ما هذا يا أبا عمرو؟!
مصطفى أفندي الرافعي رجل ضيق الفكر مدرع الوجه، يركبه رأسه مراكب يتريث دونها الحصفاء أحيانًا، وكثيرًا ما يخطئون السداد بتريثهم وطول أناتهم، وطالما نفعه التطوح وأبلغه كل أربه أو جله، إذ يدعي الدعاوي العريضة على الأمة وعلى من لا يستطيع تكذيبه، فتجوز دعواه وينق إلحافه عند من ليس يكرثهم أن يخدعوا به. بيد أن الاعتساف، إذا كان رائده الخرق في الرأي، وشيك أن يوقع صاحبه في الزلل إحدى المرار، فيضيع عليه ما لو علم أنه مضيعه لفداه بكل ما في دماغه من هوس وما في لسانه من كذب، وكذلك فعل ضيق الفكر وركوب الرأس بمصطفى الرافعي، فحق علينا أن نفهمه خطر مركبه، وأن قدميه أسلس مقادًا من رأسه، لعله يبدل المطية ويصلح الشكيمة.
أصدرنا الجزء الأول من هذا الكتاب فكان مما نقدناه فيه نشيد شوقي، وهو بعض ما ننظر إليه من شعره وجماع ما ينظر إليه الرافعي؛ لأنه لا يبالي إذا سقط النشيد أن تحسب كل خرزة من بضاعة شوقي جوهرة وتقلب كل حنظلة من كلماته سكرة! ولكنه مع هذا اللجاج المحدود والولع المحصور لم يفق إليه من عنده مصمية ولا مدمية، وسرق بل انتهب منا الكنانة والذخيرة، فلم يدعْ في طبعة نشيده الثانية وجهًا من أوجه النقد التي أتينا بها إلا انتزعه وسدده، وفاته أن القذيفة لا يرمى بها مرتين ولا تصيب من منزعين.
ولقد أحسن بنا الظن وأساءه؛ فلم يستغن عنا، ولم يقدر فينا التنبه إلى صنيعه. وما له — عافاه الله — يقدر فينا السكوت عن سطوه علينا، ونحن يسوءنا أن يسرق الناس من غيرنا ولا نرضى اجتراءهم على غير سياجنا؟
وليته اعتدل أو ترفق فيعذر بعض الإعذار، ولكنه أذن لنفسه بغاية الإفراط ولا يريد أن يأذن لنا بسوى الغاية من التفريط. فبعض هذا يا أبا درويش أو يا أبا السامي كما تكني نفسك، أو يا أبا عمرو كما تقول للجنة الأغاني في خطابك، فإن صاحب المساكين حري ألا يغتصب بالسيف كما صنعت وفي رائعة النهار.
قلنا في نقد نشيد شوقي إن النشيد القومي يجب «ألا يكون وعظًا، بل حماسة ونخوة، وأن يكون موضوعًا على لسان الشعب»، فرجع صاحبنا أبو عمرو إلى نشيده فحور منه ما استطاع بضمير المتكلم فقال:
وقد كان هذا البيت في الطبعة الأولى:
ولما أن طوى هذا الضمير ووثق من مواراته ونفض عن يديه ترابه، وقف بين الناس كأن لم يصنع شيئًا وصاح يؤنب شوقي لقوله:
إلخ … إلخ.
ويسأله: «وممن هذا الوعظ يا ترى؟ أمن الشعب لنفسه أم من شوقي للشعب؟» ص٧٩. كما سألنا من قبل: «فمن الذي يأمر المصريين هنا ويناقشهم هذه المناقشة؟!» وكما أخذنا عليه «أنه استوطأ مطية الفلسفة والمواعظ».
وأنكرنا من نشيد شوقي أنه «قد حسب أننا سنظل طوال الدهر كدأبنا في يومنا هذا، فنظم لنا نشيدًا لا نتخطى به في جميع العصور أن يتهيأ مكاننا، وألا نبرح نشرع في التمهيد، ونأخذ في الاستعداد، ونبدأ برسم خطط الملك ونهم بتشييد الأركان».
فجاء أبو عمر الببغاء فقال: «وإذا قيل اليوم لبني مصر هيا مهدوا للملك ومكانكم تهيأ، فهل يقال لهم هذا بعد مائة سنة وبعد ألف سنة وما شاء الله وإلى آخر الدنيا، ولا يزالون الدهر كله في تمهيد؟» ص٧٨.
وعقبنا على قول شوقي عن الشمس: «ألم تك تاج أولكم مليًّا؟» بأن الشمس «لم تكن تاج الفراعنة، وإنما كانت معبودًا لهم وكانوا يزعمون أنهم من سلالتها».
فعلمت الببغاء أيضًا: «أن زعم شوقي أن هذه الشمس كانت تاج أولية المصريين خطأ بين، وإنما كانوا ينتسبون إليها ويعبدونها» ص٧٩.
ﻓﻠﻠﻪ ما أعلم الببغاوات بالتاريخ إذا لقنته!
وعبنا على شوقي تخفيف الهمزات، وأنه صير «سئلت» سيلت و«تهيأ» تهيا و«شيئًا» شيا.
فلم ينسها أبو عمرو وجعل يقول: «وهذا التسهيل في همزة سيلت لم يفهمه إلا القليل، وقد لقينا بالسؤال عنه طوائف من الأساتذة فما أدركوه وأصل الكلمة سئلت.» ص٨٢.
فمنذ الآن له مندوحة عن سؤال طوائف الأساتذة الذين لا يدركون ما يدركه هو بهذه السهولة!
وروينا أن بعض الملحنين والظرفاء يستقبحون تلحين: تطاول عهدهم عزًّا و«فخرَا» إلخ إلخ.
لأن التنوين لا بد أن يسقط في الإنشاد فيخلفه المد وترجيع الصوت. قالوا: «وإذا انتهى المنشد مثلًا إلى كلمة «فخرَا» ومد بها صوته ورجعه، فأي رائحة تفوح منها؟» ثم قلنا: «ولسنا نحن ممن يبالي بهذا النوع من النقد، ولكننا نعذر المنشد.»
فروى هو كذلك عن الأدباء والملحنين أنهم «تنادوا بقوله فخرًا وجعلوا الكلمة معرض نوادرهم وقالوا: إنها مما لا يذوقه أحد الشعراء من طعم كلامه». ثم قال كما قلنا ولسنا بسبيل هذا السخف فلندعه.
أتراه كان يدعه لو كنا نحن لم ندعه؟!
واستضعفنا هذه المقطوعة:
لأن الناظم ساقها مساقًا ليس فيه «من نشوة الفخر ما تهتز له النفوس».
فاستضعفها صدانا الواقف لنا بالمرصاد وتلفت متعجبًا: «كيف غفل شوقي عن أن يحتال للفخر بهذا المعنى الضخم؟!» ص٨٣.
فاسأل بالله، ثم اسأله كيف غفل أيها الراصد اليقظان!
ونقلنا عن بعض أعضاء اللجنة أنه لما تليت هذه المقطوعة:
إلخ … إلخ.
قال: «إن البيت الثاني منبتر.» وسأل: «ما العلاقة بين النصح ببناء الملك على الأخلاق وتشبيه وادي النيل بعدن والكوثر؟»
فترك هو القائل والراوي وزوى وجهه عنهما وصاح وحده: «كلام مقطوع عما قبله.» وسأل من لدنه سؤاله: «فإذا كان لهم بوادي النيل عدن وكوثرها فماذا؟» ص٨٠.
ونقلنا عن آخر نقده لهذا البيت:
ووافقناه فقلنا: «وهو انتقاد سديد، فإننا إن سمينا الوطن ملة ذي الجلال، فماذا يكون الإسلام والمسيحية واليهودية؟!»
فوضع أصابعه في أذنيه — أو لم يضعهما — وأصر وولى واستكبر استكبارًا، وكأنه لم يسمع بهذا النقد فراح يقول: فإذا «زعم أنه يريد بملة ذي الجلال الدين مطلقًا، قلنا له فإن القوم على ذلك لا يزالون بين مسلمين ومسيحيين وإسرائيليين، وكل هذه الأديان ملة ذي الجلال.» ص٨٤.
هذا كله ولا إشارة إلى الديوان، ولا كلمة يستشف منها أن أحدًا تقدمه إلى هذا النقد، بل لعله قصد إلى ادعائه عنوة، فكتب على الرسالة أنها طبعت في نوفمبر سنة ١٩٢٠، ونسي لغفلة ذهنه أنه ضمنها في صفحة ٦٧ كتابًا للأستاذ منصور أفندي عوض مؤرخًا في ١١ ديسمبر …
فهذا الخلق البغيض ونظائره من جرثومته هي التي تملأ نفوسنا تقززًا وعزوفًا من أدب الجيل الماضي وأدبائه، ومن صناعة من ينتسبون إليها، ولكن ليس لها ما لأحقر الصناعات من حرم يرعى ودستور يفاء إليه ووازع يوقف عند حده. أرجحهم منها سهمًا أجمعهم فيها بين استخذاء الجبن وصفاقة الادعاء، وأرفعهم فيها اسمًا أطبعهم على ضعة الحيلة وصنوف الرياء، وشعارهم جميعًا نقيضان من شعور بالعجز وخيلاء، وملق واستعلاء: صناعة لا واجب لها ولا حقوق لذويها ولا نعرف غيرها من صناعة بلا واجب ولا حقوق، وما على المحترف بها بأس من السماجة والافتراء، وإنما البأس كل البأس عليه من المروءة والحياء.
ولما أراد أن يعتمد على نفسه في وجه من أوجه النقد لم نذكره وظن أنه فاتنا، فأبلغ في الفند والسخف فنعى على نشيد شوقي خلوه من لفظتي الحرية والاستقلال (ص٧٤)، فمتى رأى هذا الأعمه أمة تتغنى بأنها ليست ممن حرموا الحرية والاستقلال وتتيه في مفاخرها بما ليس يتحقق لها كيان بدونه.
إيه يا خفافيش الأدب. أغثيتم نفوسنا أغثى الله نفوسكم الضئيلة، لا هوادة بعد اليوم. السوط في اليد وجلودكم لمثل هذا السوط خلقت، وسنفرغ لكم أيها الثقلان، فأكثروا من مساوئكم، فإنكم بهذه المساوئ تعملون للأدب والحقيقة أضعاف ما عملت لها حسناتكم، إن كانت لكم حسنة يحسها الأدب والحقيقة.