نُشوء العَقِيدة الدِّينيَّة
(١) حيرة الإنسان البِدَائيِّ
جاوز الإنسان البدائي أُولى مراحل تطوره، وسار فيه شوطًا آخر نمَت خلاله مقدرته على التفكير والتعبير، فجعل يرقب ما بين يديه من ظواهر الطبيعة. وقد انتشر عليه رأيه من جرَّاء ما يعتور هذه الظواهر من تغيُّرات راتبة دورية أو عنيفة فجائية، فجعل يُسائل نفسه عن مولد اليوم ومماته: كيف ينتشر ضوء الفجر بعد السَّحَر اللُّجَيْني ثم يمتدُّ الصبح حتى يصير نهارًا بيِّنًا ويرتفع الضحى وتحمُّ الظهيرة، ثم يأخذ صهدان الشمس يفترُ رويدًا رويدًا حتى المغيب فيَبِين الشفق العسجدي؟ وهذا القمر يتَّسق بدرًا ثم لا ينفكُّ يتضاءل أمام ناظرَيه حتى يستخفي مُحَاقًا؟ وهذه النجوم الزاهرة المنتثرة، والشُّهب المندثرة، والكسوف والخسوف؟ وهذه الفصول الأربعة تتخالف ألوانها وتتميز خصائصها؟ وهذه السُّحب المدفوعة وما تسحُّه من أمطار؟ وقوس قزح، تلك التي تتراءى في اليوم المطير؟ وهذا السيل الجارف والجدول المُنساب يترقرق ماؤه زُلَالًا، والبِركة الساجِيَة لا يغشى الموج صفحتها، فهي تعكس طلعة الناظر الدَّهِش، وهذا البحر لا يدرك الطَّرْف مداه، والمد والجزر؟
وهذه الأزهار ذات الأرَج المُنعش، والغابات الكثيفة تصوِّت فيها فيرتدُّ إليك رجْع الصَّدى؟ والريح العَصُوف تقتلع الأشجار وتُقلقِل الأحجار، وجلمود الصخر يحطُّه السيل من علٍ؟ والبُرُوق الملعلِعة والرعود المدوِّية يُصِمُّ هزيُمها الأسماع؟ وهذه الجبال المُكلَّلة قُلَلُها بالجليد الناصع تندلع من فوهاتها ألسنة النيران؟ كلُّ شيء من ذلك يبدو له وكأنما تضطرب فيه قوًى وتأثيراتٌ هي وإن لم تدركها الحواس حقائق ماثلة.
وبعد هذا كلِّه أعجوبة الولادة وغموض سرِّ الموت؟ ورؤى المنام؟ يرى البدائي إذا غشيه النُّعاس أنه يَجُول ويصول في غابته المحبوبة ويصرع حيوانًا مكتنزًا فيمتلئ شِبَعًا وَرِيًّا من لحمه الشهي، ثم يهبُّ من نومه فإذا هو لم يزل، حيث رقد، يتضوَّر من أُوَارِ العطش وسُعَار الجوع.
كانت تلك كلها أمورًا غامضة تَخْفى عليه؛ فقد استترت عنه طبائع الأشياء، واستبهمت لديه الأسباب والنتائج، ولم يتوافر له من العلم ما يصل به بين العلة والمعلول في عالم المنظور.
كانت الرهبة تستبدُّ بالإنسان البدائي ويملك عليه الوجل لُبَّه فيُخيَّل إليه أن لكلِّ شيء مما يكتنفه ذكاءً، وأن هذه الظواهر الطبيعية إنما تُحدِثها كائنات موفورة الفِطنة واسعة المقدرة، تبغي بصنيعها إنجاز أغراضٍ خاصة لا نَعلمها. إن الطفل يحسب دُمْيته ذاتَ حياةٍ حين تتحرك آليًّا، فهو يتحدث إليها. وقد كان الإنسان البدائي في طفولة البشرية يفكِّر على هذا النحو؛ ومن ثَمَّ خلع مخُّه البدائيُّ على قوى الطبيعة المحيطة به مثل ما للبشر من ذكاء وإرادة، وجعل يتوهَّم أحيانًا أن لها هيئةً كهيئة البشر، كما حباها بالروح، ولكأنما هي من البشر. وقد هيمنت هذه العقيدة على حياته، وما زال أثرها في عقولنا باقيًا لم يزل؛ فلقد يتعثر المرء منا في كرسيٍّ فإذا هو قد ركله. وبيننا مَن يعرِض للأحداث السعيدة التي تتمخض عنها نواميس الطبيعة فيذكرها على أنَّها عناية ربَّانية ومرحمة إلهية.
(٢) الروح
فسَّر الإنسان البدائيُّ بعض ما يَخفى عليه أمره من هذه الظاهرات بأن له روحًا؛ أي جسمًا لطيفًا حالًّا بجسده، ولكنه مستقلٌّ عنه قابِلٌ لأن يُزايله في أية لحظة ويمارس نشاطه في أماكن أخرى. وهذه النظرة «الروحانية» هي أساس الدين.
وقد فطِن إلى أن الموتى لا يتنفسون فتوهَّم أن «النَّفَس» (بفتح الفاء) هو «النفْس» (بتسكين الفاء)؛ أي الروح، ثم خُيِّل إليه أن مَن يَنَمْ نومًا عميقًا ينقطع تنفُّسه كذلك فتوهَّم أن روحه تفارقه بعض الوقت ثم تئوب إليه؟ فهو قمينٌ بألَّا يوقظه فجأة لئلا تلقى الروح عنتًا في العودة إليه، ثم قال في نفسه: لئن كانت الروح ترتدُّ إلى النائم إنها لحَرِيَّة أن ترتدَّ إلى الميت. وهكذا لاحت في ذهنه فكرة البعث، وجعل — تبعًا لذلك — يُعنى بدفن موتاه وإيداع قبورهم ما قد يحتاجون إليه من أغذية وأكسية وآنية، واشتطَّ بعض ذوي الثراء في ذلك فجعلوا يقتلون نساء مَن مات من أقربائهم وجياده وكلابه ويدفنونها معه لعلَّه يفتقدها عند قيامته من الموت.
«فسمع الرب لصوت إيليا فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش» (١ ملوك ١٧: ٢٢).
وهو شبيه بما حدث للرجل الطيني:
وبما حدث في الطوفان: «كلُّ ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات» (تكوين ٧: ٢٢).
«ودخل أليشع البيت وإذا بالصبي ميتٌ ومضطجع على سريره. فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما وصلى إلى الرب. ثم صعد واضطجع فوق الصبي ووضع فمه على فمه وعينيه على عينيه ويديه على يديه وتمدد عليه فسخن جسم الولد. ثم عاد وتمشَّى في البيت تارةً إلى هنا وتارةً إلى هناك، وصعد وتمدد عليه فعطس الصبي سبع مرات، ثم فتح الصبي عينيه» (٢ ملوك ٤: ٣٢–٣٥).
- (١)
أنَّ له جسدًا وروحًا.
- (٢)
أنَّ لكل شيء مما حوله روحًا كروحه.
- (٣)
أنَّ من هذه الأرواح ما يبغيه الخير ومنها ما يتربص به الشر.
وكان يعتقد أن الروح بعد مباينتها للجسد تحوم حوله زمنًا ما؛ ولذلك كان أهل الميت يتنكَّرون بلبس ثياب الحداد، وبتغيير معالم الأثاث في البيت، وبتعفير وجوههم وحلق شعورهم وتجليل رءوسهم بالرماد؛ ليَنْبَهِم الأمر على روح الميت المتحررة من جثمانه، ثم «يصوتون» صوات المكروبين ليُذعِروا الروح ويَرُوعوها فترحل، وما فتئ المحافظون (على التقاليد القديمة) من اليهود إلى اليوم يغيِّرون اسم مريضهم إذا تبلَّغت به العلة؛ ليبعثوا الحيرة والارتباك في الروح الشريرة التي أورثته الوصب.
وهذه العادات والتقاليد التي كان يمارسها العبريون القدماء ما زالت حتى اليوم باقية لم يُعَفِّ عليها الزمن؛ غير أن معانيها لم تعُد واضحةً في الأذهان؛ فالناس يمارسونها خالفًا عن سالف دون تفكير وتمحيص.
(٣) الطوطم والتابو
- (١) أنَّ الروح بعد بينونتها عن صاحبها تبدو في زيِّه (هيئته)؛ وبذلك وُجدت الثنائية dualism من الجسد والروح.
- (٢)
وأنَّها قد تنقلب صورتُها إلى صورة حيوان ما؛ ومن هنا نشأت أساطير المخلوقات التي كانت أناسيَّ ثم مُسخت حيوانات.
- (٣)
أنَّ اللحم يحتوي مادة الروح التي ينطوي عليها الحيوان، فراح يتوهم أن المرء يكتسب خصائص الحيوانات التي يغتذي بلحومها، وكان ذلك من أسباب تحريم لحم الخنزير عند اليهود.
وكان كل امرئ يؤثِر برعايته حيوانًا ما ويَعدُّه حارسًا له ويحسُّ بصِلةٍ وثيقة تربط بينهما حتى ليستحرم قتله ويرى أكل لحمه ضربًا من أكل لحم البشر. ومن هذا المعتقد تولدت الطوطمية وهي ضربٌ من عبادة الإنسان البدائي لحيوان (أو نبات) يحسب أن بينهما آصرة رحمٍ وقُربى.
وقد كان الحمَل طوطمًا لإحدى القبائل الكنعانية، وكان عيد الفصح عند الكنعانيين عيدًا يقرِّبون فيه حمَلًا لإلهٍ من الآلهة المَحلِّيين، ثم أصبح هذا الطوطم بعد ذلك «حمَل بسكال» في الدين المسيحي.
(٤) التَّمائم والأوثان
كان البدائيون إذا طاف بأحدهم طائفٌ من مرض أو حلَّ به الموت عزَوْا ذلك إلى الأرواح الماثلة في كل ما يكتنفهم؛ ولهذا كانت تلك الأرواح حَرِيَّة بأن تُسترضى.
وازدادت الآراء الدينية على الزمن تعقدًا واعتياصًا، وغدت الأرواح عسيرة المأتى، فبدت الحاجة إلى انقطاع فئة من الناس لمباشرة هذه الأمور والتعمق في اكتناه أسرارها. وبدأ التخصص فلم يبقَ كلُّ امرئ كاهنَ نفسه بل أخذ آباء الأُسَر الكبيرة ورؤساء العشائر الصغيرة على عواتقهم تصريف أمور الشعائر والاحتفالات الدينية، وغدَوْا بذلك ملوكًا وكهنة معًا، وما فتئت الأفكار الدينية تزداد زخرفًا حتى غدا الكاهن الملك هو المثوى الذي تحلُّ به روح القبيلة؛ ولهذا كان قمينًا أن يعبد إلهًا؛ وهكذا — في أغلب الظَّنِّ — نشأ الحق الإلهي للملوك. وكان من أثر هذه العقيدة في بعض الشعوب أنْ دَرَجوا على قتل الملك إذا ما علَتْ به السن ووهن منه العظم ليُفسحوا للإله أن يثوي في جسدِ شابٍّ، موفور الفتوَّة، جمِّ النشاط، حديد العزم، عظيم الهمة. وكان الملك في بعض الأحيان يفتدي نفسه بابنه فيقتلون ابن الملك ويقولون: إنَّهم قتلوا ابن الإله.
كان البدائي يتوسل إلى دفع الأرواح الشريرة بتلاوة الأدعية، وإقامة الصلوات، وحمل الخرز، وعد حبات السبح، وإناطة التمائم، وهي شيء تثوي فيه روحٌ صدِيقة ذات بأسٍ ونشاط، فإذا ما حمل المرء التميمة «حجبت» عنه أذى الأرواح الشريرة، وما «الحجاب» الذي ينوطه المرء عليه في وقتنا هذا إلا صورة متأخرة من التميمة. ولا تزال كثيرات من نساء أوروبا يلبسن المُدَلَّيات والتمائم لاستدرار المعونة مما وراء الطبيعة ولاتِّقاء ما عسى أن يكون مخبوءًا لهن في عالم الغيب. ولا يزال كثير من رجال الشرق يحملون السِّبَح لأسباب هي في بعض الأحيان قريبة من ذلك.
وقد أضفَتْ صناعة التمائم قدسية على الذين انفردوا بصنعها وهم الكهنة. واستغل الكهنة الدين لأغراضهم الخاصة، وعملوا على استدامة الخرافات بين شعوبهم لتظل قابعةً في غيابة الجهل فيسهل عليهم خداعها وإخضاعها وابتزاز أموالها. وقد أيقظت الخرافات في الناس المطامع الحمقاء وأثارت فيهم النزعات الهوجاء وسيَّرت موكب البشرية أحقابًا مديدة مسخَّرًا في أشغالٍ شاقة لا خير فيها ولا جدوى منها. ولو أن أولئك الناس بذلوا في سبيل البشر ما بذلوه في سبيل آلهتهم تلك لكُنَّا الآن نتفيأ ظلال حضارةٍ خيرٍ من حضارتنا وأرقى.
لقد رتع الآلهة في لحوم البشر رِدحًا من الدهر. فلما ارتفعت الحضارة وغدا الناس يُبدون امتعاضهم من التضحية بأفلاذ أكبادهم انصرف الآلهة عن لحم الإنسان إلى لحم الحيوان؛ ونرى صورةً لذلك في قصة إبراهيم حين يُمسك عن ذبح ابنه إسحاق ويفتديه بكبش.
(٥) الآلهة
وما عَتَّمَ الناسُ أن آثروا الاقتصادَ في الوقت واليُسرَ في العبادة؛ فانتهجوا طريقة الأعمال الكبيرة، وذهبوا إلى أن هناك إلهًا أعظم يُهيمن على الآلهة الصغار. كان كهنة سوريا يعترفون بالإله الأعظم «ألو» (المشابه لألوهيم اليهود) في الوقت الذي كانوا يعبدون فيه الإله «بعل»، وكانوا في بابل في عصر بختنصَّر ومن قبله ينادون بأن «مُردك» (بضم الدال) هو الإله الخالق دون أن يمحو ذلك عبادة سائر الآلهة، فالاعتراف بالإله الخالق ليس هو الإقرار بالوحدانية.
وأخْلَت أديان الآلهة المتعددة والأصنام الكثيرة الطريقَ آخِر الأمر للإيمان بإلهٍ واحد لا يُجشِّم الخَلْقَ عناء الحجِّ إليه في موطنٍ بعينه، بل يجدونه أينما ولَّوا وجوههم؛ لأنه حالٌّ بكلِّ مكان. وزعم كل شعبٍ أن إلههم هذا هو الذي أنزل عليهم شريعتهم؛ فالإله «شمش» إله الشمس هو واضع قانون حمورابي ملك بابل، و«أهورا-مزدا» هو الذي حبا زرادشت بالناموس في فارس حين راح هذا يصلي فوق جبل شاهق، و«زيوس» هو الذي أعطى الملك منيوس فوق جبل دِكتا (بكسر الدال) الشريعة التي حكمت بمقتضاها جزيرة كريت … وهلُمَّ جرًّا.
(٦) السِّحر عند الوثنيين
وقد كان البدائيون على غير بصرٍ بما نعرفه اليوم من بواعث المرض؛ فالأمراض كلها ترجع عندهم إلى ما وراء الطبيعة ولا دواء لها غير السحر. لقد كانوا لا يعرفون حدًّا تقف عنده قوى الروح في إيلاء الشر وإيتاء الخير؛ ولذا عملوا على تألُّفها بالابتهال إليها؛ ومن هنا نشأت صلاة الوثنيين وسائر شعائرهم واحتفالاتهم الدينية وفشت عبادة الأرواح وإزلاف القرابين لها والتفنن في إقناع الأرواح الخيرة بمديد المعونة إليهم، وذلك أصل السحر؛ وهو فن الاستعانة بقوًى وطاقات من وراء الطبيعة غير منظورة؛ وذلك لبلوغ أغراض مخصوصة يتعاصى بلوغها بالوسائل الطبيعية المألوفة والأساليب المنطقية المعروفة، ويتم ذلك بإتيان حركات معلومة وترديد كلمات مرسومة.
- (١) السحر بأشباه الأشياء homoeopathic magic يُنتج الشيء ما يشبهه، وتأتي النتائج من جنس المقدمات، فإذا عرف الساحر المحنَّك بخبرته أن المطر وشيكُ الانهمارِ شرَع يستسقي للقوم؛ وذلك بأن يسكب بعض الماء على الثرى ويقعقع٢١ قارورةً فيها حصى؛ فيُحدِث ذلك صوتًا يحاكي ما يصحب المطر من هزيم.ولقد كانوا في إنجلترا إلى عهدٍ قريب يعالجون الرمد بنبات الفراسيون eyebright لأن زهرته تشبه العين، وكانوا في ألمانيا يعالجون اليرقان بأشياء صفراء فاقعٌ لونُها كالذهب والزعفران.
- (٢) السحر بما بين الأشياء التي ينفصل أحدها عن الآخر من صلة غير مقطوعة contact magic.
إن الأشياء التي كانت مرةً موصولًا بعضها ببعض تحتفظ بقوة تفاعلٍ بينهما حتى بعد أن تنفصم تلك الصلة؛ ولهذا يُتَّخَذ «أثر» الشخص وسيلةً للكيد له والنَّيل منه.
(٧) السحر عند العبريين
سار العبريون فيما يتصل بأوهامهم ووساوسهم الدينية على النهج الذي سارت عليه سائر العشائر البدائية؛ فبدءوا بتعاطي السحر. وقد رووا وقائع كثيرة أنجز فيها السحر ما أريدَ منه، وخلَّفوا «وصفات» شتَّى لكيفية قتل امرئٍ أو إيذائه بالسحر ولطريقة اجتذاب المحبوبة إلى من يهواها وحملِها على أن تطارحه الهيام.
والكتاب المقدَّس حافل بالشواهد على إيمان اليهود بالسحر.
«فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية، فكان متى لدغت حية إنسانًا ونظر إلى حية النحاس يحيا» (عدد ٢١: ٩).
وقد سحق هذه الحية بعد ٨ قرون حزقيا بن آحاز ملك يهوذا بين ما حطمه من أصنام وأنصاب:
«هو أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية الناس التي عملها موسى لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها ودعوها نحشتان» (٢ ملوك ١٨: ٤).
هذا وقد فصلت الأسطر الأولى من سِفر التكوين كيف سلك الله في خلق الكون نهجًا يذكِّرنا بصنع السحرة:
«وقال الله: ليكن نور فكان نور» (تكوين ١: ٣).
ويغنينا عن المزيد من الاستشهاد أن يهوه نفسه قال صريحًا: «لا تدع ساحرة تعيش» (خروج ٢٢: ١٨).
وهي الآية الكريمة التي أزهقت بمقتضاها حياة الألوف من البشر متهمين بجرائم لم يكن في طوقهم أن يقارفوها.
والساحرة في صورتها المحدَثة امرأة وثيقة الصلة بالشيطان لها مقدرة على إتيان الخوارق تحلِّق بين آنٍ وآخر في الهواء فيما بين الجمعة والسبت من ليالي الأسبوع ممتطيةً مكنسةً ذات عصا، فتؤم ندوات مختلفة تتنادى فيها الساحرات فوق قُنَن الجبال الشاهقة لتجديد البيعة للشيطان وإظهار الولاء له، وتخرج الساحرة إلى رحلتها هذه لا جهرةً من باب البيت بل خُفيةً من ثقب المفتاح أو من مدخنة المدفأة، ويرقد في فراشها في أثناء غيبتها شيطان من الشياطين الصغيرة الشأن متخذًا زيَّها، ويحضر الندوة شيخ الشياطين في هيئة جديٍ ذي رأسين، فيمضين إليه يلثمنه، ويرقص لفيف منهن عاريات بين يديه، ثم يُقبِلن جميعًا على الطعام والشراب على حين يجوس هو خلالهن متفحصًا باحثًا عن العلامة التي كان قد وسمهن بها.
«لا تزرع حقلك صنفين لئلا يتقدس الملء الزرع الذي تزرع ومحصول الحقل. لا تحرث على ثور وحمار معًا … لا تلبس ثوبًا مختلطًا صوفًا وكتانًا معًا» (تثنية ٢٢: ٩–١١).
ولهذا جرَت جمهرة القراء على أن تُغضي عنها وتُجاوزها إلى ما يليها.
انظر — مثلًا — إلى ما يتصل بالإحصاء الذي أجراه داود:
-
(١)
فلمَ احتاج الإحصاء إلى «إهاجة» داود؟
-
(٢)
ولماذا استحمق داود نفسه بعدما عد الشعب؟ ولماذا عرض له أنه أغضب الرب (أي الكهنة)؟
-
(٣)
ولماذا استبدَّ به الفزع حتى لدم٣٧ صدره؟
-
(٤)
وما هو هذا الإثم الذي سأل الرب أن يزيله، والذي وجب أن تكون تحلَّته ٧٠٠٠٠ رجل؟
أَلَا إنها لأمورٌ يعجز العقل المنطقي المتحضر عن استِكْنَاه أسبابها ويُعييه الاهتداء إلى سرِّها؛ لأن مفتاحها إنما هو فيما يزعمونه من التفاعلات السحرية العاطفية كما سنرى من بعدُ.
(٨) التابو وليد الإيمان بالسحر
- (١) فالابن يرث من أبيه آثامه كما يرث منه قسمات وجهه؛ ومن ثَمَّ كان الابن يؤخذ بجريرة أبيه.٤٨
- (٢) ومن الميسور أن تُنقل الآثام كما تُنقل الأثقال من كاهل إلى كاهل؛ ومن هنا نشأ منسك نقل الذنوب من بني الإنسان إلى تيسٍ يطلقه الكاهن في القفر.٤٩
«ويضع هارون يديه على رأس التيس الحي ويقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم ويجعلها على رأس التيس ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرِّية؛ ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرضٍ مقفرة فيطلق التيس في البرية» (لاويون ١٦: ٢١-٢٢).
- (٣) قد يولد الطفل وبجسده علامة شبيهة بشيء وقع عليه بصرُ الأم في أثناء حملها به، وفي استطاعة الحامل أن تُكسِب الجنين الذي في أحشائها شبه شيءٍ ما وذلك بأن ترنو٥٠ إليه طويلًا.
- (٤) إذا أُغليَ اللبن أُصيبت البقرة التي أدرَّته بجفاف ضرعها، فثمَّ صلة بين أنثى الحيوان ولبنها تظل قائمةً بعد أن تُدرَّه.٥٩
ولهذا نجد أخرى الوصايا الموسوية العشر (في صيغتها القديمة) تنهى عن الجمع بين اللحم واللبن على مائدة واحدة:
«لا تطبخ جديًا بلبن أمه» (خروج ٣٤: ٣٦).
ويحافظ المسيحيون المتزمِّتون على هذه الوصية اللهمة فيطهون اللحم بالزيت لا بالزبد.
- (٥)
ومن الميسور إنجاز عمل مرغوب فيه بصنع ما يحاكيه؛ فيسدد المرء خنجرًا أو شظبة حادة من العظم نحو العدوِّ مع صبِّ اللعنة عليه في أثناء ذلك، ويطلق ألوانًا من الطيب نحو الحبيب الذي تهفو إليه النفس وتودُّ اجتذابه، مع مناغاته خلال ذلك بألفاظ التحبب والتدليل، ويؤدي بفمه حركات امتصاص لاستخراج السموم من أجسام الأصدقاء ولإبرائهم من الأمراض.
- (٦)
ويواري المرء منهم قلامة ظفره وقصاصة شعره وما إلى ذلك مكانًا خفيًّا؛ حتى لا تُحرق أو تُسحق أو تُمزق فيلحقه ما لحق ذلك «الأثر».
- (٧) وينطوي تمثال المرء على شطرٍ من روحه؛ فمَن لقيَ بين يديه تمثالًا تسنَّى له التوسل به إلى إيذاء النموذج الذي نحت التمثال على قوامه أو صيغ على غِرَاره،٦٠ ومن ثَمَّ جاءت الوصية الثانية تنهى عن صنع التماثيل، ولم تكتفِ بنصٍّ واحد جليٍّ قاطع، بل كررت النهي في ألفاظٍ منتقاة، وفصلت القول في بيانٍ جامعٍ مانع:
«لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض» … (خروج ٢٠: ٤).
وكان العبرانيون في وقتٍ ما يتحامَون التلفظ بكلمة «تمثال»؛ إذ غدَت التماثيل عند أولئك الجهلة الموسوسين٦١ «تابو»؛ وذلك من خشيتهم أن تنشأ صلة عاطفية بين التماثيل والأشياء التي هي صورة لها.٦٢وكان كليمنس الإسكندري يرى في تطلُّع المرأة إلى خيالها في المرآة انتهاكًا للوصية الثانية؛ إذ إنها بعملها هذا تصنع لنفسها تمثالًا.
ويَهِمُ بعض الناس أن من يحم مرآة يتبدد جدُّه وسعده كما يتبدد شبهه مع كسارها المتناثر؛ وإلى هذا الاعتقاد ترجع عادة حجب المرايا أو إدارتها إلى الخلف عندما يموت أحد سكان البيت حتى لا يختطف شبح الميت، وهو يجوس خلال الدار أو حواليها، الروح التي تبرز من أحد أهل البيت في المرآة.
- (٨) وكذلك يكون اسم الشخص جزءًا من روحه، والمرء لا يُحرز روحه قبل أن يحرز اسمه٦٣ فعلى المرء أن يُخفي اسمه مخشاة أن يصاب عن طريقه بما يُلقي به إلى التهلكة وأن يحمله الاسم المعلن على المعاطب وينغص عليه عيشه.٦٤ وفي ميسور المرء إذا عثر به الجد أن يغيِّر حظه بتغيير اسمه. ويمسك اليهودي عن إطلاق أسماء من ماتوا من أطفاله على من يولَدون له من بعدُ؛ إذ إن عزرائيل متى جهِل اسم طفل تعذَّر عليه أن يقبض روحه. وما فتئ بعض اليهود إلى اليوم يطلقون على مرضاهم أسماء جديدة حتى يخطئهم ملك الموت، وتراهم إذا ذُكر لهم اسم أحد الموتى يستعيذون من روحه بقولهم: «أفاشولم»؛ أي فلترقد روحه بسلام.وهذا التابو هو الذي يمنع اليهود من ذكر الاسم السرِّي لإلههم٦٥ بزعم أنهم بذلك يدرءون عن العالم وقوع كارثة تطيح به. وعندهم أن ذلك الإله قد خلق العالم بأن جعل فمه ينطلق باسمه فإذا العالم قد وُجد بعد أن لم يكن. ويعتقد المسيحيون أن العالم قد خُلق بما لبعض الكلمات من قوة سحرية:
«في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله» (يوحنا ١: ١).
ويشتمل الكتاب المقدَّس على أسماء ذات قوة سحرية، فمَن عرف خواص تركيب الحروف استطاع تسخيرها في الإتيان بالعجائب والتسلط على قوى الشر غير المرئية. وقد أصبح العرافون والكهنة والسحرة، لمعرفتهم التركيب السرِّي للأسماء الإلهية، على صلة بالسماء؛ تسنَّى لهم ربط القوى السماوية بما يقع لبني الإنسان من أحداث.
وفي الكتاب المقدَّس شواهد كثيرة على ما لاسم الله من قوة سحرية:
«فيجعلون اسمي على بني إسرائيل وأنا أباركهم.»٦٦ومن المتواتر عند اليهود أنه حدث في القرون الوسطى أن بدا لحاخام من القبليين sefer yezirah وهم فرقة صوفية النزعة، أن يرفع المظالم عن بني جنسه ويقتص لهم مما أنزله بهم أعداؤهم، فخلق من الطين «جولم» golem وهو صنم ضخم الجرم موثق٦٧ التجاليد٦٨ غير أنه لا قِبل له بالكلام، ونقش على جبهته اسم الله، فدبَّت فيه الحياة ونشط يدمِّر ما أمامه ويجتاح ما في طريقه، فنظر الحاخام من ذلك وبدر إلى محو الاسم من فوق جبهة الصنم فإذا الصنم قد انهار ترابًا.ولأسماء الملائكة قوة سحرية؛ جاء في المعلمة (أي دائرة المعارف) اليهودية أن هانيل عم أرميا استحضر الملائكة عندما حاصر بختنصَّر بيت المقدس، واستعداها على البابليين فمدت له يد المعونة وأوقعت في قلوبهم الرعب فولَّوا فرارًا، كما أنه استخدم الاسم الذي لا يُمْحى ورفع بذلك بيت المقدس في أجواز٦٩ الفضاء ليجعلها بمنجاةٍ من أذى الأعداء. بَيْدَ أن يهوه كان قد اقتضت مشيئته أن يدَع المدينة تسقط في أيديهم؛ ولهذا أعادها أدراجها وبدَّل الملائكة فاستعصى على هانيل إحضارهم إليه مرة أخرى.وتُستخدم أسماء بعض شخوص الكتاب المقدَّس في الوصول إلى نتائج سحرية: دانيال للسلامة من الحيوانات الضارية، وموسى لاتقاء النيران٧٠ ويوسف لدرء الاحتلام وللعصمة من الغواية … وهَلُمَّ جرًّا.وثَمَّ آيات تُتلى لأغراض خاصة؛ فهم يَتْلُون لتلطيف أوجاع الولادة:
«وافتقد الرب سارة كما قال، وفعل الرب لسارة كما تكلم، فحبلت وولدت لإبراهيم ابنًا في شيخوخته في الوقت الذي تكلم الله عنه» (تكوين ٢١: ١-٢).
ويَتْلُون لاتقاء شِرَّة الكلب العقور:
- (٩) هذا وقد يمسُّ المرء غيره بخطرٍ مبهَم غامض دون أن يتوسَّل إلى ذلك بتمثاله أو باسمه أو بشيء من مخلفاته؛ وذلك بتشهِّي إحراز شيء من ممتلكاته أو من الاتصاف بشيء مما يتحلى به من المزايا؛ فإن الحسد ينفي عن المحسود ما يكتنفه من خيرات فلا يلبث أن ينضب ماله وتَنْفُق ماشيته وكأنما غصبه حاسده ما كان في حوزته. وكم من رجلٍ حسده حاسد فخرع٧٣ بدنه و«ربطت» أعضاؤه التناسلية فإذا هو مُخْرَس إزاء نداء الجنس لا قِبَل له بإشباع رغبةٍ أو خليلة. وموجز القول أن الحسد لا يعدو أن يكون ضربًا من السحر آلته العين الخبيثة.ولا ضير في أن يحسد العبري امرءًا من «الأمميين»؛ فقد أباح يهوه لشعبه المختار أرواح أهل الأمم الأخرى، وجعل أموالهم غنيمة للإسرائيليين في الحرب والسلم على السواء.٧٤
وأجاز للإسرائيلي أن يُقرضهم المال بالربا الفاحش:
«للأجنبي تُقرض بربًا ولكن لأخيك لا تقرض بربًا» (تثنية ٢٣: ٢٠).
وأن يطعمهم جيف الحيوانات النافقة:
«لا تأكلوا جثةً ما. تعطيها للغريب الذي في أبوابك فيأكلها أو يبيعها لأجنبي» (تثنية ١٤: ٢١).
أما في داخل نطاق بني إسرائيل فقد حُرِّمت هذه الموبِقات٧٥ تحريمًا قاطعًا، وحُظر على اليهودي أن يحسد قريبه؛ أي ابن قبيلته، وأخاه في العقيدة الدينية؛ لأن فشوَّ هذه الآفة في أسباط٧٦ اليهود يعرِّضها لخطرٍ هو خفيٌّ ولكنه مقيم يرفرف على أعضائها جميعًا؛ ولهذا جعل اشتهاء ممتلكات هؤلاء الأقرباء انتهاكًا لتابو، فمن فعل ذلك أوشك أن يُلحق الأذى بجماعته؛ ومن ثَمَّ حُقَّ لها أن توقِع به أوبل عقاب:«ويل للمفتكرين بالبُطْل٧٧ والصانعين الشرَّ على مضاجعهم. في نور الصباح يفعلونه لأنه في قدرة يدهم؛ فإنهم يشتهون الحقول ويغتصبونها والبيوت ويأخذونها ويظلمون الرجل وبيته والإنسان وميراثه؛ لذلك هكذا قال الرب: ها أنا ذا أفتكر على هذه العشيرة بشرٍّ لا تُزيلون منه أعناقكم ولا تسلكون بالتشامخ لأنه زمان رديء» (ميخا ٢: ١–٣).وقد أبانت الوصية العاشرة تفصيلات الاشتهاء فيما يأتي:
«لا تشتهِ بيت قريبك. لا تشتهِ امرأة قريبك ولا عبده ولا أمَتَه ولا ثوره ولا حماره ولا شيئًا مما لقريبك»٧٨ (خروج ٢٠: ١٧).وكانت هناك ألفاظ خاصة يحرص اليهود على التفوُّه بها وحركات معلومة يلوِّحون بها استعاذةً لأنفسهم ولأقربائهم من شر الحاسدين وتحرُّزًا من كيد الأرواح الشريرة التي توشك أن تدهمهم بما يورثهم وهن الجسم وضعف العقل ويُفقدهم الجمال وينبو بهم عن التوفيق في أعمالهم، فكانوا يدرءون عن أطفالهم شر الحسد بأن يضعوا في جيوبهم كسرةً من الفطير غير الخمير وشيئًا يسيرًا من الملح. وكانوا إذا طاب لأحدهم أن يعبِّر عن إعجابهم بامرئ قدَّم لذلك بكلمة تُبطِل أثر الحسد، فيقول مثلًا: «كننهور» kenanhore يا له من طفل جميل موفور العافية!٧٩ وإن هذا ليذكِّرنا بحادثة وقعت ذات مرة في إحدى المحاكم الأمريكية؛ إذ سأل القاضي شاهدًا يهوديًّا عن عمره فلم يُحِرْ جوابًا، ونبَّه أحدهم القاضي إلى أن هنالك تابو يحرِّم على اليهودي إحصاء ما عنده من أناس أو ماشية أو دواجن أو غيرها،٨٠ ويحظر عليه الإجابة عن الأسئلة التي تتصل بذلك ما لم يكن السؤال مسبوقًا بكلمة مأثورة معيَّنة. فأعاد القاضي السؤال مسبوقًا بتلك الكلمة فقال أمبشرين umbeshrien كم أتى لك من العمر؟ فباح اليهودي بسنِّه. - (١٠) إذا سرق امرؤ أحد مُوطِنيه٨١ ولم يُمْسَك بجريرته، وصبَّ المسروق — بنفسه أو بوساطة كاهنٍ — لعنته على السارق وهو لا يعرفه، حلَّت اللعنة به ونالت منه. وقد نجم عن ذلك أنه إذا سرق امرؤ شيئًا ثم عرض له عارضٌ من مرضٍ توهَّم أن ذلك ألمَّ به من جرَّاء إصابته، فلا يملك إلا الإقرار بجُرمه وردَّ المتاع المسروق إلى صاحبه أو تعويضه منه حتى لا تظلَّ اللعنة آخذةً بمخنقه؛٨٢ ومن هنا جاءت الوصية الثامنة تحرِّم السرقة.
- (١١)
وعندهم أن دم الإنسان أو الحيوان هو حياته، أو — على الأقل — أن روحه تكمن في دمه؛ ومن هنا نشأ تحريم أكل الدم عند اليهود.
لقد اختص يهوه نفسَه بالدم كله فهو على الأنام حرام:
«فتذبح الكبش وتأخذ دمه وترشه على المذبح من كل ناحية» (خروج ٢٩: ١٦).
«ويُذبح العجل أمام الرب ويقرِّب بنو هارون الكهنة الدم ويرشون الدم مستديرًا على المذبح لدى باب خيمة الاجتماع» (لاويون ١: ٥).
«فذبحه وأخذ موسى الدم وجعل على قرون المذبح مستديرًا بإصبعه، وطهر المذبح ثم صب الدم إلى أسفل المذبح وقدسه تكفيرًا عنه» (لاويون ٨: ١٥).
أما نصيب الإنسان من الذبائح فهو اللحم:
«وقال شاول تفرَّقوا بين الشعب وقولوا لهم أن يقدموا إلى كل واحد ثوره وكل واحد شاته، واذبحوا ها هنا وكلوا ولا تخطئوا إلى الرب بأكلكم مع الدم» (١ صموئيل ١٤: ٣٤).
وإذا سفك امرؤ دم آخر خرجت روح القتيل من جثمانه مع الدم ولم تنفكَّ تجأر بالشكوى:
«صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض» (تكوين ٤: ١٠).
وكان العرب يزعمون أن القتيل المطلول الدم؛ أي الذي لم يُقتصَّ له، يظهر عند قبره طائرٌ ليليٌّ صغير يقال له: الهامة. وقد يُسمى الصدى، ولا ينفك يصرخ قائلًا: اسقوني. حتى يؤخذ بثأره. ومن ذلك قول ذي الإصبع العدواني:
ومن هنا نشأ تحريم سفك الدم ووجوب تطهُّر الجنود بعد القتال من إهراق دم العدو ومن لمسه؛ حتى لا ينقلوا ذلك الدم إلى عشيرتهم فتنتقل معه أرواح القتلى من الأعداء فيتاح لها الاقتصاص من قتلة أصحابها؛ ومصداق ذلك قول موسى لجنوده وقد عادوا بعدما أعملوا السيف في رقاب أهل مدين:
«وأما أنتم فانزلوا خارج المحلَّة سبعة أيام، وتطهَّروا كلُّ مَن قتل نفسًا، وكلُّ مَن مسَّ قتيلًا في اليوم الثالث، وفي السابع أنتم وسبيكم وكلُّ متاعٍ من جلد، وكلُّ مصنوع من شعرِ معِز، وكلُّ متاعٍ من خشبٍ تطهِّرونه» (عدد ٣١: ١٩-٢٠).
«إذا حدث من رجل اضطجاع زرع يرحض كل جسده بماء، ويكون نجسًا إلى المساء. وكلُّ ثوب وكلُّ جلد يكون عليه اضطجاع زرع يُغسل بماء، ويكون نجسًا إلى المساء» (لاويون ١٥: ١٦-١٧).
وقد فرض عليهم أن يتطهروا بعد الاحتلام أيضًا:
«إذا خرجت في جيش على أعدائك فاحترِزْ من كل شيء رديء. إن كان فيك رجل غير طاهر من عارضِ الليل يخرج إلى خارج المحلة، لا يدخل إلى داخل المحلة. ونحو إقبال المساء يغتسل بماء، وعند غروب الشمس يدخل إلى داخل المحلة» (تثنية ٢٣: ٩–١١).
وثم صلة عاطفية بين الزوجة وزوجها كتلك التي بين البقرة وما تُدرُّه من اللبن؛ فإذا أقدمت المرأة على الزنا ركب ذلك زوجها بالأذى؛ ولهذا أصبح الزنا «تابو» سجَّلته الوصية السابعة في قولها: «لا تَزْنِ» (خروج ٢٠: ١٤).
(٩) الوصايا العشر
ينوِّه الكهنة بالوصايا العشر ويحفُّونها بهالةٍ من القدسية زاعمين أنها أول شريعة أُخرجت للناس وأنا أُسُّ الفضائل، وهو زعمٌ لا ينهض على أساسٍ من العلم ولا يدعمه سندٌ من التاريخ؛ فقد سبق المصريون العبريين في سَنِّ التشريعات ورعاية الآداب، وكذلك سبقتهم شعوبٌ قديمة أخرى.
- (١)
أنها خاصة بمن يسمُّونهم شعب الله المختار وحدهم، وهذا واضح من مقدمتها.
«أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية» (خروج ٢٠: ٢).
- (٢)
أنها تفتقر إلى الوضوح والتحديد.
فالوصية السادسة — مثلًا — «لا تقتل» لا تُبيِّن لنا هل هي تُحرِّم قتل الإنسان وحده أو قتل الحيوان أيضًا؟ وهل هذا التحريم يشمل القتل دفاعًا عن النفس من شِرَّة إنسان أو ضراوة حيوان؟ وهل هي تحرِّم قتل الحيوان للاغتذاء بلحمه؟ وهل هي تحرِّم على الجلَّاد إنفاذ حكم القتل في المحكوم عليهم به؟
والوصية الثامنة «لا تسرق» ليس من الواضح هل هي خاصة بسرقة الممتلكات المادية وحدها أو هي تنطبق كذلك على من يسرق من أحد أصدقائه خطيبته، وعلى من يستولي على دراجة غيره ليتنزه بها ساعة ثم يعيدها مكانها؟ وهل هي تنطبق على تزوير الصكوك وتزييف النقود، وهما أمران لم يكن للناس بهما عهد في العصر الجاهلي إبان ظهور التوراة؟
- (٣)
إنها تناقض أمورًا أخرى أوصى بها «العهد القديم».
فمن ذلك أنها تنهى عن القتل على حين أن موسى أمر بالقتل الجماعي دون رحمة وبلا تمييز بين الرجال والنساء والأطفال؛ فقد حدث أنه أرسل جيشه لإبادة شعب مدين، فأعمل الجيش سيوفه في رقاب الرجال ثم أشعل النيران في مساكنهم فذهبت ربوعهم وقُراهم طُعمةً للحريق، وأقفل الجيش راجعًا يدقُّ طبول النصر معتزًّا بما جلب من السبايا وما غنم من الماشية وما نهب من المتاع، وعلل قُوَّاده أنفسهم بما سيلقاهم به موسى من الحفاوة والبِشْر، فإذا بكليم الله قد تمعَّر وجهه وصبَّ عليهم جامَ٩٢ غضبِهِ مُعرِبًا عن فرط سخطه لأنهم استحيوا النساء والأطفال، وما كان ينبغي لهم، وأمرهم بأن يبادروا فيستأصلوا شأفة الأسرى جميعًا لا يستبقون منهم إلا العذارى:«فالآن اقتلوا كل ذَكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلًا بمضاجعة ذَكر اقتلوها» (عدد ٣١: ١٧).
ومن ذلك أيضًا أنها تنهى عن السرقة على حين أن موسى حرض بني إسرائيل على أن يسرقوا المصريين قبل أن يبرحوا بلادهم:
«فيكون حينما تمضون أنكم لا تمضون فارغين، بل تطلب كلُّ امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين» (خروج ٤٣: ٢١-٢٢).
- (٤) ولم يكن المقصود بها هو الحث على الفضيلة والنهي عن الرذيلة على حسب المعنى المفهوم في هذه الأيام، بل كان للتحذير من بعض أمور يُعتقد أنها تولِّد أخطارًا جسيمة وتُعقِب نتائج وخيمة لا يقتصر أذاها على الذين ظلموا منهم خاصة بل يعم الجماعة كلها إذ هي متضامنة في السراء والضراء.٩٣
ويتضح مما تقدم أن هذه الوصايا بُنيت على أوهام العبريين القدماء ووساوسهم المؤسَّسة على المذهب الحيوي والسحر العاطفي وإن غايتها القصوى هي توكيد سريان بعض التابوات التي فُرضت عليهم منذ أقدم عصور جاهليتهم وتجنيبهم عُقبى اللعنات الفتاكة التي هي قمينة أن تعصف بهم إذا انتُهكت تلك التابوات.
(١٠) جهالة العبريين
وهذا الذي أثبتناه فيما يتصل بالوصايا العشر يصدُق كذلك على «العهد القديم» كله؛ فهو سجلٌّ لإيمان العبريين بالسحر يُبيِن عن قصور معارفهم، لا فيما استُحدِث بعدهم من المعلومات فحسب (كدوران الأرض، ونظام كوبرنكس، وقوانين كبلر، وجاذبية الثقل، وعدم قابلية المادة لأن تُستحدَث وأن تفنى) بل كذلك في الأمور التي كان يعرفها معاصروهم وأسلاف معاصريهم من الشعوب العريقة في الحضارة والمدنية؛ فقد كان الصينيون — مثلًا — يفقهون الشيء الكثير من سَبْح الأجرام السماوية في مسالكها، وكانوا يحسبون آجال الكسوف والخسوف، حتى لقد حاكموا في سنة ٢١٦٩ق.م عالِمَين فلكيَّين يُدْعيان «هو» و«هي»؛ لأنهما غفلا عن تنبيه القوم مقدَّمًا إلى كسوفٍ للشمس كان وشيك الوقوع.
«في البدء خلق الله السموات والأرض» (تكوين ١: ١).
وهم يرون الشُّقَّة بينهما غير شاسعة، أما ما يسمونه «الجلد» ويسميه العرب «الرقيع»؛ أي قبة السماء، فهو في حسبانهم جسمٌ صلبٌ أشبه شيء بلوحٍ من زجاج يعلو علينا مئات من الأمتار هو مرفوعٌ على عُمُد:
«أُسُس السماء ارتعدت وارتجفت لأنه غضب» (٢ صموئيل ٢٢: ٨).
«أعمدة السماء ترتعد وترتاع من زجره» (أيوب ٢٦: ١١).
وهذا الجسم الصلب مرصع من باطنه بأجرام سماوية مضيئة على النحو الذي نرى به المصابيح والثريات في السقوف والجدران.
وبما أن الشمس والقمر في حسابهم لا يزيدان في الحجم كثيرًا على المقدار الذي يبدوان به؛ فقد كان من الهيِّن اليسير على نبيٍّ مثل يشوع بن نون أن يعبث بهما:
«قد سمعت صلاتك. قد رأيت دموعك. ها أنا ذا أشفيك. في اليوم الثالث تصعد إلى بيت الرب. وأزيد على أيامك خمس عشرة سنة» (٢ ملوك ٢٠: ٥-٦).
كان العبريون يذهبون إلى أن الله يقيم فوق الجلد متواريًا في الظلام:
«وجعل الظُّلمة ستره حوله، مظلته ضباب المياه وظلام الغمام» (مزمور ١٨: ١١).
وأنه كان ينزل بين الحين والحين من فوق الجلد إلى الأرض لبعض شأنه ثم يعود أدراجه:
«فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونها» (تكوين ١١: ٥).
وأنه كان يقيم معه فوق الجلد أبناؤه، أولئك الذين هبطوا الأرض فراقتهم بنات الناس وخلبن ألبابهم فتزوجوا بعضهن ورُزقوا منهن أولادًا يمتازون ببسطة الجسم ووفرة القوة وشدة النهم:
«وبعد ذلك أيضًا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادًا. هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم» (تكوين ٦: ٤).
وأنه كانت تقيم معه الملائكة أيضًا وتنتقل جيئة وذهوبًا بين الأرض والسماء، وذلك ما شاهده يعقوب في رؤيا له:
«وإذا سُلَّمٌ منصوبة على الأرض ورأسها يمسُّ السماء، وهو ذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها، وهو ذا الرب واقف عليها فقال أنا الرب» (تكوين ٢٨: ١٢-١٣).
«فاستيقظ يعقوب من نومه وقال: حقًّا إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم! وخاف وقال: ما أرهب هذا المكان! ما هذا إلا بيت الله وهذا باب السماء» (تكوين ٢٨: ١٦-١٧).
وأنه كان يقيم معه كذلك بعض المقرَّبين إليه من البشر:
منهم أخنوخ المعروف عند العرب باسم إدريس:
«وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» (تكوين ٥: ٢٤).
ومنهم إيليا التشبي، المعروف باسم إلياس. وقد كان يسير ذات مرة هو وتابعه أليشع:
وفي وهمهم أن الأرض كانت أول أمرها لا شكل لها: «وكانت الأرض خربة» (تكوين ١: ٢).
وصواب الترجمة: وكانت الأرض بلا شكل.
أما كيف يكون جِرمٌ ما بغير شكل فأمرٌ يدِقٌّ على الأفهام. بَيْدَ أن الأرض لم تبقَ طويلًا على هذا اللاشكل؛ فسرعان ما أصبحت ذات تربيع:
فهي إذن رقعة مفلطحة غير كروية وغير متحركة. وهي أيضًا — كالسماء — مرفوعة على عُمُد:
«لأن للرب أعمدة الأرض وقد وضع عليها المسكونة» (صموئيل ٢: ٨).
«المؤسِّس الأرض على قواعد فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد» (مزمور ١٠٤: ٥).
«فعمل الله النورين العظيمين؛ النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل والنجوم» (تكوين ١: ١٦).
«وقال الله: لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة. وكان كذلك» (تكوين ١: ٩).
(١١) الأساطير
فما الأساطير؟
هي قصص ابتكرها البدائيون لتفسير ما يغم عليهم من ظواهر الطبيعة وأحداث الكون، وليس عجبًا أن تكون تلك القصص بدائية كالأذهان التي تفتَّقت عنها. وقد ذاعت تلك الأساطير وشاعت على ترادف الأزمنة وتخالف الأمكنة. وهي تتشابه تشابهًا وثيقًا على ما بين البلاد التي ذاعت فيها من بُعد الشُّقَّة.
- (١)
أساطير تكشف عن أصل الإنسان وتُبين كيف وفد الموت على العالم وتوضِّح كيف تعددت اللغات، كالأساطير التي حاكتها بعض الشعوب حول خلق الوجود في ستة أيام ومعصية آدم وبناء برج بابل.
- (٢)
أساطير تتعلق بحوادث طبيعية وتفسِّر بعض الظواهر الطبيعية، كأسطورة اكتساح الطوفان للكرة الأرضية كلها مما يعلِّلون به ما يعثرون عليه من الأصداف المتخلفة من الحيوانات الرخوة في أحجار الجبال البعيدة عن البحار.
- (٣)
أساطير تعلل ما استرعى الانتباه من أشياء غير مألوفة، كأسطورة مسخ امرأة لوط عمودًا من الملح، مما يعللون به مصادفتهم بعض صخور تشبه الإنسان في هيئته.
- (٤)
أساطير تتعلق بتاريخ شخص حقيقي كالأسطورة القائلة بأن الناس كافة منحدرون من أرومة نوح.
- (٥) أساطير تتعلق بتاريخ شخص حقيقي (كالملك سليمان) أو موهوم (كالملك آرثر، وفلهلم تل).١١٢ ومن ذلك أسطورة الصراع بين الله ويعقوب، وهي تعلل لنا لمَ استبدل يعقوب هذا باسمه فتُسمى «إسرائيل»، ولمَ أسمى البقعة التي اصطرعا فيها «فينيئيل»؛ أي وجه الله.
- (٦) أساطير تُبين الأصل المنسيَّ لبعض العادات والمناسك والاحتفالات؛ فأسطورة الصراع بين الله ويعقوب السالفة الذكر تجلو لنا لِمَ يعزف اليهود عن أكل حق الفخذ، وأسطورة استير تُبيِّن لنا لِمَ يحتفل اليهود بعيد البوريم، وكذلك أسطورة افتداء أفجينيا بغزال١١٣ تُبيِّن لنا مصدر المنسك الخاص بالتضحية في العيد بحيوان والإقلاع عما جرى عليه البدائيون في القرون الأوالي من التضحية بأبنائهم على مذابح آلهتهم، ومما لا ريب فيه أنَّ هذه الأساطير قد تبدلت معالمها بكثرة تداولها، وأن الشعوب والقبائل حشدت فيها من التغني بمحامدها والتنويه بمآثرها ما يجعلها محبَّبة إلى نفوس أبنائها.
(١٢) أنبياء بني إسرائيل
شاع احتراف النبوَّة بين بني إسرائيل، وإن «العهد القديم» ليُطالعنا بصورة ﻟﻟ «نبييم» تُبايِن تلك التي تطوف بأذهان كثير منا؛ فهم — في الجملة — أشبه الخلق بمن نعرف من أولياء الله الذين يجوبون قُرانا الريفية ويرتادون موالدنا الدينية، ولا عجب في ذلك؛ فإن كلمة «نبي» العبرية تعني هاذيًا أو مخبولًا.
وإنا لنتعرف الكثير من أحوال أولئك الأنبياء عندما نقرأ سيرة أخآب وولده يهورام من ملوك إسرائيل في القرن التاسع ق.م. كان أخاب ملِكًا مظفَّرًا، وبدا له ﻓ «اتخذ إيزابل ابنة أثبعل ملك الصيدونين امرأة وسار وعبد البعل وسجد له. وأقام مذبحًا للبعل في بيت البعل الذي بناه في السامرة. وعمل أخاب سواري وزاد أخاب في العمل لإغاظة الرب إله إسرائيل أكثر من جميع ملوك إسرائيل الذين كانوا قبله» (١ ملوك ١٦: ٣١–٣٣).
فتصدى له النبي إيليا (إلياس) وطلب إليه على جهة التحدي أن يُحضر أنبياءه الذين يطاوعونه على هواه وسدنة الآلهة المنافسين ليهوه إله إسرائيل:
«فالآن أرسل وأجمع إلى كل إسرائيل إلى جبل الكرمل وأنبياء السواري أربع المائة الذين يأكلون على مائدة إيزابل» (١ ملوك ١٨: ١٩).
وشخص يهوشافاط ملك يهوذا ذات يوم إلى أخاب ملك إسرائيل يسأله العون في شَنِّ حرب على آرام (أي سورية) لينتزع منطقة راموت جلعاد، ووجد أخاب أنه لم يكن ينبغي له أن يحسم الرأي في أمرٍ جللٍ كهذا دون أن يستطلع رأي الرب:
«فجمع ملك إسرائيل الأنبياء نحو أربعمائة وقال لهم: أأذهب إلى راموت جلعاد للقتال أم أمتنع؟ فقالوا: اصعد فيها فيدفعها السيد ليد الملك» (١ ملوك ٢٢: ٦).
واحتمس القوم للقتال:
«وعمل صدقيا بن كنعنة لنفسه قَرْنَي حديد وقال هكذا قال الرب: بهذه تنطح الآراميين حتى يفنوا» (١ ملوك ٢٢: ١١).
وكان ثَمَّ نبيٌّ مغضوب عليه يُدعى ميخا بن يملة فاستدعاه الملك إليه وسأله في هذه المشكلة الخطيرة فأبدى التشاؤم على النقيض من أنداده الأنبياء:
«وقال: فاسمع إذًا كلام الرب. قد رأيت الرب جالسًا على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره. فقال الرب: من يُغوي أخاب فيصعد ويسقط في راموت جلعاد؟ فقال هذا هكذا وقال ذاك هكذا، ثم خرج الروح ووقف أمام الرب وقال: أنا أغويه. وقال له الرب: بماذا؟ فقال: أخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه. فقال: إنك تغويه وتقتدر فاخرج وافعل هكذا. والآن هو ذا قد جعل الرب روح كذب في أفواه جميع أنبيائك هؤلاء، والرب تكلم عليك بشرٍّ. فتقدَّم صدقيا بن كنعنة وضرب ميخا على الفك وقال: من أين عبر روح الرب مني ليكلمك» (١ ملوك ٢٢: ١٩–٢٤).
«فإذا ضل النبي وتكلم كلامًا فأنا الرب قد أضللت ذلك النبي وسأمد يدي عليه وأبيده من وسط شعبي إسرائيل» (حزقيال ١٤: ٩).
«فقال أليشع لملك إسرائيل: ما لي ولك! اذهب إلى أنبياء أبيك وإلى أنبياء أمك … لولا أني رافع وجه يهوشافاط ملك يهوذا لما كنت أنظر إليك ولا أراك. والآن فأتوني بعوَّاد. ولمَّا ضرب العوَّاد كانت عليه يد الرب. فقال: هكذا قال الرب» (٢ ملوك ٣: ١٣–١٦).
وأفضى إليه برأيه.
وامتثل ياهو، بعد مسحه بالدهن، أمر الغلام النبي ويمم شطر الملك يهورام:
«فلما رأى يهورامُ ياهو قال: أسلام يا ياهو؟ فقال: أي سلام ما دام زنا إيزابلَ أمك وسِحْرها الكثير … وضرب يهورامَ بين ذراعيه فخرج السهم من قلبه فسقط في مركبته» (٢ ملوك ٩: ٢٢–٢٤).
«وكان لِأخاب والد يهورام سبعون ابنًا في السامرة. فكتب ياهو رسائل وأرسلها … فلما وصلت الرسالة إليهم أخذوا بني الملك وقتلوا سبعين رجلًا ووضعوا رءوسهم في سلال … وقتل ياهو كل الذين بقوا لبيت أخاب في يزرعيل وكل عظمائه ومعارفه وكهنته حتى لم يتبقَّ له شاردًا» (٢ ملوك ١٠: ١–١١).
- (١)
أن أناسًا كثيرين أقبلوا على احتراف مهنة النبوة لما لها من مزايا جمة فكثُر عدد الأنبياء كثرةً لا تُناسب قلة عدد السكان في البلاد.
- (٢)
وكان لبعض أولئك الأنبياء من قوة الشوكة ما يَحْبُوهم بسلطانٍ يعلو على سلطان الملوك على النحو الذي بلوناه في القرون الوسطى من المتربعين على كرسي البابوية؛ إذ كانوا يؤرثون الفتن، ويشعلون الحروب ويخلعون الملوك وينصبون غيرهم.
- (٣)
وكان بعض أولئك الأنبياء كلما رغبوا في تلقِّي الوحي هيئوا أنفسهم لذلك بتحريك رءوسهم حركةً راتبة على الإيقاع الموسيقي كفعل الدراويش في حلقات الأذكار، وصنيع الوسطاء الروحانيين في بعض الأحيان.
- (٤)
وقد ظهر الأنبياء أيضًا في الدويلات المتاخمة لإسرائيل ويهوذا؛ إذ كانت تسودها أحوال وملابسات كالتي مهَّدت لظهور تلك الطائفة في تَينِك المملكتين، ولم يكن ثَمَّ من فرقٍ سوى أن اليهود المنتزحين عن الفيافي والقفار كانوا يدْعون إلى عبادة الإله الجبلي المحارب يهوه على حين أن سكان تلك الدويلات وجُلُّهم من المزارعين الوُدَعاء كانوا يدْعون إلى عبادة البعل وهو إلهٌ متحضرٌ مسالم. وقد ذاع صيت نبيِّ بني مؤاب الوثنيين أعدى أعداء اليهود، ذلك المدعو بلعام بن بعور المعروف باسم لقمان الحكيم (بلع = لقم) وقد اشتُهِر بالحوار الطريف الذي دار بينه وبين حماره (العدد ٢٢).
- (٥)
وثَمَّ قصة عجيبة تُبيِّن لنا كيف كان الوحي يتنزَّل على الناس في ذلك الزمان.
فقد ظل بنو إسرائيل بعد موسى ما يُنِيف على أربعة قرون يحكمهم من يُلقَّبون بالقضاة، وضاقوا آخر الأمر بهذا الحكم وازداد بَرَمُهم به في أعقاب عهد الرائي (أي النبي) صموئيل:
«وكان لما شاخ صموئيل أنه جعل بنيه قضاة لإسرائيل … ولم يسلك ابناه في طريقه بل مالا وراء المكسب وأخذا رشوة وعوجا القضاء» (١ صموئيل ٨: ١–٣).
واستشرى الفساد فاستغلظ التذمر وتنادى القوم بأن يُملِّكوا عليهم ملِكًا فأنكر صموئيل ذلك عليهم قائلًا إنه لا ملك إلا يهوه:
«قلتم لي بل يملك علينا ملك. والرب إلهكم ملككم» (١ صموئيل ١٢: ١٢).
ويترتب على هذه السفسطة أن يكون صموئيل هو الذي يفصح عن مشيئة الرب، وما الرب إلا صموئيل، وفي سنة ١٠٢٥ق.م هتف الشعب بشاول ملِكًا عليه، فلم يغفر صموئيل لشاول أنه غصب منه صولجان الحكم، وزاده سخطًا على شاول أن هذا الملك عدَّ نفسه مدينًا بسلطانه للشعب وأنه لم يمضِ إلى آخر الشوط في تلبية ما للكهان من رغائب وإنفاذ ما لهم من مطالب ولهذا عدُّوه مارقًا من الدين وأبلغوه أن الرب غيَّر رأيه فيه وأصبح شانئًا له لا يريد به يسرًا:
«وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلًا: ندمت على أني قد جعلت شاول ملِكًا لأنه رجع من ورائي ولم يقم لكلامي» (١ صموئيل ١٥: ١–١١).
واختار صموئيل داود ليحل محل مسيح الله شاول بعد التخلص منه، ومسحه بالدهن ليولِّيه ملِكًا على إسرائيل:
«فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه في وسط إخوته وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا» (١ صموئيل ١٦: ١٣).
«فأرسل شاول رُسلًا لأخذ داود. ولما رأوا جماعة الأنبياء يتنبئون وصموئيل واقفًا رئيسًا عليهم كان روح الله على رسل شاول فتنبئُوا هم أيضًا. وأخبروا شاول فأرسل رُسلًا آخرين فتنبئوا هم أيضًا. ثم عاد شاول فأرسل ثالثةً فتنبئوا هم أيضًا» (١ صموئيل ١٩: ٢٠-٢١).
كان قدامى الإسرائيليين يتلظَّون بنار الحسد من البلدان المتاخمة ذات الحضارة المتقدمة لوفرة ما ترتع فيه من خصب وما يفاض عليها من رخاء، وكان الأنبياء اليهود — بوجه عام — يَنْفِطون ضغنًا وسخيمة؛ فهم يتوجهون إلى إلههم بمثل هذا الدعاء على بابل:
«طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة» (مزمور ١٣٧: ٩).
إنهم يُنشدون الآن هذا في كنائسهم على أنغام الأرغن.
وقد نشط أولئك الأنبياء المتعصبون ينثرون التكهنات التي يتوقعون فيها أن تحل النكبات بالبلدان المصاقبة لهم، وبَدِيهٌ أنَّ تلك التكهنات لم تكن أكثر من تعبيرات شعرية عن آمال بني إسرائيل القومية في استعباد الأمم المجاورة ونهب بلادهم وإخرابها:
«لأن الأمة والمملكة التي لا تخدمك تَبِيد. وخرابًا تخرب الأمم» (أشعيا ٦٠: ١٢).
لقد تكهَّن النبي حزقيال بخراب مدينة صور، وبما أن اليهود كانوا أهون من أن يُنجزوا ذلك فقد تكهَّن ذلك النبي بأن إخرابها سيتم على يد ملك أجنبي قوي الشوكة هو ملك بابل، وقد أسهب في تكهُّنه هذا حتى استغرقت تفصيلاته ثلاثة إصحاحات بتمامها؛ فمن ذلك قوله:
«لأنه هكذا قال السيد ها أنا ذا أجلب على صور نبوخذراصر ملك بابل من الشمال ملك الملوك بِخيلٍ وبمركبات وبفرسان وجماعة وشعب كثير. فيقتل بناتك في الحقل بالسيف … بحوافر خيله يدوس كل شوارعك. يقتل شعبك بالسيف فتسقط إلى الأرض أنصاب عزِّك. وينهبون ثروتك ويغنمون تجارتك ويهدُّون أسوارك ويهدمون بيوتك البهيجة ويضعون حجارتك وخشبك وترابك في وسط المياه» (حزقيال ٢٦: ٧–١٢).
ولكن نبوخذراصر لم يهدم مدينة صور بل هدمها الإسكندر بعد زمن نبوخذراصر ﺑ ٢٤٠ سنة ثم أعيد بناؤها ولم تزل منذ ذلك الحين عامرةً بالألوف من أهلها.
وكان النبي أشعيا يتمنى أن:
«تصير بابل بَهاء الممالك وزينة فخر الكلدانيين كتقليب الله سدوم وعمورة. لا تعمر إلى الأبد ولا تسكن إلى دورٍ فدورٍ … ويملأ البوم بيوتهم» (أشعيا ١٣: ١٩–٢١).
ولكن أمنيته لم تتحقق، وما زالت تلك المدينة باقية حتى الآن يعرفها الناس باسم «الحلة».
وكذلك لم تتحقق أمنيته بصدد دمشق، وقد أفصح عنها في قوله:
«وحي من جهة دمشق. هو ذا دمشق تُزال من بين المدن وتكون رجمة ردم» … (أشعيا ١٧: ١).
كما لم تتحقق أمنية معاصره وزميله أرميا حيث يقول:
«ارتخت دمشق والتفتت للهرب. أمسكتها الرِّعْدة وأخذها الضيق والأوجاع كماخِضٍ … لذلك تسقط شبانها في شوارعها وتهلك كل رجال الحرب في ذلك اليوم يقول رب الجنود. وأشعل نارًا في سور دمشق فتآكل قصور بنهدد» (أرميا ٤٩: ٢٤–٢٧).
«وأشتِّت المصريين بين الأمم وأُذريهم في الأراضي، وأشدد ذراع ملك بابل وأجعل سيفي في يده. وأكسر ذراعَي فرعون فيئنُّ قدَّامه أنين الجِرَاح» (حزقيال ٣٠: ٢٣-٢٤).
«ويأتي سيف على مصر … من مجدل إلى أسوان يسقطون فيها بالسيف … إني أبيد ثروة مصر بيد نبوخذراصر ملك بابل … وأضرم نارًا في مصر … وأشتت المصريين بين الأمم وأذريهم في الأراضي» (حزقيال ٣٠: ٤–٣٣).
وقد خاب فأل حزقيال في ذلك كله، فلم يتشتت المصريون بل كان الشتات مصير اليهود، وكذلك خاب فأل أشعيا حيث قال:
«وأهيج مصريين على مصريين فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه. وتنشف المياه من البحر ويجف النهر وييبس. وتنتن الأنهار وتضعف وتجف سواقي مصر … في ذلك اليوم تكون كالنساء فترتعد وترجف من هزَّة يد ربِّ الجنود التي يهزها عليها وتكون أرض يهوذا رعبًا لمصر» (أشعيا ١٩: ١–١٧).
لقد أفقدَ الحقد على مصر أولئك الأنبياء اتزانهم حتى طوعت لأشعيا نفسه أن ينضوَ عنه ثيابه ويمشي عاريًا في الأسواق كاشفًا عن سوأته يدعو إلهه أن يسلِّط أشور ذات البأس والجبروت على أهل مصر، فتلحق بهم هزيمة ماحقة، وتسوقهم إلى بلادها يرسفون في أغلال الأسْر وهم عراة حفاة على النحو الذي يعرضه أشعيا على يهوه متخذًا من نفسه وسيلة إيضاح:
«وتأكل كعكًا من الشعير. على الجزء الذي يخرج من الإنسان تخبزه أمام عيونهم» (حزقيال ٤: ١٢).
وانظر إلى هوشع يُبدي مسوغات زواجه إحدى المومسات:
«قال الرب لهوشع: اذهب خذ لنفسك امرأة زنًى وأولاد زنًى. لأن الأرض قد زنت زنًى تاركة الرب» (هوشع ١: ٢).
ولا عجب في أن يتزوج نبيٌّ من بني إسرائيل بمومس بعد أن افترع النبي الإسرائيلي لوط ابنتيه:
«فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة. ودخلت البِكر واضطجعت مع أبيها … فحبلت ابنتا لوط من أبيهما» (تكوين ١٩: ٣٣–٣٦).
وبعد أن تخلَّى أبو أنبيائهم إبراهيم عن امرأته سارة لفرعون وأصاب من جرَّاء ذلك ثروة وافرة:
«وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتُن وجمال.»
«وقال إبراهيم عن سارة امرأته: هي أختي. فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة» (تكوين ٢٠: ٢).
وبعد أن سار ابنه إسحاق أبو إسرائيل على خُطاه:
«وسأله أهل المكان عن امرأته. فقال: هي أختي. لأنه خاف أن يقول امرأتي لعل أهل المكان يقتلونني من أجل رفقة؛ لأنها كانت حسنة المنظر» (تكوين ٢٦: ٧).
(١٣) يهوه
مر العبريون بمختلف المراحل العقائدية التي مر بها غيرهم من العشائر البدائية، فانتقلوا من المذهب الطبيعي (ناتورزم) إلى المذهب الحيوي (أنيمزم). وعبدوا قوى الطبيعة كالشمس والقمر والكواكب والأشجار والأحجار، وعرفوا الآلهة المتعددين ذوي الاختصاصات المحدودة، ولبثوا يعبدونها دهرًا قبل أن يتجهوا صوب الإله الواحد.
وكان من أسماء آلهتهم القدامى «إيل» أم؛ ومن ثَمَّ فإن يعقوب «إسرائيل» …
«أقام هناك مذبحًا ودعاه إيل إله إسرائيل» (تكوين ٣٣: ٢٠).
وقد عبدوا «أنات» ملكة السموات، وهي إلهة سامية قديمة:
«بل سنعمل كل أمر خرج من فمنا فنبخر لملكة السموات ونسكب لها سكائب كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا ورؤساؤنا في أرض يهوذا وفي شوارع أورشليم فشبعنا خبزًا وكنا بخير ولم نرَ شيئًا» (أرميا ٤٤: ١٧).
وعبدوا كذلك «أشيما» إله النار والأوبئة عند البابليين.
وقد كان «يهوه» أيضًا إلهًا للنار؛ وذلك ما جعله يتراءى لموسى في شُجيرة مشتعلة:
«وظهر له مَلاك الرب بلهيب نار من وسط عُلَّيقة. فنظر وإذا العُلَّيقة تتوقد بالنار والعُلَّيقة لم تكن تحترق» (خروج ٣: ٢).
كما أنه كان إلهًا للأوبئة:
«قدامه ذهب الوبا وعند رجليه خرجت الحُمَّى» (جبقوق ٣: ٥).
«حينئذٍ بنى سليمان مرتفعةً لكموش رجس المؤابيين على الجبل الذي تجاه أورشليم ولمولك رجس بني عمون» (١ ملوك ١١: ٧).
ومولك معناها ملك. وقد كان «ملك» من ألقاب يهوه المعروفة. ويبدو أن كلًّا من يهوه ومولك قد عُبد في صورة العجل.
«إله الآلهة الرب، إله الآلهة الرب، هو يعلم» (يشوع ٢٢: ٢٢).
ولسنا نعرف متى ظهر اسم يهوه أول مرة، والأرجح أن ذلك كان بعد أن استوطن اليهود كنعان. وكان النطق بهذا الاسم محظورًا إلا في مقامات خاصة:
«لا تنطق باسم الرب إلهك باطلًا؛ لأن الرب لا يبرئ من ينطق باسمه باطلًا» … (خروج ٢٠: ٧).
ومعنى هذا الاسم سرٌّ مجهول، وقد يكون معناه «أنا الذي (هو) أنا» أو «الخالد». وفي كتاب الفُرس المقدس يقول أهورا مزدا لزرادشت: «أنا الذي هو أنا»، وفي «كتاب الموتى» يرمز قدماء المصريين إلى الحياة بكلمة «عنخ» ومعناها «ذاك الذي يعيش».
وقد انتابت دِين اليهود تغيرات تترى لم تقتصر على أن استُبدلت:
باسم إبرام مؤسِّس هذا الدين اسم إبراهيم وباسم الجماعة القومي «إسرائيليون» اسم يهود بل شملت كذلك اسم الله، فكان:
ألوهيم في قصة نوح.
الشداي في قصة إبرام.
يهوه في قصة يعقوب.
وكان هذا الإله في بادئ الأمر يُلقِّب نفسه ﺑ «إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب»:
«وقال الله أيضًا لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم» (خروج ٣: ١٥).
ثم أصبح يلقِّب نفسه ﺑ «إله العبرانيين»:
«تدخل أنت وشيوخ بني إسرائيل إلى ملك مصر وتقولون له الرب إله العبرانيين التقانا» (خروج ٣: ١٨).
ثم بإله إسرائيل:
«وبعد ذلك دخل موسى وهارون وقالا لفرعون هكذا يقول الرب إله إسرائيل أطلق شعبي ليعيدوا لي في البرية» (خروج ٥: ١).
ولم يدَّعِ قطُّ أنه إله البشر أجمعين، بل هو على النقيض من ذلك أقرَّ بأن ثَمَّة آلهة آخرين وأبدى غيرته منهم؛ فقد كانت السماء في ذلك الوقت تغصُّ بالآلهة، منهم عشتورت إلهة الصيدويين وكموش إله المؤابيين وملكم إله العمونيين … وهَلُمَّ جرًّا. ولم يكن إله العبرانيين إلا واحدًا من أولئك الآلهة القَبَليين الذين كانوا يُعبدون في عهد البداوة. وقد جعل أولى وصاياه العشر «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي» … (خروج ٢٠: ٣).
وكرر هذا المعنى غير مرة:
«فالآن اخشَوا الرب واعبدوه بكل أمانة وانزعوا الآلهة الذين عبدهم آباؤكم في عبر النهر وفي مصر وأعبدوا الرب» … (يشوع ٢٤: ١٤).
«من ذبح لآلهة غير الرب وحده يهلك» … (خروج ٢٢: ٢٠).
ونرى من حديث يفتاح الجلعادي إلى ملك بني عمون في أمر كموش إله المؤابيين أن يفتاح كان يعد كموش إلهًا حقًّا مثل يهوه:
«والآن الرب إله الإسرائيليين قد طرد الأموريين من أمام شعبه إسرائيل أفأنت تمتلكه. أليس ما يملِّكك إياه كموش تمتلك، وجميع الذين طردهم الرب إلهنا من أمامنا فإياهم نمتلك» … (قضاة ١١: ٢٣-٢٤).
كان عُبَّاد يهوه يعتقدون أنه الإله الواحد عندهم، ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أنه الإله الوحيد في العالم كله، وكانوا يتحدثون عنه بقولهم: «ربنا»؛ أي رب بني إسرائيل وحدهم، وكانوا يفاخرون به الشعوب والقبائل المتاخمة التي تعبد آلهةً يراها اليهود دون يهوه شأنًا:
«لا مثل لك بين الآلهة يا رب» (مزمور ٨٦: ٨).
«لأني عرفت أن الرب عظيم وربنا فوق جميع الآلهة» … (مزمور ١٣٥: ٥).
«وسقط أخزيا من الكوَّة التي في عُلِّيَّته التي في السامرة فمرِضَ وأرسل رسلًا وقال لهم: اذهبوا اسألوا بعل زبوب إله عقرون إن كنت أبرأ من المرض. فقال مَلاك الرب لإيليا التشبي. قم اصعد للقاء ملك السامرة وقل لهم أليس لأنه لا يوجد في إسرائيل إله تذهبون لتسألوا بعل زبوب إله عقرون» (٢ ملوك ١: ٢-٣).
«أيها الرب إله إسرائيل. ليس إله مثلك في السماء من فوق ولا على الأرض من تحت» (١ ملوك ٨: ٢٣).
(١٤) صفات يهوه
كان لبعض الفِرق اليهودية آلهة محلِّيون بقي طرفٌ من آثار عبادتهم حتى زمن أرميا عندما غزا البابليون يهوذا:
«لأنه بعدد مدنك صارت آلهتك يا يهوذا» … (أرميا ١١: ١٣).
- (١)
إسرائيل في الشمال، وحاضرتها السامرة. وقد دمَّرها الأشوريون سنة ٧٢٢ق.م بقيادة سرجون الثاني ووضعوا نهايةً لتلك المملكة.
- (٢) يهوذا في الجنوب، وحاضرتها أورشليم١٣٤ وقد أخربها البابليون بقيادة ملكهم بختنصَّر١٣٥ سنة ٥٨٦ق.م. وسبَوْا عددًا غفيرًا من أهلها ساقوهم إلى بابل حيث عاشوا عبيدًا مسخَّرين إلى أن غزا الملك الفارسي كيروش «قورش» الكبير بابل سنة ٥٣٨ق.م. وأطلق من بها من اليهود وقد أُشربوا حضارةً أعرق من حضارة العبريين وأرقى، وخبروا ما كان للبابليين من مناسك واحتفالات تعبُّدية وقصص دينية، فلما قفلوا إلى إسرائيل إذا هم يجدون من بقوا فيها من الطَّغَام قد لابَسوا مَن حولهم من الشعوب وتطبَّعوا بطباعهم وعبدوا آلهتهم، فلم يجد الكهنة بُدًّا من التنديد بأولئك الآلهة الأجناب. وكان من أثر الذلة التي ضُربت على بني إسرائيل في الأسر زهاءَ نصف قرن أن عَمَدوا إلى التشبُّه بإلههم القومي والازورار عن منافسيه. ولكن ذلك لم يكن هو التوحيد بالمعنى العلمي للكلمة.
وقد فنَّد و. روبرتسن سميث القول بأن اليهود أسهموا في إدخال التوحيد على العقائد الدينية، وأوضح أن ما يسمونه الاتجاه نحو الوحدانية إنْ هو إلا الاتحاد بين الدين والحكم الملكي.
ونحن حين نتحدث عن وحدانية الله نتحدث ضمنًا عن البعث في يوم الدينونة ومجازاة المسيء بالعقوبة والمحسن بالمثوبة، فذلك من متممات معنى الألوهية ووحدانيتها، وبغيره يكون الإيمان بالوحدانية ناقصًا غير تام. بَيْدَ أن اليهود لم يكونوا يؤمنون بالبعث والجزاء بعده، ولم يكن يدور في أخلادهم شيء عن النعيم والجحيم في الدار الأخرى، ولم يعرفوا شيئًا من أمر الملائكة المجنَّحين إلا بعد أن شاهدوا صورها في الآثار البابلية مدة سَبْيِهم في بابل؛ ولهذا عدَّ النقاد ذكر الملائكة في الآية:
«وسمعت صوت إنسان بين أولاي فنادى وقال يا جبرائيل فهِّم هذا الرجل الرؤيا» … (دانيال ٨: ١٦).
دليلًا قاطعًا على أن سِفر دانيال لم تخُطَّه يَرَاعَةُ النبي دانيال عند سقوط بابل في يدي قورش سنة ٥٣٨ق.م بل كتبه آخرون بعد ذلك بثلاثة قرون أو أربعة حول سنة ١٦٤ق.م.
أجل، كان اليهود يعتقدون أن مَن أثِمَ منهم لقي عقابه في العاجلة، فرتَّبوا على ذلك أنه إذا أصاب امرءًا منهم أذًى في نفسه أو في عياله أو ماله كان ذلك دليلًا على أنه سَلَفَ له اقتراف إثمٍ كبيرٍ يُطلِقون مَخِيلاتهم في تصوُّره ويُلصقونه به.
ومن ثَمَّ أمسك يهوه عن الشرك بنفسه وانثنى ينادي بأنه الإله الأوحد لا إله غيره:
«أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي» … (أشعيا ٤٥: ٥).
«وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» … (تكوين ١: ٢٦).
«حينئذٍ تكلم سليمان. قال الرب إنه في الضباب. إني قد بنيت لك بيت سُكنى مكانًا لسُكناك إلى الأبد» (١ ملوك ٨: ١٢-١٣).
«ومن حلف بالهيكل فقد حلف به وبالساكن فيه» … (متى ٢٣: ٢١).
وهو يفرض على عابديه فرائض من حيوانات …
«صحيحة لا عيب فيها» عدد ١٩: ٢٠.
ويطلب إليهم إتحافه بالبواكير من ثمار الموسم، ويسلِّط السباع الضارية والحيات اللوادغ والأوبئة الفتاكة على من يعصيه ويخالف عن أمره.
وله مثل ما لنا من جوارح:
«ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لَوْحَي الشهادة: لَوْحَي حجر مكتوبَين بإصبع الله» … (خروج ٣١: ١٨).
وله حواس كحواسنا، ومن ذلك أنه شمَّ ريح القَتَر مما شواه له نوح من اللحم بعدما رست به سفينته على البر عند انحسار الطوفان:
«فتنسَّم الرب رائحة الرضا» (تكوين ٨: ٢١).
«فحمي غضب الرب على موسى» … (خروج ٤: ١٤).
«وبسط المَلاك يده على أورشليم ليُهلكها، فندم الرب عن الشر وقال للمَلاك المُهلِك الشعب كفى. الآن رُدَّ يدك» (صموئيل ٢٤: ١٦).
وهو يغار من الآلهة الآخرين:
«وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر» (تكوين ٣: ٢٢).
وقد أغرق الخلق بالطوفان، لم يستثنِ منهم غير نوح وذرِّيَّته، ثم أثار الفُرقة بين تلك الذُّرِّية لكيلا يتسنى لهم بناء مدينة في أرض شنعار، وهي المدينة التي كفُّوا عن ابتنائها وأُسميت بابل:
«وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هَلُمَّ ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض. فكفُّوا عن بنيان المدينة» (تكوين ١١: ٦–٨).
لقد جعل الإسرائيليون إلههم صورةً منهم. وقد رسم الكهنة هذه الصورة بمدادٍ من الدم فإذا هو إلهٌ راعبٌ يلتذُّ الأنين والتنهدات، يظل الإنسان ما عاش يرتجف بين يديه من الهلع، غير السمع والطاعة فليس له. ولقد عزَوْا إلى هذا الإله أقوالًا من بنات أفكارهم ونحَلُوه أعمالًا من تلفيق مخيلاتهم، ووصفوه: بأنه وحش مفترس:
«فأني أنا أفترس وأمضي آخذ ولا مُنقِذ» (هوشع ٥: ١٤).
«أصدمهم كدِبَّة مُثْكِلٍ وأشقُّ شغاف قلبهم وآكلهم هناك كلبوةٍ، يمزِّقهم وحش البرِّية» (هوشع ١٣: ٨).
وبأنه غشاش مخادع:
«فقلت: آه يا سيد الرب، حقًّا إنك خداعًا خادعت هذا الشعب وأورشليم قائلًا يكون لكم سلام، وقد بلغ السيف النفس» (أرميا ٤: ١٠).
وبأنه وَلوعٌ بالخمر:
«فقالت الأشجار للكَرْمة: تعالي واملكي علينا. فقالت لها الكرمة: أأترك مِسْطاري الذي يُفرح الله والناس وأذهب لكَي أملك على الأشجار» (قضاة ٩: ١٢-١٣).
وبأنه أكولٌ منهوم؛ زار خليله إبراهيم ذات يوم وتناول الطعام عنده هو واثنان من ملائكته فأكرم إبراهيم وفادتهم وأحسن قِرَاهم:
«ثم أخذ زُبدًا ولبنًا والعجل الذي عمله ووضعها قدَّامهم. وإذ كان هو واقفًا لديهم تحت الشجرة أكلوا» (تكوين ١٨: ٨).
وأولم له نوحٌ وليمة شواء عقب انحسار الطوفان، كما سلف، فعفا عن البشر وآلى على نفسه ألَّا يُغرقهم بالطوفان مرةً أخرى:
«وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح. فتنسَّم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه لا أعود ألعن الأرض أيضًا من أجل الإنسان» (تكوين ٨: ٢٠-٢١).
ورمَوه بالعجز:
«وكان الرب مع يهوذا فملَك الجبل، ولكن لم يطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد» (قضاة ١: ١٩).
وهي ترجمة تفتقر إلى الأمانة وصوابها:
ولكنه (الرب) لم يَقْوَ على دحر سكان الوادي … إن صورة هذا الإله الغضوب الذي يشير إلينا بإصبعه متهددًا وهو يصرخ في وجوهنا: لا تفعلوا كذا، وإياكم وكذا، وويل لمن يفعل كذا، هي أكبر عثرة في سبيل الإنسانية الساعية إلى تحرير نفسها من الخوف والجهل وإلى تطهير ذهنها من أساطير الهمج البدائيين.
(١٥) الضحايا البشرية
كان يهوه: كغيره من آلهة الشعوب المنحطة، يتطلب من بني الإنسان أضاحي بشرية:
«لا تؤخر ملء بَيْدَرك وقطْرَ معصرتك، وأبكار بنيك تعطيني» (خروج ٢٢: ٢٩).
وهذه الترجمة تُعوزها الدقة. والترجمة الصحيحة هي:
«لا تتوانَ في تقديم باكورة ما ينضج من ثمرك وما تعصر من خمرك، وهبْ لي البِكر من ولدك.»
فإذا نذر امرؤٌ ابنه للرب في لحظة من لحظات الضعف النفسي والتهوُّس الديني لم يكن له أن يعدِل عن ذلك وأن يفتدي ابنه بالمال، وعليه أن يسوق بنفسه فلذة كبده إلى حيث يجد كأس المنون:
«كل محرَّم يحرِّمه إنسان للرب من كل ماله من الناس والبهائم ومن حقول ملكه فلا يباع ولا يُفَكُّ. إن محرَّم يحرَّم من الناس لا يُفدى. يُقتل قتلًا» (لاويون ٢٧: ٢٨-٢٩).
«ونذر يفتاح نذرًا للرب قائلًا: إن دفعت بني عمون لِيَدي فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون؛ يكون للرب وأُصعِده محرقة … ثم أتى يفتاح إلى المصفاة إلى بيته، وإذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص. وهي وحيدة، لم يكن له ابن ولا ابنة غيرها … وكان لمَّا رآها أنه مزَّق ثيابه وقال: آه يا ابنتي قد أحزنتِني حزنًا وصرت بين مكدري لأني قد فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع. فقالت له: يا أبي هل فتحت فاك إلى الرب؟ فافعل بي كما خرج من فيك بما أن الرب قد انتقم لك من أعدائك بني عمون. ثم قالت لأبيها: فليُفعل لي هذا الأمر؛ اتركني شهرين فأذهب وأنزل على الجبال وأبكي عذراويتي أنا وصاحباتي. فقال اذهبي. وأرسلها إلى شهرين. فذهبت هي وصاحباتها وبكت عذراويتها على الجبال، وكان عند نهاية الشهرين أنها رجعت إلى أبيها ففعل بها نذره الذي نذر وهي لم تعرف رجلًا. فصارت عادةً في إسرائيل أن بنات إسرائيل يذهبن من سنة إلى سنة ليَنُحْنَ على بنت يفتاح الجلعادي أربعة أيام في السنة» (قضاة ١١: ٣٠–٤٠).
ويبدو مما كتبه ميخا نحو سنة ٧٠٠ق.م، وما كتبه حزقيال بعد ذلك بسنوات أن اليهود لم ينفكُّوا يُحرقون بنيهم وبناتهم قرابين ليهوه، حتى عصرٍ متأخر غدت فيه التضحية ببني الإنسان أمرًا يبعث على النفور ويثير الحنق، فاعتاض القوم من الأضحيات البشرية أضحيات من الخراف وما إليها، كما نرى في قصة إبراهيم وولده إسحاق. وأنكر الأنبياء المتأخرون هذه التضحية فقالوا على لسان يهوه:
«هل أُعطي بِكري عن معصيتي، ثمرة جسدي عن خطية نفسي.»
ولكن يهوه ليس بمستطيع أن يتنصل مما أسلف من أوامر، وأن يبهت من خلَوْا من أنبيائه في وجوههم ويَجْبَههم بالتكذيب، فكان عليه أن يلتمس لنفسه عذرًا من إصداره تلك الأوامر التي جاء اليوم ينسخها ويبرر فرضها عليهم فيما مضى:
يعني أنه أنزل عليهم هذه الشريعة الفاسدة على عمد وفرض عليهم التضحية بأفلاذ أكبادهم بُغية إيذائهم والتنكيل بهم ليعلموا أنه الرب.
لقد كان يهوه دائمًا طَلُوبًا للقرابين، ولطالما عمرت مائدته بألوان من لحوم الأطفال والرجال والأبقار والأغنام، وكان آخر أضحية قدِّمت له هو ابنه الوحيد يسوع، فما إن ارتوى بدمه المسفوح حتى فكه وطابت نفسه وأصبح يؤثِر المال الصامت، الذهب والفضة، على صنوف اللحوم جمعاء، فمضى يحضُّ الخلق على افتداء بنيهم وأداء مال الفدية إليه:
«وكل بِكر إنسان من أولادك تفديه» (خروج ١٣: ١٢).
«كل بِكر من بنيك تفديه» (خروج ٣٤: ٢٠).
«غير أنك تقبل فداء بِكر الإنسان وبِكر البهيمة النجسة تقبل فداءه» (عدد ١٨: ١٥).
(١٦) إله في صندوق
وأمر يهوه — القادر على كل شيء، الحالُّ بكلِّ مكان — بأن يصنعوا له صندوقًا يقبع فيه، وبيَّن أوصافه، وحدَّد مقاييسه، وعيَّن اسم النجار الذي يُعهد إليه في صنعه، ونوع الخشب الذي يُتخذ منه، وصور التماثيل التي يُحلَّى بها غطاؤه، وأسهب في ذلك غاية الإسهاب؛ ومن ذلك قوله:
وقد كان هذا الإله الثاوي في الصندوق محرَّم الرؤية واللمس على الناس باستثناء الكهنة وحدهم، فمن انتهك هذا التابو فجزاؤه الموت الزؤام:
«وضرب أهل بيتشمس لأنهم نظروا إلى تابوت الرب وضرب من الشعب خمسين ألف رجل وسبعين رجلًا» (١ صموئيل ٦: ١٩).
والراجح أن فكرة الصندوق أو التابوت هذه مستعارة من قدماء المصريين؛ فقد كانت توابيتهم تُحمل بتلك الطريقة، وهذا بيانها:
«وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربع. على جانبه الواحد حلقتان، وعلى جانبه الثاني حلقتان. وتصنع عصَوين من خشب السنط وتُغشِّيهما بذهب. وتدخل العصَوين في الحلقات على جانبي التابوت ليُحمل التابوت بينهما» (خروج ٢٥: ١٢–١٤).
وهكذا نجد أن العبريين لم يستعيروا من المصريين حليَّ الذهب والفضة فحسب بل استعاروا منهم نظام التوابيت كذلك.
وقد لاحظ بعضهم أن توابيت المصريين كانت تحتوي رمز الحياة ودوامها، فدار بأخلادهم أن العصا والحجرين وهي ما وضعه موسى في الصندوق، قد تكون رمز الذكورة، وما التابوت نفسه إلا رمز الأنثوية. ولا غَرْوَ أن تكون عبادة عضو الذكورة من الدعائم التي يقوم عليها دين اليهود؛ فإن هذا الدين مقتبَس من شعبَين وثيقَي الإيمان بهذه العقيدة، وهما الشعبان البابلي والمصري.
كان الأقدمون يُبدون غاية الإعجاب بأعضاء التناسل ويُعربون عن تَجِلَّتِهم لما تنطوي عليه من قوةٍ خلَّاقة وما لها من قدرةٍ معجزة على الإخصاب، وكانوا يربطون بين إخصاب النساء وإخصاب الأرض؛ ولهذا جعلت بعض القبائل، تنتخب ملِكًا وملكة للربيع يباشران الاتصال الجنسي على الملأ ليشيع الخصب في الأرض فتفشو غَلَّتُها، وكانوا في بعض البلاد يحتفلون في أيام البذر فيُلابِس أفراد الجنسين بعضهم بعضًا ويتناكحون ما طاب لهم فيسفر ذلك عن إخصاب النساء ذوات الأزواج العقماء.
وكانوا يعتقدون أن في عملهم هذا إيحاء للأرض بأن تخرج في الربيع عن التحفظ الذي تلتزمه في الشتاء. وقد عرفت هذه الاحتفالات في اليونان وعند الرومان، كما أنها شوهدت خلال العصور الوسطى في فرنسا وإنجلترا. ولا يزال شيء من هذه الإباحة الجنسية ملحوظًا في حفلات اللهو التنكرية التهريجية (الكرنفالات) ببلاد الغرب، وفي الموالد الدينية ببلاد الشرق.
«وقال إبراهيم لعبده كبير بيته المستولي على كل ما كان له: ضع يدك تحت فخذي فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض ألَّا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم … فوضع العبد يده تحت فخذ إبراهيم مولاه وحلف له على هذا الأمر» (تكوين ٢٤: ٢–٩).
«وبنَوا هم أيضًا لأنفسهم مرتفعات وأنصابًا وسواري على كل تلٍّ مرتفع وتحت كل شجرة خضراء. وكان أيضًا مأبونون في الأرض» (١ ملوك ١٤: ٢٣-٢٤).
كان هذا الإله الثاوي في الصندوق يُتخذ — كغيره من الأوثان — للعِرَافة، وكانت رؤيته ولمسُه محرَّمين على الناس باستثناء الكهنة وحدهم، فمن انتهك حرمته من غير هؤلاء فجزاؤه الهُلْك.
وقد تولى هذا الإله قيادة بني إسرائيل في مَهَامِهِ سيناء أربعين عامًا في رحلة كانت خليقةً ألا تستغرق ٤٠ يومًا. وهم ينسبون إلى هذا التابوت، كما يُطلقون عليه، الفضل في تمكُّنهم من عبور نهر الأردن:
وكانوا يعتمدون على هذا التابوت في دحر الأعداء. وقد باءوا مرةً بالهزيمة فعلَّلوا ذلك بأن التابوت لم يكن في معيَّتهم؛ إذ إن المقاتلين كانوا قد «صعدوا إلى رأس الجبل، وأما تابوت عهد الرب وموسى فلم يبرحا من وسط المحلة فنزل العمالقة والكنعانيون الساكنون في ذلك الجبل وضربوهم وكسروهم» (عدد ١٤: ٤٤-٤٥).
وقد صد اليهود عن التابوت ولَوَوْا كَشْحهم عنه لمَّا أَلْفَوْه قد استُنفِدت قُواه، وحدث بعد ذلك أن مُنُوا بالهزيمة في قتالهم للفلسطينيين دون أن يكون التابوت معهم، فقرَّ رأيهم أن يعيدوا التابوت إليهم وأن يمنحوا يهوه الهرِمَ فرصةً أخرى.
(١٧) مضي اليهود في عبادة الأوثان
«وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» (تكوين ١: ٢٦).
«وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر» (تكوين ٣: ٢٤).
وهم لم يقتصروا على أن آمنوا بالآلهة الأجانب:
«من مثلك بين الآلهة يا رب» (خروج ١٥: ١١).
بل لقد عبدوها كذلك ضاربين بالوصية الأولى عُرْض الحائط، وفي ذلك يقول يهوه:
«لأنهم تركوني وسجدوا لعشتورت إلاهة الصيدونيين، ولكموش إله المؤابيين، ولملكوم إله بني عمون، ولم يسلكوا في طرقي ليعملوا المستقيم في عيني» (١ ملوك ١١: ٣٣).
وقال داود في شبابه يشكو موطنيه إلى مليكه شاول ويحمِّلهم تبعة لجوئه إلى الفلسطينيين أعداء وطنه ودينه:
«إنهم قد طردوني اليوم من الانضمام إلى نصيب الرب قائلين: اذهب اعبد آلهة أخرى» (١ صموئيل ٢٦: ٢٩).
ومفاد القول أن عبادة يهوه محدودة بتخوم بني إسرائيل؛ ولهذا فإن المدعو نعمان قائد جيش آرام «سورية» سأل النبي أليشع، عندما أبرأه من البرص، أن يطرفه بقدر من ثرى بلاد إسرائيل ليعبد فوقه إله إسرائيل ويذبح عليه الأضحيات التي يقرِّبها له:
«فقال نعمان: أمَا يُعطى لعبدك حمل بغلين من التراب؛ لأنَّه لا يقرِّب عبدك محرقة ولا ذبيحة لآلهة أخرى بل للرب» (٢ ملوك ٥: ٧١).
وقد عبد اليهود كل ما عبده غيرهم من الشعوب البدائية في عصور الجاهلية، عبدوا الأوثان وعبدوا العجل الذهب. وقد أشار «العهد القديم» إلى عبادتهم للعجول في غير موضع؛ ومن ذلك أن الملك يربعام الذي خلَف سليمان أمر بصنع عجلين من ذهب:
«فاستشار الملك وعمل عِجْلَي ذهب وقال لهم: كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم. هو ذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر. ووضع واحدًا في بيت إيل وجعل الآخر في دان» (١ ملوك ١٢: ٢٨-٢٩).
«زَنِخَ عِجْلُك يا سامرة» (هوشع ٨: ٥).
وكان يهوه يُعبد في بقاع إسرائيلية شتَّى في صورة عجل ذهب، وكان أنبياء القرن الثامن ق.م ينظرون إلى عبادة العجل على أنها ضربٌ من عبادة يهوه وإن كانوا يرونه ضربًا غير مستحب. وقد احتوى هيكل أورشليم نفسه على رموز لعبادة العجل. وبارك يربعام ملك يهوذا هذه العبادة فلم يكن لإيليا وأليشع قِبَل بالاعتراض عليها؛ ولهذا قصَرا حملاتهما على عبادة الآلهة الأجانب مثل بعل الفينيقي وكانت عبادته قد تطرَّقت إلى مملكة اليهود مع الملكة إيزابل عند زفافها إلى أخاب.
لقد عبدوا العجول رمز القوة والإخصاب قبل أن يَعبروا نهر الأردن إلى كنعان، فلمَّا عبَروه عبدوا البعليم وغيره من آلهة الوثنيين. وفي «العهد القديم» أن سليمان زيَّن الهيكل بالصور والتماثيل، وأنه انكفأ يعبد أصنام الشعوب المجاورة ولم يُمسِك عن ذلك طوال حياته:
وعندما تربع حزقيا بن آحاز على عرش مملكة يهوذا حوالي سنة ٧٢٠ق.م وجد القوم ما زالوا عاكفين على عبادة الأوثان فتسخَّطه ذلك:
«وأما لابان فكان قد مضى ليجزَّ غنمه. فسرقت راحيل أصنام أبيها. وخدع يعقوب قلب لابان الآرامي إذ لم يخبره أنه هارب» (تكوين ٣١: ١٩-٢٠).
وكان داود أيضًا يقتني الترافيم. فلما بحث عنه الجند ذات يوم ليُنفذوا فيه أمر الملك شاول بقتله هرَّبته امرأته ميكال بنت شاول:
«فأنزلت ميكال داود من الكوَّة. فذهب هاربًا فأخذت ميكال الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطته بثوب» (١ صموئيل ١٩: ١٢-١٣).
وبعد ذلك بزهاء ثلاثة قرون؛ أي في القرن الثامن ق.م كان النبي هوشع يعدُّ الترافيم شيئًا لا غناء عنه في العبادة؛ فهو يتحدث إلى العاهرة التي اشتراها بخمسة عشر شاقلًا من الفضة منبئًا إياها أن البلاد أوغلت في الإثم ولجَّت في المعصية، فكتب عليها يهوه أن تمر بها أوقات عصيبة يبلغ من هول المحنة فيها أن تزول منها الترافيم:
«وقلت لها تقعدين أيامًا كثيرة لا تزني ولا تكوني لرجل، وأنا كذلك لك؛ لأن بني إسرائيل سيقعدون أيامًا كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة وبلا تمثال وبلا أفود وترافيم.»
وعبدوا الإنسان.
«وعاد بنو إسرائيل يعملون الشرَّ في عينَي الرب، فشدَّد الرب عجلون ملك موآب على إسرائيل، لأنهم عملوا الشر في عيني الرب.
فجمع إليه بني عمون وعماليق، وسار وضرب إسرائيل، وامتلكوا مدينة النخل.
فعبد بنو إسرائيل عجلون ملك موآب ثماني عشرة سنة» (قضاة ٣: ١٢–١٤).
(١٨) في سبيل التوحيد
كان العبريون منذ زمن سحيق يعبدون يهوه مجسَّمًا في صورة أسطوانة من الحجر، أو هم — بتعبيرٍ آخر — كانوا قد نحلوا معبودهم الحجري هذا صفة الألوهية وأطلقوا عليه اسم يهوه، فكيف أصبح هذا العمود القومي المقدَّس إلهًا قادرًا على كل شيء، وكيف صارت بهم الحال إلى الوحدانية؟
- (١)
الوضع الاجتماعي والسياسي لأسباط بني إسرائيل خلال المدة التي تبدأ بالقرن التاسع ق.م وتنتهي بالقرن الخامس ق.م.
- (٢) نزعة خاصة في عقول الساميين إلى التوحيد، ومن بَدَوَات١٦٥ أرنست رنان اللامعة قوله إن العقل السامي مفطور على التوحيد. لقد مر الساميون بطور عبادة الآلهة المتعددين ثم جرت منهم محاولة للتوفيق بين شتيت الآلهة فأسبغوا على كلٍّ منهم ما للآخرين من خصائص وصفات، فنصلت الألوان المميزة لكلٍّ منهم والفارقة بين بعضهم وبعض حتى التبس الأمر في شأنهم وقد حدث شيء من ذلك في بلدان غير سامية مثل مصر واليونان ولكن الأمر لم يبلغ فيها شأوًا بعيدًا.
فقد كان إله العبرانيين مخبوءًا في ظُلمة تابوت أو متواريًا في غبشٍ داخل خيمة، وكان العبرانيون يجفلون عند رؤيته ويتحرَّجون من النطق باسمه، فبقيت آلهتهم دون أشكال واضحة أو ملامح محددة.
وبخلاف مصر ذات الجو الجاف الذي يدرأ العطب والفساد عن المومياوات والأصنام والمقابر والمعابد، كانت البلاد التي استوطنها العبريون تتعاورها أطوارٌ جوية عنيفة من أمطار تنهمر ورياح تتناوح١٦٦ وتبعًا لذلك تتأثر المومياوات والآثار المقدَّسة فيسرع إليها التفتت والبِلى. وهكذا تقوضت هذه الأشياء؛ فاندرست عبادة الأسلاف، واغتصب الآلهة ذوو الخطر مكان الرجل التاريخي، وسُمِّي الآلهة القدامى بأسماء جديدة متطفلة عليهم فأصبح ملكرت بعل مدينة صور يُعبد في زمن متأخر على وهم أنه الإله الإغريقي هرقل. وكان ببلوس صنمان يُعبدان على أنهما الإلهان السوريان أدونيس وعشترت، ثم دار الزمن فأصبحا يُعبدان باعتبارهما الإلهين المصريين أوزيريس وإيزيس.١٦٧وقد كان هذا الازدياد في الشَّبه بين مختلف الآلهة ورغبة القوم في التوفيق بينهم مما عبَّد الطريق في سبيل المناداة بالوحدانية فيما بعدُ، وساعد على ذلك أن التصورات الدينية عند الساميين كانت مشوبة بشيءٍ من الإبهام مردُّه إلى:- (١)
خلوِّ حضارة الساميين من الفنون؛ فقلَّما دار بخَلَد أحد منهم أن ينقش صورةً لإلهه.
- (٢)
الخصائص المتأصلة فيهم والتي نرى الآن نموذجًا لها في العرب وما رُكِّب في طبائعهم من كآبة وكبرياء وحذر واسترسال في التخيل واستغراق في التأمل.
هذا ومن الخير أن نلاحظ:- (١)
أن يهوه كان منظورًا إليه دومًا على أنه إله بني إسرائيل القومي.
- (٢)
وأنه كان إلههم الأعظم على غرار زيوس في اليونان وجوبتر في روما.
- (٣)
وقد أعلى مكانه في أعينهم وجعله يزعم على سائر الآلهة المَحلِّيين، بوصفه الإله القومي، أن بني إسرائيل كانوا يقيمون في فلسطين على قلق، وكانوا جاليات متناثرة يحدق بها الأعداء، وكانت الحرب سجالًا بين الفريقين.
- (٤)
وكانت عبادة يهوه هي الرباط القومي الذي يوثق بين الأسباط المتناثرة المتنافرة، فهم يحملونه معهم في المعارك ليقاتل إلى جانبهم. وهذا التضامن بين الإله والقبيلة هو ظاهرة واضحة من ظواهر العبادة عند الساميين.
وقد ازداد بنو إسرائيل إدراكًا لذلك بعد ما التأم شملُهم على عهد داود وغدَوْا شعبًا واحدًا اتخذ من أورشليم عاصمة له.
- (٥) ويرجع الفضل في صيرورة يهوه إلهًا للجنس الإسرائيلي برمَّته١٦٨ إلى ما قام به داود من إحضاره يهوه إلى أورشليم وما نهض به سليمان من بناء هيكل له، حتى إذا ما انقسمت المملكة إثر موت سليمان أصبح يهوه هو الإله الأعظم للمملكة الجنوبية «يهوذا» على الأقل.
- (٦)
وقد انتفع يهوه بما هو مذكور من أمره في مبتدأ الوصايا العشر من أنه «إله غيور»؛ أي إنه لا يطيق أن يُشركه في هيكله إله آخر، فإن ذلك جعل «داجون» إله الفلسطينيين يخرُّ على وجهه بين يديه ولا يقوى على البقاء في حضرته:
«وإذا بداجون ساقطٌ على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب ورأس داجون ويداه مقطوعة على العتبة. بقي بدن السمكة فقط» … (١ صموئيل ٥: ٤).
وهكذا فرض سدنة يهوه على الذين يتعبدون له أن ينصرفوا انصرافًا تامًّا عن الآلهة الآخرين، وجعلوا ينظرون إلى أولئك الآلهة على أنهم أوثان، فغدا يهوه هو الإله الحي الواحد، على الأقل في أرض إسرائيل.
- (٧)
وكان رجال الكهنوت قد حظروا صنع تماثيل ليهوه اكتفاء بالحجر المقدس الذي أودعوه التابوت، فكان القوم يولُّون وجوههم شطر «شيلوه» ثم شطر «أورشليم» متخذين منها قبلة تدعم الوحدة القومية.
- (٨)
وكان رجال الكهنوت قد حظروا صنع تماثيل ليهوه الدبلوماسي ما يحفظ عليهما استقلالهما المزعزع وسط إمبراطوريات قوية في مصر والعراق. بَيْدَ أن المملكة الشمالية ما عتَّمت أن تلقَّت في القرن الثامن ق.م ضربة قاصمة إذ أغار عليها الأشوريون واجتاحوا عاصمتها السامرة في سنة ٧٢٢ق.م فطغى التحمُّس على عبَّاد يهوه في ذلك العصر الذي نستطيع أن نسميه عصر النبوَّات والذي أبرز لنا تلك الشذرات الأدبية العبرية في المقاومة السلبية ومكافحة الغزاة بغير سلاح ومناصرة يهوه للعبريين في قتال أعدائهم قتالًا فتَّ في أعضادهم فلم تغنِ عنهم أفراسُهم ومركباتهم الحربية، فإذا قصر الإسرائيليون عليه عبادتهم ونبذوا سائر الآلهة فسيعصف بأشور ويجعلها موطئًا لأقدامهم. تلك هي اللغة التي كان يتحدث بها أشعيا ومن إليه.
ومن عجبٍ أن الحزب اليهوي؟ تلك الفترة التي كان الكيان القومي كله معرَّضًا فيها للانهيار كي يقوم بالإصلاح الديني الشامل.
كان الكهنة في ذلك الوقت هم وحدهم على شيء من العلم، وكانوا يكتبون الأسفار الدينية ويلقنون الناس أنها موحًى بها، ويتخذون من ذلك برهان صحتها، لا أنَّها صحيحة ومن ثَمَّ تكون موحًى بها.
وتوفَّر حلقيا رئيس الكهنة في أورشليم على وضع سِفر جلا فيه الشريعة مدونة على نمط جديد منقحة حسبما كانت تقتضي الأحوال والملابسات المستجدة إذ ذاك، ثم شخص إلى يوشيا ملك يهوذا (حوالي سنة ٦٢١ق.م) وزعم له أنه سقط له من أوابد١٦٩ الهيكل سِفرٌ كان بديدًا١٧٠ بين سجلات الهيكل يتضمن معلومات تاريخية وأحكامًا خلقية وتشريعية أدلى بها موسى فيما غبر وهي لا تدع وجهًا من أوجه الخلاف فيما يعرض من المسائل إلا حسمته. وأفلح الكهنة في ضم الملك يوشيا إلى جانبهم، فما ونى أن دعا كبار القوم إلى الهيكل حيث أمر فتلى عليهم سِفر الشريعة وفرض عليهم بسلطانه الإصلاح الديني المنشود:«وأمر الملك حلقيا الكاهن العظيم وكهنة الفرقة الثانية وحراس الباب أن يخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل وللسارية ولكل أجناد السماء، وأحرقها خارج أورشليم في حقول قدرون وحمل رمادها إلى بيت إيل، وهدم بيوت المأبونين التي عند بيت الرب … وذبح جميع كهنة المرتفعات التي هناك على المذابح وأحرق عظام الناس عليها، ثم رجع إلى أورشليم … وكذلك السحرة والعرافون والترافيم والأصنام وجميع الرجاسات التي رُئيت في أرض يهوذا وفي أورشليم أبادها يوشيا ليقيم كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب» (٢ ملوك ٢٣: ٤–٢٤).
ولم يُقيَّض ليوشيا أن يعمر بعد ذلك طويلًا ليسهر بنفسه على ذلك الإصلاح الديني الكبير؛ فقد زحف «نخاو» ملك مصر على أشور مخترقًا مملكة يهوذا، وانبرى يوشيا لصد هذا الزحف في مجدو ففتك نخاو به وبجيشه في مجدو.
وانصرمت بعد ذلك سنون وإذا بختنصَّر وقد انقضَّ على نخاو وظهر عليه في قرقميش واستولى على يهوذا ودخل حاضرتها أورشليم سنة ٥٨٦ق.م وأباحها لجيشه ثم أخربها وقوَّض مرابعها وعاد منها إلى بلاده بألوف الأسرى والسبايا، وبذلك أصبحت مملكة يهوذا ولاية تابعة لبابل وكفَّت دهرًا عن أن يكون لها وجود مستقل.
وقد أغفل المؤرخون ما صار إليه العمود الحجر الذي هو يهوه، وما يدرينا لعل الغزاة فعلوا به ما فعله يوشيا بالسارية التي «أحرقها … ودقها إلى أن صارت غبارًا» (٢ ملوك ٢٣: ٦).
ومهما يكن من أمر فقد انقطع ذكر يهوه — بوصفه شيئًا ماديًّا — منذ تلك الحقبة، فلم نعد نسمع نبأ يتعلق به وبالتابوت الذي كان يثوي فيه.
ومن عجبٍ أن اختفاءه التام هذا من صحيفة التاريخ بوصفه إلهًا محسوسًا ملموسًا لم يكن سببًا لاضمحلال عبادته وخمودها في بلاد اليهود، بل كان مؤذِنًا بتحولها إلى عبادة روحية توحيدية منتشرة في مختلف أرجاء العالم؛ ذلك أن هذا الاختفاء حدث بعد أن أوشك دين يهوه على استيفاء تطوره، فإن الأنبياء ومن … كانوا — حتى قبل السبي البابلي — قد شرعوا في تحسين فكرتهم في يهوه وقدسيته وسموِّه على البشر وقدرته على كل شيء، فلما كان السبي اتسع هذا الفهم الروحاني وجعل العبريون ندرًا في منفاهم يتصورون يهوه حاكمًا رفيع الذرى يسكن السماء غير مقيد بقيود المادة ولا تراه العيون ولا تقام له التماثيل أو يرمز إليه بشيء.
وبدأت الوحدانية تغزو قلوب العبريين أول مرة في بابل، وما هي إلا أن أصبحت عقيدة لهم؛ فقد وقع في وهمهم أن كل ما حل بهم من الغوائل إنما يرجع إلى هجرهم يهوه ومخالفتهم عن أوامره؛ ومن ثَمَّ جعلوا يزدادون التصاقًا بهذا الإله الذي يمثِّل وجودهم ووحدتهم القومية.
وحدث في سنة ٥٣٨ق.م أن قورش الكبير عاهل فارس غزا بابل من بها من اليهود الذين اجتلبهم إليها بختنصَّر منذ نصف قرن وردَّ لهم آنية الذهب والفضة التي كان بختنصَّر قد غنمها من هيكل سليمان، ويسَّر العاهل الفارسي لهم إقامة معبد لربهم في أورشليم عوضًا عن هيكل سليمان الذي كان البابليون قد أتوا عليه:
«هكذا قال كورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم التي في يهوذا» (عزرا ١: ٢).
وعاد الأسرى والسبايا من بابل إلى يهوذا وهم على ثقة بأن صلاحهم وفلاحهم متوقفان على تجديد دينهم، ولم يكن بين أولئك الذين آبوا أخيرًا إلى أورشليم غير نفر قليل، إن كان قد آب منهم أحد على الإطلاق، ممن سبق لهم أن عرفوا هذا الإله الحجر الذي كان ثاويًا في التابوت. لقد تبوأ يهوه مكانه في السماء بين النجوم الزهر، أما الهيكل الذي بناه القوم له بعد عودتهم من السبي فإنه لم يُقِم فيه بشخصه ولم يَصِر «بيت الله» بالمعنى الحرفي للكلمة كما كان سلفه هيكل سليمان الذي قوَّضه بختنصَّر.
وطوى الموت قورش فخلَفه على عرش فارس عاهلٌ إثر عاهل، نذكر منهم ارتحشستا وفي عهده رجع عزرا بن … بن … بن … بن هارون الكاهن — شقيق موسى — من بابل إلى أورشليم وناط به الملك إصلاح الشريعة اليهودية وخوَّله في ذلك سلطانًا كبيرًا، فسار عزرا على نهج جده حلقيا وقام بالحركة الإصلاحية الثانية مبتدعًا شريعة جديدة نسبها إلى موسى:
«اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إسرائيل فأتى عزرا الكاتب بالشريعة أمام الجماعة من الرجال والنساء وكل فاهمٍ ما يسمع … وأجاب جميع الشعب: آمين آمين، رافعين أيديهم وخرُّوا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض. واللاويون أفهموا الشعب الشريعة والشعب في أماكنهم، وقرءوا في السفر في شريعة الله ببيان وفسَّروا المعنى وأفهموهم القراءة» (نحميا ٨: ١–٨).
وظفر يهوه بالنصر بفضل فقدانه لخصائصه المميِّزة واقتصاره على الاتصاف بالصفات العامة للألوهية، وهو ما أكسب الوحدانية قوةً عظيمةً وسنَّى لها أن تشق طريقها في كل مكان؛ فالوحدانية هي الدين مختزلًا إلى عنصره المركزي البسيط.
وقد تركت الأفكار الجديدة أثرًا عميقًا في مناحي العقيدة اليهودية، فأقبل أولو الأمر يدوِّنون الأخبار التاريخية جميعها في صورة يهوية؛ وبذلك لبست التوراة والأسفار التاريخية الثوب الذي ترتديه الآن، وتغيَّر مفهوم القوم عن يهوه؛ فبعد أن كانوا، حتى القرن السادس ق.م، يعدُّونه الإله القومي لإسرائيل جعلوا الآن ينظرون إليه على أنه إله العالم كله على النحو الذي يعرفه الإسلام عن الله والذي تعرفه المسيحية عن الآب في الوقت الحاضر. بَيْدَ أن ذلك لم يحُلْ دون بقائه على ارتباط وثيق باليهود، وكان هؤلاء يرجون أن تعرف الأمم مجده وعظمته من طريقهم، وظل الأمر كذلك خمسة قرون في انتظار المناداة به خارج إسرائيل، وعقد الاتحاد بينه وبين شتَّى القوميات، وكان الفضل في ذلك لبولس الطرسوسي.
- (١)
(١٩) نشأة الوحدانية في مصر
•••
وفي التوراة نفسها دليل على قِدم التوحيد في مصر؛ فقد قرَّب فرعون إليه العبد العبراني يوسف وأبدى إعجابه به:
«فقال فرعون لعبيده: هل نجد مثل هذا رجلًا فيه روح الله» (تكوين ٤١: ٣٨).
ولم تكن الوحدانية هي كل ما نقله أحبار اليهود عن عقائد المصريين؛ فقد كان كهنة المصريين يلقِّنون الناس أصول ديانتهم قبل أن تطالعهم التوراة بقولها:
وكذلك عن مصر نقل وَضَعَةُ التوراة الأجزاء الأساسية في قصصها، وعدَّلوا ما نقلوه حتى أصبح يلائم الأساطير الشائعة بين قومهم. وهم لا يمتازون من غيرهم من واضعي الكتب المقدَّسة الأخرى في مختلف أرجاء المعمورة إلا بأنهم لم يمتدَّ حديثهم فيتناول الحياة المستقبلة وبأنهم لم يعدوا بالجنة ويتوعدوا بجهنم؛ فقد كان يهوه يقتصر في السيطرة على عباده بما يجزيهم به في هذا العالم من مثوبة طيبة وما يُنزله بهم فيه من عقوبة رادعة. أما حكاية النعيم والجحيم فهي إضافات حديثة العهد نسبيًّا.
ولعل في ذلك أيضًا ما يُفسِّر تسمية الناس بأسماء الحيوان عند كثير من الأمم. وقد سمَّى العرب أبناءهم باسم، فهد ونمر وبَبْر وأسامة (أي أسد) وضيغم وكليب وجحش … إلخ.
وقد أحصينا المرات التي وردت فيها كلمة «السحر» ومشتقاتها في القرآن فوجدناها ٦٣ مرة، ووردت فيه كلمة «الجن» و«الجان» و«الجنة» ٣٩ مرة، وكلمة «الشيطان» ٧٠ مرة، وكلمة «الشياطين» بصيغة الجمع ١٨ مرة.
وورد فيه ما فسَّروه بأن سليمان كان قد جمع كتب السحر ودفنها، فلما مات دلَّت الشياطين عليها اليهود فاستخرجوها، فوجدوا فيها السحر فتعلَّموه ورفضوا كتب أنبيائهم، وتعلَّموا كذلك ما أُنزل على الملكين هاروت وماروت وهما — على تفسير ابن عباس — ساحران من الناس كانا يعلِّمان الناس السحر، أو ملكان أُنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس.
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ … فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ … (البقرة: ١٠٢).
وقد ذكر إسرائيل ولفنسون في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب» أن هذه الكلمة عبرية الأصل؛ إذ معناها «الرفيق»، وقد كانت تُطلَق في العصور الأولى على كلِّ عضو من أعضاء الشيعة اليهودية الدينية «الفروشيم»، ثم لما تغلَّبت هذه الفئة فأصبح كل متعلم من اليهود يلقَّب بلقب حبر.
وقد توهَّم بعض الكتاب المحدثين أن واحدة الأقاصيص هي أقصوصة؛ قياسًا على أساطير وأسطورة، وأكاذيب وأكذوبة … إلخ، وهو خطأ شائع؛ فإن كلمة «أقصوصة» لا وجود لها في اللغة. ومثل أقاصيص في هذا أقاويل؛ فليس لها مفرد على زنة أفعولة.
أما التماثيل التي نُصبت في الجزيرة العربية أيام الجاهلية فجُلُّها — إن لم تكن كلها — من أصلٍ أجنبي. وقد وردت أسماء بعضٍ منها في غير موضع من القرآن، ومنها الأصنام الثلاثة التي كانوا يعدُّونها بنات الله. أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (النجم: ١٩–٢٢). فأما اللات، وقد نُصِب تمثالها في الطائف، ومناة وقد نُصب تمثالها على سيف بحر القلزم (أي البحر الأحمر، والقلزم بلد قديم خرب بُنيت في موضعه مدينة السويس) فهما من أصلٍ بابلي، وأما العُزَّى، وقد نُصب تمثالها بالحراض، فهي الربَّة المصرية المعروفة إيزيس.
وأشهر أصنام الكعبة وأعلاها كعبًا هو هُبَل، وهو تمثال من العقيق الأحمر جيء به من الشام، وزعموا أنه يتشفَّع إلى الله في الاستسقاء، واسمه معرَّب عن هبعل؛ أي البعل.
مستخلص من كتاب «نحو آفاق أوسع» للسيدة أبكار السقاف.
وقد ظل الكثير من اليابانيين إلى عهدٍ غير بعيد يجهلون اسم إمبراطورهم، وحدث أن اكتشف أحد ضباطهم أن الاسم الذي أطلقه على ابنه هو اسم الميكادو فاعتزل عمله وانتحر تكفيرًا عن انتهاكه حُرمة هذا التابو.
وهنالك قصة طريفة تصوِّر كيف انتَزعت إيزيس الماكرة من رع إله الشمس اسمه السرِّي، وهذه القصة تقول: كانت المرأة إيزيس تصبو إلى أن ترتقي إلى عالم الآلهة، فبنت عزمها على أن تعرف الاسم الكبير للإله «رع» كي تتوسل به إلى قضاء وطَرِها، ولم يكن يعرف هذا الاسم سواه. وكان ذلك الإله قد طعن في السن فكان فمه يتحلَّب فينحدر ريقه على الثرى، فجمعت إيزيس قدرًا من لعابه وعجنته وجَبَلت منه حيةً أطلقتها تسعى في الطريق التي يسلكها الإله الكبير في مسيرِهِ بين شطري مملكته المزدوجة. ولدغته الحية فزعق من شدة الألم، وسرى السم في جسده فتولَّته رِعْدَة وأخذت أسنانه تصطكُّ. فأقبلت إليه إيزيس وسألته أن يُطلِعها على اسمه لتدعوه به فيعيش، واستجاب لها من بعد إلحاح فأنجته من أثر السم. بَيْدَ أنه لم يملك بعد أن غُلِب على اسمه إلا أن يتوارى عن سائر الآلهة، وشغر مكانه في سفينة الأبدية.
وعند بعض الفرق الإسلامية أن لله غير أسمائه الحسنى، سبحانه وتعالى، ما يُطلَق عليه «الاسم الأعظم»، وبه يدعى تضرعًا وخُفية، فيقال: «بحق الاسم الأعظم».
وهذه الصيغة أحدث عهدًا؛ بدليل استعمال الواو العاطفة، وبدليل ذكر الحقل؛ وهو ما يؤخذ منه أنها كُتبت في مرحلةٍ تاليةٍ لمرحلة البداوة.
وقد بينت التوراة طريقة الخلاص من العقاب على انتهاك هذه الوصية؛ وهي أن يؤدِّي كلٌّ من المعدودين إلى الكهنة نصف شاقل من الفضة، وهو يعادل ثلث دولار أمريكي، مع ملاحظة ما كان للنقود في ذلك العصر من قيمة شرائية عظيمة: «يعطون كل واحد فدية نفسه للرب عندما تعدُّهم؛ لئلا يصير فيهم وبأٌ عندما تعدُّهم. هذا ما يعطيه كلُّ من اجتاز إلى المعدودين نصف الشاقل بشاقل القدس» (خروج ٣٠: ١٢-١٣). ومن المعلوم أن الكهانة قد حُبست على أولاد الكاهن الأكبر هارون أخي موسى وحفدته؛ فهم الذين تنتهي إلى خزائنهم حصيلة هذه الفريضة.
والأصل في التابو الذي بُنيت عليه الوصية العاشرة هو التوقِّي من الحسد.
وقد تذكَّر إخوة يوسف جنايتهم عليه وتذاكروها حين اتهمهم يوسف، ولمَّا يعرفوه على حقيقته بأنهم قدِموا مصر لكي يتجسسوا أخبارها: «فأجابهم رأوبين قائلًا: ألم أكلِّمكم قائلًا: لا تأثموا بالولد وأنتم لم تسمعوا. فهو ذا دمه يطلب» (تكوين ٤٢: ٢٢).
ومما كان يحفظ على العبريين تضامنهم أنهم كانوا يَعُدُّون أهل الأمم الأخرى «تابو» لا يحق لهم المشاركة في شهود الشعائر الدينية اليهودية كالاقتراب من المسكن المقدَّس وأكل الخبز المقدس بين يدي الرب وحرق البخور أمامه.
ويضيف الكاثوليك إليهم السيدة مريم البتول (أي العذراء المنقطعة عن الزواج إلى الله) وقد منَّ الله عليها بأبناء وبنات كثيرين.
«أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخو يعقوب ويوسى ويهوذا وسمعان. أوَليست أخواته ها هنا عندنا. فكانوا يعثرون به» (مرقس ٦: ٣).
وله معجزة فريدة في بابها: «ثم صعد من هناك إلى بيت إيل، وفيما هو صاعد في الطريق إذا بصِبيان صغار خرجوا من المدينة وسخروا منه وقالوا له اصعد يا أقرع، اصعد يا أقرع. فالتفت إلى ورائه ونظر إليهم ولعنهم باسم الرب. فخرجت دبتان من الوعر وافترستا منهم اثنين وأربعين ولدًا» (٢ ملوك ٢: ٢٣-٢٤).
ويختلف الآلهة المشابهون للإنسان عن أولئك المشابهين للشمس وما إليها من الأجرام الطبيعية، مثل مردك وآمون وآتون.
ولقد أدى بالناس اعتقادهم في مشاكلة الله لهم ومداخلته إياهم في شئونهم إلى شَلِّ أذهانهم وعرقلة تقدُّمهم وإلى قعودهم عن تقصِّي أسباب المرض؛ لأنه كان في حسبانهم عقابًا لهم من الله على ما اقترفوا من آثام؛ ومن هنا ثارت ثورة رجال الدين عندما لجأ الجراحون أخيرًا إلى استخدام مواد التخدير (البنج) وأعلنوا أن الله فرض الألم على بني آدم عقابًا لهم على خطاياهم، وأن تلطيف آلام الولادة يخالف نصًّا صريحًا في التوراة هو: «بالوجع تلدين أولادًا» (تكوين ٣: ١٦).
وأنكروا على المتمدنين المهذَّبين أن يستعينوا في أكلهم بالشوكة والسكينة، محتجِّين بأن الله خلق لنا الأصابع لنأكل بها. وعندما اخترع بنيامين فرنكلين قضيب الصاعقة قالوا إنه اخترع «قضيب الكفر والإلحاد» ليسلب الله مقدرته على إيقاع العقاب بمن يثيرون غضبه. وعندما اخترع توماس أ. أديسون المصباح الكهربي زعموا أن هذا المصباح يُبطِل ما اقتضته مشيئة الله من جعل العالم مظلمًا في الليل. ووصفوا الطائرة التي اخترعها الأخوان «رايت» بأنها مخترَع إلحادي تجديفي سوف يُتخذ لاقتحام ملكوت الله وبأنها إهانة طائرة إلى وجه الله … وهَلُمَّ جرًّا.
وفي هذه الآيات الموحى بها خطأٌ لا مَعْدى عن التنبيه إليه، هو أن ابنة شاول التي تزوجها عدريئيل المحولي وكان له منها خمسة الأولاد الذين ذبحهم داود لم تكن «ميكال» بل أختها الكبرى «ميرب»، وكان شاول قد وعد داود بها بادئ الأمر ولكنه أخلف وعده ثم ارتضى أن يزف إليه ابنته الصغرى ميكال. أما ميكال التي تزوجها داود ثم هجرها في المضجع فقد ماتت دون أن تُعقِب: «ولم يكن لميكال بنت شاول ولد إلى يوم موتها» (٢ صموئيل ٦: ٢٣).
ومع ذلك فالراجح أن اليهود لم يكونوا يجدون في عبادتها خيانةً عظيمة ليهوه كما كانوا يجدون في عبادة الآلهة الأجانب.
وتلت ذلك مساعٍ للتوفيق بين يهوه والشمس. وقد كان الحجر المقدس الذي هو يهوه، في إسرائيل — كما كانت المسلة في مصر — يرمز إلى معنًى جنسيٍّ ويمثِّل كذلك أشعة الشمس. وبعد أن كان يسكن في التابوت ويرحل معه أينما رحل وتُقِلُّه عجلةٌ تجرُّها الثيران، جعل المتأخرون، وربما كان ذلك في القرن الثامن ق.م، مسكنه في السماء، وهي فكرة أكادية الأصل، وجعلوا ينسبون إليه ظواهر تتعلق بالنور والنار؛ فهو يظهر في مدين لموسى في نبتة مشتعلة، ويسعى أمام بني إسرائيل في البرِّية على هيئة مارج من النار: «وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق وليلًا في عمود نار ليضيء لهم …» (خروج ١٣: ٢١).
ومن ذلك نرى أن عبَّاد يهوه اقتبسوا غير قليل من عبادات آلهة بعض العناصر الفلكية التي كانوا قبلُ يعدُّونها معاديةً ليهوه كالاستراحة في يوم السبت وهو يوم البؤس عند الإله الخبيث كيوان أو زحل. وقد كان عابدوه يرغبون عن قضاء أية حاجة لهم في ذلك اليوم. وكان اليهود يعدُّون تقسيم الشهر القمري (وهو المدة المقدَّسة لعشترت ملكة السماء) إلى ٤ أسابيع عملًا وثنيًا، ثم تبنَّوا يوم السبت وفسروه بأن الله استراح فيه بعدما خلق الدنيا في ٦ أيام.
بَيْدَ أن يعقوب وبنيه لم يدخلوا مصر إلا بعد أن انقضى على هذا الحديث قرنان.