أدب الضعف
الأدعياء في كل بلد كثيرون، وفي كل قطر كالذباب يعيشون عيالًا على الأدب وحميلة على أهله وذويه، ولكنهم فيما نعرف لا يعدون الطنين في غير هذا القطر، ولا يعدو جمهور الناس معهم أن يلحظوهم كما يلحظ أحدنا العناكب ناسجة لها بيتًا بين جدارين، فيقول لخادمه أو ربة بيته: «أزيلي هذا» وأتي عليه بالمكنسة، ثم لا يقولها حتى ينسى أمره ويذهل عن خبره، أما في مصر فالحال على خلاف ذلك، والأمر على عكسه ونقيضه؛ يظهر الدعي فيستولي على الميدان، ويخر الناس له سجدًا إلى الأذقان، ويباهون به الأمم والأزمان، فإن سألتهم في ذلك وعلته، وماذا بهرهم منه، وكيف كان على حد تقصر عنه قوى البشر ومنتهيًا إلى غاية لا يطمح إليها حتى بالفكر؛ أحالوا وتهربوا، وفتحوا أبو ابًا من التعسف لا تستند إلى أصل، ولا يعتمد فيها على عقل، وظنوا بك الفند وجروا في أوهامهم إلى آخر الأمد، كأنما التوق إلى أن تقر الأمور قرارها وتأخذ الأشياء أقدارها شيء ليس في سوس العقل ولا في طباع النفس.
وليس الأمر بالهين الذي تتأتى مداواته ويستيسر علاج ما يعرض في الآراء منه؛ فإن الداء عياء والبلاء عظيم والمصاب كبير، وأصل الداء ومعظم الآفة، والذي صار حجازًا بين القوم وبين التأمل، وأخذ بهم عن طريق النظر؛ مرض في عقولهم شديد الخفاء، أورثهم إياه الجهل وما طبعتهم عليه العصور القاسية الماضية، حتى صاروا لا يملكون أن يصغوا لما يقال لهم، ولا أن يفتحوا للذي تبين أعينهم، أو يأخذوا لأنفسهم بالتي هي أملأ لأيديهم وأعوَدُ بالحظ عليهم، حتى صاروا من كل أمر في عمياء، قصاراهم أن يكرروا ألفاظًا لا يعرفون لشيء منها تفسيرًا، ويرددوا ضروب كلام إن سئلوا عنها لم يستطيعوا لها تبيينًا. وما لهؤلاء نكتب، ولا من أجلهم نتكلف أن نكوي عرق الباطل ونخرس ألسنة الكذب والتدجيل، وننقض بناء المنكرات والشناعات، التي أقامها نفر من الأدعياء نَشَئُوا في غفلة الزمن، فإن من المستحيل أن نرجع بهم إلى سن التفكير والبحث والتقصي وحب الاستطلاع.
ولكنا نكتب ونشرح وننصب الميزان لمن يحس أنه رزق عينيه ليفتحهما على الأشياء ويجيلهما فيها لا ليغمضهما دونها، وأوتي العقل ليتصرف به في الأمور، ويتبين النقصان والرجحان ويعرف الصحيح والسقيم، لا ينكر في ذلك حسه، ولا يغالط في الحقائق نفسه، ولا يحب أن يستسقي إلا من المصب، أو يأخذ إلا من المعدن، مؤثرًا الغبينة والهزيمة والفشل على إحالة الأشياء عن جهاتها وتحويل النفوس عن حالاتها، ونقلها عن طباعها، وقلب الفِطَر إلى أضدادها. لهؤلاء الذين هم معقد الأمل ومناط الرجاء نفصل القول ونضع اليد على الخصائص ونسميها ونعدها، ونرفع لعيونهم كل قطعة من القطع المنجورة من الجهة التي تكون أضوأ لها وأكشف عنها، صابرين على طول تأملهم، مغتبطين بعدم قناعتهم إلا بالاقتناع، إذ ما خير مقلد في ظاهر عالم وشاكٍّ في صورة مستبين؟!
وليس في مصر شيء عرض للقوم فيه من قبح التورط، ومن الجري مع الأوهام والذهاب إلى أشنع الشناعات وأسوأ المنكرات؛ ما عرض لهم في الأدب، حتى صاروا إذا عمد عامد منهم إلى الألفاظ، وجعل يتبع بعضها بعضًا من غير أن يتوخى في تنسيقها معنًى، فقد صنع ما يدعى به كاتبًا وشاعرًا ومؤلفًا يضن الزمان بمثله ويعيي الأمم مكان نده … وفساد هذا من البداهة، بحيث لم يكن يحتاج إلى تنبيه، أو أن يتجشم أحد منا إقامة الحجة عليه والتدليل مع التبسط في الإيضاح، وتحري البساطة في سوق المبادئ وتفصيل الأصول، وما ندري غدًا بعد جيل ماذا يكون ظن الناس بالأمة، إذا رأونا ندلي بالحجة والبرهان على ما لا حاجة به إلى الصفة والتبيان، وما صار دستورًا معهم لهم به عن إيضاح الأصول والبدائه غنيان؟ أفلا يعذرون إذا شبهوها بالأطفال تتقاذف اللعب، وهي تحسبها أدوات الكر والطعان؟ بل ولا يعرفون ما كنا نستطيعه لولا موت القلوب وعمى العيون واعوجاج الأذهان.
ولماذا لا يرون من أعجب العجب ذلك الذي عليه الأدعياء المقلدون في أمر الأدب؟ خذ من شئت من هؤلاء الأدعياء لا تجد في الأمر الأعم شيئًا تكون الطبيعة فيه قابلة، ثم هو مع ذلك لا يرى الذي تريه ولا يهتدي لما تهديه. بل ماذا عسى يكون رأي الغربيين، إذا اطلعوا على هذه المنكرات الشنيعة التي تتمخض عنها الطبائع الممسوخة والأذهان المنتكسة؟ إن الجيد في لغة جيدٌ في سواها، والأدب شيء لا يختص بلغة ولا زمان ولا مكان؛ لأن مرده إلى أصول الحياة العامة، لا إلى المظاهر والأحوال الخاصة العارضة، وكذلك الغث غث في كل لغة في أي قالب صببته وسبكته وبأي لسان نطقته.
وقد لقينا من التشجيع ما يغرينا بالاسترسال، ووجدنا من الإقبال ما قوى الآمال في صلاح الحال، وهاكم صنمًا آخر من معبودات الضئال نهدمه ونلقي به بين الأطلال.