رثاء مصطفى كامل
قال قائل من سماسرة شوقي: ما ترى في رثائه لمصطفى كامل؟ أتنتقده؟ قلت: وماذا عساي أن أنتقد إن لم أنتقد الهراء والزيف والشتات؟! قال: إن القصيدة آيته. قلت: لقد هديتني — هداك الله — فما كنت أظنها آية لأحد من العالمين، وما حسبتها إلا زلة أسقطته فيها «مغالبة الشجون لخاطره»، أو داهية خانه فيها إمكانه الذي ما فتئ يخونه كما قال منها:
وما دهاه إلا العجز والفهاهة والحرج: دهته أولًا فأجبل وحسر واستعصى عليه النظم، فصنعها في أربعين يومًا، ثم زاد كثيرًا من أبياتها وغيَّر وبدَّل فيها. ثم دهته ثانيًا، فجرى فيها على عادته من التلفيق والعقم والزغل المموه. فأما وقد علمت أنها الآية التي بها تؤمن شيعته وذوو المآرب عنده، والمعجزة التي يستنصر بها دعاته؛ فبآيته فلندحض رسالته، وفي معقله الحصين فلنكشف وهنه ونفضح مطاعنه، وإنها لآية ومعجزة والحق يقال، ومعقل وأي معقل، ولكنها آية السيمياء ومعجزة الشعوذة ومعقل الرمل، بل أخوى من ذلك وأضعف، وأضأل في الضئولة وأسخف، أراحه الله من شعره بما أراح من أقلام نقاده، فإنه — علم الله — لم يزعج لهم بديهة، وإن كان يزعج بديهته في صباح ومساء، ولا كد لهم خاطرًا، وإن كان خاطره منه في وصب وشقاء، ولقد فات أصحابَنا سماسرة شوقي أن خلافنا معهم لم يكن خلافًا على درجات الإجادة وخطوات السبق، فتتقارب كلما أجاد شاعرهم في رأيهم، أو خيب آمالهم وأخلف ظنونهم، ولكننا نختلف على نوع الشعر وجوهره، ثم على أدائه وطبقته، فربما كانت أرفع القصائد عندهم درجة أخسها عندنا معدنًا، وربما طربوا كل الطرب من حيث نعزف كل العزوف؛ كالمسحور كلما ازداد استحسانًا لما هو فيه كان أبعد عن حالة الصحو والصواب، وكالأعجمي كلما أمعن في فصاحته وبيانه استغلق على مسامع الأعراب، وهذا هو الواقع في ما أخذناه ونأخذه على شعر شوقي، وهو بخاصة شأننا في الحكم على قصيدته هذه، التي رأينا بعض المفتونين يجعلها عن الانتقاد ويعجب من أن تعاب، وهي — لو يفقه — من القصائد التي يصاب منها المذهب العتيق في مقاتله، والشواهد التي يبحث عنها لإبراز مآخذه. وسنستعرضها على عيوب ذلك المذهب، فنبين مواقعها منها، حتى يكون لمن قصر النظر على قشورها رأي غير رأيه الأول فيها.
فالعيوب المعنوية التي يكثر وقوع شوقي وأضرابه فيها عديدة مختلفة الشيات والمداخل، ولكن أشهرها وأقربها إلى الظهور وأجمعها لأغلاطهم عيوب أربعة؛ وهي بالإيجاز: التفكك والإحالة والتقليد والولوع بالأعراض دون الجواهر، وهذه العيوب هي التي صيرتهم أبعد عن الشعر الحقيقي الرفيع المترجم عن النفس الإنسانية في أصدق علاقاتها بالطبيعة والحياة والخلود؛ من الزنجي عن المدنية من صور الأبسطة والسجاجيد، كما يقول ماكولي عن نفائس الصور الفنية: ولكل من العيوب الآنفة أثر ظاهر في هذه القصيدة، قد لا تجده في غيرها من القصائد إلا مزويًّا أو دقيقًا عن فهم الكثيرين. وسنرى بعد سبر هذه القصيدة بهذا المسبار أن من نقائص الشعر ما لا يمنع أن يلمح له رواء معجب يستهوي البسطاء، بل ربما زادته جمالًا في الظاهر كالحلي المزيفة؛ فإنها في الغالب أجمل من كريم الحلي والجواهر، ولكنها تمنع أن يكون للشعر قيمة غالية.
(١) التفكك
فأما التفكك فهو أن تكون القصيدة مجموعًا مبددًا من أبيات متفرقة لا تؤلف بينها وحدة غير الوزن والقافية، وليست هذه بالوحدة المعنوية الصحيحة؛ إذ كانت القصائد ذات الأوزان والقوافي المتشابهة أكثر من أن تحصى؛ فإذا اعتبرنا التشابه في الأعاريض وأحرف القافية وحدة معنوية، جاز إذن أن ننقل البيت من قصيدة إلى مثلها دون أن يخل ذلك بالمعنى أو الموضوع، وهو ما لا يجوز. ولتوفية البيان نقول: إن القصيدة ينبغي أن تكون عملًا فنيًّا تامًّا، يكمل فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه والصورة بأجزائها واللحن الموسيقي بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها؛ فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته، ولا يغني عنه غيره في موضعه إلا كما تغني الأذن عن العين أو القدم عن الكف أو القلب عن المعدة. أو هي كالبيت المقسم، لكل حجرة منه مكانها وفائدتها وهندستها، ولا قوام لفن بغير ذلك، حتى فنون الهمج المتأبدين، فإنك تراهم يلائمون بين ألوان الخرز وأقداره في تنسيق عقودهم وحليهم ولا ينظمونه جزافًا، إلا حيث تنزل بهم عماية الوحشية إلى حضيضها الأدنى، وليس دون ذلك غاية في الجهالة ودمامة الفطرة. ومتى طلبت هذه الوحدة المعنوية في الشعر فلم تجدها؛ فاعلم أنه ألفاظ لا تنطوي على خاطر مطرد أو شعور كامل الحياة، بل هو كأمشاج الجنين المخدج بعضها شبيه ببعض، أو كأجزاء الخلايا الحيوية الدنيئة لا يتميز لها عضو ولا تنقسم فيها وظائف وأجهزة، وكلما استقل الشيء في مرتبة الخلق صعب التمييز بين أجزائه؛ فالجماد كل ذرة منه شبيهة بأخواتها في اللون والتركيب، صالحة لأن تحل في أي مكان من البنية التي هي فيها، فإذا ارتقيت إلى النبات ألفيت للورق شكلًا خلاف شكل الجذوع، وللألياف وظيفة غير وظيفة النوار، وهكذا حتى يبلغ التباين أتمه في أشرف المخلوقات وأحسنها تركيبًا وتقويمًا، وهي سنة تتمشى في أجناس الناس كما تتمشى في أنواع المخلوقات، ومصداق ذلك ما نشاهده من تقارب الأقوام المتأخرة في السحنة والملامح، حتى لتكاد تشتبه وجوههم جميعًا على الناظر، وهي حقيقة فطنت إليها قبائل البدو بالبداهة، ولمسها البحتري في هجوه لمعشر ينعتهم بالهوان والضعة ويقول فيهم:
وعلى نقيض ذلك الشعوب العريقة في الحضارة تراها تتفاوت أقدارًا وملامح وبدوات وأطوارًا، حتى ليوشك أن يكون من المستحيل اتفاق اثنين في هندام الجسم وهيئته وفي مواهب الذهن ونزعته. ونقترب مما نحن بصدده فنقول: إنك كلما شارفت فترة من فترات الاضمحلال في الأدب ألفيت تشابهًا في الأسلوب والموضوع والمشرب، وتماثلًا في روح الشعر وصياغته، فلا تستطيع مهما جهدت أن تَسِمَ القصائد بعناوين وأسماء ترتبط بمعناها وجوهرها؛ لما هو معروف من أن الأسماء تتبع السمات والعناوين تلصق بالموضوعات، ورأيتهم يحسبون البيت من القصيدة جزءًا قائمًا بنفسه لا عضوًا متصلًا بسائر أعضائها، فيقولون: أفخر بيت، وأغزل بيت، وأشجع بيت، وهذا بيت القصيد، وواسطة العقد؛ كأن الأبيات في القصيدة حبات عقد تشترى كل منها بقيمتها فلا يفقدها انفصالها عن سائر الحبات شيئًا من جوهرها، وهذا أدل دليل على فقدان الخاطر المؤلف بين أبيات القصيدة، وتقطع النفس فيها، وقصر الفكرة، وجفاف السليقة، فكأنما القريحة التي تنظم هذا النظم ومضات نور متقطعة، لا كوكب لها متصل الأشعة يريك كل جانب، وينير لك كل زاوية وشعبة، أو كأنما هي ميدان قتال فيه ألف عين وألف ذراع وألف جمجمة، ولكن ليس فيه بنية واحدة حية، ولقد كان خيرًا من ذلك جمجمة واحدة على أعضاء جسم فرد تسري فيها حياة.
وإذ كان ذلك كذلك فلا عجب أن ترى القصيدة من هذا الطراز كالرمل المهيل، لا يغير منه أن تجعل عاليه سافله أو وسطه في قمته، لا كالبناء المقسم الذي ينبئك النظر إليه عن هندسته وسكانه ومزاياه.
وهاه كومة الرمل التي يسميها شوقي قصيدة في رثاء مصطفى كامل نسأل من يشاء أن يضعها على أي وضع فهل يراها تعود إلا كومة رمل كما كانت؟ وهل فيها من البناء إلا أحقاف خلت من هندسة تختل، ومن مزايا تنتسخ، ومن بناء ينقض، ومن روح سارية ينقطع اطرادها أو يختلف مجراها؟ وتقريرًا لذلك نأتي هنا على القصيدة كما رتبها قائلها، ثم نعيدها على ترتيب آخر يبتعد جد الابتعاد عن الترتيب الأول؛ ليقرأها القارئ المرتاب ويلمس الفرق بين ما يصح أن يسمى قصيدة من الشعر، وبين أبيات مشتتة لا روح لها ولا سياق ولا شعور ينتظمها ويؤلف بينها، ونحن نأسف على فضاء نضيعه من صفحاتنا، فلا يعزينا عن ضياعها إلا أنها كما نرجو لا تضيع عبثًا، قال شوقي — أصلحه الله:
كذلك انتظمت لشوقي مرثاة في مصطفى كامل وسماها قصيدة؛ لأنها لم تأب أن تستقر في قرطاس واحد، ولقد كان أحرى بها أن تسمى أربعة وستين بيتًا منظومة في كل شيء أو في لا شيء. فاعتبرها أيها القارئ على هذا الترتيب، ثم خدها على ترتيب آخر أربعة وستين بيتًا لم تزد ولم تنقص، ولم تخسر حسنة كانت لها، بل لعلها ربحت وعادت أحسن نسقًا وأقرب نظمًا. قال شوقي أيضًا:
•••
•••
فانظر أيها القارئ إلى هذه المرثاة، هل ترى بينها وبين سابقتها من تفاوت؟ على أننا قد تناولنا الأبيات عفوًا كما بدرت لنا ولم نتحر الإقصاء في الترتيب، ولو أننا غيرنا بعض الضمائر التي تعلق الاسم على الاسم ولا رابطة بينهما، وصحفنا حروف العطف التي تصل الجملة بالجملة ولا تناسب بين معناهما؛ لم يكد يجتمع بيت من القصيدة على بيت، وإنما يظهر انحلال هذه القصيدة من سؤال القارئ نفسه هل قرأ في الشعر أشد تفككًا منها؟ فعلى حسب الجواب يكون حكمه على مصدرها من قريحة شوقي، وهل هي نبعت من شعور فياض يتدفق على موضوعه فيغمره كما يغمر السيل الوهاد والنجاد، أو تقطرت من عقل ناضب ينبض بالقطرة بعد القطرة بخلع الضرس وبخلع النفس، فتأتي كالرشاش لا يتولد منه إلا الوحل واليبس.
وقبل أن نتحول من كلامنا على التفكك وفقدان الوحدة الفنية، ننبه من يستبهم عليه الأمر إلى أننا لا نريد تعقيبًا كتعقيب الأقيسة المنطقية، ولا تقسيمًا كتقسيم المسائل الرياضية، وإنما نريد أن يشع الخاطر في القصيدة، ولا ينفرد كل بيت بخاطر فتكون — كما أسلفنا — بالأشلاء المعلقة أشبه منها بالأعضاء المنسقة، كما رأينا في هذه القصيدة.
(٢) الإحالة
أما الإحالة فهي فساد المعنى، وهي ضروب؛ فمنها الاعتساف والشطط، ومنها المبالغة ومخالفة الحقائق، ومنها الخروج بالفكر عن المعقول، أو قلة جدواه وخلو مغزاه، وشواهدها كثيرة في هذه القصيدة خاصة.
فمن ذلك قوله:
وقضبان السكك الحديد لا تنكس؛ لأنها لا تقام على أرجل، وإنما تطرح على الأرض كما يعلم شوقي، اللهم إلا إذا ظن أنها أعمدة تلغراف! على أنها لو كانت مما يقف أو ينكس لما كان في المعنى طائل؛ إذ ما غناء قول القائل في رثاء العظماء: إن الجدران أو العمد مثلًا نكست رءوسها لأجله؟!
ومنه قوله:
وهذا بيت لو جرى المدح والرثاء كله على سننه، وانتظم النطق والأداء أجمعه على طريقته ونمطه؛ لما فهم الناس من الكلام شيئًا، ولما كان على من يؤتى هذه المقدرة من المنطق ضير ولا خسارة من قطع لسانه. والكلام في كل لغة ولأي قصد إنما يحتاج إليه للدلالة على معنًى معين أو وصف يطابق موصوفه، فإن لم يكن كذلك، فهو وبُحران المحموم وهتر المجنون سواء، والشعر إذا لم يصح أن يقال في إنسان معلوم أو صح أن يقال في كل إنسان: في السياسي والعالم والأديب والواعظ والصانع؛ فهو الهذيان بعينه، فماذا يفهم السامع من بيت كهذا يرثي به مصطفى كامل؟ أيفهم أنه وحده هو الباني لكل ركن للأخلاق في هذه الدنيا؟ إذن فماذا يقال عن النبي إن قيل هذا عن الزعيم السياسي؟!
وهل لا يصح حينئذ أن يقال هذا القول في قائد الحرب وفي جوابة الآفاق وفي خطيب المحافل، وفي التاجر السري والوزير المحنك والمربي المرشد والمخترع الحاذق، في كل إنسان، بل في الناس جميعًا، بل في مخلوقات الله وكائناته طُرًّا من حي ونابت وجامد؟ فإنه على كل وجه صرفته قول خلا من الصدق والمدلول، سواء أرثيت به حجرًا أم رثيت به كونفوشيوس الذي دان بمذهبه آلاف الملايين منذ ألوف السنين.
ولا جرم فإن كونفوشيوس وحده صاحب شريعة في قومه، وهبه نبيهم الفرد، فما الصين كل العالم، وهبها كل العالم، فما كان تاريخ «هذه الدنيا» تاريخ جيل واحد. ولقد كان مصطفى زعيمًا سياسيًّا يوقظ هذه الأمة، فلو قيل إنه موقظ كل نفس بمصر في عصره لما كان هذا حقًّا؛ إذ كم في مصر من رجل أيقظه ما أيقظ مصطفى نفسه من الحوادث والعبر والمعارف! وكم فيها من أناس لم يطرق صوته لهم سمعًا ولا قلبًا!
فإذا زيد على ذلك أنه موقظ كل نفس بمصر في كل عصر، فقد صار الكلام لغوًا وسفهًا، فإذا لم يكتف بهذا، وقيل عنه إنه موقظ كل الناس من جميع الأمم في جميع العصور؛ فالأمر شر من اللغو وأقبح من السفه، هذا وما تجاوزنا دائرته من النهضات السياسية، فما ظنك إذا خرج القائل من هذا الدائرة إلى؛ دائرة الإصلاح الأخلاقي، فزعم أن ليس للأخلاق ركن قام في هذه الدنيا إلا وهو من بناء رجل ولد في أواخر القرن التاسع عشر، وأنها من بنائه قبل مولده، وحيث لم تخطر له قدم ولم يسمع لاسمه صدى؟!
إذن يكون بكم العجماوات خيرًا من شعر الآدميين، كما قلنا في فصل مضى.
•••
ومن الإحالة قوله:
لو سأل: هل في قلبك المدفون في الثرى آمال لنا وأماني، لاغتفرت له هذه الثرثرة على قلة محصلها وتفاهة مغزاها. أما الذي يسأل أن يفتش فلا يصح أن يسأل هل في قلبك آمال وأماني إلا في معرض التبكيت والتأنيب، كمن يقول لرجل يتحرك ولا يعي: يا هذا الذي يمشي هل أنت حي؟
ولقد قال حكيم:
فكل من يفرض فيه أنه يفتش فله قلب تجول فيه الآمال، بله كبار النفوس وبعيدي الهمم، ومنها:
الصواب في إظهار فضل الشجاعة أن يقال إنها لازمة في أصغر المطالب وأقرب الغايات، كما يقال في إظهار فضل المال إن الإنسان لا يقدر على أن يشتري إبرة بغيره، ولا يقال في الدلالة على شدة لزومه وبيان الحاجة إليه إنه لا يقدر على شراء مدينة بدونه.
ولو قال شاعرنا: إن أحقر الناس خليق ألا يكسب قوته القفار بغير الشجاعة، لكان لقوله معنًى، أما الاستشهاد على قدرها واستجاشة الناس لها بأنها ضرورية لمن كان رسولًا، ففي وسع الناس قاطبة أن يقنعوا بما دون الرسالة، فلا يحتاجون إلى الشجاعة. أما إن قيل إن الشاعر يعني أن الرسل الذين تمدهم قوة الله وتؤيدهم روح الله لا بد أن يكونوا شجعانًا حتى يؤمنوا، فقد اعتذر القائل من فارغ الكلام بما هو أفرغ منه، وهل إذا سمعت أيها القارئ رجلًا يخبرك أن المصارع المؤيد بالمُنَّة ومتانة الخلق لو لم يكن قويًّا لما كان قويًّا؛ أكنت تظنه يخبرك بشيء يستحق أن ينظم في بيت شعر؟ فهذا الذي يخبرنا به شوقي، إن صح أنه يعني ما افترضناه، ومن إحالاته:
والذي يقوله الناس — وشوقي منهم إذا شاء: إن فضاء الدنيا يضيق بالراغب المتطلع، وإن سعة الرحب تأزم بالطامح المتدفع؛ لبعد آماد همته وتطاول آناء طماعته، وقد يقولون: إن القانع السالي تفسح له سم الخياط ويرحب به جحر الضب!
فأما القول بأن المطامع تفسح الدنيا والسلوان يحرجها، فرأي لا يخطر إلا على فكر كفكر شوقي المقلوب.
ومن هذه الإحالات هذه الفهاهة:
والصبر على بؤس الحياة معروف، أما الصبر على نعماها فماذا هو! ولكن ويحنا! فقد نسينا أن المصائب والخيرات سيان، فلا غرابة في أن يصبر الإنسان على النعمة وأن تبطره المحنة. هكذا يقول شوقي، وما أصدقه! فإننا لا نرى منحة هي أشبه بالمحنة من هذا الشعر الذي أنعم الله به عليه. ولله في خلقه شئون.
ويقول:
وزعيمنا الفقيد كان فردًا والقمران اثنان، فمن كان الثاني في ذلك النعش؟!
ولا يقال إن صاحبنا أراد مقابلة السناء والسنى بالقمرين؛ لأن السناء هو الرفعة والسنى النور، والشمس والقمر كلاهما رفيع منير، فلو أنه قال: «كأنما في نعشك القمر»، أو «كأنما في نعشك الشمس»، لما نقص في الحالتين وصف من ذينك الوصفين. ولعمري كيف يكون النعش في السناء والسنى، ثم يكون السَّنَاء والسنى في النعش؟! وما هذا الرثاء الذي لا يتم إلا بإلقاء الشمس والقمر من عليائهما ميتين؟! وليته رثاء يتم بهذه النكبات التي تزلزل الأفلاك. فما علمنا من فرق بين شعرائنا الذين يصفون العظيم في كل حالة بأنه كالشمس والقمر، وبين الطفل الذي يمدح كل ما يعرفه بأنه كالسكر، فالمدرسة سكر، والكتاب سكر، وأبو ه سكر، وبيته سكر. كذلك شعراؤنا هؤلاء: مرثيهم شمس وقمر، وممدوحهم شمس وقمر، ومعشوقهم شمس وقمر، وأولادهم شمس وقمر، ولا اختلاف بين امرئ وامرئ، ولا بين حالة وحالة في جميع هذه الأوصاف.
ويقول — عافاه الله:
أي والله ظاهر. لكن الشموس والأقمار والنجوم التي تباع الحزمة منها بخمسة مليمات، وفي هذه نظر.
ويقول:
ونقول إنما يُرثى بهذا البيت غريب جاهد في سبيل مصر وهو بعيد عنها، فإذا قضى نحبه ولم يرها كان من العزاء أن نتعلل بأنه سينام في ثراها. ومن السخف أن يقال لرجل مات في وطنه: أحببت بلدك فنم في ثراه. إذا كان لا يدور بخلد أحد أنه سيدفن في غيره. ومن مبالغاته التي تلحق بما تقدم من هذا القبيل:
ولعله أراد المقابلة بين الشباب في البيت المتقدم والهرمين في هذا البيت، ونحن ننعي على هذه المبالغة دائمًا أنها لا تدل على شيء، فهب أنه قال:
أو قال:
إلى آخر المثنيات التي تسكن ولا تتحرك. ثم هب أنه قال البيت في رثاء مصطفى، أو رثاء باستور، أو في رثاء ابن زريق، أو مشهور كائنا من كان؛ فماذا يختلف من المعنى؟ ومتى كانت الأوصاف لا تتغير موصوفاتها فلماذا يتجشم تعب كتابتها ونظمها؟
ويقول:
مصر أيها القارئ — ولا تخطئ فتحسبها القاهرة المعزية فإنها مصر بريفها وصعيدها — مصر كلها ما هي إلا قبر واحد! ﻓﻠﻠﻪ دَرُّ شاعرها يرثي رجلًا أحيا نهضة بلاده فيجعلها قبرًا، ولأي ضرورة؟ وليدل على ماذا؟ لا شيء.
وقد اجتزأنا بهذه الأبيات، لا لأنها كل ما في القصيدة من شواهد الإحالة واعوجاج الطبع، بل لأنها ذات طعم، وإن كان رديئًا ممجوجًا وما سواها تافه لا طعم له ولا مذاق فيه. والحقيقة أن القصيدة بجملتها بنت الإحالة والسقط، فإذا سلم منها بيت من النقد، فإنما أكثر سلامته من الخلو لا من الإتقان.
(٣) التقليد
أما التقليد فأظهره تكرار المألوف من القوالب اللفظية والمعاني، وأيسره على المقلد الاقتباس المفيد والسرقة، وأعز أبيات هذه المرثاة على المعجبين بها مسروقة مطروقة؛ فهذا البيت:
مقتضب من بيت المتنبي:
وهذا البيت:
شوه فيه معنى أبي الحسن الأنباري فوق تشويهه، وذاك حين يقول في رثاء الوزير أبي طاهر الذي صلبه عضد الدولة:
ونقول شوهه لأن الخطيب لا يخطب الناس وهم سائرون به، وإنما يفعل ذلك اللاعبون في المعارض المتنقلة.
وقوله:
مأخوذ من بيت ابن النبيه في قصيدته التي لم تبق صحيفة لم تستشهد بمطلعها:
والبيت هو:
على أن المعنى مرذول بلغ من ابتذاله وسخفه أن تنظمه «عوالم» الأفراح في أغانيها، وحسب الشاعر ألا يكون أبلغ ولا أرفع من القائلات: «أحطك في عيني يا سيدي واتكحل عليك.» وإنه ليقول كما قلن:
وقوله:
منظور فيه إلى بيت المعري:
وهذا البيت:
من قول مسلم بن الوليد:
فما أضاف شوقي إلى هذه المعاني سوى أنه جعل الأكفان تصاغ. وإنه تحذلق فقال:
يريد جسدًا، كأنه يحسب أن الأوطان إن لم تصور جسدًا لم يدفن الفقيد النابه فيها!
وربما سرق شوقي ما لا يستحق أن يسرق فهذه شطرته:
أليست هي شطرة الشريف في إحدى همزياته:
وكذلك هذه الشطرة «أن المنية غاية الإنسان» هي من قول الشريف أيضًا «أن المنية غاية الأبعاد»، وكأن القافية صدته عن انتهاب الشطرة كلها، فعاد إليها في رثاء فريد إذ قال:
فأتم الغنيمة في قصيدتين. وسنعود إلى بيان سرقاته في فصل على حدة.
•••
ويشبه الإحالة من عيوب المقلدين ولعهم بالأعراض دون الجواهر؛ وهو العيب الرابع الذي اخترنا الكلام عليه من عيوب هذه القصيدة الدالة على أنماط التقليد ومذاهبه، بيد أن الفرق بينهما كالفرق بين الخطأ واللعب والسخف والعبث، ولكل منهما سبب يمت به إلى الآخر، إذا تشابها في الصدور عن طبع أعوج وعقل فارغ. وقد يسهل التفطن إلى الإحالة، ولكن التفطن إلى هذا الضرب من العبث عسير على من لا يدركه بالبداهة، كما يعسر على الأطفال إدراك رزانة الرجال، انظر أيها القارئ إلى هذا البيت:
فإنه بيت القصيد في رأي عشاق شوقي، فعلى أي معنًى تراه يشتمل؟ معناه أن السنة أو مائة السنة التي قد يعيشها الإنسان مؤلفة من دقائق وثوان، وهذا هو جوهر البيت، فهل إذا قال قائل إن اليوم أربع وعشرون ساعة، والساعة ستون دقيقة؛ يكون في عرف قراء شوقي قد أتى بالحكمة الرائعة؟ ولكنهم يقولون لك: إنه قرن بين دقات القلب ودقات الساعة، وهذه هي البراعة التي تعجبنا، وبها هدانا إلى واجب الضن بالحياة. وهنا يبدو للنظر في قصر المسافة التي يذهبون إليها في إعجابهم، وأن بلاغتهم المزورة لا تتعلق بالحقائق الجوهرية والمعاني النفسية، بل بمشابهات الحس العارضة. وإلا فلو قورن بين الساعة والقلب أيام كان يقاس الوقت بالساعات المائية أو الرملية، فهل يفهم لهذه المقارنة معنًى؟ وهل لدقات القلب الخالدة علاقة حقيقية بدقات الدقائق والثواني، يستنبط منها الإنسان سر الحياة؟
أبهذه العوارض يقدر الأحياء نفاسة حياتهم؟ وهل يتوقف المعنى الذي ينظم في الحياة الإنسانية على علاقة سطحية باختراع طارئ؟! ولقد قلنا في نقدنا لرثاء فريد: «أن الحقائق الخالدة لا تتعلق بلفظ أو لغة؛ لأنها حقائق الإنسانية بأسرها: قديمها وحديثها، عربيها وأعجميها.» ونعيد هذه الكلمة هنا، ونزيد عليها أن الحقائق الخالدة لا تتعلق بفترة محدودة، ولا تقوم على مشابهة زائلة، فليذكر ذلك قراء الجيل الغابر وليتدبروه، ويقيننا أن أحدهم لو سمع ناصحًا يعظه في موقف جد — وأي موقف جد أجد من رثاء النابغين؟ فيناديه: «يا أخي صن وقتك؛ لأن قلبك ينبض كما تنبض الساعة»؛ لأغرب في الضحك، ولخطر له أن صاحبه يخامره الشك في عقله، ولكنه حين يسمع هذا الكلام شعرًا يطرب له ويكبر قائله، وما ذاك إلا لحسبانه أن الهزل جائز في الشعر فكاهة وحكمة، ولو علم أن الشعر جد كجد الحياة، لما تمثل بما حقه أن يضحك منه ويلهو منه.
وكهذا البيت أخواه هذان:
وللعلم جوهر وعَرَض؛ فأما الجوهر فهو ما يرمز إليه من مجد الأمة وحوزتها، وما يناط بمعناه من معالم قومية وفرائض وطنية. وأما العَرَض فهو نسيجه ولونه خاصة، وليس لها قيمة فيما ترفع الأعلام لأجله. فشوقي يولع بهذا العرض إذا هو نظم في العلم ولا يعنيه ذلك الجوهر، ولا ريب أنه ما كان يذكر لف نعش المرثي بالراية المصرية لو لم تكن حمراء كي يكون لونها دمعًا ودمعها دمًا منزوفًا، وليست هذه هفوة أو فلتة بدرت منه هنا، بل هي دأبه كلما وصف علمًا، فقد قال في وصف الهلال الأحمر:
فهو يمثل راية الأمة وعنوانها بالوردة وبالوجنة بالياقوت والمرجان في لون الشفق، حتى الدم إذا ذكره يكون خضابًا لشيبة أو دم عشاق، فيا للطاقة الشعرية! وليته سلم بعد ذلك من عيوب اللفظ، فلم يخلق ليوسف خدودًا من حيث خلق الله له خدين، ولم يجعل للراية غرة ولا غرة لها، بل ليته طابق الواقع المحسوس، إذ هو قد وصف هلالًا أبيض في أثناء حمرة الهلال الأحمر على عكس ذلك، كما يدل اسمه عليه لو أنه تنبه إليه، ومع هذا فإني لأقسم أن صاحبنا رص هذه «الكأنات» في أبياته الستة، ويخيل إليه أنه لو تقدم به الزمن إلى عهد عمر بن الخطاب، لقال: أشعركم من يقول كأن وكأن، لا من يقول من ومن …
ومن الغباء العجيب أن يصف هذا الرجل راية حمراء ملفوفة على نعش بطل من أبطال الوطنية، فيسرع بنفي الخجل والريبة عن احمرارها، كأنها ملفوفة على نعش راقصة يخشى أن يظن بها الناس الظنون، وهي بريئة عفة! إذ ما الذي يخطر على باله الخجل والريبة في هذا المقام، وهو يرثي الرجل الذي يخاطبه قائلًا:
ولكنها الغباوة لا تعلم إذا بدأت أين تنتهي بصاحبها! وليت شعر شوقي إذا كانت رايتنا كالراية الفرنسية، فماذا تراه كان يقول؟! أكان لا يرى للف النعش بها أي معنًى لأنها لا تبكي بدمع أحمر؟!
تلك آية شوقي ومعجزته: آية السيمياء، معجزة الشعوذة، كومة الرمل كما قلنا في أول المقال. ولقد أتم فيها امتساخ الطبائع بمخالفة الواقع، فجاءت معرضًا مختارًا من الأغلاط، وسملًا مرقعًا من النشوز والاختباط، وما كان يسعه أن يخرج نفسه خلقًا آخر فيأتي بالمستوي من الشعر، وهو غير مستو، ويستقيم في أغراضه ومعانيه وهو ملتو، ولكن كان يسعه أن يعلم أن السكة الحجازية لم تصل إلى مكة فلا يقول:
والحرمان في الحجاز هما الحرم المدني والحرم المكي، وكل قارئ للصحف، ولا سيما لدن وفاة مصطفى كامل — يعلم أن ليس حيال ربى مكة سكة كبرى ولا صغرى، وكذلك هي حتى الساعة، وكان في مقدوره أن يعلم أن الحسين لم يشيع في موكب حاشد كما شيع مصطفى، فلا يقول في وصف نعشه:
وقد رأيناه يغير على قصائد الشريف، أفتراه لم يفقه رائيته التي يقول منها في مصرع الحسين:
وقصة مصرع الحسين مشهورة سيارة، ومن العامة من يستظهر خبره، ويعلم كيف أنه قاتل حتى أثخن بالجراح، وأنه — لا حيا الله قاتليه — مات وبه ثلاث وثلاثون طعنة، وأكثر من أربعين ضربة، ثم ديس بالخيل ورض جسده، واحتز رأسه وطوفه ابن زياد الكوفة، ثم أرسله إلى يزيد في خبر فاجع لا حاجة إلى تفصيله. وأنى لمن يموت هذه الميتة أن تحتشد له الجنائز ويطاف بنعشه في المواكب؟! ولا نقول يختال بين البكاء والحنان، فما من أحد ينسب الاختيال إلى النعوش إلا من كان نعشًا مختالًا كهذا الذي لا يميز بين تشييع قتيل إلى قبره وزف عروس إلى خدرها. فإن زعم أنه يقصد موكب عاشوراء الذي يحتفل به الشيعة كل سنة تذكارًا لوفاة الحسين، فالخطأ أعظم وأقبح؛ لأننا نرى كل عام صورة من هذا الموكب، فما رأيناهم يحملون نعشًا، وإنما يقتادون جوادًا مسرجًا ملجمًا؛ لأنهم أزْكنُ من شوقي وأدري يما ينبغي أن يذكر به يوم الحسين، إذ كانوا يحتفلون بمصرعه في ميدان حرب لا بمدفنه في الثرى.
كان يسعه ألا يقول ذلك، كما كان يسعه أن يسكت، ولكنه ألهم أن يستقصي عاهات الشعر ما يتداركه منها، إذا شاء، وما لا يتداركه. وأن يجتهد في ذلك كأنه يكافأ على مجهوده وهو في الحقيقة يكافُأ المكافأة التي يستحقها، فإنه بهذه العاهات ينفق شعره بين الجهلة والسذج، ومن لا يهمه من قراءة الشعر واستحسان ما يشيع عنه الاستحسان إلا أن يدفع عنه تهمة الجهل والسذاجة، أو يقال عنه إنه يشتغل بكيت وكيت من الغرائب والفنون.
•••
ولا ندع هذه القصيدة التي ملأها شوقي بما يسميه حكمة، وبما يتسامى به إلى مضاهاة المتنبي ومضارعة المعري؛ قبل أن نكشف عن غشاوة يخدع من قبلها كثير من قراء الشعر، الذين يؤمل صلاحهم واقتناعهم، وأن نروز تلك البديهيات وأشباه البديهيات، التي يتصنع شوقي بها الحكمة والرشد لعله يريحنا من هبنقياته ويريح نفسه من عبء لا طاقة له به.
فالحكمة في الكلام ضربان: الحكمة الصادقة وهي من أصعب الشعر مرامًا وأبعده مرتقى، لا يساس قيادها لغير طائفة من الناس توحي إليهم الحقائق من أعماق الطبيعة، فتجري بها ألسنتهم آيات تنفج ببلاغة النبوة وصدق التنزيل، ويلقي أحدهم بالكلمة العائرة من عفو خاطره ومعين وجدانه، فكأنما هي فصل الخطاب ومفرق الشبهات، تستوعب في أحرف معدودات ما لا تزيده الأسفار الضافية إلا شرحًا وامتدادًا، وتسمعها فتشع في ذهنك ضياءها، وتريك كيف يتقابل العمق والبساطة، ويأتلف القدم والجدة: قدم الحقيقة كأثبت ما تحلوها الحياة المتقلبة، وحدة النظر الثاقب والنفس الحية التي تطبع كل مرئي بطابعها.
فهي تارة تلم لك شعث الحقيقة، فتحسبها مجموعة كذلك منذ الأزل لم تتفرق قط ولا يكون لها أن تتفرق، كبيتي المتنبي اللذين يعدد فيهما من تصفو لهم الحياة، هما:
فالجاهل من لا يعي، والغافل من يعي لو شاء ولكنه لا ينتبه، والمغالط نفسه واع منتبه يحجب بيديه ما تبصره عيناه. وهؤلاء هم الذين يغنمون من الحياة صفوها على قدر حظهم الذي قسمه من الشعور بها، ومهما يجهد الجاهد، فلن يجد إنسانًا غير هؤلاء تصفو له الحياة على حال، ولن يحذف من عبارة البيتين كلمة إلا نقص بقدره من المعنى.
وتارة يُلمِع إلى الحقيقة المألوفة فيحسن تصويرها، حتى لكأن قارئها قد كان يجهلها، أو قد نسيها فعاد يذكرها. كقول طرفة بن العبد:
وهذا أجمل ما يقال في بحبوحة العمر المرتهنة بالأجل وطورًا تصل طرفي الفكرة فتعرضها عليك من جانبيها كما قال البحتري:
وطورًا تصدع برأي يشطر الخلاف شطرين، كالسيف الجُراز تضرب به العقدة المؤربة، فيقسمها على عجل كقول المتنبي المأثور:
أو كقول أبي فراس:
ومن هذه الحكمة ما ينتزع به الشاعر مشاهدة من مشاهدات الطبيعة فتصبح كأنها القانون الجامع، أو يقصد بها حالة واحدة، فتطابق لصدق نظره كل حالة من نوعها، ومنها بيت العباس بن مرداس:
فليس الشأن كذلك في كرائم الطير فحسب، بل هو مما يطرد كثيرًا في كل نسج ونتاج.
ويقرب الشاعر الحكيم المعنى العويص والفكرة البعيدة، فيوضحها وضوح المألوفات، كما صنع الأفوه الأودي بهذا البيت الفذ:
فقد حفيت الأقلام بحثًا وتنقيبًا في علوم الاجتماع، وكلت القرائح تدبرًا وإنعامًا في شئون الأمم، وراقبت الدول على سنن شتى من الأنظمة والدساتير، فما خرجت كلها بزبدة أو جذوة لا أصدق ولا أتم من هذه الحكمة، التي اهتدى إليها هذا البدوي الناشئ في عصور الجهالة، وإنك لا تزن أمة بميزان هذا البيت إلا كنت على ثقة من السداد والإصابة.
هذه هي الحكمة الصادقة، وهي كما ترى غير قاصرة على إيراد الحقيقة المسلم بها، وإنما هي الحقيقة كما تبصرها الفطرة الخصيبة والفطنة النافذة واللسان البليغ، وبغير ذلك لا تكون الحكمة إلا ملكًا مشاعًا للدهماء، كحصباء الطريق يحرزها من يلتقطها.
والضرب الآخر حكمة مبتذلة أو مغشوشة معتملة، أشرفها ما كان من قبيل تحصيل الحاصل، وكلها لا فضل فيها لقائل على قائل ولا لسابق على ناقل، إذا قارنا بينها وبين الحكمة من ذلك الطراز، كانت كمن يحفر الآبار للناس على شاطئ النهر الغزير، وكانت تلك كمن ينبط الماء من ينابيعه الصلدة لمن لوحهم الصدى والهجير. وأحمق ممن يحفر البئر على شاطئ النهر من يروح ويغدو ينظم من أشباه البديهيات تلك النصائح الفاشية، التي حفلت بها كتب التمرينات الابتدائية: «كالعلم نافع، والصدق منج، والبركة في البكور، واحترم الأستاذ تتقدم، وفي العجلة الندامة وفي التأني السلامة»، وما إلى هذه النصائح والأمثال والحكم؛ ينظمها ليشتهر بالحكمة وليصيح من فوقها:
فهل يدري القارئ من صاحب الحكم والأمثال الفخور؟! إنه هو شوقي، ثم هل يدري ما حكمه وأمثاله التي استتبت له بها دولة الشعر؟! هذه هي:
•••
فليقارن القارئ بين هذه المفاخر وبين مفاخر التمرين الأول نحو: «العلم نور، من عاشر العلماء وقر، تعلم العلم لحفظ الدرس، حلي النساء الذهب وحلي الرجال الأدب»، وليسأل نفسه ماذا زاد عليها ملك الشعر المتفرد بدولته، وأي ميسم يبدو عليها من مياسم نفسه، وماذا من وحي الشاعرية وإلهام البصيرة ونهية العبقرية وأصالتها؟! أليس كل ما يميز بينهما الوزن والقافية؟
ومن أركان ملكه — أعزه الله — هذه الجمل المركبة من ست كلمات فأكثر، فليتلق الوحي أناس حجبوا عن صفاء الشاعرية وليستفيدوا:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
ولعمري لقد كانوا يقصون علينا ونحن أطفال حكاية تاجر الزجاج مع الحمال، وهي الحكاية التي يضرب فيها المثل بالحكم الفاترة، فكان يضحكنا أن نسمع التاجر الحصيف يرمي بحكمه الثلاث للحمال واحدة في إثر واحدة، فيفهمه متئدًا أنه: «إن آل لك حد الراكب مثل الماشي أول له بتفشر. وإن آل لك حد الغني مثل الفقير أول له بتفشر»، فكنا لا نظن هذه الحكم تساوي أجرة «شيلة»، حتى رأى شوقي أن يسمعنا نظمًا: «إن آل لك حد الشجاع مثل الجبان أول له بتفشر»، فآمنا بخرق ذلك الحمال الذي لم يقدر ما قبضه من الأجرة الغالية!
وهل علم أن المسافر إذا آب فقد آب قبل أن يقول شوقي:
أم علموا الحق حتى أخبرهم به مستغربًا جهلهم سائلًا إياهم:
أليس كذلك أم ماذا بالله؟
أم حكم أحد الأحلام إلا حين علموا منه أن:
ومن أمثلة حكمته المغشوشة المعتملة قوله:
والبيت من قصيدة في شكسبير. ومعناه أن جثة شكسبير استعصت تحت التراب على البلى فلم يقدم عليها حتى مزقها؛ أي إنه لم يمزقها حتى مزقها، ولم يبلها حتى أبلاها، ولم يتلفها حتى أتلفها، ولم تتفتت هي حتى تفتتت مهابة وإجلالًا! …
وإنه لما أكلها أكلها، ولكن بعد تقسيمها، كما أن الأسد لا يؤكل إلا عضوًا عضوًا …
تصفيق متواصل لشاعر المشرقين والمغربين والأرض والسماء، المحسن إلى واحد من رعاياه بالتقدير والرثاء، المنعم عليهم بالذكر والإيماء، تصفيق متواصل، لا بل ضحك تتجاوب به الأصداء، على القريحة الصماء، والفطرة البليدة الخرساء؛ فطرة ملك الشعر وأمير الشعراء.
فيا هذا، إن جثة شكسبير ليست بموضع العظمة منه؛ لأنها في الحياة جسد تفوقه في الحسن والقوه أجساد كثيرة، وهي في الموت رفات يبلى كما تبلى بقايا الأحياء من أكملها إلى أدناها، ولو جاز أن يعظم أحد بأن يقال إن الموت يتهيب جسده، لكان ذلك أليق بأبطال الحروب؛ إذ كانت أبدانهم موضع صلابة يتغلبون بها على أقرانهم، ولكنا مع هذا نرى المتنبي يقول في أبي شجاع:
وهو من نعلم محضًا الحروب وابن الكريهة وحلس الخيل، كانوا يلقبونه المجنون لإقدامه وتهجمه، فما بال من كان اللب والحي فخره الوحيد يمدح بأنه ذو جسد لا يبلى بعد موته؟ وعلى أنه لا معنى لأن يقال إن البلى تهيب أن يتمشى فيه إلا بعد تقسيمه؛ لأن تمشيه فيه هو التقسيم. ثم لا معنى لأن يميز الليث بأنه لا يؤكل إلا وهو أشلاء؛ لأن الشأن كذلك في كل مأكول؛ فالفأر أيضًا لا يؤكل إلا وهو أشلاء، والدجاجة لا تؤكل إلا وهي أشلاء، بل حتى الأرز لا يؤكل إلا وهو أشلاء ممضوغة، وما من شيء يزدرد لقمة واحدة فيما نظن ويظن جميع الآكلين. وصاحبنا يرثي شاعرًا، فيخلط هذا الخلط، فعافاه الله! أي نوع من أنواع العظمة يفقهه إن كان لا يفقه العظمة التي يلتمسها منذ ثلث قرن من الزمان؟! وأين من تقدير شكسبير من يرثيه رثاء إذا صح فيه فإنه يصح في كل حيوان؟!
على أن لشوقي دون هذا الحضيض حضيضًا ينزل بالحكمة إليه، فيلحقها بوظيفة كتاب الإعلانات ويكلف الشعر أن يقول:
وتقول: إن كانت هذه حكمة وشعرًا، فلم لا يكون كاتب «احترس من النشالين»، و«إن أردت النزول اطلب من الكمساري توقيف القطر»؛ نابغة يستملي الحكمة ويستمد وحي الشعر ويرتجل البلاغة؟!
وتكميلًا للبيان المتقدم نورد هنا أبياتًا يجوز أن يكون معناها مطروقًا شائعًا، ويجوز أن يكون من جوامع الكلم، ليتبين كيف يتناولها الشاعر المطبوع فينفث فيها حياته، وكيف تعن للنظام المقلد كما هي، ونختارها من معان ورد مثلها في شعر المتنبي الذي يقتفي شوقي أثره ويطمع أن يجاريه، وهذا بعضها:
فهذه أبيات من رائع الحكمة، تحمل في طواياها حجة الطبع الدامغة وآية الفطنة البالغة، وهي قد كان يمكن أن تقع لشوقي من ذخيرة الأحاديث المشاعة فتسمعها منه كعادته في نقل هذه الأحاديث منظومة، فإذا هي مثلًا: «الجود مفقرة والإقدام مقتلة، الحمام مر المذاق، القوي مغتصب، من هان سهل عليه الهوان، لا يزين الذليل حسن البزة»، وهكذا عهدنا الأمثال العامة، فإذا شئت أن تزن الحكمتين بميزان الصحيح فكلاهما صحيح، ولكن ليست الصحة الواقعية هي ما نطلب من النفس الملهمة والطبيعة المشرقة والسريرة العميقة، وإنما المصدر الذي تبجست منه والشخصية التي طبعتها بصورتها والقلب الذي خرجت من لدنه والحجة التي سيرتها مقنعة شافية؛ هي بغيتنا من نجوى الإلهام، وهي التي يرتوي منها غليل السامع حين يسمع من بيت المتنبي «لولا المشقة ساد الناس كلهم»، ثم يتمم المعنى؛ لأن هذه الشطرة التي لا تزيد البيت صحة؛ تزيده حياة، وتنبئنا وحدها بأن في البيت حقيقة أقرب إلينا، وحجة ألصق بنا، وثمرة أجدى علينا من الحقائق الرياضية المجردة، التي تمتحن بموازين الجمع والضرب، وتأمل تعبيره عن الحياة بأنها «إلف هذا الهواء»، فهل ترى أصدق من هذا التعبير؟! أليس المتنبي قد لمس به سر كل تركيب في هذه الموجودات، التي ليس كيانها إلا عادة تأنفها زمنًا ثم تتبدلها؟ ومثل ذلك يقال في بقية الأبيات.
وصفوة القول أن الحكمة المبتذلة أيسر ما يتعاطاه النظامون؛ لأنها صوغ متاع مشاع، على حين أنهم لا يمسون الحكمة العالية مساسًا، ولن يقاربوها ولا اختلاسًا؛ لأنهم لا يملكون جوهرها ولا يقدرونه لو وقع لهم ولن يحسنوا مضاهاته، وإن اغتروا ببساطته وسهولته. وربما خدع بعض الناس في بعض أقوالهم فخالوها من قبيل الحكمة العالية لما يبهرهم من رنين صياغتها وبريق طلائها، فليعلم هؤلاء المحسنون الظن بحكمة النظامين أن أرقى ما يرتقون إليه أن يأتوا بكلمة مقبولة في شئون المعيشة، وفرق بعيد وبون شاسع بين المعرفة المعيشية والمعرفة الحيوية: فأما الأولى فبنت المران والمكابدة، تقرأ آلافًا من أمثالها في كتب اللياقة ونصائح «إياك وحذار عليك»؛ وأما الثانية ففيض مزايا الحياة النادرة، وثمرة التفوق في شمائلها المقدسة وضمائرها السرمدية، كتابها صفحات الأكوان وسريرة الإنسان، ومن ينابيعها تتفجر العقائد والأديان، وتنبثق روح الرشد والبيان. الأولى لون من ألوان البيئة المكتسبة، والثانية قبس من نور الحياة الدائمة، وشتان هذان شتان.
وربما اتفقت الحكمة المطبوعة لمن لا شك في غلبة الصناعة عليه، كالحريري — على ما أذكر — حين يقول:
ولكنها فلتات لا يقاس عليها.
ولقد ذاع لشوقي بيت سوقي، فظن أنه سقط على كنز وطار به، كأنه لا يصدق أنه له، أو كأنه يخشى أن ينازعه لفرحته به وهو:
وكرر فقال:
ثم كرر أيضًا في قوله:
ثم كرره إذ يقول:
وكرره في نشيده وفي قصائد أخرى، وكل هذا الفرح بمعنًى يعد من تحصيل الحاصل، إن كان له مدلول، فليس يقول لك ما يستحق أن تصغي إليه من يخبرك بأن الأخلاق الصالحة ملاك صلاح الاجتماع وقوام الأمم. ومن كان يقرر معنًى يعكس، فيكون عكسه ظاهر البطلان ويطرد فلا يزيد على ما هو متعارف، فإنما يقرر البديهيات، ويدخل فيما نسميه بالحقائق الرياضية أو حقائق التمرينات الأولية.
ورحم الله القناعة، لقد كان ابن سودون المجنون يضحك الناس في بائيته بمثل هذه الحكم:
إلى أن يقول:
وكثيرًا في قصيدته من حكمة كهذه كان أقصى مناه أن يقال فيها أنها سخيفة ظريفة. وها هنا شاعر خلا كلامه من هذا الظرف، ولكنه يطمع بالسخف البحت أن يستأثر بدولة الحكم والأمثال.
وقلنا: إن كان للبيت مدلول؛ لأن البيت في الحقيقة لا مدلول له. فلو أنك حذفت كلمة الأخلاق وجعلت مكانها أصفارًا لما نقص من معناه شيء؛ لأن هذه الكلمة لا تؤدي معنًى محدودًا في الذهن، فقد تكون بمعنى الآداب: كالصدق والسخاء وحسن المعاشرة والوداعة والحلم، وقد يفهم منها نقيض ذلك من الطباع: كالعناد والمراءاة والدهاء والبطش، وهو ما يفهم أحيانًا من كلام الإفرنج حين يصفون رجلًا بأنه من ذوي الطبائع البارزة والحيوية المتينة، فأي المعنيين يقصد شوقي؟ إن من الأمم ذوات الحيوية الغلابة من لا تعرف للصدق معنًى، وقد تعد الكذب والسرقة فضلًا، وهي مع ذلك من تأصل مادة الحياة فيها واحتوائها على بواعث القوة والسيادة، بحيث لا يخشى عليها الانقراض العاجل أو البوار. والتاريخ غاص بسير هذه الأمم، وإن منها لما تحمد سجاياه ثم لا تلفيه من القوة على نصيب وافر، فليقل لنا شوقي ما عناه بيته إن كان لا يبين لنا ما لونها كما قال بنو إسرائيل.
ولقد أضحكنا مرة أحد الثراثرة الذين يتلقفون من الكلام ما لا يفقهون، فقال لنا: إن البيت الحكيم ما وافق هوى من نفوس الناس، وإن في ذيوع بيت شوقي لدليلًا على قيمته، فقلت له: يا صاح، أشيع من بيت حكيمك هذا بيت ابن الوردي:
فإن كان لهذا الشعر قيمته فهنيئًا لنا! إننا أمة من ثلاثة عشر مليون حكيم، بل هنيئًا للإنسانية، فإن الشمس لا تطلع إلا على الحكماء من أبنائها.