ترجمة المنفلوطي
عني السيد المنفلوطي بترجمة حياته، فكتبها وصدر بها الجزء الأول من نظراته، وذيَّلها بتوقيع من لا يبالي دسها عليه في كتاباته، ونحن لا يعنينا هذا الأمر إلا من حيث دلالته على طريقة السيد في الاحتيال على الشهرة، واقتناص حسن السمعة، وعلى اعتماده هو وأمثاله على تأثير الألقاب والمناصب في عقول البسطاء، كلما أرادوا أن يزفوا إلى الناس عرائس أفكارهم، أو يشيعوا إلى قبور صدورهم أموات خيالهم. وإذ كان هذا كذلك، وكانت وظيفة الناقد أن يرسم صورة صادقة للكاتب، ويقدم وزنًا عادلًا لآثار قلمه ومظاهر نفسه، وكان الذي يعنينا من السيد ما خطه يراعه الرشيق، وأملاه عقله الرقيق؛ فإن الذي يستحق أن يكون على ظاهر الأمر، مقدمًا على سواه، وحريًّا بأن يستوفيه النظر ويتقصاه؛ هو القول على ما نحل نفسه من الفضائل، ثم نتبع ذلك جملة من القول في «بنات» عقله، ثم نأتي على ذكر رواياته وقصصه في أثر هذا وذاك. على أننا ربما عطفنا عنان الكلام على الأخيرة قبل الأوان؛ توفية للحقوق وبيانًا للفروق، وكشفًا عن الحال وإيقافًا للقارئ على مبلغ سعة المجال.
•••
السيد مصطفى لطفي المنفلوطي رجل شريف، جاء إلى هذه الدنيا المرزوءة منذ خمسة وأربعين عامًا من أبو ين كريمين كرمًا يثبته أن أولهما — ولا ندري أيهما يعني، ولكنه أحدهما على كل حال — ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي، جد كل مسلم ومسلمة ومنافس آدم بكثرة النسل «تفاقم الذرية»، وثانيهما إلى أسرة جوريجي التركية «المعروفة بالشرف العظيم والمجد المؤثل».
ولم ير السيد — زاده الله شرفًا ورفعة، لسوء حظ النقد — أن يزيد على هذا في بيان نسبه إلا أشياء ظاهرة لا تحتاج إلى تدوين ولا تحتمل الإيضاح والتبيين، كقوله إنه «ولد في منفلوط من مدن الوجه القبلي في جنوب مصر»، وإن أسرته هناك «مشهورة بالشرف والتقوى والعلم والفضل»، فإن لقب السيد يدل على ذلك، ونسبته تهدي إلى معرفة ما هنالك، ولكنا نحسبه خشي أن يضل القارئ ويختلط عليه الأمر، فيتوهمه مقذوفًا به إلينا من المريخ. والحق أن له العذر في خوفه هذا؛ إذ ليس في كتابته ما يدل على أنه مثل أبناء آدم: إحساسًا بالحياة وفهمًا لها وجريًا على سنتها وأداء لفرائضها، كما سترى مما سنورده عليك بعد!
ونعود إلى ترجمته فنقول: وليته — إذ عني بهذه التفاصيل البديهية — كان قد ساق إلينا ما هو حقيق أن يعين الناقد على تقدير أثر العوامل الوراثية في تكوين أخلاقه النادرة، التي يصفها بأنها انقباض عن الناس ووحشة يحسبها الرائي صلفًا وكبرًا، وما هي بالصلف، ولكنها الرزانة والوقار والأنفة والعزة، والبعد عن سفاسف الأمور، والترفع عن مخالطة من لا تعجبه أخلاقه ولا تجمل في نظره أطواره، وعفة حتى عن مدِّ يده إلى أبو يه، وسخاء وَجود بكل ما تملك يمينه، وأدب وحياء وحلم يظنه الظان عجزًا وضعفًا، فإذا غضب — وقليلًا ما يفعل — فهو الليث قوة وشجاعة، وإيمان قوي كالطود الراسخ، وصبر جميل على ما يذهب بلب الحكيم من حوادث الأيام، فقد مات له طفلان في أسبوع واحد، فسكن لهذا الحادث سكونًا لا تخالطه زفرة ولا تمازجه دمعة، ثم ماتت زوجته بعد ذلك، فجلس إلى أصدقائه يحادثهم ليلة وفاتها، كأنما المرزوء سواه، وليس أحقر في نظره من مدح المادحين، ولا أحقر في نفسه من انتقاد المنتقدين عليه، وليس أبغض إليه من الكذب. وكثيرًا ما كنت أسمعه (!) يقول: «لا طلعت عليَّ شمس ذلك اليوم الذي يرضى فيه عني الجاهل أو يعجب برأيي البليد.» إلى آخر ما لا يستكثر على سليل النبوة العربية والفتوة التركية.
ولكننا بتنا لتقصيره في ترجمته، لا نعرف مقدار فضل الوراثة ومبلغ الاكتساب في هذه الفضائل، وفي كل هذا الأدب الجم الذي جعله — كما يقول — الكاتب الفريد الذي يحافظ على أسلوبه البليغ في جميع حالاته وشئونه، سواء في ذلك المعاني المطروقة لكتاب العربية الأولى، أو التي لم يكتبوا عنها شيئًا ولم يرسموا لها أسلوبًا، مما يدل على أن السليقة العربية ملكة من ملكاته لا عارية من عواريه.
وليس في أن يترجم المرء لنفسه من عيب، ولا هو ببدعة ممن هو كالسيد الشريف النسيب لا يحدث إلا عن نفسه، ولا يصدر فيما يكتب عن سوى يومه وأمسه. ولكن ما هكذا يكتب الناس عن أنفسهم، ويتقدمون إلى قرائهم بتراجمهم ووصف آبائهم، وما للقراء ولأجدادك الذين لم تزدنا بهم علمًا، فيشفع لك ما أفدت في سماجة ما كتبت؟! ولقد قرأنا لجيته شاعر الألمان الضخم كتابًا في تاريخ حياته يقع في أكثر من ستمائة صفحة، ولا نذكر أنه أورد اسم أبيه حتى ولا في سياقة الحديث، دع عنك خلع حلل الثناء على أجداده، ولقد جعل وكده أن يشرح لقارئه أدوار نموه العقلي، وكيف تكونت أخلاقه ونزعاته وعاداته، وكيف نشأت التفاتات ذهنه، وهو ما يعني قراء التراجم، أما الأجداد والآباء فما دام الكاتب لا ينوي أن يذكر، ولا يستطيع أن يعرف عنهم أكثر من الأسماء، فخير له وللناس أن يسدل عليهم أستار الخفاء، حتى لا يجمع إلى الجهل أو العجز نقيصة المباهاة الكاذبة أو عيب الادعاء.
على أنه إن فاتنا هذا الذي كنا نحب ألا تخلو منه الترجمة، ولم نعتض منه إلا ما هو مشنوء ثقيل على النفس؛ فإن فيما كتب السيد الشريف الجليل العربي التركي الحسيني الجوريجي المنفلوطي؛ الكفاية، فإنه — أعزه الله — لم يألنا كشفًا عن آرائه وأخلاقه وفضائله ومحامده وأسرار نفسه ودخائل صدره وهواجس خاطره، ولم يضن على قارئه بوصف أحواله وكيف يكتب، وكيف يأكل ويشرب، ويلهو ويلعب، ولأي شيء يطرب، ومم يغضب، وماذا يمقت وبم يعجب، وغير ذلك مما ليس وراءه زيادة لمستزيد، وما بتنا معه في غنى عما يبدئ فيه في ترجمته ويعيد من صفات ما كاد يثبتها لنفسه، حتى نسي أنها له، فانتحل غيرها من المقالات!
ويا لها من شجاعة لا تجعل صاحبها يحفل التهم أو يعني نفسه بالصدق فيما نحلها من الشيم! فهل تعرف أيها القارئ من أي ضروب الشجاعة هذه؟ فإن لها لأنواعًا وضروبًا، ليست شجاعة الإيمان، ولا شجاعة يبعثها احترام الذات والاعتداد بالنفس، كلا ولا شجاعة الطيش، وإنما هي شجاعة … الطعام! نعم! والموائد الممدودة والأخوِنة المنصوبة، وإنك أيها القارئ إذ تنكر هذا القول علينا، وتمط شفتيك، وتزوي ما بين عينيك لَتدل بذلك على أفحش الجهل وأفضحه بأسرار فعل الطعام، ولكنك إذا ساءلت نفسك ماذا عسى أن يخشى السيد الشريف الحسيب النسيب، بعد أن يجمع حول مائدته الأسبوعية، فيمن يجمع، هؤلاء المتسولة من أصحاب بعض الوريقات القذرة، ويملأ لهم بطونهم؛ كنت حقيقًا أن تفهم ما نريد من شجاعة الطعام. أتراك لم تسمع بالمثل العامي القائل: «أطعم الفم تستحي العين»؟ وماذا صنع السيد أكثر من الجري على السنن العامية في كل شيء؟ في كتابته وفي معاشرته وفي اتقائه الألسن، وهذا هو السر — فاعلمه — في أنك لا تسمع به في هذه الوريقات، ولا تراها تلهج به مادحة ولا قادحة.
ومن ظريف ما نرويه في هذا المقام أن السيد سمع بعزمنا على إخراج هذا الكتاب، فجاء يدعونا إلى مائدته، وأرسل يلح علينا في «تشريفه»، فلم ينقذنا من إلحاحه، ولم ينجنا من موقف الغدر ونكران جميل مائدته إلا المرض! فما أحسن المصائب في بعض الأحيان!