تأريخ علم البلاغة
«إنك لا ترى علمًا هو أرسخ أصلًا، وأبسق فرعًا، وأحلى جنًى، وأعذب وردًا، وأكرم نتاجًا، وأنور سراجًا من علم البيان الذي لولاه لم ترَ لسانًا يحوك الوشْي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدر، وينفث السحر، ويقري الشهد، ويريك بدائع الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر … إلا أنك لن ترى — على ذلك — نوعًا من العلم قد لقي من الضيم ما لقيه، ومُنِي من الحيف بما مُنِي به، ودخل على النَّاس من الغلط في معناه ما دخل عليه فيه، فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة، وظنون رديئة، وركبهم فيه جهل عظيم، وخطأ فاحش …» من كلمة للشيخ عبد القاهر الجرجاني في صدر كتابه «دلائل الإعجاز».
يُفهم أن علم البيان كان معروفًا بهذا الاسم من قبل أن يضع عبد القاهر فيه كتابه هذا، وأن للناس في هذا العلم مقالات دائرة بين الاستقامة والعوج.
وقال أبو هلال بن عبد الله العسكري المتوفَّى سنة ٣٩٥ﻫ في مقدمة كتابه «الصناعتين»: «إن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالتحفظ — بعد المعرفة بالله جل ثناؤه — علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة … وقد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة وأخلَّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف وبراعة التركيب، فينبغي من هذه الجهة أن يقدَّم اقتباس هذا العلم على سائر العلوم … ولهذا العلم بعد ذلك فضائل مشهورة ومناقب معروفة …» ا.ﻫ.
وبعد أن ذكر جملة من أقاويل علماء العربية وأبان ما فيها من الزيف والحطة، قال: «فلما رأيت تخليط هؤلاء الأعلام في ما رأوه من اختيار الكلام، ووقفت على موقع هذا العلم من الفضل ومكانه من الشرف والنبل، وجدت الحاجة إليه ماسة والكتب المصنفة فيه قليلة، وكان أكبرها وأشهرها كتاب «البيان والتبيين» لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.»
إذا علمت هذا ثم رجعت البصر إلى كتاب الصناعتين نفسه وما يحتويه من الأبواب، ثم رجعت إلى كتاب «البيان والتبيين» وما يشتمل عليه من المباحث؛ يتبين لك أن ما يعنيه القوم من علم البلاغة غير ما نعنيه نحن اليوم منه، فإنهم كانوا يريدون به تلك المباحث التي تدور حول الخصائص التي ترفع قدر الكلام وتكسوه جمالًا وجلالًا، مع بيان العيوب التي تحط من قدر القول وتكسبه قبحًا وسخافةً، وبعبارةٍ أخص: المباحث الدائرة حول حسنات القول وعيوبه، وكانت تلك المباحث مفرقة في مطاوي أبحاث كثيرة ليست من أصل الموضوع في شيء منبثة هنا وهناك غير وافية بالمرام.
وأول مَنْ لَمَّ من هذه المباحث شعثها، وجمع شتاتها، ولاءم بين شواردها، ورَصَّ من قواعدها، وقَرَّب من فوائدها، وأخرج للناس منها علمًا بالمعنى الصحيح المراد من العلم؛ هو الإمام عبد القاهر الجرجاني المتوفَّى سنة ٤٧١ﻫ، فإنه كتب فيها كتابين جليلين أسمى أحدهما «أسرار البلاغة» والثاني «دلائل الإعجاز»، بحث في الأول عن الوجوه التي تكسب القول شرفًا وتكسوه جلالًا، من حيث اشتماله على استعارة مستحسنة، أو كناية لطيفة، أو تمثيل بليغ، أو تشبيه طريف … إلخ، فالأول ينتظم مباحث علم البيان بالمعنى المعروف اليوم، والثاني ينتظم مباحث على المعاني كذلك، ولم يشر الشيخ إلى هذه التسمية لأنه لم يكن يرى أن هناك علمين متمايزين؛ أحدهما يُسمَّى علم البيان والآخر علم المعاني، وكل ما كان يراه أن هناك علمًا واحدًا غاية الخائض في غماره أن يستثير الأسرار التي ترفع من قدر الكلام وتمنحه رتبة الشرف وتحله ذروة البلاغة، ويتتبع تلك الخواص والمزايا التي يتمتع بها القول البليغ فيبرزها للأنظار سافرة من غير ما حجاب …
وأول من شطر هذه المباحث شطرين فسمى مباحث النظم «علم المعاني» ومباحث المجاز والتشبيه والكناية «علم البيان»، أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر السكَّاكي المتوفَّى سنة ٦٢٦ﻫ، وهو الذي تناول هذا العلم من بعد الجرجاني فهذب مسائله، ورتب أبوابه، وأودعه كتابه الموسوم ﺑ «مفتاح العلوم».
ولا يذهبن بك ما ذكره العلامة ابن خلدون في مقدمته إلى أن السكاكي أول من وضع هذا العلم، لأن عبارة ابن خلدون لا تفيد هذا المعنى وإنما تفيد أن السكاكي أول من هذب هذا العلم ومخض زبدته، وبوبه التبويب الذي شاع بين العلماء والمتعلمين من بعده.
وقد أودع الإمام أبو القاسم الزمخشري المتوفَّى سنة ٥٣٨ﻫ كتابه «الكشَّاف عن أسرار التنزيل» من أفانين البيان ما بهر العقول وخلب الألباب، ولكن لما كانت تلك المباحث منبثة في مطاوي التفسير غير مقصودة لذاتها وإنما المقصود بها الكشف عن أسرار بلاغة الكتاب العزيز، لم يشتهر الزمخشري بين علماء البيان اشتهار الشيخين الجرجاني والسكاكي.
وبعد أن أخرج للناس كتاب «مفتاح العلوم» وقد تميزت فيه المباحث التي يعرف بها كيفية مطابقة الكلام لمقتضى الحال — وهي مباحث النظم في مصطلح عبد القاهر — عن مباحث المجاز والكناية والتشبيه، وأطلق على المباحث الأولى اسم «علم المعاني» وعلى الثانية «علم البيان»؛ أقبل الناس على هذا الكتاب يتدارسونه ويتنافسون في اقتنائه والانتفاع به.
وقد ألف ابن مالك الطائي — صاحب الألفية — من بعد السكاكي كتابًا أسماه «المصباح في علوم البلاغة» لم يحظَ بشيء من الشهرة التي حظي بها «المفتاح»، وقد طُبع.
ثم جاء الإمام محمد بن عبد الرحمن القزويني المعروف بالخطيب، المتوفَّى سنة ٧٣٩ﻫ، فلخص القسم الثالث من المفتاح وهو قسم المعاني والبيان والبديع وسماه «تلخيص المفتاح»، ضمنه ما في هذا القسم من القواعد، وجعله مشتملًا على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد، وبذل جهده في تحقيقه وتهذيبه ورتبه ترتيبًا أقرب تناولًا من أصله، ولهذا أقبل الناس عليه إقبالًا عظيمًا، ونال من الشهرة ما لم ينله كتاب غيره في بابه، فتناولته أقلام كبار العلماء بالشروح والحواشي والتعاليق حتى أصبح ما كُتِب عليه يُعد بالعشرات، وأشهرها شرح سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني المتوفَّى سنة ٧٩١ﻫ الذي أسماه «المطول»، وهو أشهر من نار على علم وإليه المنتهى عند المشتغلين بالعربية من علماء الدين ولا سيما الأعاجم منهم، وقد اختصره بكتاب مشهور أيضًا اليوم بين المحصلين. ومن شروح التلخيص المشهورة «عروس الأفراح» للشيخ بهاء الدين السبكي، و«الأطول» للشيخ عصام الدين.
وقد طُبِعت لهذا العهد مجموعة في خمسة مجلدات كبار تحتوي على طائفة من شروح التلخيص وعلى كتاب الإيضاح للخطيب القزويني أيضًا، وهو مرتب على ترتيب التلخيص ولكنه أوسع منه فهو كالشرح له. وقد كان يعاصر الخطيب القزويني السيد يحيى بن حمزة العلوي أحد أمراء المؤمنين اليمانيين تُوفِّي سنة ٧٤٩ﻫ، فألف في هذا الشأن كتابًا جليلًا أسماه «الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز»، رتبه على ثلاثة فنون: جعل الفن الأول للمقدمات، ورسم الثاني للمباحث المتعلقة بعلوم المعاني والبيان والبديع، وأفرد الثالث لبيان فصاحة القرآن وأسرار الإعجاز، وقال: «إن الباعث على تأليف هذا الكتاب هو أن جماعة من الإخوان شرعوا عليَّ في قراءة كتاب الكشاف تفسير الشيخ العالم المحقق أستاذ المفسرين محمود بن عمر الزمخشري … فسألني بعضهم أن أملي فيه كتابًا … إلخ.»
وقال إنه لم يطالع من الدواوين المختلفة في هذا الشأن إلا كتبًا يسيرة، وإنه لم يقف على كتابَي الجرجاني «دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة»، مع شدة شغفه بحبهما وإعجابه بهما … إلخ.
ولكن هذا الكتاب لم ينل من الشهرة ما ناله المفتاح وتلخيصه، وما كُتِب عليهما من الشروح، والحواشي، والتعاليق.
وجاء الجلال السيوطي المتوفَّى سنة ٩١١ﻫ فكتب في هذا الشأن عدة كتب، أشهرها منظومته المسماة «عقود الجمان في المعاني والبيان» وشرحها.
والمتتبع لحركة هذا العلم يجد أنه لم يتقدم من بعد السكاكي تقدمًا ذا شأن، وكل ما فعله الخطيب القزويني أن هذب ما جاء به السكاكي وبوَّبه تبويبًا يسهل تناوله على المتعاطين، وقرب مسائله تقريبًا كان السبب في إقبال الناس على كتابه والاعتماد عليه.
وكان العلماء من قبل السكاكي ينظرون إلى هذا العلم بنظر أوسع، وكانوا لا يرون حصره في الدائرة التي حصروه فيها والأبواب التي قصروها عليه، فكانوا يرون أنه شامل لكل ما يُبحَث فيه عن خواص الكلام التي ترفع من قدره والأسرار التي تكسبه نبلًا، وهذه الأسرار وتلك الخصائص أكثر من أن تتسع لها الأبواب التي اختطها لها السكاكي والقزويني ومن مشى على أقدامهما.
فالمفتاح وتلخيصه والإيضاح وإن كانت أحسن من غيرها من حيث التبويب الفني والتنسيق العلمي من الوجهة النظرية، إلا أن ما كتبه عبد القاهر الجرجاني ومن اقتفى أثره من العلماء أقوى أثرًا في تقويم الألسنة وتثقيف الأقلام من الوجهة العلمية، فالنوع الأول يتخرج به علماء في فنون البلاغة، والثاني يتخرج به بلغاء حقًّا.
وقد ثبت بالتجربة أن معظم أولئك الذين يعتمدون في تحصيلهم على التلخيص وشروحه وحواشيه وما إلى ذلك، يتعسر على أحدهم إن لم نقل يتعذر أن يكتب رسالة صحيحة فضلًا عن أن تكون بليغة، وقد بلغنا لهذا العهد أن شيخًا من مشيخة هذا الشأن أَكَبَّ على تدريس المطول ومختصره وحواشيهما وحواشي حواشيهما أربعين سنة ونيفًا، ثم شهد حفلًا فطلب إليه الوالي أن يفوه بشيء من الدعاء فما استطاع أن يلائم بين عبارتين أو يزاوج بين كلمتين صحيحتين فضلًا عن كونهما فصيحتين.
وأمثال هذا الشيخ البكيء من المتخرجين بمدرسة القزويني ليس بالعدد القليل.
ولما ظهرت طلائع النهضة الأدبية في مصر، ولاحت تباشير الإصلاح العلمي هناك، وأُنشِئَت جمعية إحياء العلوم العربية، كان على رأسها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فرأى ما عليه كتب المتأخرين من الجدب والجمود، فرجع ببصره إلى آثار الأقدمين فوجد أن كتابَي عبد القاهر الجرجاني من أحسن ما أُخرِج للناس في موضوعهما، فبادر إلى تدريسهما في الجامع الأزهر، فانتظم في حلقته إذ ذاك جماعة كبيرة من نبهاء الطلاب، وانضم إليهم طائفة من أهل العلم والفضل؛ فكان لهذا العمل أثره الخالد، فقد تخرج بهذه الحلقة فئة ضربت في البلاغة بأيمن سهم وأوفر نصيب، تزينت بها صدور المحافل ورءوس المنابر وحلقات المدارس، ولها الفضل الأوفر في رفع منار الآداب، وتأييد دولة الأقلام في عصرنا هذا.