بعض عاهات الكتب المتداولة في النحو لهذا العهد
- (١)
الإيجاز الشحيح إلى حد الإخلال المقصود، ولا سيما في المتون التي وضعها المتأخرون وفي مقدمتهم الإمامان أبو عمر عثمان بن الحاجب وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك. وقد تبارى المؤلفون في هذا الشأن ولا تباري الفرسان في مضمار الرهان، يشبعون المعاني ويجيعون الألفاظ حتى تصاب بالهزال والبهر فلا تقوى على حمل ما أُثْقِلت به من المعاني، فتحور إلى طلاسم ومعمَّيات يتعذر على الطلبة الاستقلال بحل رموزها إلا بعد الفزع إلى المشايخ، ويتعسر على هؤلاء الكشف عن غوامضها إلا بعد الرجوع إلى الشروح والحواشي والتعاليق.
وقد نعى ابن خلدون على القوم طريقتهم هذه، وأفرد لذلك فصلًا خاصًّا في مقدمة تاريخه قال فيه: «وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل …» وقال: «قصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبًا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها …»
ومسألة الحفظ هذه كانت أولى الغايات وآخرها في هذه المعضلة، يجورون على العبارة كل الجور في التقتير والتقدير ليسهل على الحافظة ازدرادها، وفاتهم أن العلوم إنما تُطلَب لتُفهم وترسخ ملكاتها في العقول، وأما الحفظ المجرد عن الفهم بل الهضم فإثمه أكبر من نفعه وضرره في الذهن لا يقل عن الأضرار التي تصيب المعدة من جراء الأطعمة التي تدهدى فيها من غير مضغ وتحليل، وأن استظهار الألفاظ قبل تحديد معانيها الصحيحة في الذهن تحديدًا واضحًا يُلجئ الذهن بعد الحيرة إلى خلق معانٍ لها قد تكون قصية عن المقصود ولكنها تأخذ في الذهن مكانها وتستعصي فيه، ويعسر بعد ذلك على المعاني الصحيحة زحزحتها واحتلال مكانها فيحصل من هذا التدافع فوضى ذهنية يستعصي على أطبَّة النفوس استئصالها.
ولهذا نرى علماء النفس يشددون النكير على من يعلِّم الطفل لفظًا قبل تحديد معناه في ذهنه تحديدًا واضحًا، ويستعينون على ذلك بالمحسوسات أو ما يقرب منها، ومن ثم ذهب بعض الأعلام من أولينا إلى أنه لا ينبغي أن يُؤخَذ الأحداث بحفظ القرآن الكريم إلا بعد أن يستعدوا لفهمه بتقديم دراسات أخرى، وقال أبو بكر بن العربي: «يا غفلة أهل بلادنا في أن يُؤْخَذ الصبي بكتاب الله في أول أمره يقرأ ما لا يفهم …!» وقد استحسن العلامة ابن خلدون هذا المذهب وإن اعتذر لتطبيقه بحكم العادة.
- (٢)
عدم التدرج في ترتيب المسائل ورصف القواعد، فنراهم كثيرًا يستعينون بالمجهول لإيضاح مجهول مثله، فيقولون مثلًا: «المعرب هو المركب الذي لم يشبه مبني الأصل» مع أن الطالب لم يعرف المبني المطلق فضلًا عن مبني الأصل، وإذا سأل عن المبني قيل له: «هو المركب الذي أشبه مبني الأصل.» ويقولون مثلًا: «الرفع علم الفاعلية، والنصب علم المفعولية، والجر علم الإضافة»، مع أن الطالب لم يعرف شيئًا بعد من أمر الفاعلية والمفعولية والإضافة، ومعرفة ذلك كله تتوقف على ذكر الكثير من الفصول والأبواب.
وهكذا يجد الطالب نفسه تجاه مجهولات تتكاثر وتتكاثف وغوامض تتراصُّ وتتراكب، فلا يقوى على تذليلها إلا إذا رُزق صبرًا رصينًا وقيض الله له شيخًا بارعًا يعرض أمامه سلسلة من المقدمات كثيرة الحلقات، ثم لا يصل إلى المقصود إلا بعد جهد جهيد.
ولا يُنْكَر أن بعض المؤلفين انتبه لهذا الأمر وحاول التسهيل على المبتدئين فلا ينتقل إلى مجهول غالبًا إلا بعد أن يمهد له بمعلوم أو يوضحه عن قرب، ليصل بالطالب إلى غرضه من أقصر الطرق وأسهلها. ويُذْكَر في مقدمة هؤلاء الأفذاذ: أبو عبد الله محمد بن محمد الصنهاجي صاحب المقدمة المعروفة بالآجرومية، فإنه اقتصر فيها على اللباب وقلل من استعمال المجهولات في إيضاح المجهولات وذكر بعض الأبحاث بأكثر من أسلوب لترسيخها في الفهم، ومشى في كثير من المسائل على مذهب الكوفية مع أنه مرجوح عند المغاربة والمشارقة من نحاة عصره، تسهيلًا على المبتدئين من المتعلمين لأن مذهب الكوفية في هذه المسائل أقرب تناولًا إلى أذهانهم من مذهب البصرية … ولكن الشراح والمحشِّين لم يأبهوا لهذه المزايا ولا حسبوا لها حسابًا فأحاطوها بما ذهب بفوائدها وعفَّى على آثارها من غوامض المسائل وغريب المباحث.
أذكر أني في مفتتح دراستي العربية أخذت هذه المقدمة «الآجرومية» وجلست إلى الشيخ لأقرأ، فقال لي: إن المتن المجرد عن الإعراب لا يفيدك الفائدة المطلوبة، وأخرج لي نسخة مخطوطة تشمل الصفحة منها على أسطر قليلة ذات كلماتٍ متباعدة موشحة بتعاليق كثيرة على أوضاع خاصة وبأشكال مختلفة، فأعطانيها واندفع يسرد لي معنى البسملة بكلام طويل عريض لم أفهم منه إلا القليل، وأمرني باستظهار إعرابها: «الباء: حرف جر، واسم: اسم مجرور بالباء وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره أبتدئ أو ابتدائي، وهو مضاف ولفظ الجلالة مضاف إليه وهو مجرور بالإضافة … إلخ.» وكان اليوم الثاني، وكان الموضوع «الكلام» فاندفع يشرح لي معناه عند اللغويين والفقهاء والمتكلمين ثم النحويين بكلام غُمَّ عليَّ أكثره، ثم أمرني باستظهار الكلام بتعريفه ثم إعرابه «الكلام: مبتدأ مرفوع بالابتداء — على الأصح — وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره، «هو» ضمير فصل لا محل له من الإعراب … إلخ.» وهكذا وجدتني تجاه عباب زاخر بمصطلحات لا أعرف لها أولًا ولا آخرًا: الحرف، الاسم، الجر، المجرور، المتعلق، المحذوف، المضاف إليه، الإضافة، النعت، التبعية، المبتدأ، الابتداء، الرفع، المرفوع، ضمير الفصل، الإعراب … إلخ. ألفاظ اشتغل ذهني في أن يفرض لها معاني، فأخذ يصوغ ويكسر وبعد جهدٍ جاهدٍ لم يحصل إلا على الجمجمة والترجيم، ففزعت إلى شرح أستعين به فوقع في يدي شرح الشيخ خالد الأزهري ونظرت فيه، وإذا بي تجاه مشاكل جديدة: جنس، فصل، وضع نوعي، وضع شخصي، إلى أشياء من هذا القبيل لا يدركها إلا من ضرب بسهم في العربية وعلوم أخرى، وبالأخير هداني التسآل إلى شيخ نبيه فأرشدني إلى الاقتصار على فهم المتن وحده، ثم الرجوع إلى شرح مختصر مقصور على إيضاح المواد بأسهل العبارات.
والذي يظهر لنا أن الكثير من تلك المؤلفات وضعها مؤلفوها لتلاميذهم، وكانوا يقدرونها على استعدادهم ومؤهلاتهم تقديرًا، فإذا أراد آخرون لم تتوفر فيهم تلك المؤهلات أن يقتطفوا مثل ما اقتطف أولئك من ثمارها أعياهم ذلك. وما قولك أن جمهرة المؤلفين في هذا الشأن من المعاصرين على شدة عنايتهم في صقل مؤلفاتهم ذُهِلوا عن هذا الأمر فوقعوا في المحظور التعليمي الذي وقع فيه من سبقهم، مع أنهم وضعوا كتبهم لتلاميذ لم تكن حصة العربية من وقتهم وعنايتهم إلا ضئيلة، فكان عليهم ألا يدخروا وسعًا في التهذيب وحسن الترتيب والتبويب؟ نجدهم يقولون في مبادئ كتبهم مثلًا: «الفعل المتعدي هو الذي ينصب المفعول به، والفعل المعلوم هو الذي يُذْكَر فاعله»، مع أن الطالب لم يعرف شيئًا من أمر: النصب، والمفعول به، والفاعل، وتفهيمها يتوقف على دراسة أبواب لم تزل معقودة في ناصية المستقبل.
يقال: ما العمل والأمر يقضي بإيضاح تلك المسائل، والإيضاح يتوقف على الاستعانة بهذه المصطلحات وإن لم يجرِ ذكرها بعد؟ فالجواب أنه لا يجوز التعرض لإيضاح مسألة ما إلا بعد إعداد العدة لها، وتوضيح العناصر اللازمة لإيضاحها قبل الإقدام عليه، فلا يُبحَث عن المتعدي واللازم مثلًا إلا بعد معرفة النصب والمفاعيل، ولا عن المعلوم والمجهول إلا بعد معرفة الفاعل وما ينوب عنه. وبالجملة فإنه لا تجوز الاستعانة بمجهول لمعرفة مجهول آخر، بل يجب أن تكون الاستنارة بالمعلومات وحدها.
- (٣)
الخلط بين مسائل هذا العلم ومسائل من علوم أخرى لا تمس الحاجة إليها، وليس في مقدور الطالب إساغتها وإدراك ما وراءها. هذا ديدن المتأخرين من الشراح والمحشين، مثال ذلك قول الشيخ خالد الأزهري في شرحه على الآجرومية: «والصحيح أن الكلام موضوع بالوضع النوعي»، ومن أين للمبتدئ أن يدرك مسألة كهذه عجز فحول علماء الوضع والأصول عن حلها حلًّا نهائيًّا؟ ويقول الشيخ المذكور في شرح أزهريته: «والمفرد ثلاثة أقسام: اسم، وفعل، وحرف، لأنه لا يخلو إما أن يستقل بالمفهومية أو لا، الثاني الحرف. والأول إما أن يدل بهيئته على أحد الأزمنة الثلاثة أو لا، الثاني الاسم والأول الفعل. والعناد حقيقي يمنع الجمع والخلو. وقد عُلِم بذلك حد كل واحد منها للإحاطة بالمشترك وهو الجنس، وما به يمتاز كل واحد عن الآخر وهو الفصل.» ا.ﻫ. بحروفه وهو كما ترى كلام مغلق، لا يعقله إلا من ضرب في علم المنطق بنصيب، وأَنَّى للطالب المبتدئ ذلك؟! وفي مثل هذا الموطن يقول شارح القطر: «فإن علماء هذا الفن تتبعوا كلام العرب»، فينطلق المحشِّي يشرح لفظ العرب واشتقاقه وجموعه ومن هم العرب وأقسامهم … إلخ، مما لا مساس له في الموضوع. ويأتي ذلك الشارح في باب العطف بشاهد على أن حتى لا تفيد الترتيب، وهو الحديث المأثور: «كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس»، فينطلق المحشي يوضح حقيقة القضاء والقدر وما بينهما من فرق أو عدمه، ويسرد في ذلك آراء المتكلمين من أهل المذاهب المختلفة. ويأتي الشارح بمثال للماضي المبدوء بالنون وهو «نرجست الدواء»، فينطلق المحشي يسرد خصائص النرجس الطبية وغيرها، ومما جاء في النرجس … إلخ ص١٥.
نعم من الجائز أن يُسْتَعان في إيضاح مسائل من علم بمسائل من علم آخر، ولكن على شرطين؛ الأول أن تلك المسائل يتعذر أو يتعسر إيضاحها إلا بذلك، والثاني أن يكون الطالب على علم بتلك المسائل الخارجة عن علمه الذي هو بصدد دراسته.
- (٤)
عدم الموازنة بين مقدرة الطالب وما يُحشَد له من عويص المسائل وسهلها، فإنك إذا تصفحت مبادئ الكتب التي وضعها المتأخرون للمبتدئين من المتعلمين تجد فيها معضلات المسائل محشورة إلى جانب السهل منها …
- (٥)
حشد القيود الكثيرة، والرموز العديدة في العبارة القصيرة، ولا سيما في التعاريف مما يتعسر بل قد يتعذر على الطالب تفلية تلك القيود واستخلاص المراد من كل منها.
- (٦)
المناقشة على الألفاظ مما لا يعود إلى جوهر العلم بفائدة، وهذا أمر عمت به البلوى في معظم كتب المتأخرين.
- (٧)
التوسع في النظريات التي لا يجتني الطالب من ورائها فائدة عملية، مثل تنازعهم على إعراب جمع المذكر السالم هل هو بالحرف أم بالحركة المقدرة، وكذلك في إعراب الأسماء الخمسة أو الستة فقد ارتقت الآراء في ذلك إلى نحو العشرة، وتنازعهم هل المضاف إلى ياء المتكلم مجرور بالكسرة المقدرة أو الظاهرة، وأمثال ذلك كثيرة.
- (٨)
الاعتماد على الأمثلة الجافة المكررة، وإهمال المهم من الشواهد التي هي مادة الكلام وعدة المتكلم، ولذلك نجد أن كتب ابن هشام من أنفع الكتب المصنفة في هذا الشأن من هذه الناحية؛ لما تشتمل عليه من الآيات الكثيرة والأحاديث البليغة والأمثال السائرة والأبيات الغزيرة. وأبعد الكتب عن هذه الطريقة كتب الأعاجم مثل: الإظهار للبرگوي، وشرح الملا جامي على الكافية، ولذلك نجدها قليلة الجدوى يقرؤها الطالب وكأنه لم يقرأها. وللشواهد أثر بليغ في تكوين ملكة البلاغة عند الطالب، ولذلك نجد كتب الأقدمين غاصة بها، وأقرب مثال في ذلك كتاب سيبويه فإنه يشتمل على أكثر من ألف بيت من الشعر، وعلى مئات الآيات والأمثال وعيون الأقوال، وهذه كتب الشواهد بين أيدينا نستمد منها الكثير من الفوائد، ولقد كتب أحد علماء المائة الثامنة شرحًا ممتعًا على كافية ابن الحاجب شحنه بالشواهد والفوائد، فجاء الشيخ عبد القادر البغدادي وشرح تلك الشواهد في كتابه المسمى «خزانة الأدب» شحنها بالفوائد الأدبية، والفرائد اللغوية، والنوادر النحوية والصرفية إلى غير ذلك مما يسمو بالطالب إلى المستوى الرفيع.
وقد عانى بعض المعاصرين التأليف في هذا العلم، وحاولوا تجريد مؤلفاتهم من العاهات التي تنوء بها بعض الكتب المتداولة فيه، ولكن أكثرهم وقف دون الغاية وعجز عن إتمام المعالجة، ولا تزال الهمم مصروفة إلى معالجة هذه الناحية وعلى الله قصد السبيل.