البحث عن مستر هايد
وقال أترسون: «كنتُ أظن ذلك من قبيل الجنون.» وهو يُعيد الورقة المَقيتة إلى الخزانة، ثم قال: «لكنني أخشى أن تكون قد أصبحت الآن من قبيل العار.»
واستقبله القهرمان الوقور الذي كان يعرفه ورحَّب به، ولم يواجه تأخيرًا من أيِّ لون بل أُدخل مباشرة من الباب إلى غرفة المائدة، حيث كان الدكتور لانيون يجلس وحده وأمامه قدح من النبيذ. وكان هذا الرجل دمِث الخُلق، موفور الصحة، أنيق الملبس، أحمر الوجه، وقد وخط الشيب شعره الكثَّ قبل الأوان، وكان صاخبًا في مسلكه حازمًا فيما يفعل، فما إنْ شاهَدَ مستر أترسون حتى هبَّ واقفًا من مقعده ورحَّب به بكلتا يديه. كانت المبالغة في دفء الترحيب، وفق ما اعتاده الرجل، تَشِي بحركاتٍ مسرحيةٍ، ولكنها كانت تستند إلى صدق المشاعر؛ فلقد كان هذان من الأصدقاء القدامى، إذ ترافقا في المدرسة وفي الجامعة، وكان كلاهما يُكِنُّ الاحترام الشديد لنفسه ولصاحبه، ويتميزان بشيءٍ لا يتبع ذلك في جميع الأحوال؛ إذ كانا يستمتعان بصحبة بعضهما بعضًا إلى أقصى حدٍّ.
وبعد أن تجاذبا أطراف الحديث، انتهى المحامي إلى الموضوع الذي يشغل باله إلى حدِّ التنغيص عليه.
قال المحامي: «أتصوَّر يا لانيون أننا — أنا وأنت — أقدم صديقين لهنري جيكل؟»
وقهقه الدكتور لانيون قائلًا: «ليت الأصدقاء كانوا أصغر سنًّا! ولكنني أتصور أننا تقدَّمنا في السنِّ! وما قيمة ذلك؟ لا أراه هذه الأيام إلا لمامًا.»
وقال أترسون: «حقًّا؟ كنت أتصوَّر أنكما ترتبطان بمصالح مشتركة.»
ورأى مستر أترسون راحةً في هذا الانفلات المحدود لأعصاب لانيون؛ إذ قال في نفسه: «إذن لقد اختلف الرجلان حول قضيةٍ علميةٍ وحَسْب.» ولمَّا لم يكن ذا ميولٍ علميةٍ (إلا فيما يتعلق بعقود نقل الملكية)؛ أضاف إلى ذلك الخاطر: «ليس في الأمر ما يزيد سوءًا إذن!» وأتاح لصديقه ثواني معدودة حتى يستعيد رَباطة جأْشه قبل أن يطرح السؤال الذي أتى لطرحه: «هل صادفتَ يومًا رجلًا يرعاه الدكتور، ويُدعَى هايد؟»
وقال لانيون: «هايد؟ كلَّا! لم أسمع به قَط! أعني منذ صداقتي القديمة معه.»
وكان ذلك مبلغ ما حمله المحامي معه من معلومات حين عاد إلى فِراشه الضخم، حيث جعل يتقلَّب فيه أرِقًا في الظلام حتى انقضى الهزيع الثاني من الليل. لم تأتِه الليلةُ براحةٍ تُذكَر لذهنه المكدود؛ إذ ظلَّ يكُدُّ في الظلمة وحصار الأسئلة حوله.
وبدأ مستر أترسون منذ ذلك الحين يحافظ على ارتياد موقع ذلك الباب في الشارع الجانبي الحافل بالمحالِّ التجارية؛ كان يوافيه صباحًا قبل مواعيد العمل، وظُهرًا عند اشتداد النشاط التجاري والحرص على كل دقيقة، وليلًا عندما يطلُّ وجهُ القمر من خلال الضباب على المدينة؛ أي أن المحامي كان يُرَى في موقعه المختار مهما يكن الضوء في الشارع، وفي جميع ساعات العزلة والاجتماع.
وقال في نفسه: «إن كانت لعبة «استغمَّاية» فَلْيختبئ مستر هايد، وسوف آتي به!»
وأخيرًا نال جزاء مثابرته. كان الجوُّ صحوًا تلك الليلة، والبرد في الهواء يُنذر بالصقيع، والشوارع نظيفة مثل أرضية قاعة مَرقَص، وكانت المصابيح التي لا تهزُّها الريح تنسج على الأرض أشكالًا منتظمةً من الأضواء والظلال. وبحلول الساعة العاشرة مساءً، بعد إغلاق الحوانيت، بدا الشارع الجانبي خاليًا يشيع فيه صمتٌ عميقٌ على الرغم من الهدير الخفيض لمدينة لندن من حوله. كانت أخفتُ الأصوات تُسمع من مسافاتٍ طويلةٍ، كما كانت تُسمع بوضوحٍ الأصوات الخارجة من المنازل على جانبي الطريق، وكانت أصداء خُطَى أيِّ سائرٍ تسبقه بوقتٍ طويلٍ. ولم يكن مستر أترسون قد قضى في موقعه غير دقائقَ معدودةٍ حين سَمِع أصوات خُطًى خفيفةٍ غريبةٍ تقترب منه. كان قد اعتاد منذ مدةٍ طويلةٍ، في أثناء «دورياته» الليلة، تمييزَ التأثير الخاص الناجم فجأةً عن وَقْع خطَى شخصٍ مفردٍ، وهو لا يزال بعيدًا، من بين الصخب والجَلَبَة الشاسعة للمدينة. ولكن انتباهه لم يسبق أن تركَّز بهذه الحدَّة وهذا «القَطع» من قبل، فإذا به ينزوي في رُكن من أركان الفِناء وقد أحسَّ إحساسًا قويًّا وحَدْسيًّا بأن النجاح وَشِيكٌ.
وازداد اقتراب الخطوات بسرعة، ثم عَلَتْ أصواتها فجأةً عندما تجاوَز صاحبها رُكن الشارع. وجعل المحامي ينظر من موقعه لدى المدخل، وسرعان ما شاهَد نوع الرجل الذي قرَّر أن يواجهه. كان الرجل ضئيل الجِرم، يرتدي ثيابًا غير أنيقة، وكان منظره حتى على هذا البعد؛ لا يبعث الارتياح على الإطلاق فيمَن يشاهده. ولكن الرجل اتَّجه مباشرةً إلى الباب، عابرًا الطريق اختصارًا للوقت، وأخرج من جيبه عندما اقترب مفتاحًا كشأن كلِّ مَن يقترب من بيته.
وخطا مستر أترسون خطوةً خارجًا من رُكنه، ومسَّ بيده كتف الرجل في أثناء مروره، وقال: «مستر هايد، على ما أظن؟»
وأجفل مستر هايد بشهقةٍ كحَسِيس الخائف، وإن زال خوفه من فَوره، وردَّ بثباتٍ واطمئنانٍ، حتى دون أن يتطلَّع إلى وجه المحامي، قائلًا: «هذا اسمي، ماذا تريد؟»
وأجاب مستر «هايد»: «لن تجِدَ الدكتور جيكل؛ فليس في بيته.» ودسَّ المفتاح في القفل، ثم قال فجأةً — ولكن دون أن يرفع بصره: «كيف عَرَفتَني؟»
فقال مستر أترسون: «هل تتكرم أنت بإسداء معروفٍ لي؟»
وأجاب الآخر: «بكلِّ سرور، وما ذاك؟»
فقال المحامي: «هل تَدَعني أُبصر وجهك؟»
وبدا أنَّ مستر هايد متردد، وإذا به — كأنما فاجأتْه فكرةٌ مفاجئةٌ — يواجه المحامي مواجهةَ مَن يتحدَّاه، وظلَّ الاثنان يحدِّقان في بعضهما بعضًا عدَّة ثوانٍ، قبل أن يقول أترسون: «أستطيع الآن أن أتعرَّف عليك من جديد؛ فقد يكون ذلك مفيدًا.»
وردَّ مستر هايد قائلًا: «فِعْلًا؛ مقابلتنا مفيدة. وأقول بالمناسبة: إنَّ عليك أن تعرف عنواني.» وأشار إلى رقم منزلٍ معيَّنٍ في شارعٍ في حيِّ سوهو.
وقال مستر أترسون في نفسه: «يا الله! تُرى هل خطَرَ له أيضًا أَمْر الوصية؟» ولكنْ لم يُفصح عن مشاعره، وغَمْغَم غمغمةَ امتنانٍ لحصوله على العنوان.
وقال الآخر: «قل لي إذن؛ كيف عَرَفتَني؟»
وجاءته الإجابة: «بالوصف.»
– «وصفُ مَن؟»
وقال مستر أترسون: «لدينا أصدقاء مشترَكون.»
وردَّد العبارة مستر هايد بصوتٍ شبهِ مبحوحٍ: «أصدقاء مُشترَكون؟ مَن هم؟!»
قال المحامي: «الدكتور جيكل مَثَلًا.»
وهَتَف مستر هايد صائحًا بنبرات الغضب: «لم يخبرْك قَط! لم أكن أتصوَّر أنك كذَّاب!»
وقال أترسون: «اهدأ أرجوك! ليست هذه ألفاظًا مناسبة!»
وندَّت عن الآخر قهقهةٌ وحشيةٌ عاليةٌ، وإذا به يُدير المفتاح في القفل بسرعةٍ خارقةٍ، ويختفي داخل المنزل.
إذا انعطفت بعد المرور برُكن الشارع الجانبي، مررت بميدانٍ تحيط به منازلُ جميلةٌ قديمةٌ، أخنى عليها الدهر بعد العزِّ في معظمها، وأصبح يُقيم فيه المستأجرون شُققًا وغُرفًا، وهم من شتَّى الألوان والأصناف من الناس؛ من رسَّامي الخرائط إلى المهندسين المعمارين، إلى المحامين المثيرين للرِّيبة، إلى سماسرة الصفقات المغمورة. ولكن أحد هذه المنازل، الثاني بعد طرف الشارع، لا يزال يسكنه أصحابه بأكمله، وتوقَّف مستر أترسون عند بابه الذي كان يَشِي بالثراء العظيم والعيش الرخيِّ، وإن كان غارقًا في الظلام باستثناء ضياء القسم الزجاجي العلوي في الباب، وحين طَرَق المحامي الباب؛ فَتَحه له خادمٌ مسنٌّ أنيقُ الملبس.
وسأله المحامي: «هل الدكتور جيكل بالمنزل يا بوول؟»
وقال الخادم وهو يُدخل الزائر: «سأَرَى يا مستر أترسون.» ودخل المحامي قاعةً فسيحةً مريحةً منخفضةَ السقف، وأرضيتها من البلاط، وتُستخدم في تدفئتها (مثل قصور الريف) مدفأةٌ موقدةٌ يسطع فيها الجمر، وصواناتها الفاخرة من خشب البَلُّوط. وسأله الخادم: «تودُّ الانتظار هنا يا سيدي بجوار المدفأة، أم أصحبك بمصباحٍ إلى غرفة الطعام؟»
قال المحامي: «هنا، شكرًا.» واقترب من المدفأة، واستند إلى الرفِّ العالي فوقها. كانت هذه القاعة التي تُرك فيها وحده، قد وضع صديقه الدكتور تصميمها الذي يمثِّل نزوةً خاصةً، وقد اعتاد أترسون نفسه أن يشير إليها باعتبارها أجمل غرفة في لندن. ولكنه كان يشعر الليلة برِعْدةٍ في دمه، وكان وجه هايد يَرينُ ثقيلًا على ذاكرته، كما انتابه إحساسٌ (نادرٌ في حالته) بالغثيان والنفور من الدنيا. وكان الاكتئاب الذي يُغشي نفسه؛ يجعله يجِدُ خطرًا في أشعة المدفأة المتراقصة فوق الصوانات المصقولة، وفي ارتجاف ظلِّه القَلِق فوق السقف. وأخجله أن يشعر بالارتياح حين عاد الخادم بعد بُرهة ليعلن أن الدكتور جيكل قد خرج.
وقال: «شاهدتُ مستر هايد يدخل من باب غرفة المَشرَحة القديم؛ فهل يصحُّ هذا في أثناء غياب الدكتور جيكل؟»
فقال الخادم: «نَعَم يا سيدي؛ فمستر هايد لديه مفتاح.»
وعاد المحامي يقول بنبرة استغراق في التفكير: «يبدو أنَّ سيدك يثق ثقةً كبيرةً في ذلك الشاب يا بوول.»
وقال بوول: «نَعَم يا سيدي؛ بكل تأكيد. ولدينا جميعًا أوامر بطاعته.»
فسأله أترسون: «لا أظن أنني قابلتُ مستر هايد هنا من قبل؟»
فأجابه القهرمان قائلًا: «بالطبع لا يا سيدي؛ إذ لا يتناول الطعام هنا أبدًا. والواقع أننا لا نراه إلا لمامًا في هذا الجانب من المنزل، إذ غالبًا ما يدخل ويخرج من المختبر.»
– «طابت ليلتك إذن يا بوول.»
– «تُصبح على خير يا مستر أترسون.»