رثاء عثمان غالب
من فساد الذوق أن يقصد المرء المدح فيقذع في الهجاء، أو ينوي الذم فيأتي بما ليس يفهم منه غير الثناء، وأشد من ذلك إيغالًا في سقم الذوق وتغلغلًا في رداءة الطبع شاعر يهزل من حيث أراد البكاء، وتخفى عليه مظان الضحك وهو في موقف التأبين والرثاء والعبرة بالفناء.
ولست أدري أي ماجن من نظامينا قال هذا البيت في رثاء إحدى القيان:
ولكن لا ريب أن قائله، مهما سمج منه الهذر في مثل هذا الموقف، أو عيب عليه سوء الظن بفن الغناء وأقدار ذويه؛ أسلمُ ذوقًا في بيته هذا من شوقي في رثائه لعثمان غالب؛ لأنه تعمد الهزل فقاله، وما كان شوقي كذلك حين رثى ذلك العالم الجليل بمثل هذا الهراء.
بل مما لا مراء فيه أن صاحب هذا الرثاء، قد صدق نية الرثاء وبر بوعده لنفسه، واغتبط بما دب عليه من المعاني الدقيقة والنكات الأنيقة … لأنه استطاع أن يذكر الزهر بمناسبة ولو في غير موضعها، ولعمري كيف يكون شاعرًا من لا يذكر الزهر أو الثمر كما يذكر العابد الله والعاشق ليلاه؟! يذكرهما في غضبه ورضاه، وفي لهوه وبلواه، وفي فرحه وبكاه، وفي غيظه وهواه، وفي يقظته وكراه، ويذكرهما حين يصف الصحراء القاحلة، وحين يتمثل المدينة الآهلة، وحين يروي عن النعمة السابغة، أو يتحدث بالمصيبة القاتلة والمنية العاجلة. وكيف يكون مطبوعًا على الفن مدلهًا بفتن الجمال من إذا وصف الجثة الحائلة لم يقل إنها صفراء كالأقحوانة، أو المتميز من الحنق لم يحسب أنه يتفلق كما تنفلق الرمانة، أو المتدلي من المشنقة لم ير أنه يهتز اهتزاز البانة، أو قطع الرقاب والعياذ بالله لم يشبهه بقطف الريحانة؟! وشوقي لم يوف هذا الغرض فحسب؛ بل أرانا أن الأزهار لا تجري على سنن المجاملة في النواح، فعل النساء، وإنما تحزن على من هي غرس يده وجني معرفته ونبت نعمته ورعايته، فلو فجعت البلاد مثلًا بموت عالم من علماء المعادن لما سمح لزهرة واحدة أن تذيل دمعة أسفًا لفرقته، وإنما كان لا يضيق به الخيال الفسيح والذوق المليح، فكان يجعل اسوداد الفحم حدادًا عليه، وصلابة الحديد جمودًا لهول المصيبة فيه، وكان يجعل اصفرار الذهب وجلًا، واحمرار النحاس احتقانًا، ولين القصدير ذوبانًا، إلى آخر ما هنالك من ألوان العذاب، التي تلم بالمعادن الصلاب.
ولو كانت النكبة في عالم «جيولوجي» لما قال شيئًا من ذلك، بل كان يقول (مثلًا): إن الطبقة الرملية في ناحية كذا تحثو التراب على رأسها فزعًا ورعبًا، وإن الطبقة الجيرية في موضع كذا تختنق من ثقل الوطأة عليها، وإن هذه الطبقة أو تلك ساخت بها الأرض أو تزلزل بها الكمد. وناهيك ما كان يقوله لو نفذ القضاء في شاعر جليل، فإنه — أبقاه الله — لن يقنع بأقل من إلحاق الزحاف والإقواء والخبن والسناد وسائر علل العروض والقافية بكل قصيدة قيلت أو تقال، من يوم خلق الله الشعر إلى يوم يبعثه من القبر الذي ألحده فيه الشعراء الكذبة والنظامون، وأي تفسير أو تأويل كنت لا تسمعه من الشاعر الندابة في صهيل الخيل، ونهيق الحمير، ومواء القطط، وعواء الكلاب، ونقيق الضفادع، لو كان العالم المفقود من علماء الحيوان لا من علماء النبات أو صاغة الكلام؟! هذا ما نسأل الله اللطف فيه، فإننا إن احتملنا حداد الألوان والأشكال، فلن نطيق الصبر على حداد الأصوات والأقوال.
ولكن وا أسفاه! لا بد من التضحية، لا بد من الفقدان والخسارة في هذه الدنيا الفانية! وليس من السهل أن يقول الإنسان إن الأشجار قامت على «ساق»، وأقعدت الجهات الست التي ما برحت قاعدة في مكانها منذ الأزل، ولا من الهين أن يحشر الطبيعة «لا أكثر» في مأتم تكون فيه إحدى النائحات «فقط»، ولا من اللعب أن يصل في كل ساعة إلى إبكاء الرياحين والأزهار والمعادن والأحجار — ولا سيما النفيسة منها — كلا ليس ذلك بالقول الهزل ولا بالمركب السهل، ولكي يقول الرجل الفاني منا هذا القول ويهبط إلى قرار هذه المعاني العميقة، لا غنى له عن التضحية بالذوق السليم والوصف الصادق والتخيل الصحيح والشعر الجدي والشعور القوي، وهذه كلها ضحَّى بها شوقي على مذبح فنه، فما تأوه ولا صرخ ولا لمح الناظر على وجهه امتعاضة حزن أو مسحة أسى. نعم، كل ذلك ضحى به شوقي ولا مبالاة … تقول: ولكنه مع ذلك كان سخيفًا غثًّا ضعيف الملكة مشنوء السليقة … ونقول: هذا صحيح، ولكنه قال ما أراد أن يقول، وتفنن وروى. أجل! إنه لم يرث ذلك الرثاء المكشوف المفتوح الذي يرثيه أولئك السذج البلهاء، الذين يحسبون أن الأخصائيين إذا ماتوا فجعوا أحدًا غير المواد التي تفرغوا لدرسها وتوفروا على البحث فيها، والذين إذا أودى أحد أولئك الأخصائيين أسفوا ووصفوا أسفهم هم عليه (مباشرة) ولم يتخلوا عن مهمة الحزن ليلقوها على عاتق الزهر تارة، وعلى غارب السحاب تارة أخرى، أو يكِلوها إلى الطبيعة كلها بأرضها وسمائها وأمواتها وأحيائها، ويجعلوا النفس الإنسانية، أو نفس المصاب بالبلية، آخر من يحس في هذا الكون بفقد عزيز!
ولقد كنا نود أن نقف عند هذا الحد في الإبانة عن براعة شوقي وافتنانه، والإشادة بخلابته وبيانه، لولا أننا آثرنا ألا يفوتنا سؤاله عن أنواع من النبات لم يسمها في تلك المناحة التي أقامها؛ ماذا كان من شأن القطن بأصنافه؟! وماذا صنع القمح والشعير؟! بل ماذا صنع البصل والكراث والملوخية والقثاء في ذلك المأتم العميم الذي كانت الطبيعة فيه إحدى النائحات «فقط»؟! إنه سكت عن هذه الأنواع وغيرها، فهل ذاك لأنها لم تكن من أتباع النباتي الكبير؟! أم لأن من خواص تلك الأنواع التي يعلمها الشعراء ويجهلها النباتيون أنها مضيعة للعهد ناكرة للجميل؟! أم لعلها لا تنتمي إلى عالم النبات، وإن ردها الناس إليه، كالمرجان يحسبه قوم نباتًا ويحسبه آخرون جمادًا وهو من عالم الحيوان؟! أم هو الصدق في الخير والأمانة في التبليغ أوحيا إليه ما قال، فذكر فريقًا وسكت عن فريق؟! رأى الرجل الأقاحي باهتة ذابلة على غير عهدها، وأبصر شقائق النعمان تخمش خدودها، فأبرأ ذمته وأدى أمانته، ولم ير القطن ولا القمح ولا سواهما يصنع شيئًا، فربأ بشعره عن شهادة الزور والتخرص، وسجل عليها ما سجل من جمود الطبائع وقسوة القلوب؟! تلك أسئلة ما كنا نسألها لولا أهميتها وخطورتها، ولولا أننا تعلمنا منذ الآن أن نرقب أعين كل جامد ونابت وحيٍّ، حاشا الإنسان، تعرفًا لجلائل الأنبياء واستطلاعًا لخفايا الحوادث قبل أن تنبض بها أوتار البرق ويطير بها النجابون، ولو أننا عرفنا ماذا ينبغي أن تحذر الأمة من موت الأخصائيين من رجالاتها، وأنها مسئولة أن تضن بأرواحهم مخافة أن تمتقع نرجسة أو تسود فحمة …
انتقل شوقي من رثاء العالم النباتي إلى رثاء العالم الطبيب فقال مفصلًا مقسمًا:
والقارئ يرى أنه لم ينح نحوه الأول، وما كان ذلك — بلا ريب — استهجانًا له أو توبة عنه، وإنما خانته القريحة وخذله الاختراع، وإلا فماذا كان يمنعه أن يقول فلا يخرج عن تلك الوتيرة؛ مثلَ هذه الأبيات:
فهذه أبيات ليس لنا من فضل فيها سوى فضل التقليد للشاعر المجيد، ومَن لم يعجبه تقليدنا فليقل لنا فيم أخطأنا المحاكاة وخالفنا الاحتذاء ونددنا عن القياس، ولكأننا بصاحب «الامتياز» الأصلي يعض بنانه ندمًا على فوات هذه التتمة الصالحة، فإنه ليس أغص للنفس من فرصة يلوح لها تأتيها بعد معالجتها واليأس منها! كذلك يؤبنون يا من خلقتهم فكيف تراهم يتهكمون؟! وأما والله لو توخى هذا الذي شمر لتأبين عثمان بن غالب أن يمازح الرجل بكلام يعرض له فيه بعمله وصناعته مسترسلًا في الدعابة مستهترًا بالمجون متبسطًا في الفكاهة؛ لما استطاع أن يضرب على أوقع من هذه النغمة. فليت شعري بأي ذوق مزج بين هذين الشعورين المتباعدين تباعد القطبين؟! أبذوق الشاعر المفطور الذي يفرق بين شبهات السرائر وهجسات الضمائر، والذي لا تدق عنه أخفَتُ همسات العواطف ولا تلتبس عليه أخفى ألوانها؟ يقولون إن أُذُنَ الموسيقى المطبوع تميز بين ثلاثة آلاف نبرة مختلفة، ولو قلنا إن فطرة الشاعر ينبغي أن تميز بين ثلاثة آلاف خطرة من خطرات الإحساس المتوشجة المتنوعة لما أخطأنا، فما ظنك بأمير شعراء لا يميز بين إحساسين اثنين ضخمين لا يشتبهان ولا يتقابلان ولا يجتمعان: أحدهما لا تحسه النفس إلا في أبهج ساعات الحياة؛ ساعة التبسط والانشراح، والثاني إنما يخامرها في أقدس مواقف الموت وأجلها؛ موقف تمجيد العظيم الراحل والعظة بسيرته …؟! ألا هكذا فليمت الإحساس النبيل الصادق، وإلا فلا موت بل نحن في دار الخلود.
مه! مه! إن من السخف لَما تعافه الجبلة وتتقزز منه النفس تقززها من الشناعات الجسدية، وهذا السخف الذي تَمْنُونَا بلادةُ الأغبياء بالتحرك لانتقاده؛ أشنعُ هذا النوع وأقذره؛ لأنه كالورم الذي يخيل إلى الغِرِّ من احمراره ولمعانه أنه ماء الحسن ورونق الصبا، فيهوي إليه يقبله ويرمقه، وحسب الطبع تقززًا أن يرى الدمامل مقبلة مرموقة.
ومن نظر إلى عشرة ممسوخين في بقعة واحدة فاشمأزت نفسه من رؤية عاهاتهم ومقاذرهم، خليق أن يدرك اشمئزازنا حين ننظر فنرى حولنا العشرات والمئات من ذوي العاهات النفسية البارزة يستحسنون مثل هذا الشعر على غثاثته وعواره، بل هو لا يروقهم إلا لما فيه من غثاثة وعوار؛ خلائق كل ما نستطيع أن نعلل به هذا الاعوجاج في طبائعها وأذواقها أنها تَلِفَت لفرط ما أخلدت إلى الكسل والضِّعة، وتلوثت لحقارة المشاغل التي بقي لها أن تعنى بها وتكثرت لها، وتلفت لشدة ما توالى عليها من عنت الدهر وذل الحوادث وإلحاح الإحساس الدائم بالضعف والجبن، حتى أعقبها هذا البلاء للأدب شر ما تمنى به نفس بشرية: أعقبها العجز عن احتمال الجد والتمادي في الهزل واللجاج في السلوى الكاذبة، حتى صارت المغالطة والالتواء والهرب من الحقائق ديدنًا لها، بل كادت تكون خلقًا ثابتًا فيها، وساء فهمهم للذوق السليم فأصبح جهد الذوق في زعمهم التصنع والاسترخاء وتخنث الترف المؤنث، وما كان اللين والترطب قط عنوانًا على ارتقاء الذوق الإنساني وحسن استعداده، وإنما هما نقيض هذا الذوق وأقرب إلى الوحشية منهما إلى الإنسانية. ألا ترى إلى الرومان كيف كانوا يتلهون بتعذيب الآدميين: يطرحونهم للسباع الجائعة تمزق لحومهم، وتنهش أحشاءهم، وتقضم عظامهم، وتلغ في دمائهم، وهم يسمعون أنينهم، ويتلذذون بأوجاعهم، كأنهم تلك السباع الضارية تتلذذ بما تأكل وما تشرب! فإذا تذكرت ذلك فاذكر كيف كان الرومان في ذلك العهد! كانوا في عهدهم الذي بلغوا فيه من الترف ونعومة الأخلاق ما لم يروِه الراوون عن أمة قبلهم ولا بعدهم.
وبعد؛ فكأنما فرغ صاحبنا من التدليل على فساد الذوق فانتقل إلى عيب آخر من عيوبه يوفيه قسطه من الدلائل والعلامات، ألا وهو الإحالة وعقم الفكر، بيد أنه توفق هذه المرة إلى إثبات هذا العيب بفرد بيت فقال:
يأمر الشاعر المرثي أن يقوم من الموت. ولماذا؟! ليرى آية … فيحسب السامع أن الآية التي سيراها الدفين بعد بعثه أعجب وأخرق لنواميس الكون من رد الميت إلى الحياة، ولكنه لا يتم البيت حتى يعلم أن الأعجوبة التي يبعث الدفين من قبره ليعجب منها هي النظر إلى ميت يبعث … فهل سمعتم في العي والإحالة ما هو أحمق من هذا اللفظ الفارغ الخاوي؟! أليس هذا كإيقاظ النائم «ليتفرج» على نائم يتيقظ، وكحمل المقعد إلى أوروبا أو أمريكا ليمتع الطرف بالنظر إلى مقعد يعرض في المسارح للمتعجبين؟! وعلى أن بعث العلامة المدرج في أكفانه أغرب وأشد استحالة من بعث الموميات التي يعنيها شوقي؛ لأن موت الأمم مجازي لا تستغرب الرجعة منه، وموت الأفراد حقيقي لا رجعة منه في هذه الدنيا، وعدا هذا فإن كان القصد من بعث الأستاذ غالب أن يرى «الموميات» تحيا، فقد شهد الرجل هذه المعجزة، وحضر عهدها قبل موته بأشهر، فلا حاجة إلى قلب نظام الكون وإزعاجه في ضريحه، لا لشيء إلا أن يرى المعجزة التي قد رآها … وبعد فليذكر شوقي أن الذين يدعوهم بالموميات، هم أولئك الذين نفق بينهم شعره ونفذت فيهم دسائسه وجاز عليهم احتياله على الشهرة، فإن كان هو شاعرًا لأحد فهو شاعر الموميات، وإن كان لشهرته حد فهو اليوم الذي يقال فيه عن تلك الموميات.
ثم ما هذا الولع من شاعر «الموميات» بإقامة الأموات! فهو ينادي عثمان «قم ترَ آية»، ويصيح بسليمان «قم بساط الريح قام»، ويهتف بالأستاذ الإمام شامتًا «قم اليوم فسر للورى آية الموت»، ويقول للشهيد فريد «قم إن اسطعت في سريرك»، وغير ذلك مما لا نحصره ولا نود أن نحصره … أفلم يكفه قيام الأحياء، حتى يقوم له كل من في التراب؟!
ولم ينسَ شوقي براعة المقطع فختم القصيدة بأليق بيتين يتممان ما فيها من خطل الإدراك وضلال الحس، وهذان بيتا الختام.
ففي كل مختصر من عجالات علم النفس يكاد يبدأ المؤلف بالفرق بين الفكر والشعور، ويكاد يضع كلًّا منهما بالموضع المقابل للآخر، وقد ألمَّ العامة بداهة بهذه الحقيقة، فتسمع منهم من يقول أحيانًا: «ليست هذه مسألة عقل، هذه مسألة إحساس»، أو ما في معنى ذلك. ولكن شاعر العامة لا يفطن إلى هذا الفرق فيجعل الفكر والشعور شيئًا واحدًا، ثم يعكس الآية فيقول إن الشعور يرد الحياة، وكلنا يعلم أن الحياة هي التي تنشئ الشعور، ولا بدع؛ فإن من لا يفكر إلا سهوًا، ولا يشعر إلا لهوًا، ولا يمارس أسرار الحياة وقضاياها الغامضة إلا عفوًا؛ لحريٌّ أن يجهل الفرق بين التفكير والإحساس، كما جهل الفرق بين مقام السخرية ومقام التعزية.