الليلة الأخيرة
كان مستر أترسون جالسًا بجوار المدفأة ذات مساءٍ بعد العشاء عندما فُوجئ بزيارةٍ من بوول.
وصاح أترسون: «يا إلهي! ماذا أتى بك يا بوول؟» ونَظَر نظرةً ثانية إليه، وقال: «ما خطبك؟ هل الطبيب مريض؟»
وقال الرجل: «وَقَع ما يسوء يا مستر أترسون.»
وقال المحامي: «اجلس! اشرب هذا القدح من النبيذ! والآن، لا تتعجَّل، وقلْ لي بوضوحٍ ماذا تريد؟»
وأجاب بوول: «تعرِفُ مسلك الطبيب يا سيدي، وكيف يَحبس نَفْسه. وها هو ذا قد حبس نَفْسه مرةً أخرى في غرفة المكتب، ولا يروق لي ذلك! بل أُقسم بحياتي أنه لا يروق لي! والواقع يا مستر أترسون أنني خائف.»
وقال المحامي: «اسمع أيها الرجل الطيب .. أَوضِحْ ما تقول؛ ما الذي يخيفك؟»
وردَّ بوول، مُصرًّا على تجاهُل السؤال: «لقد انتابني الخوف نحو أسبوع كامل. ولم أعُدْ قادرًا على التحمُّل.»
كان مظهر الرجل يؤكِّد صحة أقواله؛ إذ ازدادت حاله سوءًا، ولم ينظر مباشرةً في وجه الطبيب باستثناء اللحظة الأولى التي أعلن فيها عن خوفه. بل إنه ظلَّ جالسًا وقدح النبيذ على ركبته لم يقربه، وعيناه تحدِّقان في رُكنٍ من أركان أرضيَّة الغرفة. وقال مرةً أخرى: «لم أعُدْ قادرًا على التحمُّل.»
وقال المحامي: «اسمع يا بوول! أُدرك أن لديك سببًا وجيهًا. وأُدرك أن شيئًا بالِغ السوء قد وَقَع. حاولْ أن تقول لي ما هذا الشيء.»
وقال بوول في صوتٍ أجش: «أظنُّ أنه قد وقعتْ جريمة!»
وصاح المحامي: «جريمة؟» كانت الكلمة قد أرعبتْه رعبًا شديدًا وأتى رعبُه بضِيقِ صدرٍ بالِغ، فقال: «أيُّ جريمة؟ ماذا يعني هذا الرجل؟»
وأجاب بوول: «لا أجرؤ على الإفصاح. ولكن هل تتفضَّل بالقُدوم معي حتى ترى بنفسك؟»
وأمَّا إجابة المستر أترسون فكانت أن نَهَض وأَخَذ قبعته ومعطفه، لكنه لاحَظَ بدهشةٍ ما بدا على وجه القهرمان من راحةٍ شديدة، ولاحَظَ بدهشةٍ أيضًا أنَّ الرجل أعاد قدح النبيذ إلى المائدة دون أن يَقربه وهو يسير خلف المحامي.
كانت ليلةً من ليالي شهر مارس العاصفة الباردة، وكان القمر شاحبًا يستلقي على ظَهره كأنما أمالتْه الرياح، وفي الجوِّ سحائب متناثرةٌ نسيجها بالِغ الرهافة والشفافية. وكانت شدَّة الريح تجعل التحادُث عسيرًا وتدفع بالدم إلى الوجوه. بل يبدو أنها أخلت الشوارع من المارَّة، إذ قال مستر أترسون في نفسه إنه لم يشهد في حياته ذلك الحي في لندن خاليًا من الناس إلى هذا الحد. وكان يتمنَّى لو اختلف الحال، إذ لم يسبق له أن أدرك في نفسه تلك الرغبة العارمة في أن يرى ويَلمس إخوانه من البَشَر، فلقَدْ عجز على الرغم من جهوده المضنية عن إقصاء الفكرة التي غلبتْه بأنَّ كارثةً ما توشك أن تقع. وعندما وصلا إلى الميدان، وجدا الريح تعصف والغبار مُثارًا وفروع الشجر النحيلة في الحديقة تضرب الأسوار كالسياط اللاذعة. وكان بوول يسير أمام المحامي بخطوةٍ أو خطوتين، وعندما دخلا الميدان توقَّف بوول وسط الرصيف، وعلى الرغم من برودة الجوِّ خَلَع قبعته ومَسَح جبينه بمنديل أحمر. ولكنه لم يكن يمسح العَرَق الناجم عن سرعته في السير، بل العَرَق المتفصِّد من عذابٍ خانِق، فلقَدْ غاضَ لون وجهه، وعندما تكلَّم خرج صوته أجشَّ متهدِّجًا.
قال بوول: «ها نحن قد وصلنا يا سيدي. وأسأل الله ألَّا يكون قد وقع مكروه.»
وقال المحامي: «آمين، يا بوول!»
وعندها طَرَق الخادم الباب بحذرٍ شديد، فَفُتح الباب وإن كان لا يزال مربوطًا بسلسلة، وجاء صوتٌ من الداخل يقول: «أهذا أنت يا بوول؟»
وقال بوول: «لا تنزعج! افتح الباب!»
وعندما دخلا القاعة كانت الأضواء تغمرها، والنار في المدفأة على أشدِّها، وحولها الْتف الخَدَم جميعًا، رجالًا ونساءً، كقطيعٍ من الغنم. وعندما شاهدتْ خادمة المنزل مستر أترسون جعلتْ تُنَهنِه نهنهةً كالنشيج، وأهرعت الطاهية وهي تصيح: «الحمد لله! جاء مستر أترسون!»، وتقدَّمت من المحامي كأنها تريد معانَقتَه.
وقال المحامي بنبراتٍ تنِمُّ عن ضِيق صدره: «عجبًا! كيف اجتمعتم هنا؟ لا يصحُّ ذلك، ولن يرضى سيِّدكم عن ذلك.»
وقال بوول: «إنهم خائفون جميعًا!»
وساد سكونٌ لا يَشِي بشيءٍ بعد ذلك، فلم يعترض أحد، ولم يُسمع إلا صوت الخادمة الذي علا وهي تبكي بكاءً مُرًّا.
وصاح بوول: «أمسكي لسانك!» بنبراتٍ قاسية تشهد بأنَّ أعصابه محطَّمة، وعندما ارتفع نُواح الفتاة فجأةً؛ كان الجميع قد اتَّجهوا إلى الباب الداخلي وقد ارتسم على وجوههم ما يدلُّ على توقُّع حدثٍ رهيب، واستأنف القهرمان حديثه قائلًا للخادم المسئول عن السكاكين: «أحضر لي شمعةً وسوف ننتهي من هذا الأمر فورًا.» ثم رجا مستر أترسون أن يَتبعه، وسار أمامه متَّجهًا إلى الحديقة الخلفية.
وقال بوول: «هيا يا سيدي! أرجوك أن تتقدَّم بهدوءٍ شديد، فأنا أريدك أن تسمع لا أن يسمعك أحدٌ. كما أرجوك يا سيدي .. إذا تصادَفَ أن طُلب منك الدخول فلا تدخل.»
وأفلتتْ أعصابُ مستر أترسون عندما سمِعَ نهاية الجملة غير المتوقَّعة حتى كاد يفقد توازنه، ولكنه استعاد شجاعته وسار خلفَ القهرمان إلى مبنى المختبر، وعبْرَ غرفة العمليات الجراحية التي كانت حافلةً بصناديق الشحن والزجاجات، إلى أسفل الدَّرَج. وهنا أشار بوول بيده إليه بأن ينتحي جانبًا ويُصغي، في الوقت الذي وضع بوول الشمعة في مكانها، وبدا أنه يستجمع أطراف عزيمته وهو يصعد الدرج، ويطرُق — بيدٍ مرتعِشة — الجُوخ الأحمر الذي يكسو باب غرفة المكتب.
وقال بوول: «هذا مستر أترسون يا سيدي يريد أن يقابلك.» وكان في أثناء ذلك يشير بيده إشارةً حاسمةً بأنْ يُنصت.
وجاء الصوت من الداخل يقول بنبراتِ الشكوى: «قلْ له لا أستطيع مقابلة أحد.»
وقال بوول بنبرةٍ تشبه نبرة الانتصار: «شكرًا يا سيدي.» ثم رَفَع الشمعة في يده واصطحب مستر أترسون عائدَين عبر الفِناء فدخلا المطبخ حيث كانت النار قد انطفأت والخنافس تتواثب على الأرضية.
وحدَّق بوول في عينَي مستر أترسون وهو يسأله: «هل كان هذا صوت سيدي؟»
وأجاب المحامي: «يبدو أنه تغيَّر كثيرًا.» وكان وجهه قد علاه شحوبٌ بالِغ، لكنه تبادَلَ النظرات مع بوول.
وقال القهرمان: «تغيَّر؟ نعم! أظنُّ ذلك فعلًا! هل قضيتُ عشرين عامًا في منزل هذا الرجل، ثم يخدعني مَن يحاكي صوته؟ كلَّا يا سيدي! لقد قُتل سيدي .. قُتل منذ ثمانية أيام عندما سمعناه يستغيث عاليًا باسم الله. ومَن ذا الذي تراه في الغرفة بدلًا منه؟ ولماذا يمكث هذا الشخص فيها؟ إنه لأمرٌ واضحٌ لأقصى حدٍّ يا مستر أترسون!»
وقال أترسون وهو يعضُّ إصبعه: «هذه حكايةٌ غريبة جدًّا يا بوول. بل قصة تقوم على الوهم يا صاحبي. فَلْنفترض وقوع ما تفترضه .. أعني فلنفترض أن الدكتور جيكل قد .. قُتل! فما الذي يدفع القاتل إلى البقاء؟ القصة واهية، ولا يقبلها العقل.»
فقال بوول: «الواقع يا مستر أترسون أنك رجل صعب الإقناع، لكنني سأقنعك. لا بدَّ أن تعرف أنَّ ذلك الموجود في غرفة المكتب، مهما يكن، ظلَّ طول الأسبوع الماضي يصرخ ليلًا ونهارًا في طلبِ دواءٍ من نوعٍ معيَّن، ولم يستطع الحصول على ما يرضيه. كان من عادته أحيانًا — أقصد من عادة سيدي — أن يكتب أوامره على ورقةٍ ثم يلقي بها على الدَّرَج. لم نكن نتلقَّى طيلة هذا الأسبوع المنصرِم سوى تلك الأوراق، والباب ما زال مغلَقًا، حتى إننا كنا نترك له الوجبات على العتبة حتى يُدْخلها خلسةً عندما يذهب الجميع. والواقع يا سيدي أن الأوامر والشكاوى كانت تَصدر كلَّ يوم، بل مرتين أو ثلاث مرات في اليوم نفسه، وكان يأمرني بالذهاب مسرعًا إلى جميع الصيدليات التي تبيع بالجُمْلة في المدينة. وكلَّما عُدْت بالدواء في يدي، وجدتُ ورقةً أخرى يأمرني فيها بإعادته بسبب عدم نقائه، وبأن أذهب إلى صيدلية أخرى. إنه في حاجة ماسَّة إلى هذا الدواء يا سيدي، مهما يكن الغرض منه.»
وسأله مستر أترسون: «هل لديك ورقةٌ من هذه الأوراق؟»
ودسَّ بوول يده في جيبه وأخرج منه ورقةً مجعَّدةً قدَّمها إلى المحامي الذي قرَّبها من الشمعة وانكبَّ عليها يفحصها بدقَّة. كان المكتوب فيها ما يلي: «تحيات الدكتور جيكل إلى أصحاب شركة «مو»، ويؤكِّد لهم أنَّ العيِّنة الأخيرة لم تكن نقيةً، ولا تَصلح إطلاقًا لتحقيق غرضه الحالي. وكان الدكتور جيكل قد اشترى في عام – ١٨م كميةً كبيرةً من هذه الشركة، وهو يرجوهم الآن أن يبحثوا بأكثر قَدرٍ من العناية والحرص، فإذا عثروا على أيِّ مقدارٍ بقي عندهم من هذا الصنف فليرسلوه إليه من فورهم، مهما يكُن الثَّمَن. والدكتور جيكل يُولِي هذا الأمر أهميةً يصعب وصفها.»، وحتى هذه الكلمات كانت الرسالة مكتوبة بخطٍّ ينمُّ عن رَباطة جأشٍ واضحة، ولكنَّ الخطَّ اختلف فجأةً ليوحي بانفلات مشاعر الكاتب، فتناثرت الحروف في الكلمات التي أضافها هنا وهي: «أستحلِفكم بالله أن تعثروا لي على مقدارٍ ما من الصنف القديم.»
وقال مستر أترسون: «هذه رسالةٌ غريبة.» ثم أضاف بنبراتٍ حادَّة: «كيف سمحتَ لنفسك أن تفتحها؟»
وردَّ بوول قائلًا: «لقد أغضبتُ المسئول في شركة «مو» غضبًا شديدًا فألقى بها في وجهي كأنما كانت من القاذورات.»
واستأنف المحامي حديثه قائلًا: «أنت واثقٌ أنَّ هذا خطُّ يد الطبيب دون شك؟»
وقال الخادم بنبراتٍ تنمُّ عن استيائه: «رأيتُ أنه يشبه خطَّه.» ثم أضاف بنبراتٍ مختلفة: «ولكنَّ خطَّ اليد غير مُهِم؛ إذ إنني شاهدتُه!»
وكرر أترسون العبارة دهِشًا: «شاهدتَه؟! وكيف كان ذلك؟»
وقال بوول: «هذا بيت القصيد! سوف أحكي ما حَدَث؛ دخلتُ غرفة العمليات فجأةً من الحديقة، ويبدو أنه انفلت من غرفة المكتب ليبحث عن هذا الدواء أو ذلك الشيء مهما يكُن؛ إذ كان باب غرفة المكتب مفتوحًا، وكان هو في الطرف الأقصى من غرفة العمليات منهمِكًا في البحث بين الصناديق. ورَفَع نظرَهُ إليَّ عندما دخلتُ، وندَّ عنه ما يشبه الصرخة، ثم أُهرع صاعدًا الدَّرَج فدخل غرفة المكتب. لم أكن قد شاهدتُه سوى دقيقةٍ واحدة، ولكن شَعْر رأسي انتصب كالأشواك. أسألك يا سيدي: لو كان سيدي فلماذا صَرَخ كالفأر المذعور وهَرَب مني؟ لقد خدمتُه فترةً طويلة. ثم إنه …» وتوقَّف الرجل عن الحديث ومَسَح وجهه بيده.
وقال القهرمان وقد بدأتْ بقَعٌ من الشحوب تكسو وجهه: «لم يكُنْ ذلك الرجل سيدي! هذه هي الحقيقة. فإنَّ سيدي …» — وهنا تلفَّت حوله وبدأ يهمس — «رجلٌ طويل القامة متين البِنية، وأمَّا الذي شاهدتُه فكان أقرب إلى الأقزام.» وحاول أترسون الاعتراض فصاح بوول قائلًا: «أتظنُّ أنني لا أعرف سيدي بعد عشرين عامًا؟ هل تظنُّ أنني لا أعرف إلى أين يصل رأسُه أمام باب غرفة المكتب حيث اعتدتُ رؤيته صباح كلِّ يوم من أيام حياتي؟ لا يا سيدي! ذلك الرجل ذو القناع لم يكُن الدكتور جيكل بالقَطع! الله أعلم بمَنْ كان، لكنه لم يكُنْ قطعًا الدكتور جيكل. وأُومِن في أعماق فؤادي أنَّ جريمة قتلٍ قد ارتُكِبَت.»
وأجاب المحامي: «إنْ كنتَ تزعم هذا فواجبي يقضي بالتثبُّت. وعلى الرغم من حرصي الشديد على ألَّا أجرح مشاعر سيدك، وحيرتي الشديدة إزاء هذه الرسالة التي تُثبت فيما يبدو أنه لا يزال حيًّا؛ فإني أرى من واجبي أن أقتحم هذا الباب عَنْوة.»
وهتف الساقي: «عينُ الصواب يا مستر أترسون!»
وعاد أترسون يقول: «والآن يأتي سؤالٌ آخر: مَن الذي يقتحمه؟»
وجاءته الإجابة الجسورة: «أنا وأنت طبعًا يا سيدي!»
فردَّ المحامي قائلًا: «أحسنتَ وأصبت! ومهما تكُن العاقبة فسوف أجتهد حتى لا تُصاب بسوء.»
وواصل بوول حديثه قائلًا: «في غرفة العمليات بَلطَة .. ولك أن تستخدم المِسْعَر الحديدي في المطبخ.»
وعندما أمسك المحامي ذلك القضيب الحديدي الثقيل ورَفَع تلك الأداة الساذجة في يده بحيث يضمن اتزانها؛ رَفَع بصره إلى بوول قائلًا: «هل تعلم أننا — أنا وأنت — سوف نعرِّض أنفسنا لبعض الخطر؟»
وقال القهرمان: «قد تكون على صواب يا سيدي.»
فقال الآخر: «الأحرى بنا إذن أن نلتزم الصراحة؛ إذ لم يبُحْ أيُّنا للآخر بما يدور في ذهنه! فلْنتصارح إذن: هل عرفتَ الرجل المقنَّع الذي شاهدتَه؟»
وجاءته الإجابة: «الواقع يا سيدي أن الأمر جرى بسرعةٍ شديدة، وكان ذلك المخلوق منحنيًا إلى الحدِّ الذي لم يسمح لي بالتأكُّد من شخصيته. أمَّا إن كنتَ تعني هل هو المستر هايد؛ فأقول: نعم! أظنُّ أنه كان ذلك الرجل. كان يوازيه في الجِرم وخفَّة الحركة، أضِف إلى ذلك أنه لا يستطيع سواه أن يدخل من باب المختبر! ولعلَّك لم تنسَ يا سيدي أنه كان يحتفظ بمفتاح ذلك الباب في وقت الجريمة. والأمر لا يقتصر على ذلك. قلْ لي يا مستر أترسون: هل سَبَق لك أن قابلتَ مستر هايد؟»
وقال المحامي: «نعم، تحدَّثتُ معه ذات يوم.»
«إذن فأنت تعلم مثلنا جميعًا أنَّ ذلك الشخص كان غريبًا غرابةً تصدم المشاعر، لا أعرف التعبير الصحيح عن ذلك يا سيدي سوى أن أقول إنه شعورٌ بالصدمة في النخاع كأنَّها البرد الشديد أو صعقةُ القُشَعريرة.»
وقال أترسون: «أُصارحك بأني شعرتُ بشيء ممَّا تَصِف.»
وردَّ بوول قائلًا: «هذا صحيحٌ يا سيدي. والواقع أن ذلك الشخص المقنَّع عندما وثَبَ مثل القرد بين قوارير المواد الكيماوية ثم أُهرع إلى داخل غرفة المكتب؛ أحسستُ كأنما سَرَى في نخاعي بردٌ مثل الجليد. أعرف أن هذا ليس دليلًا علميًّا، فقد تعلمتُ ما يكفي لأُدرك هذا، ولكن لكل إنسانٍ مشاعره، وأُقسم لك بالكتاب المقدَّس إنَّه كان مستر هايد!»
وقال المحامي: «نعم نعم! أخشى أن يكون الأمر كذلك، فالشرُّ قد نشأ مع الأسف من ارتباط الرَّجلَين، بل كان من المحتَّم أن هنري المسكين قد قُتل، وأعتقد أنَّ قاتله لا يزال (لغرضٍ ما لا يعلمه إلا الله) مختبئًا في غرفة القتيل. فَلْنأخذ بثَأْره إذن. ادعُ برادشو.»
واستجاب الخادم للنداء فَجاءَ بوجهٍ بالِغ الشحوب وفي توتُّرٍ شديد.
وقال المحامي: «تمالَكْ أعصابَك يا برادشو! أدري أنَّ هذا التوتُّر قد أثَّر فيكم جميعًا، لكننا قد عقَدْنا العزم على الانتهاء منه الآن؛ إذ قرَّرنا أنا وبوول أن نقتحم غرفة المكتب عَنوة. فإذا لم نجِدْ ما يسوء؛ فلديَّ من المكانة ما يُؤهِّلني لتحمُّل المسئولية. وإذا كان قد وقع فعلًا أمرٌ «فظيع»، أو إذا حاوَلَ أيُّ مُذنِبٍ الهروب من الباب الخلفي؛ يجب أن تذهب أنت مع الغلام وفي يدِ كلٍّ منكما عصًا غليظة، وأن تلتزما بمَوقِعكما عند باب المختبَر. وسوف نُمهِلكما عشر دقائق حتى تَصِلا وتَشغَلا مَوقِعكما.»
وعندما انصرف برادشو، نَظَر المحامي في ساعة معصمه، ثم قال: «ودَعْنا الآن يا بوول نَشغَل موقعنا.» وحَمَل المِسعَر الحديدي تحت إِبطِه، وتقدَّم يَتبَعه بوول إلى الفِناء. كان السحاب قد ساقَتْه الريح فغطَّى وجه القمر فسَادَ الظلام، وكانت الريح تهبُّ في نوباتٍ متقطِّعة في داخل «المَنوَر» العميق وسط المبنى وتتلاعب بلَهَب الشمعة يَمنَةً ويَسرَةً في أثناء سيرهما، حتى وصَلَا إلى غرفة العمليات التي احتمَيَا فيها من الريح وجلَسَا ينتظران في صمت. كانت همهمات لندن تتردَّد في مهابةٍ في كل مكان من بعيد، وأمَّا بالقرب منهما فلَمْ يكُن يقطع الصمت إلا صوتُ وَقْع أقدامِ شخصٍ يمشي رائحًا غاديًا فوق أرضية غرفة المكتب.
وهمس بوول قائلًا: «لا يتوقف عن السَّير هكذا طول النهار يا سيدي، بل جانبًا كبيرًا من الليل، إلا حين تصِلُ عيِّنةٌ جديدة من الصيدلاني. فعلًا! إنَّ ضمير الأثيم لا يأتيه بالراحة! فعلًا يا سيدي! إنَّ كل خطوة يخطوها تنمُّ عن إراقة دمٍ دون وجهِ حق! ولكن أنصتْ من جديد، زدْ من اقترابك، وأصِخْ السمع بقلبك يا مستر أترسون! قل لي: هل هذا وَقْع أقدام الطبيب؟»
كان وَقْع الأقدام خفيفًا وغير منتظم، ويوحي بتأرجُحٍ معيَّن، كما كان يتَّسم بالبطء الشديد، ويختلف كثيرًا عن وَقْع خطوات هنري جيكل الثقيلة ذات الصرير. وتأوَّه أترسون قائلًا: «ألا يُحدث أبدًا سوى ذلك؟»
وأومَأَ بوول بالإيجاب، ثم قال: «سمعتُه ذات مرة يبكي!»
وقال المحامي: «يبكي؟ كيف؟» وأحسَّ برِعدةِ رُعبٍ باردةٍ مفاجئة.
وقال القهرمان: «كان يبكي كالمرأة أو كنفْسٍ معذَّبة، فمضيتُ والأمر يُثقِل قلبي حتى كِدتُ أبكي أنا أيضًا.»
وكانت الدقائق العشر قد انتهت، فأخرج بوول البَلطَة من كَومَة القشِّ الذي يُستخدم في تعبئة الأدوات، ووضَعَ الشمعة على أقرب منضدة حتى يهتديا بضوئها عند اقتحام الباب، واقتربا وقدْ أمسكا أنفاسهما من المَوقِع الذي تسير فيه الأقدامُ جَيئةً وذهابًا، دونما توقُّف، في سكون الليل.
وصاح أترسون بصوتٍ مرتفع: «جيكل! أريد أن أراك!» وصمَتَ لحظة، ولكنه لم يتلقَ إجابة. فعاد يقول: «إنِّي أُنذرك الإنذار الواجب: لقد ثارت شكوكنا ولا بدَّ أن أراك، بل سوف أراك .. إن لم يكُن بوسائلَ مشروعة، فبوسائلَ غيرِ مشروعة، وإن لم يكُن برضاك فبالقوة الغاشمة!»
وقال الصوت: «أترسون! ارحمني باسم الله!»
وصاح أترسون: «آه! ليس هذا صوت جيكل .. بل صوت هايد! فَلْنحطم الباب يا بوول!»
ورَفَع بوول البلطة فوق كتفه ثم هَوَى بها فاهتزَّ المنزل من أثَرِ الضربة، وانتفض الباب المكسوُّ بالجُوخ الأحمر فاضطرب القُفْل واضطربت المفصَّلات، وارتفعت صرخةٌ رهيبة من داخل غرفة المكتب، كأنها صوت حيوانٍ مذعور. وارتفعت البَلطَة مرةً أخرى، فتهشَّمت الألواح الخشبية وتخلخل هيكل الباب، وتكرَّرت الضربة أربع مرات، ولكن الأخشاب كانت متينة، وقد ثبَّتتْها أيدي نجَّارينَ مَهَرة، وصمَدَ الباب حتى الضربة الخامسة، إذ انفجر القُفل وتناثرتْ أجزاؤه وسقَطَ الباب المحطَّم داخل الغرفة على السجَّادة.
كان الرجلان اللذان انتهيا من حصارهما قد أفزَعَهما الصَّخَب الذي أحدثاه والسكون الذي تلاه فتَراجَعا قليلًا، ثم شَرَعا يطلَّان على غرفة المكتب التي تجلَّت أمام أعينهما في ضوء المصباح الهادئ، فشاهدا نار المدفأة متوهِّجةً، وسَمِعا حسيس احتراق الجمر فيها، وكذلك أزيز غليان الماء في القِدر فوق المَوقِد، وكانت بعض الأدراج مفتوحة، والأوراق مصفوفة بعنايةٍ فوق منضدة العمل، كما لاحَظَا أنَّ لوازم تقديم الشاي موضوعةٌ بالقرب من المدفأة، كانت الغرفة بالغةَ السكون، وكان يمكن أن تقول إنها غرفةٌ من غُرَف لندن العادية — بل أقربها إلى الطابع العادي تلك الليلة — لولا الصوانات ذات المظهر البرَّاق الغاصَّة بالمواد الكيماوية.
وقال بنبراتٍ صارمة: «وصلنا بعد فَواتِ الوقت، ولم يعُدْ في إمكاننا إنقاذه أو عقابه؛ إذ ذهب هايد ليَلقَى حسابه، ولم يَبقَ أمامنا إلا أنْ نعثر على سيدك.»
كانت غرفة العمليات تَشغَل معظم مساحة المبنى، وتحتلُّ الطابق الأرضي كله تقريبًا وأضواؤها في السقف، هذا إلى جانب غرفة المكتب المُقامَة في طابقٍ علويٍّ في الطرف الأقصى للمبنى وتطلُّ على الفِناء. وكانت غرفة العمليات تتصل بممرٍّ يؤدي إلى الشارع الجانبي، ويرتبط هذا الممرُّ بغرفة المكتب بصفٍّ من الدَّرَج المُنفصِل. وكانت بالمبنى عدة غُرَف صغيرة مُظلِمة وقَبْو فسيحٌ، قام الرجلان بفَحْصها جميعًا بكلِّ دِقَّة، وإنْ لم تكُن كل غرفة تحتاج إلا إلى نظرةٍ سريعة؛ إذ كانت جميعها خالية، وكان التراب المُتساقِط من أبوابها يدلُّ على أنَّها لم تُفتح منذ عهدٍ بعيد. وكان القَبْو يغَصُّ «بالكراكيب» المُبعثَرة التي يعود معظمها إلى زمن الجرَّاح الذي كان يُقيم في المبنى قبل جيكل. لكنهما ما إنْ فتَحَا الباب حتى أَدرَكا أنَّ بحْثَهما فيه سيَذهَب عَبثًا؛ بسبب بيت العنكبوت الكامل الذي كان يسدُّ المدخل منذ سنين. لم يَعثُرا على أثرٍ للدكتور جيكل، حيًّا أو ميتًا، في أيِّ مكان.
وجعل بوول يضرب البلاط في الممرِّ بقَدَمه ويُصغي إلى الأصداء قائلًا: «لا بدَّ أنَّه مدفونٌ هنا.»
وقال أترسون: «وربما يكون قد هَرَب.» ثم اتَّجَه لفحص الباب المُوصِل إلى الشارع الجانبي؛ فوجده مُقفَلًا بالمفتاح الذي شاهَدَه الرجلانِ مُلقًى على البلاط وقدْ علاه الصدأ.
فقال المحامي: «لا يبدو أنَّ هذا يمكن استخدامه.»
وكرر بوول الكلمة في استنكار: «استخدامه؟! ألَا ترى يا سيدي أنه مكسور؟ كأنما حطَّمه رجلٌ بقَدَمه.»
وعقَّب أترسون قائلًا: «والصدأ يعلو الكسور أيضًا.» وتبادَلَ الرجلان النظرات في خوف، ثم قال المحامي: «لا أفهم هذا يا بوول. فَلْنعُد إلى غرفة المكتب.»
وصَعِدا الدَّرَج في صمت، وانطلقا يفحصان، بدقَّةٍ أشدَّ، كلَّ ما وجداه في غرفة المكتب، وهما يُلقيان من حين إلى آخر نظراتٍ إلى الجثمان في رهبة، فوجَدَا على إحدى المناضد آثار العمل الكيماوي الذي كان الدكتور يقوم به، مثل شتَّى الأكوام الصغيرة المحسوبة بدقَّة من مِلحٍ أبيضَ معيَّن في أطباقٍ زجاجيةٍ صغيرة، كأنما كانت جزءًا من تجربةٍ حُرمَ الرَّجل التعِس من إتمامها.
وقال بوول: «هذا هو العقَّار نفسه الذي كنتُ دائمًا آتيه به.» وفي أثناء حديثه بدأ الماء في القِدر الموضوع على المَوقِد يغلي ثم فاض مُحدِثًا جَلَبةً مفزِعة.
وجعَلَهما ذلك يقتربان من المدفأة حيث كان المقعد الوثير قد وُضِع، وحيث كانت معدَّات الشاي قريبة من مِرفَق الجالس فيه، والسُّكَّر في الفنجان. وكانت على الرفِّ عدَّة كتُب، وبجوار معدَّات الشاي كتابٌ مفتوح، ودُهشَ أترسون حين شاهَدَ نسخةً من كتابٍ ديني كان جيكل قد أعرَبَ عن تقديره الشديد له عدَّة مَرَّات، وفي هوامشه ملاحظات بخطِّ الدكتور تتضمَّن طعنًا وتجديفًا مفزِعًا في الدين.
ووصَلَا بعد ذلك في أثناء تفتيش الغرفة إلى المِرآة الطويلة المُتأرجِحة، فنظَرَا في أعماقها فانتَابَهما الفَزَع على الرغم منهما، ولكنها كانت قدْ أُديرتْ حول محورها فلَمْ تكشفْ إلا عن الوَهَج الوردي للنار الذي يتلاعب فوق السقف، والانعكاسات الكثيرة لضوء النار على أسطح الصوانات البرَّاقة، ووجهَيهِما الشاحبَين الخائفَين وهما يَنحَنِيان للنظر في المِرآة.
وهمَسَ بوول: «لقد شاهدتُ هذه المِرآة بعض الغرائب يا سيدي!»
وهمَسَ المحامي بالنبرات نفسها: «لا أَغرَب قطعًا منها في ذاتها!» ثم قال: «إذ ما كان جيكل …» وأدَّى الفعل الماضي إلى فزَعِه فتوقَّف ثم تغلَّب على ضَعفه، وعاد يقول: «إذ ماذا عسى جيكل أن يفعل بها؟»
فقال بوول: «سؤالٌ وجيه!»
واتَّجها بعد ذلك إلى منضدة العمل. كان على المكتب بين الأوراق المصفوفة بعناية ظرفٌ كبيرٌ يعلوها جميعًا ويحمل اسم مستر أترسون مكتوبًا بخطِّ يدِ الطبيب. ففَتَحه المحامي فسَقَطتْ منه مرفقاتٌ عديدةٌ على أرضية الغرفة. كانت الأُولى وصيَّة فيها العبارات الغريبة نفسها التي اشتملتها الوصية القديمة التي كان المحامي قد أعادها إلى الطبيب قبل ستة أشهر، أي أنها كانت تتضمن شروط التركة في حالة الوفاة وشروط عَقْد الهِبَة في حالة الاختفاء، ولكن المحامي لاحَظَ بدهشةٍ لا تُوصف أنه بدلًا من اسم «إدوارد هايد» كتب اسم جابرييل جون أترسون! نظَرَ إلى بوول، ثم عاد ينظر إلى الورقة، وأخيرًا إلى جثة الجاني المُمدَّدة على السجادة.
وقال المحامي: «رأسي يدور! كانت الوثيقة في حَوزته طيلة الأيام السابقة، ولم يكُن لديه سببٌ لأنْ يُحبَّني، ولا بدَّ أنه غضِبَ غضبًا شديدًا لأنني حللتُ محلَّه، وعلى الرغم من ذلك لم يمزِّق الوثيقة!»
وأمسك الورقة التالية، كانت «مذكرة» موجَزةً بخطِّ الطبيب، وفي أعلاها تاريخ كتابتها. وعندما نظَرَ المحامي فيها صاح: «اسمع يا بوول! لقد كان حيًّا وموجودًا هنا اليوم! من المُحال أن يكون قد قُتل وانتهى أمره في مثل هذه الفترة الوجيزة! لا بدَّ أنه ما زال في قيد الحياة، ولا بدَّ أنه هرَبَ! ولكن لماذا يهرب؟ وكيف؟ وفي هذه الحال هل نُجازِف ونُعلن أنَّ هذه حالةُ انتحار؟ كلَّا! لا بدَّ من الحرص؛ إذ أَخشَى أننا قد نورِّط سيدك ونُوقعه في كارثةٍ باقعة.»
وسأله بوول: «لمَ لا تقرأ المكتوب؟»
فأجاب المحامي بنبراتٍ واجمة: «لأنني خائف! أدعو الله ألَّا يكون ثمَّة ما يدعو لخوفي!» قال هذا وقرَّب الورقة من عينيه فقرأ ما يلي: «عزيزي أترسون، عندما تقرأ هذا الكلام أكون قد اختفيت. لا أستطيع أن أتنبَّأ بظروف اختفائي، لكن حَدْسي يُنبئني — إلى جانب ما يحيط بحالي الذي لا اسم له — بأنَّ النهاية مؤكدةٌ وقريبة. انطلقْ إذن فاقرأْ أولًا القصة التي قال لي لانيون إنه سوف يُعطيك إيَّاها، فإذا أردتَ أن تعرف المزيد فاقْرَأ اعتراف صديقك التعِس غير الجدير بصداقتك.»
وتساءل أترسون: «أكانت هنا وثيقةٌ ثالثةٌ مُرفَقة؟»
فقال بوول: «ها هي ذي!» وأعطاه مظروفًا ضخمًا مُغلَقًا بالشمع من عدَّة جوانب.
وضَعَ المحامي المظروف في جيبه قائلًا: «يجب أن نتكتَّم أمْرَ هذه الورقة. فإذا كان سيدك قد هرب أو تُوفي؛ فعلينا على الأقل أن نصون سمعته. الساعة الآن العاشرة، ويجب أن أعود إلى المنزل وأقرأ هاتَين الوثيقتَين في هدوء، لكنني سأعود قبل منتصف الليل حتى نستدعي الشُّرطة.»
وخرج الرجلان فأغلَقَا باب غرفة العمليات خلْفَهما، وترَكَ أترسون الخَدَم الذين تحلَّقوا من جديدٍ حول المدفأة، وانطلق مُتثاقِلًا إلى مكتبه حتى يقرأ القصتَين اللتَين سوف تكشفان وتوضِّحان هذا اللُّغز الآن.