تعريف ببعض الأعلام الهامة الواردة في الكتاب
(١) الخليل بن أحمد
إذا افتخرت الأمم بالأفذاذ من رجالها الذين رفعوا مشعل العلم عاليًا فأناروا للعقول مناهجها وضاعفوا لذَّاتها ومباهجها، حُقَّ للعرب أن يكونوا المُجَلِّين في هذه الحلبة، ولهم من تاريخ المعارف الإنسانية شواهد خوالد تسطع أنوارها وتتجدد على الزمن آثارها. فتأريخ النتاج العقلي يفيض بما للعقل العربي من خصب في الإنتاج، وبراعة في الاختراع، ودقة في الإبداع، وسعة في التحقيق، وإنعام في التدقيق، مع صدق في القول وأمانة متناهية في النقل.
ومن بين أولئك الأفذاذ الذين أقاموا للعلم مناره ورفعوا لواءه في سماء الرافدين الخليل بن أحمد البصري.
(١-١) نسب الخليل
من أشهر قبائل اليمن قبيلة الأزد التي منها غسان والأوس والخزرج اللتان عُرِفَتَا بعد الإسلام بالأنصار، ومن بطون هذه القبيلة الفراهيد، وكان الكثير من أفخاذها يقطن عمان والبصرة. وقد أنجبت عددًا كبيرًا من المشاهير، كان في الطليعة منهم المترجَم وهو: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمر بن تميم البصري الفراهيدي اليحمدي، وبعضهم يقول: الفرهودي. قال الأصمعي: سألت الخليل بن أحمد ممن هو؟ فقال: من أزد عمان من فراهيد، قلت: وما فراهيد؟ قال: جرو الأسد بلغة عمان. ا.ﻫ.
(١-٢) مولده ونشأته
وُلِد الخليل في البصرة حوالي سنة ١٠٠ﻫ ونشأ بها وترعرع فيها وهي يومئذ مهد العربية ومطلع أقمارها وينبوع فياض بالمعارف ولا سيما الأدبية منها، فشب بين مربدها الذي أصبح عكاظ العرب بعد الإسلام وحلقات أدبائها الذين كانوا مصابيح الدجى ونجوم الهدى، فاقتطف من أزاهير المعارف ما شاء أن يقتطف، واجتنى من يانع ثمارها ما راق منظره وطاب مخبره، وبرز على أقرانه أيما تبريز، ومن أشهر مشايخه في الأدب أبو عمرو بن العلاء. ولما آنس من نفسه الكفاية رأى أن أخذ العربية عن الحضريين من العلماء والمترددين إلى الحواضر من الأعراب الذين لانت سلائقهم وضعفت طباعهم، لا يوصل إلى اليقين ولا يهدي إلى مهيع الصواب، وعلم أن التبحر في هذا الشأن لا يتيسر إلا بمشافهة الأعراب الخُلَّص الذين توقحت سلائقهم وصفت عربيتهم، ومعايشتهم في ديارهم. فشد الرحال وضرب في كبد الجزيرة، وطفق يفلي ناصية الفلاة ويتنقل في الأحياء التي حلَّت في سرة البادية ولم يكدر صفاء لغتها مخالطة حمراء الأمم وصفرائها، كقيس وتميم وأسد وغيرهم ممن خلصت عربيتهم، فكان يلتقط ما يعثر عليه من: درر كلامهم، وفرائد خطبهم، ونوادر أخبارهم، وعيون أشعارهم، وجليل آثارهم. فما عاد إلى وكره حتى وعى في حافظته أدبًا غضًّا وعلمًا جمًّا، كما أوقر راحلته رقاقًا وطروسًا ومهارق حشد فيها شوارد النثر وفرائد النظم. فكانت تلك المنقولات عدته في استخراج المسائل، وبناء القواعد، وتبويب اللغة، وتصحيح القياس، والإكثار من الشواهد، والتوسع في إبداء البراهين.
(١-٣) عقله
كان الخليل آية من الآيات في الذكاء، ودقة التصور، وتوقد الفطنة، وصدق الحدس، وسعة الحافظة، وقوة الذاكرة، ورجاحة العقل، حتى كانوا يقولون: «لا يجوز على الصراط أحد بعد الأنبياء أدق ذهنًا من الخليل»، ولا حاجة بنا إلى برهان أنصع من هذه المبتكرات التي أخرجها للناس كما سيمر بك بعد. وقد نقل أهل العلم عنه حكايات في هذا الشأن تتجاوز حد التصديق لولا ثقة رواتها وتكاثر نقلتها، من ذلك أنه جاءته رسالة عربية مكتوبة بالحرف السرياني فقرأها وهو لا يعرف شيئًا عن الحرف السرياني، ولكنه استعان بما عرف أنها تصدر عادةً بالبسملة والحمدلة ونحوهما.
إن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب أصول من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض، لا عن حكيم أخذه ولا على مثال تقدمه احتذاه. فلو كانت أيامه قديمة ورسومه بعيدة لشك فيه بعض الأمم لصنعته ما لم يصنعه أحد منذ خلق الله الدنيا من اختراعه العلم الذي قدمت ذكره، ومن تأسيس بناء كتاب العين الذي يحصر لغة أمة من الأمم قاطبة، ثم من إمداده سيبويه من علم النحو بما صنف منه كتابه الذي هو زينة لدولة الإسلام.
(١-٤) مبتكراته
- علم العروض: لو لم يكن للخليل من المبدعات إلا هذا العلم لكفاه مَنْقَبة، فإنه لعمري أبدع في تنسيق قواعده وضبط أبوابه، كما بهر الألباب باختراعه، فقد حصر أقسامه في خمس دوائر يُستخرَج منها خمسة عشر بحرًا على كيفية أدهشت الفطن وحيرت الأفئدة. ونحن نعلم أن كل مبتكر يعتريه في بادئ الأمر الاضطراب ويحف بالنواقص، فلا تستقيم قناته ويلبس الحلة التي تليق به إلا بعد أن تختلف العقول على صقله وتثقيف أوده حينًا من الدهر سنة الله في خلقه، ولكنَّا رأينا علم الخليل بلغ الرشد يوم ولادته، فلم يستدرك عليه من جاء بعده بابًا أهمله، أو قاعدة أخل بها، أو فصلًا ذهل عنه، أو اصطلاحًا غيره خير منه، إلا ما كان من أمر البحر الذي زاده تلميذه الأخفش وسماه «الخبب»، ولا يعسر رد هذا البحر إلى واحد من بحور الخليل.
- الشَّكْل: كان الخط في صدر الإسلام خلوًّا من الشكل والإعجام، فوضع أبو الأسود الدؤلي المتوفَّى سنة ٦٩ﻫ علامات للحركات الثلاث، فجعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، والكسرة تحته، والضمة بين يديه، وجعل التنوين نقطتين، كل ذلك بمداد يخالف مداد الحرف. فلما وضع نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر بأمر من الحجاج نقط الإعجام اضطرب الأمر واشتبه الإعجام بالشكل، فتصدى الخليل لإزالة هذا اللبس فوضع الشكل على الطريقة المعروفة اليوم، وبنى ذلك على مقاييس مضبوطة وعلل دقيقة، بأن جعل للفتحة ألفًا صغيرة مضطجعة فوق الحرف، وللكسرة رأس ياء صغيرة تحته، وللضمة واوًا صغيرة فوقه، فإذا كان الحرف المحرك منونًا كُرِّر الحرف الصغير فكُتِب مرتين فوق الحرف أو تحته، ذلك لأن الفتحة جزء من الألف، والكسرة جزء من الياء، والضمة جزء من الواو. ووضع للتشديد رأس شين بغير نقط « ّ»، ووضع للسكون دائرة صغيرة وهي الصفر من الأرقام العربية القديمة وذلك لأن الحرف الساكن خلو من الحركة. ووضع للهمزة رأس عين «ء» لقرب الهمزة من العين في المخرج هكذا قالوا، والذي أراه أن هذه الشكلة إنما هي الميم المتوسطة في لفظ «همزة»، لأنك إذا كتبت هذا اللفظ وحذفت الهاء من أوله والزاي والتاء من آخره ظهرت هذه الشكلة واضحة. ووضع لألف الوصل رأس صاد هكذا «ﺻ»، تُوضَع فوق ألف الوصل مهما كانت الحركة فيها، وللمد الواجب ميمًا صغيرة مع جزء من الدال هكذا « ٓ». فكان مجموع ما تم له وضعه ثماني علامات: الفتحة، والكسرة، والضمة، والسكون، والشدة، والهمزة، والصلة، والمدة، كلها حروف صغيرة أو أبعاض حروف بينها وبين ما دلت عليه أجلى مناسبة وأوضح صلة، بخلاف علامات أبي الأسود وأتباعه فإنها مجرد اصطلاح لم يُبْنَ على مناسبة بين الدال والمدلول. وألف الخليل في هذا الموضوع كتابًا نفيسًا، فلم يزد أحد على طريقته هذه شيئًا ولا أصلح منها رأيًا، فكأنه ابتدأها وبه خُتِمَت.
- الموسيقا: لم يكن الخليل يعرف لغة أجنبية، وليس فيه ميل إلى اللهو والقصف، ولكنَّا رأيناه ألف كتابًا في الموسيقا جمع فيه أصناف النغم وحصر أنواع اللحون، وحدد ذلك كله ولخصه، وذكر مبالغ أقسامه ونهايات أعداده، فصار الكتاب آية في بابه. ولما وضع إسحاق بن إبراهيم الموصلي كتابه في النغم واللحون عرضه على إبراهيم بن المهدي فقال له: أحسنت! … فقال إسحاق: بل أحسن الخليل لأنه جعل السبيل إلى الإحسان. فقال بعض أهل العلم: إن مهارة الخليل في علم الألحان هي التي أعانته على إبداع علم العروض.
(١-٥) كتاب سيبويه من وحي الخليل
الخليل أول من فتق معاني النحو، وضبط أصوله، وبسط فروعه، واستخرج علله وأسبابه، ووسع فصوله وأبوابه، وأوضح سبيله، وعبَّد مناهجه حتى بلغ أقصى غاياته، ولكنه ترفع عن التأليف فيه لأنه منهل كثر وراده، فأوحى إلى تلميذه وخريجه «سيبويه» من دقائق مسائله وبنات أفكاره وأبكار تصوراته ما جعله حريًّا بأن يُشَار إليه بالبنان، وجديرًا بوضع كتابه المشهور الذي أصبح للنحاة إمامًا يقتدون به ويهتدون بهديه، فمعظم ما في الكتاب مُغترَف من سلسال علم الخليل، ومقتبَس من مصباح ذكائه، وكلما قال سيبويه «سألته» أو «قال» من غير أن يذكر أحدًا فإنه يعني «الخليل».
(١-٦) كتاب العين أو «أبو المعاجم كلها»
علمنا أن الخليل قد طالت صحبته لخلص الأعراب وكثرت إقامته بين ظهرانيهم، ثم إنه كان يحج بين العام والعام وكان يقابل في طريقه إلى مكة فصحاء العرب وأقطاب بلغائهم، فاجتمع لديه كثير من مفردات اللغة وفرائد دررها، فعزم على جمع ذلك في كتاب لم يُسبَق إلى مثله، فرسم الخطة ورتب الأبواب على طريقة ابتدعها وأسلوب لم يُسبَق إليه، وكان قد افتتحه بحرف العين فسماه «كتاب العين» على عادة الكتاب في ذلك العصر فإنهم يسمون الكتاب بأول أبوابه ككتاب الجيم وكتاب الميم وكتاب الغين وكتاب الحماسة وغيرها. وهذا الكتاب أول كتاب أُلِّف في متن اللغة مرتبًا على الحروف، جمع فيه الخليل ١٢٣٠٥٤١٢ كلمة بعضها مستعمل وأكثرها مهمل. والذي حدا به لذكر المهمل استيفاء التقاسيم العقلية لكل كلمة، فمثلًا كلمة «كتب» يُحتمَل في الكاف الفتح والضم والكسر ويُحتمَل في التاء الحركات الثلاث والسكون، وثلاث في أربع اثنتا عشرة صورة فيذكر الاثنتي عشرة صورة ويقول: هذه الصورة مستعملة لمعنى كذا، وهذه الصورة لم تستعملها العرب، وقد جمع الخليل في كتابه هذا من غرر الشواهد، ونوادر الفوائد، وضروب الحصر، ورصين القواعد، وجليل المسائل ما يعز وجوده في معجم غيره. على أنه تضاربت آراء العلماء في نسبة هذا الكتاب إلى الخليل أو إلى بعض تلاميذه أو إلى الليث، وقد ألف ابن درستويه كتابًا خاصًّا في شرح هذا الخلاف، واستقصى الجلال السيوطي في المزهر جميع ما دار في هذا الموضوع من أقوال. ولكن نحن لا نرتاب في أن الخليل هو الذي رسم خطط هذا الكتاب، ورتب أبوابه ووضع حجر الزاوية بيده، أما أن غيره أكمله وزاد فيه فذاك أمر محتمل، ولكنه لا يدفع الخليل عن كونه المُجَلِّي في هذه الحلبة، وأنه أول واضع لمعاجم اللغة مرتبة على حروف المعجم، وأن من جاء من بعده إنما اقتبس من مصباحه واهتدى بمناره. ولم يزل جمهور الأدباء وأرباب البحث لهذا العهد يظنون أن هذا المعجم الجليل اغتالته أيدي الأيام فيما اغتالت من نفائس الأسفار وجليل الآثار، ولكن من يمن الطالع أن عثر على نسخ منه أحد أدباء الحاضرة الهاشمية، فسعى البحاثة المشهور صاحب «لغة العرب» بمقابلة تلك النسخ وتصحيحها باذلًا الجهد في تحري الصواب على عادته ثم شرع في طبعه، ولكن بعد أن أنجز منه بضع كراريس حالت الحال وعرضت دون ذلك أهوال، ولا ندري هل بقي لتلك النسخ من أثر بعد أن تفرقت كتب الرجل أيدي سبأ ومُزِّقت كل ممزق … جرى كل ذلك قبل نحو بضع وعشرين سنة.
وقد سلك الخليل في ترتيب حروف الهجاء مسلكًا لم يُسبَق إليه، ذلك أنه رتبها حسب المخارج مع تغيير طفيف فجاءت على هذا الوجه: ع ح ﻫ خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م و أ ي.
قال الخليل: «لم أبدأ بالهمزة لأنه يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة، ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء، فوجدت أنصع الحرفين فابتدأت بها ليكون أحسن في التأليف.» ا.ﻫ.
(١-٧) هل كان الخليل يقرض الشعر؟
قالوا: كان ينظم البيتين والثلاثة كما سيأتي، وروى الأثبات أنه سُئِل لماذا لا تقرض الشعر مع سعة علمك بالعربية وتبحرك في علومها؟ قال: «يأباني جيده وآبي رديئه»، وهذا الجواب على إيجازه غاية في البلاغة وآية في الحكمة وحصافة الرأي.
(١-٨) مؤلفاته
- (١)
كتاب العين، وقد مر بك بعض أوصافه.
- (٢)
فائت العين.
- (٣)
كتاب الإيقاع، وهو في الموسيقا العربية، ويظهر من مراجعة فهارس المؤلفات في هذا الباب أن الخليل يُعتبَر مُجلِّي الحلبة في هذا المضمار.
- (٤)
كتاب النغم، وهو في الموسيقا العربية.
- (٥)
كتاب الجمل.
- (٦)
كتاب الشواهد.
- (٧)
كتاب العروض.
- (٨) النقط والشكل، وقد أشرنا إليه آنفًا. وذكر الفاضل جورجي زيدان في كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية» ما نصه: «في المكاتب الكبرى في أوروبا مما يُنسَب إلى الخليل:
- (أ)
كتاب في معنى الحروف، في مكتبة ليدن ومكتبة برلين.
- (ب)
كتاب شرح حروف الخليل، في مكتبة برلين قطعة منه.
- (جـ)
كتاب جملة آلات العرب، في مكتبة أيا صوفيا في الآستانة.
- (د)
قطعة من كلام عن أصل العقل، في مكتبة أكسفورد بودليان …»
- (أ)
(١-٩) زهده وورعه
كان الخليل من أولئك الفلاسفة الذين نظروا إلى هذا العالم نظرة الازدراء، ولم تخدعهم بهرجته، ولا غرتهم زخارفه، أجل كان الخليل أحد زُهَّاد الدنيا المتبتلين إلى الله تبتيلًا، ومن أنصع البراهين على ذلك أن أمير الأهواز «سليمان بن علي» أرسل إليه يلتمس منه الشخوص ليقيم بحضرته ويؤدب أولاده، فأخرج الخليل للرسول خبزًا يابسًا وقال: كُلْ فما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان. فقال الرسول: فماذا أبلغه؟ فقال له:
وكان سفيان بن عيينة يقول: من أحب أن ينظر إلى رجل من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل. وقال تلميذه النضر بن شميل: أقام الخليل في خُصٍّ بالبصرة لا يقدر على فلسين وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال الطائلة.
ومن أوابد حكمه:
وبالجملة فقد كان الخليل أحد حسنات هذه الأمة وقمرًا من أقمارها ودرة في تاج مفاخرها.
(١-١٠) وفاته
اختلف المؤرخون في السنة التي انتقل فيها الخليل إلى جوار ربه، فذهب جمهورهم إلى أنه تُوفِّي سنة ١٧٠ﻫ، وقال آخرون: سنة ١٧٥ﻫ، وقال بعضهم: سنة ١٦٠ﻫ. وأغرب خطأ وقع في ذلك هو قول ابن الجوزي في كتابه «شذور العقود» إنه مات سنة ١٣٠ﻫ، وهو منقول عن الواقدي. قال المحقق ابن خلكان: إنه خطأ قطعًا والصواب ما أثبتناه أولًا.
وكانت وفاته في البصرة مسقط رأسه، فكانت البصرة مشرق هذا الكوكب الوقاد ومغربه، وقد ضمته تربتها إلى من ضمت من أعلام العلم، وأقمار الفضل، ونجوم الهدى، ورجال التقى الذين حلَّوا الآداب بأنفس الحِلَى، ونهضوا بالمعارف الإنسانية إلى مراتب العلا، فكانوا للعلم جمالًا، وللتاريخ أبهةً وجلالًا، رضي الله عنهم ورضوا عنه ولقَّاهم في دار رضوانه تحيةً وسلامًا!
(٢) ابن الأنباري
هو أبو بكر محمد بن القاسم، من أهل الأنبار، كان أبوه محمد الأنباري من أهل الأخبار والنحو فتلقى العلم عنه وعن ثعلب، وكان مضرب المثل بسرعة الخاطر وقوة الذاكرة، وكان يملي علمه من حفظه في ناحية من المسجد في بغداد. ويقول أبو علي القالي عنه إنه كان يحفظ ثلاثمائة ألف شاهد في القرآن الكريم، وقيل له: قد أكثر الناس في محفوظاتك، فكم تحفظ؟ فقال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقًا، وقيل إنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرًا للقرآن بأسانيدها. وكان لسعة علمه يطيل التأليف إذا كتب، قالوا إنه كتب كتابه «غريب الحديث» في ٤٥٠٠٠ ورقة وشرح الكافي في ١٠٠٠ ورقة.
وقد ألف في النحو واللغة والأدب والقرآن والحديث، وتُوفِّي سنة ٣٢٧ وقيل ٣٢٨ﻫ. وله كتب كثيرة، ومما وصلنا منها: كتاب الأضداد في النحو، وكتاب الزاهر في معاني كلمات الناس، وشرح المفضليات، وكتاب الإيضاح في الوقف والابتداء، وكتاب الهاءات في كتاب الله.
ويُعرَف بابن الأنباري أيضًا «أبو البركات» عبد الرحمن بن محمد الأنباري الملقب بكمال الدين النحوي، وكان من الأئمة المشار إليهم في علم النحو، سكن بغداد من صباه، وبقي بها إلى أن تُوفِّي سنة ٥٥٧ﻫ، قرأ النحو بالمدرسة النظامية، ثم صار مدرسًا بها، وصنف كتاب أسرار العربية في النحو، وكتاب الميزان فيه أيضًا، وكتاب طبقات الأدباء، وانقطع في آخر عمره للعبادة والعلم، وترك الدنيا وأهلها ومجالسها، وبقي حميد السيرة حتى تُوفِّي، وكانت ولادته عام ٥١٣ﻫ.
(٣) ابن جني
هو أبو الفتح عثمان بن جني، وُلِد في الموصل حوالي عام ٣٠٠ﻫ، كان أبوه مملوكًا روميًّا لسليمان بن فهد الأزدي، تنقل بين حلب وفارس، وعاش في بلاط سيف الدولة حينًا، وفي بلاط عضد الدولة حينًا. درس على أبي علي الفارسي البصري وصحبه نحوًا من أربعين عامًا وبقي معه حتى تُوفِّي. تعرف على أبي الطيب المتنبي، وعاش معه حينًا في بلاط سيف الدولة، وتوثقت الصلة بينهما، وقد شرح ديوان المتنبي شرحًا استفاد منه كل شراح الديوان بعده لأنه لعشرته للمتنبي عرف الظروف والمناسبات التي أحاطت شعره، وكان أبو الطيب المتنبي يجله ويقول: «هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس.» ولابن جني اطلاع واسع في العربية فمن كتبه: سر الصناعة، وأسرار البلاغة في الحركات وأحرف العربية، وله كتاب «الخصائص في علم أصول العربية». على أن ابن جني قد شُهِر بالنحو، واتخذ له منهجًا وسطًا بين مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة، وكان ماهرًا في التصريف، ماهرًا في التعليل والقياس، ويقول عنه الباخرزي في «دمية القصر»: «ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات وشرح المشكلات ما له، ولا سيما في علم الإعراب.»
وله شعر، على أنه شعر العلماء لا شعر الشعراء المطبوعين، من هذا قوله في أصله الرومي:
(٤) ابن خالويه
هو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه، همداني الأصل، دخل بغداد عام ٣١٤ﻫ، درس النحو والأدب على ابن دريد وابن الأنباري ونفطويه وأبي عمر الزاهد، ودرس الحديث على محمد بن مخلد العطار. وانتقل إلى الشام، ثم أقام بحلب واتخذها وطنًا له، وتقرب من آل حمدان. وقد شُهِر بالنحو، واتخذ له مذهبًا وسطًا بين مدرستي الكوفة والبصرة النحويتين، وكان ذائع الصيت في التدريس، وقد حظي عند سيف الدولة الحمداني حتى اتخذه مؤدِّبًا لأولاده. وكان يقرض الشعر، وله مناظرات مع أبي الطيب المتنبي؛ أنشد المتنبي قصيدته التي مطلعها:
وهي أول قصيدة أنشدها المتنبي لسيف الدولة، وكان ابن خالويه حاضرًا في مجلس سيف الدولة فقال للمتنبي: تقول أشجاه وهو شجاه؟ فقال له المتنبي: «اسكت، ليس هذا من علمك، إنما هو اسم لا فعل»، وللنحاة جدل طويل حول بيت أبي الطيب هذا، وابن خالويه ظن أن المتنبي يعني بأشجاه: من شجاه يشجوه شجوًا وأن الهاء في «أشجاه» مفعول به، وأبو الطيب عني به أفعل التفضيل ويكون الهاء مضافًا إليه.
وتُوفِّي ابن خالويه عام ٣٧٠ﻫ، ومن كتبه: كتاب ليس، ورسالة في إعراب ثلاثين سورة من الكتاب العزيز، وشرح مقصورة ابن دريد. ويُنسَب إليه كتاب الشجر وكتاب العشرات.
(٥) ابن دريد
هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، وُلِد في البصرة عام ٢٢٣ﻫ، ودرس على أبي حاتم السجستاني والرياشي والأشنانداني وغيرهم، وحدثت مذبحة الزَّنْج في البصرة ففر مع عمه الذي كان يقوم بتربيته إلى عمان وأقام فيها اثني عشر عامًا، ثم توجه إلى جهات فارس وأقام عند بني ميكال وهم يومئذ عملة فارس وكتب لهم كتابه «الجمهرة في علم اللغة»، وهو كتاب غريب اتبع في ترتيبه ترتيب الخليل في كتابه العين؛ بدأ بالثنائي ثم الثلاثي فالرباعي فملحق الرباعي فالخماسي والسداسي وملحقاتهما، وجمع الألفاظ النادرة في باب مفرد، ورتب كل طائفة من تلك الألفاظ على أبجدية الخليل، وطريقة التفتيش فيه غير مألوفة عندنا، فإنه يأتي في باب الثلاثي مثلًا في فصل العين بالأحرف الثلاثة التي أولها عين مثل «ع ل ن»، ويأتي بمعانيها على اختلاف وضع أحرفها فيقول: «علن الأمر يعلنه علنًا … واللعن: أصله الإبعاد … والنعل: معروف، ونعل الفرس: ما أصاب الأرض من حافره»، وقد سماه الجمهرة لأنه اختار فيه جمهور كلام العرب.
وكما كتب الجمهرة لآل ميكال كتب في مدحهم مقصورته المشهورة التي أكثر الناس معارضتها وشرحها، وهي قصيدة طويلة يبلغ عدد أبياتها ٢٢٩ بيتًا، وقد جمعت الكثير من أخبار العرب وحكمهم وأمثالهم.
وعُزِل آل ميكال عام ٣٠٨ﻫ وانتقلوا إلى خراسان، فارتحل ابن دريد إلى بغداد فأجرى الخليفة المقتدر عليه خمسين دينارًا في الشهر. وعُمِّر ابن دريد طويلًا، وأصابه فالج في التسعين من عمره، وتُوفِّي عام ٣٢١ﻫ، ودُفِن في المقبرة المعروفة بالعباسية في بغداد.
ويُعَدُّ ابن دريد أكبر علماء عصره في اللغة وأقدرهم على نقد الشعر ونظمه، وكان يقال له: «أعلم الشعراء وأشعر العلماء». وله من الكتب: كتاب السرج واللجام، وكتاب الخيل الكبير، وكتاب الخيل الصغير، وكتاب السلاح، وكتاب الأنواء، وكتاب الملاحن.
(٦) ابن السراج
هو أبو بكر محمد بن السري بن سهل النحوي، أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد، وكان المبرد يقربه فقرأ عليه كتاب سيبويه، وأخذ عنه جماعة من العلماء منهم أبو سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وغيرهما، ونقل عنه الجوهري في كتابه الصحاح في مواضع عديدة. درس الموسيقا ودرس النحو وعوَّل على مسائل الأخفش والكوفيين، وخالف أصول البصريين في مسائل كثيرة، ولم تطل أيامه ومات شابًّا سنة ٣١٦ﻫ. وله من الكتب: الأصول الكبير، وجمل الأصول، والموجز، وشرح سيبويه، والاشتقاق، والشعر والشعراء، والجمل، والخط والهجاء، والرياح والهوا والنار، ولابن السراج أبيات من الشعر، منها قوله:
ويقولون إن المكتفي أثاب عبيد الله بن طاهر على هذه الأبيات ظنًّا منه أنها له لا لابن السراج. والسراج: نسبة إلى عمل السروج.
(٧) ابن سيده
هو الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل، وقيل: ابن محمد المرسي الأندلسي، كان أبوه ضريرًا يعلِّم اللغة، وكان هو ضريرًا كأبيه، وقد أخذ العلم عنه وعن صاعد بن الحسن البغدادي. وكان أعلم أهل زمانه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب وما يتعلق بها. أقام في مرسية وتُوفِّي في دانية من أعمال الأندلس عام ٤٥٨ﻫ وله من العمر ستون سنة.
وهو آخر أصحاب المعاجم التي ظهرت في عصره وأعظمهم. له كتب كثيرة، منها: شرح الحماسة، وشرح كتاب الأخفش، وله كتاب «المحكم في اللغة» وهو كتاب كبير رتب ألفاظه على ترتيب كتاب العين ويمتاز بالضبط، وقد اختار شواهده من أوثق المصادر الشعرية وغيرها، وعليه عوَّل صاحب القاموس في تأليف كتابه، والكتاب مخطوط في المتحف البريطاني وفي دار الكتب المصرية.
وله «المخصَّص» وهو مطبوع متداول، ومواده مرتبة على معانيها لا على حروفها، وهو أوفى كتاب في بابه قد اجتمعت فيه الألفاظ المتشابهة والمتقاربة في معانيها أو المتفرعة بعضها عن بعض في باب واحد.
وله كتاب «شرح مشكل المتنبي» مخطوط بدار الكتب المصرية.
(٨) ابن قتيبة
هو أبو عبد الله محمد بن مسلم، وُلِد بالكوفة سنة ٢١٣ﻫ، وتثقف على أهلها، وسكن بغداد، ثم ولي القضاء في «دينور» فنُسب إليها، واشتغل بالتدريس في بغداد وتُوفِّي بها عام ٢٧٦ﻫ. كان راوية صادقًا فيما يرويه، وكان حر الرأي جريئًا في أحكامه، عالمًا باللغة والشرع، ويُعتبَر في النحو إمام مدرسة بغداد النحوية التي خلطت مذهب مدرسة البصرة بمذهب مدرسة الكوفة، واشترك في مناقشة عصره الكلامية، ومع أنه دافع عن القرآن والحديث ضد نزعة الشك الفلسفي وحمل على رجالها إلا أنه اتُّهِم مع ذلك بالزندقة، ويقولون إنه ألف كتابًا في الرد على المشبهة ليدرأ عن نفسه تهمة الانتساب إليهم. وأهم تصانيفه الأدبية كتابه أدب الكاتب، ومن مصنفاته غريب الحديث، وله: عيون الأخبار، وكتاب المعارف، وكتاب الإمامة والسياسة، وكتاب مشكل القرآن، والمشتبه من الحديث والقرآن، وتأويل مختلف الحديث.
ومما يُذكر عن ابن قتيبة أنه عاصر الجاحظ وكان يكرهه، وقد ذكر في كتابه «تأويل مختلف الحديث» بأن الجاحظ يذكر حجج النصارى في الرد على المسلمين بأقوى مما يذكر الرد عليهم، وأنه يستهزئ بالحديث كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوَّده المشركون وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا، وأنه كذاب يضع الحديث وينصر الباطل، وأنه ملأ كتبه بالمضاحيك والعبث يريد بذلك استمالة الأحداث وشُرَّاب النبيذ. وربما كان سبب الخصومة بينهما أن الجاحظ معتزلي متكلم وابن قتيبة من أهل السنة والنزاع بين الطائفتين شديد عنيف.
(٩) ابن النَّحَّاس
هو بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن محمد، وُلِد بحلب سنة ٦٢٧ﻫ، وهاجر إلى مصر عندما خربت حلب، بعد أن سمع من ابن المثنى والموفق بن يعيش وغيرهما، وجلس للإفادة في مصر، وتخرج به جماعة من الأئمة الفضلاء. كان ذكيًّا ذا خبرة بالمنطق، فيه ظُرْف النحاة وانبساطهم، وكان حسن الأخلاق له صورة كبيرة في صدور الناس حتى كان بعض القضاة إذا انفرد بشهادة حكَّمه فيها وثوقًا بدينه، وكان معروفًا بحل المشكلات والمعضلات. وقد درَّس بالمنصورية، وولي تدريس التفسير بالجامع الطولوني، ولم يصنف شيئًا إلا ما أملاه شرحًا لكتاب المقرب، وكان أبو حيان من تلاميذه. تُوفِّي سنة ٦٩٨ﻫ.
(١٠) أبو حيان
هو أثير الدين محمد بن يوسف الغرناطي، بربري الأصل، وُلِد في غرناطة عام ٦٥٤ﻫ، ودرس النحو والحديث فيها، وتنقَّل في شمال أفريقية ومصر، واتجه إلى الحجاز وأدى فريضة الحج، ثم عاد إلى القاهرة وأخذ يدرس الحديث في المدرسة المنصورية فيها.
كان ظاهري المذهب حتى لقد قال عنه ابن حجر إنه كان ظاهريًّا حتى في النحو. وربما كان قصده من قوله هذا أنه كان شديد التمسك بآراء النحويين الأوائل كسيبويه مثلًا.
وقد شُهِر أبو حيان هذا بالنحو، على أنه كانت له مصنفات في علوم القرآن والحديث، ويقولون إنه كتب كتابًا في تاريخ الأندلس يقع في ستين مجلدًا.
كان أبو حيان أعجوبة زمانه في كثرة التأليف، حتى قالوا إن مؤلفاته قد بلغت الخمسة والستين عددًا، على أن الذي وصلنا منها لا يزيد على العشرة. وكان أعجوبة زمانه في سرعة تعلم اللغات؛ فهو بربري الأصل كما مر أتقن العربية وبرز في نحوها، وأتقن الفارسية وصنف كتابًا في نحوها، وأتقن الكردية وصنف كتابًا في نحوها، وكتابه هذا كان ذا فائدة جليلة طُبِع بالقسطنطينية واسمه «الإدراك في لسان الأتراك»، وتعلم الحبشية وكتب رسالة لم يتمها فيها. وتُوفِّي بالقاهرة عام ٧٤٥ﻫ.
(١١) أبو الأسود الدؤلي
(١٢) أبو علي الفارسي
هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو علي الفارسي، واحد زمانه في علم العربية، أخذ عنه الزجاج وابن السراج، وقال غير واحد من تلامذته إنه أعلم من المبرد. طَوَّف في بلاد الشام، وكان متهَمًا بالاعتزال، ولجأ إلى الأمير البويهي عضد الدولة وصنف له كتاب الإيضاح في النحو، والتكملة في التصريف، ويقال إن عضد الدولة حين حمل إليه أبو علي كتاب التكملة قال: «غضب الشيخ وجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو.» وكان عضد الدولة هذا أديبًا شاعرًا، أورد له الثعالبي طائفة من القصائد، وقال ابن عباد في مدح بعض قصائده ما لا يقال في شعر شاعر. كان أبو علي مع عضد الدولة هذا فقال له: بمَ ينتصب المستثنى؟ فقال أبو علي: بتقدير «استثنى»، فقال له: لِمَ قدرت «استثنى» فنصبت، هَلَّا قدرت «امتنع زيد» فرفعت؟ فقال: هذا جواب ميداني، فإذا رجعت قلت الجواب الصحيح.
ولما خرج عضد الدولة لقتال ابن عمه قال لأبي علي: ما رأيك في صحبتنا؟ فقال: أنا من رجال الدعاء لا من رجال اللقاء، فخار الله للملك في عزيمته، وأنجح قصده في نهضته، وجعل العافية رداءه والظفر تجاهه، والملائكة أنصاره! فقال له عضد الدولة: بارك الله فيك! فإني واثق بطاعتك.
وكان يأخذ بالقياس ويعيره اهتمامه، حتى حكى عنه ابن جني تلميذه أنه كان يقول: أخطئ في مائة مسألة لغوية، ولا أخطئ في واحدة قياسية. ومن تصانيفه: الحجة، والتذكرة، وتعليقة على كتاب سيبويه، والمسائل الحلبية، والبغدادية، والقصرية، والبصرية، والشيرازية وغيرها.
ويقول السيوطي إنه لم يقل من الشعر إلا ثلاثة أبيات، هي:
(١٣) أبو علي القالي
هو أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان، وجده سليمان هذا مولى لعبد الملك بن مروان. وُلِد القالي بمنازجرد من ديار بكر ونشأ بها، ورحل إلى العراق لطلب العلم. والقالي نسبة إلى قالي قلا بلد من أعمال أرمينية، قال القالي عن نفسه: «لما انحدرنا إلى بغداد كنا في رفقة كان فيها أهل قالي قلا، وهي قرية من قرى منازجرد، وكانوا يُكْرَمون لمكانهم من الثغر، فلما دخلنا بغداد نُسِبت إليهم لكوني معهم وثبت ذلك عليَّ.»
ودخل القالي بغداد سنة ٣٠٣ﻫ. وسمع الحديث على جملة من العلماء، منهم: عبد الله بن محمد البغوي وأبو سعيد الحسن بن علي بن زكريا العدوي وأبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني، وقرأ النحو والعربية على ابن درستويه والزجاج والأخفش الصغير ونفطويه وابن دريد وابن السراج وابن الأنباري وغيرهم.
ونبغ أبو علي في علوم اللغة وذاعت شهرته، فاستدعاه عبد الرحمن الناصر خليفة الأندلس ووصل أبو علي إلى هناك فاستُقبِل استقبالًا عظيمًا، وكان ولي العهد «الحكم» ووزراء الخليفة من المستقبلين، وأكرم الناصر وفادة أبي علي وخصه بتعليم ابنه «الحكم»، وسمع علماء الأندلس بسعة اطلاع أبي علي وطول باعه في اللغة وفنونها، فأقبلوا عليه يستفيدون من محاضراته في اللغة والأدب، وكان يمليها من حفظه في أيام الأخمسة بقرطبة وفي المسجد الجامع بالزهراء المباركة. ويقول ياقوت في معجمه: «وممن روى عن القالي أبو بكر محمد بن الحسين الزبيدي النحوي صاحب كتاب مختصر العين، وأخبار النحويين، وكان حينئذٍ إمامًا في الأدب ولكن عرف فضل أبي علي فمال إليه واختص به واستفاد منه وأقر له.»
ويقول الضبي في كتابه بغية الملتمس: «كان أحفظ أهل زمانه للغة، وأرواهم للشعر، وأعلمهم بعلل النحو على مذهب البصريين وأكثرهم تدقيقًا في ذلك.»
وانقطع أبو علي بقية عمره بالأندلس، وأملاه كتبه التي منها: كتاب الأمالي، وكتاب الإبل، وكتاب حلي الإنسان، والخيل وشياتها، وكتاب مقاتل الفرسان، وكتاب تفسير السبع الطوال.
وتُوفِّي أبو علي بقرطبة سنة ٣٥٦ﻫ، ويروي بعضهم أنه كان مكتوبًا على قبة قبره:
(١٤) أبو القاسم «ابن القطاع»
هو أبو القاسم علي بن جعفر السعدي الصقلي المولد، المصري الدار والوفاة، كان أحد أئمة الأدب خصوصًا اللغة وله تصانيف مفيدة، منها: كتاب الأفعال، وكتاب أبنية الأسماء وفيه دلالة على كثرة اطلاعه، وله كتاب الدرة الخطيرة في المختار من شعر شعراء الجزيرة، وكتاب لمح المُلَح جمع فيه جماعة من شعراء الأندلس.
رحل من صقلية حين تملكها الإفرنج، ووصل إلى مصر فأكرمه أهلها، وله نظم لطيف منه:
كانت ولادته سنة ٤٣٣ﻫ، وتُوفِّي بمصر سنة ٥١٠ﻫ.
(١٥) أبو القاسم «الزمخشري»
هو أبو القاسم جار الله الزمخشري، كان إمامًا في التفسير والنحو واللغة والأدب، وُلِد بمدينة «زمخشر» قرية من قرى خوارزم عام ٤٦٧ﻫ، كان مقطوع الرجل، يعتمد على رجل من خشب، سألوه عن سبب هذا فقال: «رحلت إلى بخارى في طلب العلم، فسقطت عن الدابة في أثناء الطريق فانكسرت رجلي وأصابني من الألم ما أوجب قطعها»، ويروون أيضًا أنه أصابه برد الثلج في بعض أسفاره فسقطت رجله. كان الزمخشري معتزلي المذهب مجاهرًا باعتزاله، وقد فسر القرآن في تفسيره الكشاف تفسيرًا بلاغيًّا، ظهرت فيه طبيعة المعتزلة الذين تقوم بحوثهم على الترتيب المنطقي والعناية بالجمال الفني. وللزمخشري شعر لا تظهر فيه الحلاوة التي نراها في شعر الشعراء المطبوعين ولكنه شعر العلماء، من هذا ما قاله في كشافه بمدحه:
وله نثر ينحو به نحو الصنعة والسجع، منه قوله في كتابه «الأطواق»: «استمسك بحبل مواخيك ما استمسك بأواخيك، واصحبه ما صحب الحق وأذعن، وحل مع أهله وظعن، فإن تنكرت أنحاؤه، ورشح بالباطل إناؤه، فتعوض عن صحبته وإن عُوِضت الشِّسْع، وتصرف بحبله ولو أُعطِيت النِّسْع.»
تُوفِّي الزمخشري بقصبة خوارزم ليلة ٥٨٣ﻫ، وله مؤلفات كثيرة منها: تفسير الكشاف، والفائق في غريب الحديث، وشرح كتاب سيبويه، وكتاب الجبال والأمكنة، وأساس البلاغة، وكتاب النموذج في النحو، والمفصل في النحو، وله «أعجب العجب في شرح لامية العرب»، وله ديوان شعر، وله غير هذا كثير، وذكر ياقوت طائفة من كتبه في معجمه، انظر ٢٠–١٣٤ من معجم ياقوت.
(١٦) أبو منصور الثعالبي
هو أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري الثعالبي، لُقِّب بالثعالبي لأنه كان فرَّاءً بجلد الثعلب، وهو خاتمة مترسلي عصره، وأوسعهم مادة، وأكثرهم آثارًا، وهو الذي ترجمهم وذكر أخبارهم، وله نظم حسن ونثر حسن، وله من الكتب ما يبعث العجب كثرة، وقد وصلنا منها نحو من أربعين كتابًا، والكثير منها مطبوع متداول، ومن أشهر هذه الكتب «يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر» وهي تشمل أخبار شعراء المائة الرابعة للهجرة، وقد قَسَّم الكلام فيها إلى أبواب باعتبار البلاد: فأفرد بابًا لشعراء الشام، وبابًا لشعراء مصر والمغرب، وآخر لشعراء الموصل، وآخر لشعراء البصرة، وآخر لشعراء بغداد وهكذا، وربما كان هو أول من نحا هذا المنحى في ترتيب الشعراء … ويُؤخَذ عليه في كتابه هذا — وربما كان أشهر كتبه — أنه يكتفي بذكر بعض الأشعار للشاعر المترجَم له ويغفل ذكر سنة الولادة والوفاة. ومن كتبه فقه اللغة، وهو معجم معنوي جُمِعت فيه المعاني المتقاربة أو المترابطة في باب واحد مع بيان الفرق بينها أو تدرجها أو تفرعها … ومن كتبه: الكناية والتعريض في البلاغة، وسحر البلاغة، وغرر البلاغة وطرف البراعة، ومن غاب عنه المطرب، وثمار القلوب في المضاف والمنسوب وغيرها. وقد تُوفِّي سنة ٤٢٩ﻫ.
(١٧) أبو منصور الجواليقي
أبو منصور موهوب بن أبي طاهر، أحمد بن محمد الجواليقي البغدادي، والجواليقي نسبة شاذة إلى عمل الجوالق وبيعها، تُوفِّي في بغداد سنة ٥٣٩ﻫ وله من العمر سبعون سنة، كان إمامًا للخليفة المقتفي يصلي به الصلوات الخمس. كان إمامًا في فنون الأدب، وكان مفخرة بغداد في عصره، صنف التصانيف الكثيرة، منها: شرح أدب الكاتب، والمعرب ولم يُعمَل في بابه أكبر منه، وتتمة درة الغواص وغير ذلك. وهو في اللغة أقدر منه في النحو، ويقولون إنه كان يختار فيه مسائل غريبة، وقد ألف في علم العروض كتابًا لطيفًا، ثم أخذ بمعرفة علم النجوم حتى أتقنه، ويقولون إن الذي قاده إلى هذا أن شابًّا سأله بيتين من الشعر ذكر فيهما الشمس والجوزاء والقوس، فآلى على نفسه ألَّا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر، فنظر في ذلك وحصَّل معرفته. ويُنْسَب للجواليقي شيء من الشعر، وهو على قلته يرينا أنه شعر العلماء لا شعر الشعراء المطبوعين.
(١٨) الأصمعي
هو عبد الملك بن قريب، من قيس، والأصمعي كنيته نسبةً إلى «الأصمع»، وُلِد بالبصرة عام ١٢٢ﻫ وتُوفِّي عام ٢١٣ﻫ. انكب على التحصيل في البصرة، وأفاد من دروس الخليل وأبي عمرو عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء، وصار أتقن القوم وأعلمهم بالشعر وأحضرهم حفظًا، وتتلمذ له تلاميذ اشتُهِروا فيما بعد، منهم: أبو الفضل الرياشي وأبو هاشم السجستاني وأبو سعيد السكري وغيرهم. وكانت له ذاكرة عجيبة وعت فروع المعرفة في عصره، كان متضلعًا في لهجات العرب أهل الصحراء. قدم إلى بغداد في أيام الرشيد، وتزعم الحياة العقلية التي كان يحياها بلاط الخليفة، وترك بغداد إلى البصرة حاملًا معه ما حصَّله من أسباب الثروة في بغداد. وحين ولي المأمون الخلافة بعد أخيه الأمين كان الأصمعي في البصرة، فبعث إليه يستقدمه إلى بغداد فاعتذر بضعفه وشيخوخته، فصار المأمون يأمر بجمع المشكل من المسائل ثم يسيرها إليه فيجيب عليها. وقد شُهِر الأصمعي بكثرة حفظه حتى قالوا إنه كان يحفظ ١٢٠٠٠ أرجوزة، وحسبك على كثرة حفظه أن غالب مصنفي العرب يروون عنه، حتى إننا نستطيع أن نستخرج بعض كتبه مما رَوَوْه عنه. وهو لم يقتصر في مصنفاته على إيراد أبيات منفردة من الشعر أو قصائد منه بل روى دواوين كاملة، وإليه يرجع الفضل في جمع دواوين أكثر الشعراء الذين وصلتنا دواوينهم.
وللأصمعي مؤلفات كثيرة ذكر ابن النديم منها نيفًا وأربعين كتابًا، عرف منها: كتاب الفرس، وكتاب الأراجيز، وكتاب الميسر، وكتاب الغريب. وله من الكتب المطبوعة: الأصمعيات، ورجز العجاج، وكتاب أسماء الوحوش، وكتاب الإبل، وكتاب خلق الإنسان، وكتاب الخيل، وكتاب الشاء، وكتاب الدارات، وكتاب الفرق، وكتاب النبات والشجر، وكتاب النخل والكرم، وكتاب الغريب.
(١٩) خلف الأحمر
هو أبو محرز البصري المعروف بالأحمر، مولى أبي بردة بلال بن موسى الأشعري، أعتق بلال أبويه وكانا فرغانيين. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: خلف الأحمر معلم الأصمعي، ومعلم أهل البصرة. وقال الأخفش: لم أدرك أحدًا أعلم بالشعر من خلف الأحمر والأصمعي. وقال ابن سلام: أجمع أصحابنا أن الأحمر كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدق لسانًا، وكنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا ألا نسمعه من صاحبه. وقال شمر: خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه، وكان ضنينًا بأدبه. وقال أبو الطيب اللغوي: كان خلف يضع الشعر وينسبه إلى العرب فلا يُعْرَف، ثم نسك، وكان يختم القرآن كل ليلة، وبذل له بعض الملوك مالًا عظيمًا على أن يتكلم ببيت شعر فأبى. وله ديوان شعر حمله عنه أبو نؤاس وكتاب جبال العرب. تُوفِّي في حدود الثمانين ومائة. وكان بين خلف وبين أبي محمد اليزيدي مهاجاة أورد ياقوت طائفة منها.
(٢٠) عبد القاهر الجرجاني
قال الحافظ الذهبي في تأريخه «دول الإسلام»: «وفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة مات إمام النحاة أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني صاحب التصانيف.» وقال تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: «عبد القاهر بن عبد الرحمن الشيخ الكبير أبو بكر الجرجاني النحوي، المتكلم على مذهب الأشعري، الفقيه على مذهب الشافعي، أخذ النحو بجرجان عن أبي الحسين محمد بن الحسن الفارسي ابن أخت الشيخ أبي على الفارسي، ومن مصنفاته: كتاب المغني على شرح الإيضاح في نحو ثلاثين مجلدًا، وكتاب المقصد في شرح الإيضاح أيضًا، وكتاب العوامل المائة، والمفتاح، وشرح الفاتحة، والعمدة في التصريف.»
وهكذا ترى أن عبد القاهر كان عالمًا مبرزًا في غير فرع من فروع الثقافة العربية، فهو النحوي، المتكلم، المفسر، الفقيه. ومع أن ابن خلدون زعم أن السكاكي هو الذي هذب علم البلاغة ولم ما قاله عنه السلف، فإن العلوي صاحب «الطراز في علوم حقائق الإعجاز» قال: «وأول من أسس من هذا الفن قواعده، وأوضح براهينه، وأظهر فوائده، ورتب أفانينه الشيخ العالم النحرير عبد القاهر الجرجاني. وله من المصنفات فيه كتابان؛ أحدهما لقَّبه بدلائل الإعجاز، والآخر لقَّبه بأسرار البلاغة.»
(٢١) قدامة بن جعفر
هو أبو الفرج قدامة بن جعفر، نشأ في بغداد، وعلا شأنه في أيام المكتفي بالله الخليفة العباسي، فقد أسلم على يديه وكان قبل ذلك نصرانيًّا، برع في صناعتي البلاغة والحساب، وقرأ صدرًا صالحًا من المنطق، وهو لائح على ديباجة تصانيفه، وإن كان المنطق في ذلك العصر لم يتحرر تحريره الآن. واشْتُهِر في زمانه بالبلاغة ونقد الشعر وصنف في ذلك كتبًا، منها كتاب نقد الشعر له وقد تعرض ابن بشر الآمدي إلى الرد عليه، وله كتاب في الخراج رتبه مراتب وأتى فيه بكل ما يحتاج الكاتب إليه. وله من الكتب غير هذين الكتابين كتاب درياق الفكر، وكتاب السياسة، وكتاب الرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام، وكتاب صناعة الجدل، وكتاب الرسالة في أبي علي بن مقلة، وكتاب نزهة القلوب، وزاد المسافر، وله غير هذا. وكانت وفاته ببغداد أيام المطيع سنة ٣٣٧ﻫ.