استقبال أعضاء الوفد
قصيدة أوجز ما توصف به أنها نكسة أدبرت بقائلها ثمانية قرون، وكان فيها مقلدًا للمقلدين في استهلاله وغزله ومعانيه.
مثل لنفسك أيها القارئ شاعرًا من شعراء الغرب هبط مصر مستطلعًا أول عهده بها وبنهضتها الحديثة، فذهب يرود أكنافها ويتحرى عجائبها ويستكنه أخلاقها وشمائل نفوسها من آدابها وفنونها، إلى أن سيق إليه صنيعة من صنائع شوقي، فأسمعه أن ها هنا شاعرًا يدعونه أمير الشعراء، ثم جعل لا يذكر له من الألقاب إلا لقبًا مزدوجًا: فهو إما شاعر الشرق والغرب، أو شاعر الأرض والسماء، أو شاعر الإنس والجن، أو شاعر الأقدمين والمحدثين، أو شاعر الدولتين والعهدين والقرنين، إلى أشباه هذه الألقاب، هذا والرجل يستمع ويعجب أن يتفق ذلك لأحد كائنًا من كان في العالمين. وقد تعلم أيها القارئ أن أذكياء الغربيين وخاصتهم لا يألفون الإطناب والتهويل، وأنهم يقدرون إعجابهم ويزنون كلماتهم، فهم يستكثرون على شاعر كشكسبير أن يدعى شاعر الأقدمين والمحدثين عندهم، بله الإنس والجن والأرض والسماء، وإن كان لأحق من يدعي كذلك، ويكبرون أن يلقب دانتي أو هوجو أو جيتي بشاعر أوروبا، وإن كان لكلهم من شيوع صيته وقدم أيامه وكثرة المعجبين به وتداول طبعات كتبه؛ مسوغٌ لهذا اللقب. فلا بد أن يلمح الشاعر الغربي في تلك الصفات التي سمعها مغالاة وشططًا، بيد أنه يجب أن يرى كيف يكون التعبير عن النفس المصرية، وأن يعرف المعاني والمثل العليا والخيالات التي إذا نطق بها الشاعر وجد في مصر من يمنحه تلك الأوصاف المستحيلة، وأن يستوضح من ذلك كله مبلغ ما تنطوي عليه نهضة البلد من اليقظة الروحية والتقدم الاجتماعي، فيرجو محدثه أن يترجم له قصيدة حديثة من شعر شاعره، وتكون هي قصيدته في استقبال أعضاء الوفد.
يبدأ صاحبنا معجبًا فيقول: «تحول بقلبك عن الطريق، وانج من جماعة الظباء السائرة في الرمل ومن جماعة الظباء …» وهو ترجمة قول شوقي:
فيصفح الرجل عن التكرار ظانًّا أنه من مقتضيات التنبيه والتحذير كما يقال: «النار! النار!» و«الحصان! الحصان!» إلا أنه يتوهم أن فصائل الظباء والأيائل والوعول تفتك بالناس وتخيفهم في هذا الجانب من الأرض، فيتقونها ويهربون منها لضراوتها وعرامها. ويود لو يرى هذه الأوابد الإفريقية، فما هو إلا أن يسأل صاحبه في ذلك، فإذا الجواب حاضر يلقي إليه بابتسامة الأستاذ لتلميذه الجهول: «كلا: كلا: ليس في بلادنا ظباء مخيفة ولا أليفة، ما إلى هذا قصد شاعرنا، وإنما هو يعني النساء.»
نساء! وما شأن النساء بهذا الحيوان؟! يسأل الرجل مستغربًا فلا تتغير ابتسامة صاحبه المترجم ويجيبه: «نعم نساء، فإننا نشبه المرأة بالظبية اقتداء بالعرب؛ فقد كانت تعجبهم عين الظبية الكحلاء، فكانوا يشبهون بها عيون النساء؛ ومن ثم صارت المرأة ظبية.»
نقول: ولا يبعد أن يرتضي الشاعر الغربي هذا التشبيه على أنه منقول عن العرب، وربما قال بشيء من التهكم: «حسن تشبيههم هذا، ولكني لا أدري لم ينقل شاعركم رمال الصحراء مع العيون الكحلاء، ولِمَ تكون شوارع مصر تلولًا إن كان لا بد أن تكون حسانها ظباء ووعولًا!» ثم يغمغم كأنما يخاطب نفسه: «إذن فصاحبكم عاشق يتغنى!»
وما أشد ما تكون دهشته إذ يقول له محدثه، وقد زم شفتيه ومد عنقه كمن لا يرى داعيًا لذاك الافتراض: «ولماذا؟! إن الشاعر ليتغزل على سنة مرسومة؛ سنة وضعها الفحول من الشعراء الأقدمين.»
فيفاجأ الرجل ويجد أنه قد أحال غير قليل على تباين الأمزجة والمذاهب بين الشرق والغرب، فهل يطلب منه أيضًا أن يحيل التقليد في الغزل على اختلاف الخلقة وتفاوت التركيب؟ ولئن صح ما ترجم له ولم يداخله شك في نهضة الأمة ليكونن إذن بين فرضين اثنين ليس واحد منهما بجائز في العقول: فإما أن الشرقيين ركبت قلوبهم وأشرجت شهواتهم بحيث إذا أحب السلف العربي أتى الخلف المصري متغزلًا بعد عدة قرون … وهو مستحيل. وإما أن هؤلاء الشرقيين يعيشون في إبان نهضاتهم الاجتماعية بقلبين، فينهض أحدهما ويحيا، ويموت الآخر، حتى ما يحس أقوى خوالج النفس وأعنفها، وهي غريزة العشق الجنسي، وما خلق الله لامرئ من قلبين في جوف واحد.
على أنه يجنح إلى حسن الظن ويخيل إليه أنه أخذ يفهم بعض الفهم ويقول لمترجمه: «إخالني قد فهمت. فلعل شاعركم وضع القصيدة على سبيل المحاكاة المقصودة، كما يصنع بعض شعرائنا.» فلا يفهم المترجم مراده، فيقول له مفسرًا: «إن الغربيين كما يتسلون أحيانًا بلبس ملابس الرومان واليونان الأقدمين أو يتزيون بزي الفرس والهنود، كذلك يخطر للشعراء عندهم أن يتسلوا باحتذاء أسلوب الشعراء من الأمم النازحة والأجيال الغابرة؛ رياضة وتفكهًا لا جدًّا والتزامًا، وهذا الاحتذاء عندهم لا يعد من جيد المقاصد ولا من جوهر الشعر، وغايةُ ما فيه أنه رياضة مقبولة.»
فيفغر المسكين فاه تحيرًا مما يدخل على ذهنه من كلمات يحسبها أحاجي وألغازًا، ويظن أنه يذب عن شاعره المزدوج الألقاب حين يسرع فيبرئه من تعمد التقليد والهزل، فيخبر الشاعر الغريب بالغرض من نظم القصيدة، وأن قائلها لم ينظمها محاكيًا ولا مستريضًا، وإنما نظمها في مستقبل أمة ناهضة … وتحية لزعمائها …
إلى هنا ينتهي العجب باليقين، فإن كان الرجل قد ارتضى التقليد في التشبيه والغزل، واغتفر نقض المدينة العامرة يبابًا وقلب الشوارع الممهدة هضابًا؛ فمن وراء عقله أن يرتضي استهلال الكلام في نهضات الأمم بالغزل صادقًا كان أو مستعارًا، وأن يفهم الابتداء بوصف محاسن النساء وإطراء العيون الكحلاء؛ تمهيدًا للثناء على مآثر العظماء ومناقب الزعماء، وأن يئن ويتوجع، في حيث يفخر ويترفع، وأن يوائم بين موقف الوجد والصبابة، وموقف النصح والإهابة، فذلك ما لا يقبله تفكيره، ولا يذهب إليه تخمينه، وإن أعوزته دلائل الحكم على منحنى أفكارنا وقيمة آدابنا ومدارج نفوسنا، فكفى بما سمع برهانًا يحكم به كيفما شاء، ولا يتحرج أن يظلم أو يتجانف، ثم لا يكون بعد ذلك إلا معذورًا.
•••
ونحن لم نمثل في الحديث المتقدم بشاعر غربي لأن فهم هذه البسائط وقف على الغربيين، ولكن ليسهل على الذين تغيب عنهم بساطتها أن يفهموا على أي وجه تلوح غثاثات التقليد لمن خلصت عقولهم من سلطان تكرارها وجريانها مجرى القواعد المصطلح عليها، وإلا فأي إنسان تجرد من الانخداع بالتكرار وخلع ربقة التقليد لا يشعر لأول وهلة بالخلط الشائن في هذا الضرب من الشعر؟ ما الشعر إلا كلام، فإن كانت له ميزة على الكلام المبتذل، فميزته أنه أجمل وأبلغ وأحسن وضعًا للمعاني في مناسباتها، فهل يتكلم الرجل في السوق والبيت فيتحرز من الخلط بين تصنع الوجد والهيام وتقدير الحوادث الجسام، حتى إذا تهيأ للشعر لم يخجل أن يخلط في قصيدة واحدة بين أبعد موضوعين عن الانتظام في نسق واحد؟ فلو أنه كان صادقًا في عشقه لقبح منه ذلك بين ندمائه وسجرائه، دع عنك قبح إذاعته بين الملأ، فكيف به وهو متصنع لا يعشق بغير اللسان!
•••
لقد كان الرجل من الجاهلية يقضي حياته على سفر: لا يقيم إلا على نية الرحيل، ولا يزال العمر بين تخييم وتحميل، بين نُؤى تهيج ذكراه، ومعاهد صبوة تذكي هواه، هجيراه كلما راح أو غدا حبيبة يحن إلى لقائها، أو صاحبة يترنم بموقف وداعها. فإذا راح ينظم الشعر في الأغراض التي من أجلها يتابع النوى ويحتمل المشقة، ثم تقدم بين يدي ذلك بالنسيب والتشبيب، فقد جرى لسانه بعفو السليقة لا خلط فيه ولا بهتان.
ولما تعود شعراء العرب التكسب بشعرهم صاروا يخرجون من جوف الصحراء إلى ملوك الحيرة وغسان وفارس، وينتجعون الأمراء والأجواد في أقاصي بقاع الجزيرة، يحملون إليهم المدائح، يبدءونها أحيانًا بوصف ما تجشموه في سبيل الممدوح من فراق الأحبة وألم الشوق وطول الشقة، وأحيانًا كانوا يصفون الناقة التي تقلهم وخفة سيرها وصبرها على الظمأ والطوى ومواصلتها الليل بالنهار سعيًا إلى الممدوح؛ كناية عن الشوق إلى لقائه، وكان الغرض في الحالتين واحدًا، وهو تعظيم شأنه وتكبير الأمل في مثوبته، فكأن الابتداء بالغزل ووصف المطي في قصائد نظمت في المديح وما شاكله من أغراض حياتهم المتشابهة لا يعد من باب اللغو والتقليد.
ثم نشأت الصناعة فيمن نشأ بعد هؤلاء، ومن عادة الصانع أن يحتاج إلى النموذج والأستاذ، فأقاموا المتقدمين أساتذة، واتخذوا طرائقهم نماذج لا يبدلون فيها، وكان شعراء البادية لا يزالون يفدون على الأمصار، فينهجون نهج أسلافهم مطبوعين أو مقتدين، فكان يختلط المطبوع بالمصنوع في هذا العهد ويتقاربان حتى لا ينتبه الأدباء إلى الفرق بينهما، ومن شعراء الحضر من تقدم تقدمًا حسنًا فنعى على المتقدمين بكاء الدمن والطلول، وأفرد كثيرًا من الغزل في قصائد قائمة بذاتها، وأشهر هؤلاء أبو نواس. ومنهم من كان يفتتح مدائحه بالنسيب، ويتجنب ذلك في العظائم، كما صنع أبو تمام في يائيته المشهورة التي مدح بها المعتصم بعد فتح عمورية، وفي رائيته التي أولها.
وكما صنع المتنبي حين مدح سيف الدولة، وذكر نهوضه إلى الروم فقال مفتتحًا:
ومضى فيها كلها على هذا النمط. وكذلك حين مدحه عند انصرافه من أرض الروم، فاستهل قصيدته بالبيت السيار:
وكما صنع الشريف وأضرابه في كثير من قصائد المدح والفخر على اختلاف مناسباتها، ولكن فسدت السلائق وجمدت القرائح، وقل الابتكار أو انعدم، ونشأ من شعراء الحضر جيل كان أحدهم يقصد الأمير في المدينة، وإنه لعلى خطوات من داره، فكأنما قدم عليه من تخوم الصين لكثرة ما يذكر من الفلوات التي اجتازها والمطايا التي أضناها وحقوق الصبابة التي قضاها، وكان الواحد من هؤلاء يزج بغزله في مطلع كل قصيدة حتى في الكوارث المدلهمة والجوائح الطامة، هؤلاء هم المقلدون الجامدون، والآن وقد بادت الطلول والقصور، ونسخت آية المديح بمطالعه ومقاطعه، وتفتحت للقول أبو اب لم تخطر لأحد من المتقدمين على بال … يجيء شوقي فيتماجن ويتصابى في مطلع قصيدة، يتنظر بها مستقبل أمة ويقول فيها:
ويجئ أناس ممن طمس الله على بصائرهم فيقولون عن هذا المقلد للمقلدين الجامدين إنه مجدد وإنه عصري، بل إنه شاعر العصر.
وهل تعلم ما الغزل الذي استحل لأجله إتيان هذه المجانة والعبث؟ فقد يكون له عذر الإجادة لو كان مبتدعًا فيه أقل ابتداع، وإن حُقَّ عليه اللومُ لوضعه في غير موضعه، ولكنه هو الغزل الرث الذي ليكت معانيه وأوصافه، ولم يكن للنظامين والشعارير بضاعة غير ترجيعه منذ عشرة قرون. فأي سوقة من صعاليك الوزانين لم يغسل رجليه في وعاء هذه المعاني التي نضح بها شعر أمير الشعراء؟! وقد يطول بنا الجهد لو فتشنا عن واحد من مقطعي العروض لم يقل في وصفه: «قد يتثنى كالبانة»، «أرداف مرتجه كالكثبان» أي كأكوام الرمل، «خد كالورد»، «حسان كالأقمار أو كالنجوم»، «مشية كمشية القطا»، «عينان لهما سحر هاروت وماروت»، «ظبية الرمل»، إلى بقية تلك الكناسة الشعرية المنبوذة، وهذه هي روح العصر فيما يحدسون!
ثم يتخلص شاعرنا من مقدمته إلى موضوعه، فأما الموضوع فلا نقول فيه سوى أنه مقالة منظومة، كسائر المقالات التي نشرتها الصحف يومئذ، لولا أنها متناقضة متدابرة، وأنها خلو من الأسباب والحجج التي بنى عليها الكاتبون رأيهم، وأما الكلام الشعري فيه ففي بيت القصيد أو بيتيه وهما:
وإنه لأليق تحية استقبال تتلو ذلك الافتتاح، ولو كان للشاعر فضل في التناسب المحكم بينهما، لكان أشعر الشعراء ولكن «مكره أخوك لا بطل».
ولا أسهب في التعليق على البيتين، ولكني أروي مشاهدة يتبين منها القارئ مبلغ ما يفعله التقليد من تعطيل المدارك والحواس، وأن في الأطفال اللاعبين خيالًا أفطن وتمييزًا أصفى من شاعر يعكف على القديم وتشوب نفسه الصنعة المتكلفة.
بين أشرطة الصور المتحركة، ولا سيما الأمريكية منها، مناظر خاصة لإطراب الصغار وجلب المسرة إلى قلوبهم، ومن أشدها غرابة المطاردات الجامحة التي تجري فيها خوارق العادات، فتتحرك الدور والجواسق وتتطاير الكراسي والأواني، وهي كثيرة لا أظن زائرًا من زوار الصور المتحركة لم ير واحدًا منها؛ حضرت منظرًا من هذه المناظرة فأخذت المطاردة مأخذها المألوف: هارب يعدو ومقتفٍ يتعقبه، واستمر الكر والفر والهجوم والمراوغة إلى أن وثب الهارب في منطاد، وكان المطارد يعدو خلفه في سيارة، فوثبت به السيارة وراء المنطاد، عند ذلك لم يبق في الملعب طفل لم يستفزه العجب فيثب ضاحكًا، وما إخالهم إلا كانوا مصدقين ما يرونه، وإنما ضحكوا لأن المنظر مضحك على كل حال … فليت شاعرنا الكبير الذي قرع أبو اب الخيال نيفًا وثلاثين سنة حضر يومئذ، فسمع ضحك الأطفال من سيارة تطير، فيعلم أن طيران القطار بقاطرته ومركباته في الهواء مسخرة لا مفخرة، ولو استطاع خياله الكليل أن يتبع الصور الذهنية خطوة فيرى الطائر شابًّا فوق الرءوس في طريقه إلى الشمس، ويرى الناس آخذين بحجزاته وأرسانه يمنعونه ويكبحونه؛ لغلب حذره من الاستهزاء على ولعه بالإغراب، والأمر بعد لا يتطلب خيال شاعر؛ فإنه من مدركات العامة السذج، ولولا أنهم يدركون الجانب المضحك من هذه التصورات لما شاعت بينهم رقية كهذه الرقية الهزلية: «الحمد لله الذي لم يخلق للجمال أجنحة فكانت تطير فوق بيوتكم … إلخ إلخ.»
أما أن القطار كالمطر يزيد الثرى خصبًا على خصبه فتشبيه لا أصل له، ولو أمكن أن يشبه القطار بالمطر بأي قرينة من القرائن أو جامعة من الجوامع، لكان التلف منه على أرض مصر أكبر من المنفعة! على أنه ليس من المطر ولا المطر منه، ولا نسبة بين القطار والقطر غير التجانس في الحروف. وهكذا تتعلق أشعار المقلدين بالحروف والألفاظ لا بالحقائق والمعاني … وشوقي، كما قلنا في أول المقال: مقلد المقلدين.