رثاء فريد
أصاب شوقي حين قال إن قصيدته في رثاء فريد من خيرة قصائده؛ فإنها في مستوى أحسن من شعره الأول والأخير، وهي صورة جامعة لأسلوبه وطريقته وفكره، ولو نظمها قبل عشرين أو ثلاثين سنة لهتف لها المخلصون من المعجبين به والذين يتلقون حكمهم عليه من ديباجات الصحف، ولكانت حجرًا في بناء شهرته؛ لأنها من نوع ذلك الشعر الذي كان يشتهر به الشاعر في تلك الفترة، وفيها مزاياه ومحاسنه التي لم يكن للشعر مزايا ومحاسن غيرها، فقد كان العهد الماضي عهد ركاكة في الأسلوب، وتعثر في الصياغة تنبو به الأذن، وكان آية الآيات على نبوغ الكاتب أو الشاعر أن يوفق إلى جملة مستوية النسق أو بيت سائغ الجرس، فيسير مسير الأمثال وتستعذبه الأفواه؛ لسهولة مجراه على اللسان. وكان سبك الحروف ورصف الكلمات ومرونة اللفظ أصعبَ ما يعانيه أدباء ذلك العهد؛ لندرة الأساليب ووعورة التعبير باللغة المقبولة، فإذا قيل إن هذه القصيدة يتلوها القارئ «كالماء الجاري»، فقد مُدحت أحسن مدح وبلغت الغاية، وإذا اشتهر شاعر بالإجادة، فليس للإجادة عندهم معنًى غير القدرة على «الكلام النحوي الحلو»، وهذه هي قدرة شوقي التي مارسها واحتال عليها بطول المران، والتي هي مزية قصيدته في رثاء فريد وفي أحسن قصائده.
مضى الجيل الفائت، وجاء جيل بعده كثر فيه تداول الدواوين البليغة والرسائل الرصينة، وأخرجت المطابع مئات الكتب التي صاغها أقدر كتاب العرب وشعرائهم وانتشرت الصحف، فأصبح من مألوفات العامة ترديد جملها «النحوية الحلوة»، وترجمت الأسفار الإفرنجية، أو اطلع عليها الناشئة في لغاتها، فعرفوا مزية الكلام البليغ ومعنى الاقتدار الفني أو الأدبي، وسهلت الأساليب لكثرة ما وردت على الأسماع، فلم تعدْ مرونة اللفظ معجزة ذات بال، فتعود القارئ أن يبحث عن المعنى، بل لا يكفي القارئ المطلع أن يجد المعنى حتى يبحث عن وجهته ومحصله، فمزية شوقي عند هذا الجيل الناشئ من القراء مزية تتخطاها العين كما تتخطى المألوف لنبحث عما وراءها.
ولهذا طفق يلقي إليهم القصيدة بعد القصيدة، ولا يسمع لها رنة ذلك الصدى، وطفق أذكياء القراء يمرون بشعره الأخير قصيدة في ذيل قصيدة فيعجبون لتغيره؛ اغترارًا بما كانوا سمعوه من الصيت الضخم واللقب الفخم، ويتساءلون: «ماذا أصاب شوقي؟» ويغالط قراؤه الأقدمون أنفسهم، فيخيل إليهم أنهم كانوا يسمعون منه خيرًا من هذا الشعر، وقد يعزون الاختلاف إلى كلال الشيخوخة وفتور المزاج، ولو كلفوا أنفسهم مؤنة المقارنة بين قديمه الذي يعجبون به على الذكرى، وحديثه الذي يغصبون أنفسهم على استحسانه فلا يقدرون؛ لعرفوا موضع وهمهم، ولعلموا أن شوقي الأمس هو شوقي اليوم ولكنهم هم الذين تغيروا.
نعم تغير جلة القراء، فأصبح لا يرضيهم اليوم ما كان فوق الرضى قبل ثلاثين أو عشرين سنة، لا بل قبل عشر سنين، ولا عجب في ذلك ولا في بقائهم على إحلال شوقي محله الأول مع انحدار شعره في نظرهم، فإنهم يرون منزلة شوقي بالعادة التي لم تتغير منذ قدروه للمرة الأولى، ولكنهم يفهمون شعره اليوم بالعقل الذي نما وترقى واتسع اطلاعه، وقد جمد شوقي في مكانه؛ لأنه جعل إطراء الناس غايته، فلما بلغها لم يحس في نفسه نشاطًا للنمو، ثم لا تنس أن القارئ يرتقي في الاختيار أضعاف ما يرتقي الشاعر في الأداء والابتكار، وقلما يرتقي الشاعر بعد الأربعين؛ فإن أخصبَ أيام الشعر أيامُ الشباب، وإذا ارتقى فإنما يكون ذلك باحتثاث الطبع وإدمان الاطلاع والتزييد من المعرفة، وشوقي لم يجد من نفسه ولا من الناس داعيًا إلى ابتغاء المزيد، وقد علم أصحابه أن زاده من القراءة لا يتعدى كتب القصص والنوادر.
وقد أحس شوقي بالتغير من حوله فآده أن يستدركه وأعيته الزيادة في سن التقهقر، فعوضها بزيادة الطنطنة كما يزاد ترويج السلعة كلما خيف عليها الكساد، ولما سئل عن غرضه من قصيدته في فريد وقرئ له في نقدها ما لا يحب بُهت على ما سمعت، وقال: تلك قصيدة أردت بها الكلام في فلسفة الموت …
فلننظر إذن فلسفة الموت التي استنبطتها حكمة شوقي:
تعود أيها القارئ إلى هذه القصيدة، فلا ترى فيها مما لم تسمعه من أفواه المكدين والشحاذين إلا كل ما هو أخس من بضاعتهم وأبخس من فلسفتهم، كلها حكم يؤثر مثلها عن حملة الكيزان والعكاكيز، إذ ينادون في الأزقة والسبل: «دنيا غرور كله فان، الذي عند الله باق، ياما داست جبابرة تحت التراب، من قدم شيئًا التقاه» إلخ … إلخ.
تلك أقوال الشحاذين وهذه أقوال أمير الشعراء:
إلخ … إلخ.
وما خلا هذه العظات مما نحا فيه فيلسوف الموت منحى الابتكار ونزع فيه إلى الاستقلال بالرأي، فمعناه أحط من ذلك معدنًا وأقل طائلًا وأفشل مضمونًا، والجيد منه لا يعدو أن يكون من حقائق التمرينات الابتدائية «كالزبيب من العنب و٢ + ٢ = ٤» وهلم جرًّا، وأكثره أتفه من هذه الطبقة، فالقصيدة إما بيت حذْفه وإثباته سواء أو بيت حذفه أفضل، مثل أخباره بأن جر النعش في مركبة أو حمله على الرقاب سواء.
ومثل وصفه القبر ذلك الوصف الذي ما أحسب أحدًا يمر بقبر فيذكره إلا انقلب الاعتبار والهيبة في نفسه هزؤًا وعبثًا. وذاك حيث يقول:
وعلى هذا يكون تعريف القبر في جغرافية شوقي الأخروية: «أنه منار يقام على جانب القفر لهداية قوافل الموتى إلى طريق الآخرة؛ لئلا يضل أحدهم النهج أو يصطدم بصخرة في دروب الموت!» ومثل تحذيره الناس من تربص الأجل بهم أيقاظًا ونيامًا، كأنما الموت يلتمس غرتهم ليأخذهم على سهوة.
ومثل تيئيسه من رجعة الميت إلى أهله وتخطئته الذين يزعمون غير هذا الزعم، يقول ذلك بلهجة العارف لما يجهله غيره، كأنها مسألة خلافية طال فيها الجدل وانشطرت عليها أحزاب الفلسفة ولم يفرغ الناس يومًا من بحثها وتقليب وجوهها والتنقيب عن أسانيدها وشواهدها، حتى جاء شوقي ففض الخلاف ببيتيه هذين.
ولا غرو فقد كان أهل الميت إذا مات في برلين أو لندن أو الهند لا يزالون يترجون يوم أوبته، ويعدون أيام غربته، وكان العلماء في كل قطر وبلد يتساءلون لمن مات غريبًا عن دياره: أيئوب إلى أهله يومًا ناضر الصفحة متهلل الجبين ممتعًا بالعافية أو لا يئوب؟! فكان فريق منهم يقول: «نعم.» وفريق يقول: «بل لا.» إلى أن جاء شوقي فأفتى فتواه الجازمة وقال: «بل لا يئوب.» فانحسم الإشكال وقطعت جهيزة قول كل خطيب.
قال ناقد أديب: إن الشاعر مسبوق إلى هذا الحل، سبقه إليه قائل المثل العامي: «أعطني عمرًا وارمني في البحر.» وإنه كان أسوأ منه تعبيرًا وأقل ظرفًا إذ يخاطب القارئ بقوله: «افقد العمر.» وذلك العامي يتلطف أن يجبه الناس بهذا الخطاب ونقول: إن توارد الخواطر معروف مسلَّم به من جهة، ومن جهة أخرى فإن من يتجشم لأجل الإنسانية أن يغوص على هذه المسائل العويصة، ويسهر الليالي في فض مغلقاتها وحل مشكلاتها؛ لحقيق بأن يتجاوز له الناس عن حسن المخاطبة، ولا يكلفوه أن يأبه لمثل هذه الهنات!
ولنعد إلى ما كنا فيه من نقل أبيات شوقي التي لم يرد في فلسفة الشحاذين مثلها، فمن هذه الأبيات نبأ عجيب فحواه أن في العالمين نعشًا واحدًا تنقلهم أعواده من عهد عاد.
فإن لم يكن يعني هذا، ويزعم أن الأمم لا تملك منذ وجدت غير نعش واحد تنقل عليه موتاها، فسبحان من يعلم مراده. وإلا فإن كان يعني أن هذه الخشبة التي ينقل عليها الميت قديمة العهد تبلى وتجدد، فأي شيء لا يمكن أن يقال فيه ذلك؟! أية مطية لا تنقل العالمين من عهد عاد كما ينقلهم النعش، وما بالُ أي إنسان لا يقول اليوم أو بعد مائة جيل إنه ركب مركبة فرعون ونام على سرير قيصر؟! ويقول:
شاعر عصري ولا شك! ألا تراه يدين بكروية الأرض؟! ولكننا نخشى ألا يكون شوقي قد ذكر الكرة إلا ليذكر بعدها الصولجان والملاعب والجياد، بل نحن لا نخشى ذلك، نحن على يقين منه، فهل كذلك يكتبون الحقيقة الخالدة؟! إن الحقائق الخالدة لا تتعلق بلفظ أو لغة؛ لأنها حقائق الإنسانية بأسرها؛ قديمها وحديثها، عربيها وأعجميها. وأنت إذا نقلت هذا البيت إلى أية لغة لم يكن معناه إلا هكذا: «هذه الغبراء أسقطت من أيدي الملوك قضبًا كثيرة، ودثرت ميادين لا عداد لها من ميادين السباق، وأبادت خيلًا لا تحصى.» فما أشبه الحكماء المغرورين أن كانت ثرثرة كهذه تقع من نفس أحد موقع الحقيقة الخالدة.
ويقول:
اليوم لا تُخْشَى بغتةُ الأجل في كل حين! فالشمس لا تضرج بدم قتلاها إلا حيث تطلع صبحًا (أي حين تطلع حمراء وفي السماء، أما إن طلعت في الأرض فهذا شيء آخر)، والقمر لا يكون منجلًا حصادًا إلا في أيام الآلهة أو المحاق، وفيما عدا هذه الأويقات لا قتل ولا حصاد، فمن مات ظهرًا أو عصرًا أو لعشر بقين أو مضين من شهر عربي، فلا تصدقوه فإن موته باطل!
ألا إن شعرًا يسف إلى هذا الحال لجريرة لم يجنها على لغة العرب إلا زغل الصناعة، لا جزى الله صانعيها خيرًا، جعلوا التشبيه غاية فصرفوا إليه همهم، ولم يتوسلوا به إلى جلاء معنًى أو تقريب صورة، ثم تمادوا فأوجبوا على الناظم أن يلصق بالمشبه كل صفات المشبه به، كأن الأشياء فقدت علاقاتها الطبيعية، وكأن الناس فقدوا قدرة الإحساس بها على ظواهرها، نظروا إلى الهلال فإذا هو أعوج معقوف فطلبوا له شبهًا، وهو أغنى المنظورات عن الوصف الحسي؛ لأنه لن يهرب يومًا فنقتفي أثره، ولن يضل فنسترشد بالسؤال عنه، وإن كان لا بد من التشبيه فلنشبه ما يبثه في نفوسنا من حنين أو وحشة أو سكون أو ذكرى؛ ففي هذا لا في رؤية الشكل تختلف النفوس باختلاف المواقف والخواطر. طلبوا ذلك الشبه فقال قوم هو كالخلخال، ثم رأوا أن لا بد للخلخال من ساق فقالوا هو في ساق زنجية الظلام، وجاءتهم من هذا الطريق زنجية فأحبوها وشببوا بها إلى آخر ما تتدهور إليه هذه الأوهام، وافتن قوم فقالوا هو كالمنجل، ثم التمسوا له شيئًا يحصده فقال ابن المعتز:
فالهلال منجل وقد صيغ من فضة وهو يحصد النجوم والنجوم نرجس، ولا حصد هناك ولا محصود، فماذا وراء هذا كله؟! هذر في هذر. وجاء شوقي فقال إنه منجل يحصد الأعمار، فأخطأ حتى التشبيه الحسي؛ لأن الأعمار لا تحصد حين يكون القمر كمنجل فحسب، وأما في سائر الأيام فلا يكون القمر منجلًا في شكل ولا في حقيقة، فما المراد بكلامه؟! ومثل هذا قوله بعد ذكر كرة الأرض:
وذلك من قول أبي العتاهية:
مثل لفناء الأعمار بالطحن، ولا بأس بهذا التمثيل، وافترض للطحن رحى وجعل المنية الطاحنة، فبلغ حدًّا لا يحتمل بعده الاستطراد، فعز على شوقي إلا أن يكون لهذا الطحين غبار، وأن يكون الطحين كله غبارًا، وأن يكون الغبار هو دوران الرحى، عند هذا يركد العقل ويجم الكلام.
ولم أفهم البيتين الآتيين بعد قوله: «تلك حمراء في السماء … إلخ»:
يعني الشمس والقمر، فما التعمد والإصرار؟ وما إعانة جناية الميلاد؟ وما الفرق بينهما؟! أيريد أن يطبق على الأزهرين المادة القانونية: مادة القتل عن تعمد وسبق إصرار؟! وفيم كذبا؟ وكيف يكون جريان الشمس والقمر في حيث أرسلتهما القدرة المحركة لهما للقدر الرائح الغادي؟! وهل التعمد والإصرار وإعانة الميلاد إلا رواح القدر وغدوه بما يشاء؟! أسئلة لا جواب عليها، ولا لوم في ذلك على شاعر الإنس والجن، فلعل هذه من أبياته التي صنعها لإخواننا الجن واختصهم بما دوننا.
ويقول في نعش فريد أو حقيبة الموت كما سماه:
أما دار الرشاد فهي مصر؛ كما أرادت القافية لا كما أراد شوقي ولا كما أراد التاريخ والأثر. وأما معنى البيت فيقول شوقي إن نعش فريد لو لم يمنعه ناقلوه إلى مصر لسعى وحده إلى مصر! فالله ما أقدر رائي الشموس على إحالة الجليل مضحكًا والتقديس زراية: نعش يسعى وحده في البرور والبحار، ويجوس خلال المدائن والديار، يعتدل وينعطف، ويمضي ويقف، حتى يستقر ملهمًا عند قبره، جادًّا لا يلوي على شيء قبل بلوغه، والناس متنحون عن طريقه، تاركيه يتهدى لطيته …!
أفمن هذه الصور ينتزع الشعر مادة الرثاء والإجلال؟! ألا ساء ما أصاب ذكرى الرجل من إجلال شوقي … أراد أن يقول كما قال البحتري:
فكبا كبوة حاطمة.
ولقد طمح شوقي إلى معارضة المعري في قصيدة من غرر شعره لم ينظم مثلها في لغة العرب، ولا نذكر أننا اطلعنا في شعر العرب على خير منها في موضوعها. والمعري رجل تيمم هذه الحياة محرابًا، واجتواها غابًا، وصدف عنها سرابًا، لابس منها خفايا أسرارها، واشتف مرارة مقدارها، وتتبع غوابر آثارها، وحواضر أطوارها، فإذا هو نظم في فلسفة الحياة والموت كما تراءت له فذلك مجاله، وتلك سبيله. وأين شوقي من هذا المقام؟! إنه رجل أرفع ما اتفق له من فرح الحياة لذة يباشرها أو تباشره، وأعمق ما هبط إلى نفسه من آلامها إعراضة أمير أو كبير، وما بمثل هذا ينظم الشاعر في فلسفة الموت والحياة.
ولكيلا يسبق إلى وهم شوقي أننا نكبر قصيدة المعري تعصبًا للقديم وإيثارًا للعرب على العجم، نُلقي إليه هاهنا درسًا في الشعر قد ينفعه.
فاعلم، أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزيته أن يقول ما هو، ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به، وليس هم الناس من القصيد أن يتسابقوا في أشواط البصر والسمع، وإنما همهم أن يتعاطفوا ويودع أحسهم وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه وخلاصة ما استطابه أو كرهه، وإذا كان كدك من التشبيه أن تذكر شيئًا أحمر، ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار، فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شيء واحد، ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان؛ فإن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس. وبقوة الشعور وتيقظه وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه، ولهذا لا لغيره كان كلامه مطربًا مؤثرًا، وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه؛ لأنه يزيد الحياة حياة كما تزيد المرآة النور نورًا؛ فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه، والشعر يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجودًا إن صح هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساسًا بوجوده. وصفوة القول أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس، فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورًا حيًّا ووجدانًا تعود إليه المحسوسات، كما تعود الأغذيةُ على الدم، ونفحاتُ الزهر إلى عنصر العطر؛ فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية. وهناك ما هو أحقر من شعر القشور والطلاء، وهو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة، وما إخال غيره كلامًا أشرف منه بكم الحيوان الأعجم.
فإن تبين لك ما نقول، فانظر مكان قصيدتك من قصيدة المعري التي اجترأت على معارضتها.
نظر المعري إلى سر الموت فلم يره في مظهره الضيق القريب حادثًا متكررًا تختم به حياة كل فرد، بل رآه على حقيقته الخالدة العميقة؛ رآه كما بدا منذ القدم لبَدائه الحكماء وأصحاب الأديان، وكما تبطنه من قبل بوذا وكنفشيوس وماني: حربًا سرمدية قائمة بين قوتين خفيتين، ميدانهما كل نفس حية وكل ذرة في طباق الأرضين وأجواز السماوات؛ هاتان القوتان هما الخير والشر، أو هما النور والظلام، أو هما الحق والباطل، أو هما البقاء والفناء. لكل منهما جنود لا تغفل، وأعوان لا تَنِي تُقبِل وتدبر ولا تتمهل. والعوالم، علويها وسفليها، تشهد منذ كانت وقعات هذه الحرب ومساجلاتها، ولتشهدنها اليوم وغدًا، ولتشهدنها إلى ختام الزمان إن كان للزمان ختام.
نظر المعري على العالم الأرضي فلم يكن سرير محتضر ما رأى، ولا نحبًا مقضيًّا ما أحس ووعى، بل كان ذلك الميدان: ميدان البقاء والفناء قائمًا في كل كيان قائم، متقادمًا في كل ركن متقادم:
وعلم أن القوتين اللتين هذا أثر نضالهما في الأرض فاعلتان هذا الفعل لا محالة في أشرف كواكب السماء وأسماها، وأضوأ عوالم النور وأذكاها.
وكانت العبرة التي استخلصها من هذه الحقائق عبرة الواقف على مشهد من ذلك النضال السرمد فوق أفراح الإنسان وأحزانه، ولو نطق الأبد لما تكلم بغير قوله:
وإذا ذكر متاعب الحياة فكأنما يذكرها ليصرفها عنه بنظره القانط المستخف فيقول:
كذلك كان إحساس المعري بسر الموت، وهو أوسع إحساس قُدر لبشري أن يحسه من ذلك السر الرهيب.
أما أنت فقد نظرت فماذا رأيت؟ لعلك أدرى بما تنظر وترى، ولكنا نقول لك ما لست تدريه: إنك لم ترَ شيئًا يحتاج الناظر في رؤيته إلى غير الحواس؛ إنك تقول: «لم يَدُم حاضر ولم يبقَ بادٍ»، حيث يسوي المعري بين وكر الورقاء ومعاقل العظماء، وبين منازل الأرض ودارات السماء، أردت أن تعمم كما عمم ففاتك مغزى تعميمه، وجئت بكلام لا لباب له ولا ترضى قشوره؛ إذ ما علمنا بين الحضر والبدو من فرق في التكوين يدعو إلى توهم الاختلاف بينهما في حكم الموت. وإنما يقولون: «هذا خبر سمعه الحاضر والبادي»؛ لأن أحدهما قد يسمع ما ليس يسمعه الآخر؛ لتباعد الدار أو انقطاع الأخبار، ويقولون: «يتسابق إليه الحاضر والبادي» لمثل هذا السبب.
وأما قولك: «يموت من في الحاضر والبادية»، فكعدك الناس اسمًا اسمًا وقولك عن كل واحد أنه يموت، وعلى أنه لو صح أن يقال هذا، فأي فضل فيه لغير الحواس؟ وأي دليل فيه على اللب الحكيم والطبع القويم؟ وتقول في القبر إنه منار المعاد.
وهل بين واد وواد فرق في هذا الحكم؟ وتقول:
وهذا كذاك بل أضعف، أما قولك:
فما أحسبك تدعي فيه لنفسك أكثر من فضل السرقة.
وإذا تجاوزنا هذا الباب إلى غيره، وعمدنا إلى مقارنة الأبيات المتشابهة في القصيدتين، ألفيناك تخطئ في كل بيت تسرقه من المعري، أو تأتي بالبهرج من حيث أتى هو بالذهب.
المعري يقول:
وليس أجل ولا أصدق من هذا الشعر، وإن تعبيره عن تعاقب الدفين بعد الدفين في الموضع الواحد بتزاحم الأضداد، وقوله إن اللحد يعجب ويضحك من هذا الزحام؛ لأبلغُ ما ينطق به اللسان في وصف تهكم الموت بالأحياء وعبث التزاحم على الحياة. ويسلط الله عليك نفسك، فتسول لك أن تحاكي هذه المعجزة البيانية بقولك:
التراب ينصف العباد، ويصون حقوقهم أحسن صيانة؛ لأنه يبيدهم جميعًا! فبحقك يا هذا كيف يكون تضييع الحقوق؟! وما الذي لقيه أضعف العباد من أقواهم وأظلمِهم أشدَّ من هذا الإنصاف والصيانة؟! ويخيل إليك أنك أبدعت حين قلت إن الملوك يستضيفون الزهاد في التراب، وهذا من فضائل الموت! فهل تعني أن الزهاد لا يستضيفون الملوك فيه على السواء؟! فإن كنت لا تعني ذلك فقد قلت ما تعلم أنه خطأ، وقلته لغير غرض. أما المعري فقد أحاط بهذا المعنى، فلم يخسر شيئًا من الصدق أو بلاغة الأسلوب حين قال:
وهذه هي البلاغة الجادة التي لا لعب فيها.
وعندك أن طهارة القلب هي موته، فإذا خمدت نفس الميت صار قلبه نقيًّا مغسولًا كقلوب الرسل. أفليس من موت القلب ألَّا تزال تلهج بذكر الرسل حتى جعلتهم موتى القلوب؟!
يقول المعري:
وأنت تقول:
المعري يسأل:
وأنت تأبى أن تكون لقصيدتك حمامة تغني وتبكي، فتقول:
ثم يروقك، وأنت تباري المعري مباراة المضحكين، أن تزعم لناجيتك ولنفسك أنك نظمت في فلسفة الموت، وبذذت شيخ المعرة في آية من آياته!
على أنك قد تعذر بعض العذر في قصورك من هذه الناحية؛ لأنك مجبر فيه لا مخير، أما الأمر الذي لا نعلم لك منه عذرًا، فأن ترثي رجلًا كفريد بقصيدة لا يرد فيها اسمه ولا سيرته إلا عرضًا، وألا يخرج تأبينك له عما قد يرثى به فرد من غمار الناس! ولو كان ذاك لضيق في مضطرب القول، أو لنقص في بواعث الأسى على الرجل؛ لما خفي تعليله، ولكنك تعلم كما نعلم أن مصر الحديثة لم تنجب من دعاتها رجلًا لقي في حياته وموته مما يستشير دفائن الحزن ويطيل مدد الرثاء بعض ما لقيه فريد. فتهاونك في قضاء حقه وتوفية قدره لا يكون إلا لعجز أو كنود، فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فلإحنة لا تزال تغلي في نفسك على الرجل بعد موته، وأنت بأسبابها أعلم.