القطن، وأردنا منه أن يذكره فقال متعجبًا: وهل كان القطن «طالعًا» وقتئذ، فيذكره في القصيدة؟!
والفريق الآخر من الساخطين هم أولئك الذين عرفوا بأنهم شركاء شوقي في «العادات الخصوصية والمنادمات الليلية»، فما رأينا أحر من سخطهم ولا أكثر تصنعًا لأسبابه وتمحلًا لعلله، وهذه آخر إشارة نلمح إليهم بها.
•••
ولا نحب أن نسكت هنا عن انتقادين سمعناهما ممن يحسن القصد ولا نستبعد رجوعه إلى الحق متى وضح له وجهه: أول الانتقادين وأشبههما بالحق أننا اخترنا أوهن قصائد شوقي وأكثرها مغامز. وليس هذا صحيحًا فإننا إنما راعينا الحداثة فيما اخترناه من قصائده، وهي لا تقل في اعتقادنا واعتقاده عن أجود شعره صياغةً ومعنًى، ولكن الحقيقة — كما قلنا في الجزء الأول — هي أن قراء اليوم غيرهم بالأمس، فليس يرضيهم ما كان فوق الرضى قبل عشرين سنة، ونحن نذكِّر أصحاب هذا القول بأننا إنما كنا نصوب الانتقاد إلى شاعرية شوقي وذوقه وروح قصائده ومنهج أدبه، متجاوزين عن الصياغة واللفظ وما تؤثر فيه العجلة والتأني، وإذا كان الطعن في الشاعرية والعاهة في الذوق والاعوجاج في المنهج، فاختلاف القصائد كيفما كان الموضوع والأسلوب لا يقدم ولا يؤخر في الحكم على الشاعر. ولعلهم بعد الاطلاع على هذا الجزء يعلمون أن القديم والحديث في شعر شوقي سواسية.
أما ثاني الاعتقادين فهو أننا أغلظنا العصا لشوقي وشددنا عليه النكير. ولهؤلاء نقول: إننا لا نهدم خطأ مؤسسًا على البرهان فننقضه بالبرهان وحده، ولكننا نهدم الوهم المطبق والدسائس المتراكبة، وما أحوج البرهان في هذه إلى الشدة، وما أقل ما يغني فيه اللين والهوادة!
ومما استصعبوه أننا قرنَّا معانيه بمعاني الشحاذين. فيا عجبًا! كأننا نحن نهينه إذا قابلنا أدعيتهم وتوسلاتهم بكلام له لا يختلف عنها، وهو لا يهين نفسه ويهين ضمير الأمة حين يجمع المحافل المشهودة لتكريم الشحاذة في أشنع ضروبها! وأي حق على الناس لمن لا يعرف لنفسه ولا للناس حقًّا؟ فنحن لا نرى للرجل في أنفسنا قدرًا يتجافى به عن أخشن عبارات الزجر والتقريع، وهذا ما أعلناه في توطئة الجزء الأول، ولا نريد العدول عنه في هذا الجزء ولا في الأجزاء التالية، فمن كان يفقه ما نقول ولم يغضب لكرامة الفكر تداس هوانًا، ولضمير الأمة يلطم على وجهه عيانًا؛ فليغضب علينا ما شاء فإنه لا يعرف كيف يغضب.
وكأننا بزمرة شوقي يتساءلون: وما كرامة الفكر هذه التي يغضب لها الناس في آخر الزمان؟! بدعة طارئة على ما يظهر. ولكننا نؤكد لهم أنها حقيقة تحس وتلمس، وإن كانت لا تؤكل، وإنها حق بيِّن يحكم به القضاء كما يحكم بحقوق الملك والإجارة والديون! وسنحدثهم بخبر قضية جرت إبان ظهور الجزء الأول، عسى أن يعرف منها من لم يعرف بعض ما يتأفف منه الأديب الجدير بشرف الأدب، وما ترخص له المحاكم في التأفف من اللصوق باسمه ومقاضاة الذين يجنونه عليه.
كان ولا يزال في حاضر الزمان، لا في سالف العصر والأوان، وفي الجزر البريطانية لا في جزائر واق الواق ومعاهد السحرة والجان؛ إنسي يقال له رديارد كبلنج يقرض الشعر ويقص للناس القصص، لهذا الرجل فيما نظم من الشعر الكثيرِ قصيدة عنوانها «إذا»، يخص بها الهمم ويذكي في النفوس الضرم، شاءت شركة جنا توازن أن تقتبس منها أبياتًا لترويج غذاء مشهور من أغذيتها التي تجهزها لمداواة الأعصاب، فاقتبستها وكتبتها على لفائف دوائها، فماذا كان من أمر ذلك الرجل المدعو رديارد كبلنج الذي قلنا إنه يقرض الشعر ويقص النوادر على الناس؟
زعموا أنه قاضاها إلى إحدى محاكم لندن، وزعموا أن وكيله — ويدعى المستر هيوز — وقف فطلب إلى القضاء منع الشركة من امتهان الأبيات بهذا الاستعمال، وقال فيما قال: «إنه لمن أصعب الأشياء أن يتخيل الإنسان أمرًا أشد إيذاء لنفس المؤلف من ابتذال كلامه بإدماجه على هذه الصورة في صياح الباعة على سلعهم. إنها لإهانة لا تقل عن السباب المقذع لكل من لامست نفسه أقل مسحة من الكرامة الأدبية.»
فهذه أسطورة يحفظها الشوقيون ليتفكهوا بروايتها عن تلك العنقاء التي يسمونها الكرامة الأدبية، ولكن الذين لا يستغربون وقوع هذه الأساطير في غير قصور ألف ليلة حريون أن لا يقفوا بها عند حد التفكُّه.
لمثل ذلك الابتذال يغضب أديب الغربيين، ويقول محاميهم إنه أشد ما يتخيل إيذاء لنفس المؤلف ويؤيده قاضيهم باسم الشريعة، فما بال شاعرهم أنف أن يتخذ اسمه ذريعة لترويج السلع ولو كانت دواء نافعًا، وعندنا أمير شعراء وجنوده يظنون أنهم لا يقترفون ما يحاسبون عليه، حين يتداعون بقضهم وقضيضهم لترويج شر تجارة يبوء بها كاسب، إن صح أن التسول بالمثالب تجارة.
ذلك لأن أمير الشعراء هذا وجنوده سوقة لا يفقهون للغيرة الأدبية وأريحية الفنون أقل معنًى، ولا يفهمون من جمال الشعر إلا أنه «أسرى مروءة الدني وأدنى مروءة السري»، كما كان يقال في عهد مدرسة الاستجداء بالقريض، وتالله لولا حكم القضاء، وفيه مقنع لهم، لما عدوا شكوى كبلنج من تصرف الشركة إلا أعجوبة مبهمة ولغزًا مغلقًا؛ لأن هذا الذي أنف كبلنج أن يصنع بشعره على غيره على غير علم منه قد صنعه شوقي بشعره مختارًا، وتعمد أن يكون إعلانًا لسلعة معروضة! ألم ينظم أبياتًا يروج بها «ريشة صادق» ونشرها في الصحف؟ بل فقد قال أدامه الله للدكاكين والمآتم والأفراح والسهرات:
وفي هذه الأبيات أوفى دلالة على عامية الروح وتبذل الملكة، شعر لا يتأبه صاحبه أن ينزل به منزلة الإعلانات التجارية، وعبقرية دراجة أبانت أن أخيلته وابتكاراته هي ومبالغات الباعة وتزويقات الدلالين وتحلية البضاعة على حد سواء. وأن من يروج ريشة كتابة بأنها «أغلى من ريشة الألماس» لقريب نسب ممن ينادي في قوارع الطرقات «يا جواهر يا عنب»، والذي يدلل على ريشة عربية بأنها «حسنت الكتابة في المشارق كلها» إنما يرشف من البحر الذي تغرف منه «الفرص الحقيقية وأحسن بضاعة في العالم كله»، و«ولم لم يكن في الأمر إلا أنها مصرية» شبيهة بكل ما ينسب إلى مصر والمصريين على عناوين الدكاكين. ولا اختلاف سوى أن الباعة لا يغلطون غلطة شوقي فيقولون وهم يعرضون الريشة ويمدحونها بالجدة والسلاسة إن لها صريرًا يكاد يحيي الأموات!
وبعد فإن المرء ليزدري العقل الإنساني نفسه أن قيل إن هؤلاء الصعاليك الفكريين الذين تقوم عليهم الإمارة الشوقية من ذوي مزاياه وحملة أمانته في الأرض، فالأدباء في الأمم هم عنوان حياتها الروحية والفكرية، ومعيار لما تحسه من مفاخر الحياة وقوى الطبيعة ومعاني الوجود، وهم الرافعون فيها لقبس ذلك النور السماوي الذي يفيضه الله من الآيات والفنون جمالًا ونبلًا، ويوحيه كمالًا وفضلًا، وهم إذا ذكرت الفصاحة في الأمم صفحتها الواضحة وطبقتها الممتازة الراجحة، فقل لي — رعاك الله — أي هذه الطغمة، أميرًا كان أو مأمورًا، تفخر الأمة الحية بأنه صورة ما في نفوسها من زينة وجمال، ومظهر ما في رءوسها من فكر وخيال، وترجمان ما يجول بوجداناتها، وتعمر به صدورها من قسط في الوجود، وتراث مقسم بين أبناء آدم. وإن المرء ليزهى بآدميته حين يلقي بنفسه في غمار الآداب الغربية، وتجيش أعماق ضميره بتدافع تياراتها، وتعارض مهابها ومتجهاتها، وتجاوب أصدائها وأصواتها؛ أبو اب للكتابة منوعة، ومهايع متسعة، وفنون مبتدعة، ونحل ومذاهب، ومدارس ومشارب. والحياة بين هذه الأفكار المشرقة معروضة للنظر في كل شية من شياتها، محسوسة في كل خطرة من خطراتها، متكررة متضاعفة، شاكة موقنة، جادة ساخرة، ناقمة راضية، شهوانية متنطسة، فياضة غير بكية، موصولة ينابيعها مروية، والنفس تحس من إحدى نواحي ذلك العالم الرحيب ما لا تحسه من سواها، فكأنها نفوس متفرقة لأنفس واحدة جاثمة.
كذلك عالمهم. ثم تلتفت إلى الأدب الذي يدعيه أولئك الأميون العارفون بالكتابة، الجهلة المتدثرون بلباس المعرفة العامة، المتطفلون على موائد الخاصة فترى عجبًا؛ ترى هذا عاكفًا على رقمه ولعلعه، وذاك مدبرًا إلى ربربه وسربه، ومادحًا وهاجيًا ومحسوبًا على آل فلان، ومتمسحًا بآل عمران. نفوس ضاوية، وعقول خاوية، أخيلة في التراب ثاوية، أو كأنما هي الأثقال إلى القرار هاوية، فصدق إحدى اثنتين: إما أن أدبًا تسمعه من هؤلاء أشرف ما تنطق به النفس ساعة تسمو إلى أسمى معارج الإنسانية، أو أنهم ليسوا من ذاك، وإنما هم محترفو حرفة ليس من آلاتها نباغة الطبع وامتياز المدارك ووفور الشعور.
وأن من الجناية على مصر والشين لها أن يسمى هؤلاء النفر بعد اليوم أدباءها وتراجمة حياة الروح والفكر فيها. وما ظنك بحياة فنية يعنو ذووها لكل وبش يخطر له أن يسخرهم لقضاء غرض من أغراضه، أو يستجلب القوت لهم كما يستجلب الحواة والبهلوانات أرزاقهم بعرض ثعابينهم وخيولهم؟! ووا رحمتا «المكلتور المصري» يساق دعائمه لتمثيل الروايات وإنشاد الأشعار بأيسر مما يساق المولوية لتشييع الجنائز وتلاوة الأذكار!
ولقد كان مما قيل في المدينة الحديثة أن أقلام أدبائها إحدى الحواجز التي تصونها أن ترتد إلى العصور المظلمة، وأنها عصمة لها من أن تستبد بعقولها عادة أو تسيطر على ميولها مصلحة فرد أو طائفة، وأنها سلاح من أسلحتها الماضية تخشاه كل قوة ويحسب حسابه كل طاغية، فأي عصمة لمصر في أقلام هؤلاء المخططين والنظامين وهم بهذه الحال من الخور والمداجاة؟! إلا إن العصا في يد الأكار لأنفع لمدينة مصر وأصون لسمعتها من كل قلم تشرعه تلك النفوس المهزولة.
ومن كان كهؤلاء بحيث ينزلون أنفسهم من الكرامة فلا إجحاف بهم، ولا غضاضة تلحقهم مهما كانت وطأة القلم المنصب عليهم. ولقد وجب، بل آن أن يفهم الأدب على غير ما يفهمونه، وأن ينحوا عن مكان لم يخلقوا له ولم يخلق لهم.
•••
وكأنما شاء القدر أن يبدد حبائل شوقي وطلاسمه كلها في بضعة أسابيع؛ فقد كان الناس يسمعون من يدعونهم في مصر علية القوم يثنون عليه، فيغترون بتشيعهم له ويروعهم إعجابهم به، ويحسبون أن لرأيهم فيه شأنًا وخطرًا، حتى جاءت لجنة الأغاني فأماطت الستر عما وراء ذلك، وهتكت للناس حقيقة إعجاب هؤلاء العلية إذا أعجبوا وقيمة استحسانهم إذا استحسنوا، وأنها إن هي إلا محاباة ماسخة عرت حتى من حسن السبك ولباقة المداراة.
شمرت اللجنة عن ساعديها، وأغمضت أمام المتفرجين عينيها، كما يصنع المشعوذ الهندي إذا هم باللعب، ثم وضعت يدها في الجراب، فأخرجت نشيد شوقي وهي تقسم أنها لا تعرفه، وجعلت تلوح به للملأ كي يشاركها في الابتهاج به، فيا لمهارة! ولكنها لسوء حظ شوقي كانت تنقصها خفة اليد!
ولا حاجة بنا إلى الاستنتاج ولا إلى العود لما حدث في الجلسة، مما أظهر اطلاع أكثر الأعضاء على النشيد قبل التئامها، اكتفاء بتسجيل حكم اللجنة نفسها على حكمها الأول.
فالقراء يذكرون أن اللجنة بمن كان فيها من المغنين والعوادين — وهم أعضاؤها الأخصائيون — اختارت نشيد شوقي وأعلنت أسباب اختيارها له في منشورها، وهي أنها «انتهت في مناقشتها إلى أنه أكفأها وأوفاها بالغرض، وأجمعها للمزايا التي ينبغي أن تتسق لنشيد قومي»، وكذلك علمنا أن حكمها لم يصدر اعتباطًا، ولا كان عن جهل بالمقصود من الاختيار، بل جاء بعد المناقشة.
ويذكر القراء أن الأستاذ منصور عوض كتب بعد ذلك في الصحف ينقد النشيد، ويقرر أنه لا يصلح للتلحين بأنغام الأناشيد القومية، ثم أنهم يذكرون أن فريقًا من أعضاء نادي الموسيقى من الذين كانوا في لجنة الأغاني أذاعوا بعقب ذلك في الصحف أن الأستاذ إنما يتكلم برأيه، ومعنى هذا أنهم كانوا لا يزالون إلى ذلك الحين مصرين على حكم اللجنة، مجدين في إبعاد كل مظنة في صلاحية «النشيد الوطني المختار» للتلحين.
فماذا جرى بعد ذلك الحكم المبني على المناقشة، وهذا الإصرار الصادر عن روية؟
ثم يصفق جمهور الناس مع اللجنة، وقد بدأت هي أمامهم وأقبلوا يسألونها وهي محتدمة تصفيقًا: ما هذا الذي تصفقين له؟! نعم لم يعد يكفي في هذه الأمور أن يرى الناس ذا لقب يصفق فيصفقون وراءه. وكثر اللفظ بتحيزها، واجترأ الموسيقيون على الإفضاء بآرائهم في تلحين النشيد، فسقط سقوطًا تامًّا! وكان صاحبه أول المنهزمين؛ فقد أخذ يزعم أنه إنما نظمه ليغنيه جماعة عكاشة في مسرحهم، كأنما النشيد مشى بقدمين إلى ديوان لجنة الأغاني! وخشيت اللجنة أن يكون حكم الأمة عليه حكمًا قاضيًا على معرفتها وإنصافها وإخلاصها، فبادر أعضاؤها الأخصائيون يبلغون الصحف أن النشيد يصلح للتلحين، ولكن لا كنشيد قومي! وقيل بلسان رئيسها إنهم لم يشترطوا ذلك في تلحينه. إذن فماذا اشترطتم؟ أتراكم كنتم تقدمون للأمة «طقطوقة» تغنيها على المعازف والآلات؟ وأين ذهبت تلك المزايا التي اتسقت «للنشيد الوطني المختار»؟
كذلك تهافت حكم لجنة الأغاني بيدها، وانكشف طلسم كان من أبهر طلاسم الشهرة الجوفاء لعيون الدهماء، ونعني به طلسم الأسماء الخلابة ووهم الألقاب الجذابة، وعندنا أن لجنة هذا مبلغ غيرتها على مهمتها لن يرجى منها صلاح للأغاني ولا لسواها، ولكنها إذا كانت تخرج من العدم لتئوب إليه بعد أن تكون قد أبطلت وهم العامة في أمثالها، فتلك مهمة طيبة تستحق من أجلها نعمة هذا الوجود القصير.
قد كان يوم الجمعة الماضي ميعاد إلقاء القصيدة الحسينية، التي نظمها حضرة الشاعر الفاضل السيد محمد عبد الله القصري، في الحفلة التي أقيمت تكريمًا له برئاسة حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون، بدار الجمعية الإسلامية بقصر النزهة بشبرا، فما وافت الساعة التاسعة صباحًا حتى أقبل المدعوون من علماء وكبراء وأدباء وأعيان، فازدحم بهم المكان، ثم أقبل نائب الأمير محمد بك جبلي باشا معاون الدائرة، فصدحت الموسيقى بالسلام وكذلك فرق الكشافة للكشاف الأعظم، ثم بدأت الحفلة بالذكر الحكيم فنشيد شوقي بك فنشيد الكشافة، فمقطعات شعرية من بعض طلبة مدارس الجمعية، ثم وقف نائب الأمير واعتذر عن سموه بكلمات رقيقة، ثم نهض الشاعر ناظم القصيدة وألقاها بين الإعجاب والتصفيق الشديد، وبعد انتهائه قدم له نائب الأمير ساعة ذهبية أثرية ثمينة، وتبرع حضرة العربي الكريم عبد المجيد بك محمد السعدي بمائة جنيه لطبع عشرة آلاف نسخة من هذه القصيدة التاريخية، ثم وقف حضرة الشاعر العربي عمر بك السعدي وألقى قصيدة عامرة، أثنى فيها على سمو الأمير لتعضيده العلم وامتدح بها الشاعر، ثم نزع من أصبعه خاتمًا من ألماس، ووضعه في أصبع الأستاذ القصري، وقدم له سيادة السيد محمد أبو بكر مرغني شيخ السادة المرغنية بمصر خاتمًا من ألماس، وأهداه حضرة عبد الفتاح أفندي عليش لوحة كتب عليها اسمه بخطه الجميل، وختمت الحفلة بنشيد مدارس الجمعية، أنشده بعض التلاميذ والتلميذات، ثم بالقرآن الكريم، وأقبل المدعوون وهم يزيدون على ثلاثة آلاف نسمة لتهنئة الشاعر.
انتهى ما نقلناه من المقطم. فليتأمله القارئ، وليتصور اسم شوقي مجردًا من مثل هذه الطنطنة، بل ليتصوره محلى بها، وليستدل منها على ما شاء من مزية تدخر أو شهادة تقدر …
وثم مثل آخر نسوقه تبصرة وعبرة لهؤلاء الذين لا يعرفون كيف يشرفون اسمنا ويستوجبون الثقة بنا من أعمالهم. هذا الدرس مستمد من حكم لجنة فرنسية، كان يصح أن تكون لجنتنا مثلها في إنصافها وفي الإخلاص للفن الذي تخدمه، وتنشيط المواهب الفنية التي تنهض إليه، لولا أنها آثرت لنفسها الخطة العوجاء على الخطة المثلى، ففي فرنسا مجمع معروف يسمى مجمع المسابقات (أكاديمية كونكور)، يحكم في كل سنة بجائزة قدرها اثنا عشر ألف فرنك للسابق من الأدباء في باب من أبو اب التأليف، فأصاب جائزة السنة المنصرمة فتى اسمه إرنست بيروشون لرواية قصصية ألفها، أفيدري القارئ من هذا الإرنست بيروشون؟
فيا قوم، إذا نشطت القرائح هناك وخمدت هنا فلا عجب، تلك لجانهم تعدل في أحكامها هذا العدل، وتحيي كل ملكة صالحة للحياة، وهم لا يأتمون بها مغمضين ولا يسلمون لها خاضعين، فكيف لو أنها كانت كلجنتنا هذه المباركة: لجنة لا تحسن غير المجاملة، ولا تحسن أن تجامل إلا بأن ترضي فردًا لتقضي على أمة كاملة بالعقم والإفقار؟! إن في ذلك لموعظة!
•••
وخلاصة القول أننا عرفنا رأي القراء في عملنا فقسمناهم إلى فريقين: فأما الذين يعجبون بشوقي لغير سبب معقول يفيء إلى شعره، فقد أسخطناهم، ولا نسأل الله أن يخفف سخطهم. وأما الذين يرجعون إلى الأسباب فقد وثقنا منهم بالمؤازرة، وكان أقلهم موافقة من أرجأ الحكم لنفسه حتى يرى، وإننا لنعلم أنه يرى ما يقنعه.
خلِّ مذهبك الجديد لنفسك فما نحن بحاجة إليه.
وجوابنا لهذا وأمثاله: «صدقتم ولا هو بحاجة إليكم.»
ويمثل رأي الآخرين بيت لقينا به أديب مشهور فقال: إيه يا فلان، إليك بيتًا يسير مسير الأمثال:
وجوابنا له: بل إنه عصر يخمل عصرًا، ولاغية وهم تخفتها صيحة حق، وإنا لعلى الحق صامدون.