قِصَّةُ الطُّوفَان
عرض القرآن الكريم لطوفان نوح غير مرة، فعندما استغلظ أمر المشركين ولقي الرسول منهم عنتًا فادحًا نزلت آيات من القرآن تَتْرَى تنذرهم بوخامة عاقبتهم وتبصِّرهم بما حلَّ بأقوام قبلهم بغَوا على أنبيائهم فأهلكهم الله بوسائل شتَّى.
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (الحاقة: ٥-٦).
وأما قوم نوح فأُهلكوا بالطوفان (الذاريات: ٤١–٤٦). وليست قصة قوم نوح في القرآن بمختلفة في الأهمية كثيرًا عن قصص عاد وثمود وغيرهم بل هم سواء، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (إبراهيم: ٩).
ويلاحَظ أن مسرح الأحداث في كل قصة لم يكن يتجاوز قريةً واحدة أو بضع قرًى متجاورات. وليس يشذ الأمر عن ذلك فيما يتصل بقوم نوح؛ فقد أهلك الله قريتهم بالطوفان؛ أي بفيضان عارم من دجلة والفرات كان عنيفًا مخيفًا كذلك الذي دهم أهل العراق في أبريل من سنة ١٨٣٩م؛ إذ طمت أمواه الرافدين فطغت في شوارع بغداد وما إليها حتى ناهزت مترين وركبت البلاد حتى كانت السفن تمخر فيها، وكان المرء لا يبصر أينما ضرب ببصره غير لجَّة لا يدرك الطرف مداها ولا يبرز منها غير ذُرَى المآذن وشَطْب النخيل (وهو سعفها الأخضر).
وإذ كان إبرام وصحبه مؤسِّسو فلسطين من تلك النواحي فمن الممكن القول بأن مَخِيلتهم كان قد انطبع فيها ذكرى فيضان من هذا القبيل.
ولكن صُنَّاع التوراة لم يَرُقْهم أن يكون شأن نبيِّهم العبري نوح هينًا كشأن النبي العربي صالح، ولم يُرضِهم أن ينحصر طوفان نبيِّهم وراء حدوده المَحلِّية، ولم يَقْنَعوا بأقل من إغراق الكوكب الأرضي من أكنافه الأربعة، ورأوا ألا تكون قصة الطوفان قصة مستقلة قائمة بنفسها فوصلوها بغيرها؛ ليجعلوا منها فصلًا هامًّا في ملحمة صهيونية يهودية طويلة مفادها أن الله اختبر عباده، فأبدى بنو آدم من بادئ الأمر كثيرًا من سوء السيرة وخبث السريرة، وما فتئت ذرية آدم تزداد على الزمن ارتداغًا في الأوحال وإيغالًا في الآثام حتى أصبحت لا تطاق فلم يجد خالق الأرض مندوحة عن إغراقها: ما عليها ومن عليها، لمْ يَسْتَحْيِ من بني آدم كلهم غير نوح وبني نوح وزوجاتهم؛ فجماع البشرية في الوقت الحاضر هم بنو نوح كما أنَّهم بنو آدم.
على أن الطوفان الذي أغرق الناس لم يُغرق الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس من الجِنَّة والناس؛ ومن ثَمَّ لم يبرح الناس سادرين في مهاوي الغواية لا ينبو عنهم في ذلك سوى بني إسرائيل، فاتخذهم الله شعبًا مختارًا له، وارتضى لهم الصهيونية شعارًا، وإبادة جيرانهم العرب مذهبًا، وواثَقَهم على أن يُقطِعهم أخصبَ الأودية المعروفة في ذلك الزمان وسائر البقعة الوسيطة من الأرض المترامية بين النيل والفرات:
«في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا قائلًا لنَسْلِك أُعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» (تكوين ٢٥: ١٨).
وقد أراد كُتَّاب التوراة أن يسوِّغوا اعتداء الإسرائيليين على البلاد التي يغزونها فادَّعوا أن أهل تلك البلاد قد مُنُوا بلعنة من البطارقة الكبار أمثال نوح وإبرام وإسحاق، وأن الله فضَّل بني إسرائيل على كلِّ مَن عدَاهم، وأحلَّ لهم — من ثَمَّ — سفك دماء سائر الناس واستلاب أموالهم والإجحاف بحقوقهم. ولما كلت قرائحهم البليدة عن تبيان ما اختص إله اليهود به شعبه المختار من عظيم الخلال وما أتاه هذا الشعب من مَجيد المكرُمات التي تُسبِغ عليهم الفضل المزعوم، لجئُوا إلى محاولة إسقاط مروءة الشعوب المعروفة لهم؛ فألصقوا بها وبزعمائها من المخازي ما يُسِفُّ بهم إلى دركات أحط من درْك اليهود، وأقاموا في سِفر التكوين سلسلةً من المصافي، تحجز كلُّ مصفاة منها شعبًا من الشعوب بعد أن يحمِّله الأحبار المؤلِّفون من ضخام الأوزار ما تضيق إزاءه ثقوب المصفاة عن إمراره.
-
(١)
وكان طوفان نوح هو المصفاة الأولى وقد سدت الطريق في وجوه بني آدم ليقتصر المرور على بني نوح وهم طلائع بني إسرائيل.
-
(٢)
وقد أسهبت التوراة في وصف رحلة نوح على متن سفينته، ثم افتنَّت في تبيان ألوان الأطعمة التي قرَّبها نوح على مذبح إلهه بعد انحسار الطوفان، ثم سكتت فلم تذكر من أمره بعد ذلك سوى حادثة واحدة بادية التفاهة كانت هي المصفاة الثانية التي ضاقت ثقوبها عن أن تسمح بمرور حام بن نوح، فأقْصَته هو وابنه كنعان من زمرة الأخيار الذين بارك فيهم آباؤهم، وبذلك لم يظفر بالمرور من الإخوة الثلاثة سوى سام مؤسس الجنس السامي الذي ينتمي إليه بنو إسرائيل.
فقد ذكرت أن نوحًا أخلد إلى حياة الأسرة وعاش زوجًا وربَّ بيتٍ يجمع حوله أولاده وحفدته. وشرع وهو في مستهل القرن السابع من عمره يغرس بستانًا من الكروم حتى إذا ما أينع العنب عصره خمرًا وشرب منها وأفرط في الشرب فغاب عن وعيه وانكشفت سوأته:
«فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجًا … فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الرب إله سام. وليكن كنعان عبدًا لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام. وليكن كنعان عبدًا لهم» (تكوين ٩: ٢٢–٢٧).
وإنَّا لا نرى في وقوع نظر حامٍ على عورة أبيه وتحدُّثه في ذلك إلى إخوته ما يستتبع تلك النتائج الخطيرة التي ترتبت على وشاية أخويه به إذ صب أبوه الموحى إليه لعنته على كنعان بن حام. ولسنا ندري لمَ تخطَّى نوح بلعنته المستجابة حامًا إلى كنعان ابنه، إلا أن تكون القصة كلها قد وُضعت لتبرير المذابح البشعة التي أحدثها الإسرائيليون في فلسطين وما زالوا يُحدِثونها هناك ولتسويغ سفك دماء العرب الكنعانيين التي ضرَّجوا بها ثرى تلك البلاد.
أجل، لقد استطاع كاتبو التوراة بهذه الفرية أن يضربوا بحجر واحد عصفورين معًا:- (أ)
حث اليهود على استعباد شعوب وادي النيل من مصريين وسودانيين وحبش بزعم أن جدهم حامًا باء بلعنة من أبيه نوح.
- (ب)
تحريضهم على اصطلام العرب أصحاب فلسطين بزعم أن جدهم كنعان باء بلعنة من جده نوح، وهؤلاء العرب الكنعانيون هم الذين نافحوا عن الوطن الفلسطيني ما يُرْبِي على ٤ قرون واستعصى على اليهود تدويخهم حتى زمن الملك داود.
- (أ)
-
(٣)
ولما استتب الأمر للساميين بدت الحاجة ماسة إلى مصفاة ثالثة لتنحية لوط عن منافسة عمه إبرام، فذكروا أن لوطًا استطاب المقام في ربوع سدوم وعمورة؛ ذلك الماخور الذي تمارَس فيه متعة الجنس في مختلف ألوانها، ثم انتهى به الأمر إلى أن نزا وهو مخمور على ابنتيه فافترعهما في ليلتين متتاليتين، وأولد إحداهما ولدًا أسماه مؤاب وأولد الأخرى ولدًا أسماه بن عمي، وبذلك لوَّثوا شرف المؤابيين والعمونيين — ألد خصوم الإسرائيليين وأشد محاربيهم صلابةً وشجاعة — وزعموا أن مجيئهم إلى العالم كان وليدَ عملٍ من أعمال العهر والفجور، فهم أولاد زنية؛ وتلك أكبر مثلبة يُرمى بها امرؤٌ في ذلك العصر.
-
(٤)
وهكذا خلا الجوُّ لإبرام، أبي اليهود وأبي الأنبياء. وقد رزقه إلهه ولدين فوجب أن تكون هناك مصفاة تمرِّر أحدهما وتحُول دون مرور الآخر.
وقد فصلت التوراة قصتهما فذكرت أن ساراي امرأة إبرام، وكانت عجوزًا عقيمًا، أشفقت أن يموت زوجها غير مُعقِب وتلك سُبَّة عند العبريين، فاقترحت عليه أن يدخل بجاريتها المصرية هاجر فيكون له منها ولد. وبنى إبرام بهاجر فولدت له إسماعيل، ثم وفد عليه نفر من الملائكة وأصابوا عنده من الطعام الذي جهزته امرأته ساراي ما طابت به أنفسهم فبشروها بأنها ستحمل وتلد، وتحققت البشرى فولدت له إسحاق وهو عبري خالص غير مهجَّن، وبذلك لم يبقَ من حاجة إلى الأَمَة وابن الأَمَة، فطردت سارة جارتها هاجر وابنها إسماعيل وأصبح إسحاق هو الذبيح الذي فداه الله بذِبْحٍ عظيم.
-
(٥)
ورُزق إسحاق ولدين توأمين كان أولهما إبصارًا للنور هو عيسو وتلاه يعقوب، فوجب إقصاء أحدهما من الميدان، ومن الطبيعي أن يُقصي عيسو «العيص» وأن يستبقي يعقوب؛ لأن يعقوب هو إسرائيل أبو بني إسرائيل رؤساء الأسباط (أي القبائل) اليهودية. وقد كُتب الفوز لإسرائيل على أخيه عيسو بفضل مكيدة حاكتها أمه؛ إذ ألبسته ثياب أخيه في غيبته ومضت به إلى أبيه الكليل الطرف وقدَّمت له طعامًا طيِّبًا زعمت أنه من صيد ابنه عيسو، فخُدع الرجل بابنه الأصغر يعقوب فباركه وهو يحسب أنه الابن البِكر عيسو:
«فشم رائحة ثيابه وباركه وقال … ليُستعبد لك شعوب وتسجد لك قبائل. كن سيدًا لإخوتك وليسجد لك بنو أمك. ليكن لاعنوك ملعونين ومباركوك مباركين» (تكوين ٢٧: ٢٧–٢٩).
ويلاحظ أنَّ إسحاق لم يذكر في مباركته هذه اسم ابنه الذي فاضت عليه بركته ولا اسم ابنه الآخر الذي حلَّت عليه لعنته، على نحو ما فعل نوح حين قال:
«ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدًا لهم» (تكوين ٩: ٢٥-٢٦).
فقد كان الحديث كله مفصَّلًا على قد الغرض النهائي الذي يسعى إليه أحبار اليهود وهو إصدار مرسوم (فرمان) يخوِّل بني إسرائيل الحق في أن ينهبوا العالم طرًّا.
وقد عاش نوح بعد الحقبة التي ذكرنا أخباره فيها ٣٥٠ سنة طواه فيها النسيان؛ إذ إن كُتَّاب التوراة أغفلوا أمره فيها كما أغفلوا قبل ذلك ما كان من أمر آدم وحوَّاء بعد طردهما من الجنة فلم نعرف كيف عاشا فوق ظهر الأرض ولا أين طواهما بطنها.
وإنما أغفل كُتَّاب التوراة بقية سيرة نوح لأن الإفاضة فيها لا ينال بها الغرض الوحيد الذي وضعوه نُصْب أعينهم وهم يحبرونها ألا وهو الدعاوة للصهيونية ودعوة بني قومهم إلى الإغارة على البلاد العربية المجاورة ذات الخصب والثراء، وحثُّهم على اجتثاث أهلها والحلول محلَّهم في مرابعهم، واستعباد من بقي منهم في قيد الحياة واستذلالهم وممارسة النخاسة فيهم.
وفي سبيل هذه الغاية لم يبالِ صُنَّاع التوراة أن يُفسِدوا قصة الطوفان إفسادًا شاملًا، وقد أسهبوا في تفصيل ما تسرد من أحداث وتحديد ما تُبيِّن من أوصاف وغلَوا في تضخيم ما تشتمل عليه من إحصاء، فإذا تلك الأحداث ليست مستحيلة الحدوث فحسب، بل هي كذلك تستعصي على التصور، لقد خَيَّل إليهم خبالُهم أنه بما أن الله قادر على كل شيء فمن الميسور أن يُعزَى إليه فعل أي شيء وإنْ تكن فيه لسنن الطبيعة مجافاة، ولأحكام العقل والمنطق منافاة، ولمكارم الأخلاق مجانَبة، ومن الميسور أن يزعموا أنَّ صدره قد وغر عليه من جرَّاء مسلك أناس نكرات في ركن قرية نائية، فما عَتَّم أن غمر بالطوفان وجه البسيطة فإذا الكرة الأرضية قد استحالت كرة مائية، ولم يبقَ ثَمَّ غير خضمٍّ لَجِبٍ لا شاطئ له، تطفو فوق صفحته المتلاطمة جثث الخلائق الأبرياء ومن بينها جثث الذين عاونوا نوحًا في بناء سفينته.
يا لهول الآلام المروِّعة التي عاناها أولئك المساكين وهم يشهدون المياه المتفجرة من أسفل تعلو حثاثًا وتبتلعهم فريقًا إثر فريق، فيهرولون إلى التلال ويصعدون في الجبال في عجلةٍ محمومة علَّها أن تعصمهم من الكارثة. وقد مدَّ الفتيان أيدي المعونة إلى الفتيات واحتضنت الأمهات أولادهن ليدرأن عنهم غائلة الرَّدى، ولكن ما جدوى أن يرحم الهالكون بعضهم بعضًا وقد طردهم الرحمن الرحيم جميعًا من واسع رحمته؟! وما لبث المتسلِّقون أن تهاووا بين اللُّجَج وما أبطأ السابحون أن خذلتهم سواعدهم، فأُخرست الصرخات اللاهفة، وأطبق على العالم صمت الموت الرهيب … حتى إذا ما انحسر الطوفان بعد عام وبعض عام برز سطح الأرض أجرد من النَّبت لا يكسوه إلا جثث المغرَقين.
إنَّ اللُّغة التي كُتبت بها هذه القصة في التوراة لا تدع مجالًا للشك في أنَّها تتحدث عن طوفانٍ عالميٍّ غمر الأرض من أقصاها إلى أقصاها؛ فقد برَّح الأسى بالرب؛ لأنَّه برَّأ الجنس البشري، فحزم أمره على أن يُزهِق نفوس النَّاس جميعًا، ويأتي على جميع مظاهر الحياة في الأرض، وأنفذ مشيئته:
«فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. خمس عشرة ذراعًا في الارتفاع تعاظمت المياه. فتغطت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض» (تكوين ٧: ١٩–٢١).
وفي هذه القصة من الشطط ما جعل بعض المُبرِزين من كُتَّاب المسيحية يتحرَّجون من إقرارها، ويلتمسون المَهرب من ذلك في الزعم بأنها إنما تصِف طوفانًا بحريًّا محليًّا اقتصر أذاه على تلك البقعة من الشرق الأوسط. بَيْدَ أن سهل العراق ليس بالذي يلائم حدوث طوفان بحري يغمر رقعته؛ فهو يرتفع عن سطح البحر في الشمال قرابة ١٨٠ مترًا ويهبط تدريجًا في اتجاه الجنوب على امتداد ٥٠٠ كيلومتر أو ٦٠٠ كيلومتر حتى يدرك البحر.
ولو أنَّ الطوفان كان مقصورًا على المنطقة الممتدة إلى جبال أراراط لبرز لنا سؤال محيِّر هو كيف يمكن أن ينتصب جدارٌ من الماء يُربِي سمكه على ٤ كيلومترات وأن يظل سنةً كاملةً متماسكًا دون أن ينهار فيغمر الماء الأراضي المتاخمة.
- (١)
لماذا خلق الله آدم ثم أباد بني آدم كلهم باستثناء نوح وبنيه وزوجاتهم؟ لماذا لم يوفر على الناس ما جشَّمهم من عناءٍ وعنتٍ، بأن خلق نوحًا وزوجته بادئ بدءٍ تاركًا آدم وحوَّاء وأبناءهما طيَّ التراب الذي جبل منه آدم؟ ما جدوى تلك التجربة المخفقة التي دامت ١٦٥٦ سنة وقد كان جلَّ جلاله في غنًى عنها لسابق علمه بالنتيجة التي ستنتهي إليها؟
- (٢)
لماذا ندم الرب على أنه برأ الحيوان: «فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء لأني حزنت أني عملتهم» (تكوين ٦: ٧)، مع أنَّ الحيوان لم يأكل من الفاكهة المحرمة ولم يطمح ببصره إلى أن يطعم من شجرة الحياة؟
- (٣)
ولماذا أقحم تلك الحيوانات الطاهرة البريئة في تلك المحنة المروِّعة وحملها تلك الآلام الوبيلة؟
في هذه القصة، كما هو الشأن في سائر قصص «العهد القديم» يشاطر الحيوان الإنسان حظه؛ فقد حرى بنو إسرائيل على أن يقتلوا كلَّ من يلقونه — في البلاد التي يغزونها — من الرجال والنساء والأطفال ومن الحيوان كذلك.
ومن المعقول أن تكون هذه هي عدالة بني إسرائيل، ولكن من غير المعقول ومن غير المقبول أن تكون هي عدالة الله.
- (٤)
كيف وصلت الحيوانات التي أقلَّتها سفينة نوح إليها وأكثرها يقيم في أصقاعٍ نازحة؛ فالكنجرو — مثلًا — يعيش في أستراليا دون غيرها، والحيوان الكسلان لا يعيش خارج أمريكا الجنوبية، والزرافة لا تستوطن إلا أفريقيا، وقرد الأورانج أوتان (إنسان الغاب) لا يسكن في غير جزيرتي بورنيو وسومطرة؟
هل طافَ نوح بسفينته على القارات الست في غضون المدة التي أمهله إياها يهوه لإدخال الحيوانات في السفينة وقدرها أسبوع واحد، أو كانت الحيوانات هي التي قدِمت بنفسها إلى السفينة؟
وكيف قفزت الحيوانات التي لا تُحسِن السباحة من قارة إلى أخرى، وكيف كانت الحيوانات تحصل على قُوتِها في الطريق؟
وكم سنة أمضاها الحيوان الكسلان في مسيرة ما يُربِي على ١٠٠٠٠ كيلومتر من أمريكا الجنوبية إلى العراق وهو لا يستطيع أن يقطع أكثر من ١٥ مترًا في اليوم؟
وكيف تسنَّى لنوح أن يودِع السفينة كل هذا الحشد الضخم من الحيوانات في أسبوع واحد.
- (٥)
ما عدد الحيوانات التي استصحبها نوح من كل نوع حتى يحتفظ بمختلف الأنواع؟ ٢ أم ٧ أم ١٤؟
إننا نجد بادئ الرأي أمرًا صريحًا إلى نوح بأن يسلك السفينة من كل زوجين اثنين:
«من كل ذي جسد اثنين. من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرًا وأنثى» (تكوين ٦: ١٩).
ثم نجد بعد ذلك أمرًا مخالفًا لما تقدم يقول: «من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرًا وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرًا وأنثى. ومن طيور السماء أيضًا سبعة سبعة ذكرًا وأنثى» (تكوين ٧: ٢-٣).
إذا أخذنا بالنص القائل بأن نوحًا حمل معه ١٤ أنموذجًا من كل نوع من أنواع البهائم والطيور ألفينا أن ذلك يزيد في عدد الحيوانات التي أقلَّتها السفينة بحيث يجعلها بحاجةٍ إلى سفينة مترامية الأطراف تبدو إزاءها سفينة نوح بأبعادها المعروفة أشبه شيء بقوارب النجاة، وإذا قبلنا النص القائل بأنه لم يأخذ معه سوى زوجين (أي اثنين) من كل نوع ارتطمنا في المحظور عندما يُصعد نوح محرقاته عقب انحسار الطوفان:
«وبنى نوح مذبحًا للرب. وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح فتنسَّم الرب رائحة الرضا» (تكوين ٨: ٢٠-٢١).
- (٦)
كم يومًا لبث تدفُّق الطوفان؟
«كان المطر على الأرض أربعين يومًا وأربعين ليلة» (تكوين ٧: ١٢).
ولم تزل المياه المنهمرة تطمو حتى غمرت الأرض كلها وحجبت قمة أفرست الشاهقة بجبال هيمالايا (ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر ٨٨٤٠ مترًا). وكانت المياه تعلو بمعدل ٢٢٥ مترًا في اليوم؛ أي ما يُذرِّف على ١٠ أمتار في الساعة.
لقد خلق الله الكون كله في ٦ أيام ولكنه استنفذ في إغراق الكوكب الأرضي وحده ٤٠ يومًا.
وبقيت المياه محتفظةً بمنسوبها المرتفع زمنًا غير قليل:
«وبعد مائة وخمسين يومًا نقصت المياه» (تكوين ٨: ٣).
وهذا يفيد أن الطوفان انتهى بعد ٥ أشهر، وإنها لفترة كافية لاستئصال شأفة الجنس البشري وشأفة سائر الحيوان. بَيْدَ أننا نجد عند متابعتنا القراءة أن الكارثة دامت ٣٣٧ يومًا وإن لم نتبيَّن وجه الحكمة في إطالة هذا المشهد الفاجع.
- (٧)
كيف استطاعت هذه السفينة الساذجة البناء المحدودة السَّعَة أن تضم جميع النماذج الحيوانية المتكررة مع عظم عددها؟ إن ما نعرفه من أنواع الحشرات وحدها يُربِي على نصف مليون نوع، وبين الحيوانات المنقرضة ما كان يتسم بضخامة الجِرْم.
وعلى أي أساس انتخب نوح النموذجين أو النماذج المتعددة للأنواع الحيوانية التي أقلَّتها سفينته؟ هل اختار أقوى الحيوانات أو أجملها أو هو التقطها كيفما اتفق؟ وهل كان ثَمَّ حيوانات أخرى لم يقع عليها لاختيار في تلك المباراة للجمال وكمال الأجسام؟
وهل عادت تلك الحيوانات إلى أوطانها في مختلف الأصقاع القطبية والاستوائية وما بينها أو هي هلكت بالطوفان؟
وهل قدَّر نوح أن تكون الإناث غير حوامل حتى لا تورثه دوارًا وتسبب لسفينته متاعب هي في غنى عنها؟
وكيف استطاع، ولم يكن مجهَّزًا بمجهر، أن يميِّز بين الذكر والأنثى من الحشرات وما في حكمها؟
- (٨)
لئن كانت السفينة لا تتسع لمئات الألوف من الحيوانات إنها لأحرى ألا تتسع لما يكفيها من طعام وشراب طوال مُكثها فيها، وإن الحيوان ليحتاج من العلف والماء في العام إلى ما يزن أكثر من عشرة أمثاله.
وجدير بنا أن نلاحظ فوق ذلك تعدُّد ألوان العلوفة اللازمة لمختلف الحيوانات؛ فالعواشب تتقوت بالعشب. واللواحم من السباع تفترس آكلات العشب. ومن الطيور الجارحة ما يأكل البغاث وما إليه من صغار الطير، ومن الطير ما يلتهم السمك والديدان والحشرات وما إلى ذلك، والحرباء تأكل الذباب، وأسد النمل يزدرد النمل، والنحلة تتغذى برحيق الأزهار، أما الزواحف العملاقة فقد كانت تستنفد في غذائها غاباتٍ بأكملها.
- (٩)
لقد حمل نوح معه نماذج حيوانية ولكنه نسي أن يحمل معه نماذج نباتية، فكيف وجدت الحيوانات بعد انحسار الطوفان ما تقتاته وقد أهلك الطوفان نبات الأرض وحيوانها؟ وهل كان من الممكن أن تبقى الأشجار متأصلة في مغارسها وقد أذاب الماء الثرى من حول جذورها؟ وهل كان من الممكن أن تحتمل الأشجار وقْر كيلومترات من الماء لا يقل ضغطها عن ٨٠٠٠ طن على كل متر مربع؟
لسنا ندري كيف ثابَت الحياة إلى عالم النبات، ولكنا نفرض أن الأمر استلزم سنة حتى تُنبت الأرض ما يكفي لعلف آكلات العشب من حيوانات السفينة، ومعنى ذلك أنه كان على نوح أن يحمل مع تلك الحيوانات ما يقوم بأودها سنتين لا سنة واحدة، وهذا يعدل وزنها ٢٠ مرة أو ٣٠.
إنَّا لنرثي لنوح وأولاده وزوجاتهم فقد كان عليهم أن يقوموا بأعمال سُوَّاس للدواب ومروضين للوحوش وحواة للثعابين، وأن يُؤلفوا بين الحيوانات المتعادية بفطرتها (كالذئب والكلب). وكان عليهم أن يكسحوا أرواث الحيوانات وأبوالها ويُلقوا بها من النافذة الضيقة التي ليس ثَمَّ غيرها في السفينة ذات الطبقات الثلاث. ولا ريب أنَّ الروائح الخبيثة كانت تنبعث بقوة في ذلك الإصطبل الطافي فوق العُباب فتزكم آناف نوح وعِتْرته، ولعله كان عليهم أيضًا أن يقوموا بتكييف الهواء على نحوٍ ما ليهيئوا لمختلف الحيوانات ما يلائمها من الأجواء.
- (١٠)
ما الذي كان من أمر الحيوانات التي لا تطول آجالها أكثر من بضعة أسابيع أو بضعة ايام؟ إن الذباب يعيش في طور الحشرة الكاملة أقل من شهر، وتستغرق دورته الكاملة ما دون الشهرين، فهل ماتت الذبابتان اللتان اصطفاهما نوح قبل أن تريا البَر؟
وهل أنتجتا قبل موتهما ٥٠٠ ذبابة جديدة تبيض كل مما فيها من الإناث ٥٠٠ بويضة تخرج منها ٥٠٠ ذبابة أخرى، وهكذا دواليك فلا ينتهي الطوفان بعد سنة وبضعة أيام حتى تكون السفينة قد أصبحت تعج بالذباب.
- (١١)
ما الذي صار إليه أمر السمك والحيوانات البحرية التي تعيش في الماء العذب الفرات وتلك التي تعيش في الماء الملح الأُجَاج بعد أن امتزجت مياه البحار بثمانية أمثالها من مياه الأمطار لكي تحجب قُنَن الجبال؟ أغلب الظن أن كثرة من ذلك السمك قد هلكت وهلكت معها سائر الحيوانات البحرية بعد أن أصبحت المياه التي تحتويها غير ملائمة لحياتها.
- (١٢)
من أين انسابت كل تلك المياه التي غمرت الكوكب الأرضي والتي بلغ سمكها ٩ كيلومترات:
«انفجرت كل ينابيع الغمر وانفتحت طاقات السماء» (تكوين ٧: ١١).
ترى أين هذه الينابيع؟
يتوهَّم الكاتب الموحى إليه أن في قيعان البحار ينابيع في طاقتها أن تفيض بمقادير غير محدودة من الماء مدَّخَرة في مستودعٍ مركزيٍّ بباطن الأرض. ولكن كيف تنبثق المياه من الينابيع إلى الأعلى؟ إن العلم يُنكر هذه الينابيع ويقول بأنه إذا صح أن في باطن الأرض مستودعًا مركزيًّا لمادة ما فإنما تُفعِمه … السائلة لا المياه.
ويتوهم الكاتب الموحى إليه كذلك أن ثَمَّ مقادير هائلة من الماء مودَعة فوق ذلك الجسم الصلب الذي يدعونه الجلد يعنون به قبة السماء:
«وقال الله ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلًا بين مياه ومياه. فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد. وكان كذلك ودعا الله الجلد سماء» (تكوين ١: ٦–٨).
وهذه المياه العليا هي التي تهطل عندما يُمطر الناس، فإذا رضي الله عن عباده الصالحين تفرَّج لهم عن قدر من هذه المياه تروي غُلَّتهم وتُنمي غَلَّتهم.
ولما حزم الله رأيه على إغراق الأرض فتح النوافذ التي في الجلد على مصاريعها فانشعب الماء منها بقوة عارمة وارتفعت مياه البحر حتى طمت على كل طود عظيم.
إننا نعلم اليوم أنَّ الأمطار إنما يسحُّها السحاب، وأنَّ السحاب إن هو إلا بُخار المياه المتصاعد من متون البحار، فإذا ما مطرت السماء ارتدَّت المياه إلى البحار ثم تكرر صعود البخار وهطول الأمطار دون أن يرفع ذلك من مستوى سطح البحر قلامة ظفر، وهو أمرٌ كان الشاعر العربي على بصرٍ به حيث قال:
كالبحر يُمطِره السحاب وما لهفضلٌ عليه لأنه من مائهولكن كُتَّاب التوراة كانوا يجهلون قوانين التبخر.
- (١٣)
ومهما يكن من أمر المنبع الذي مجَّ تلك الأمطار الدافقة فأين ترى تسربت تلك المقادير الهائلة من المياه عندما انحسر الطوفان عن اليابسة؟ إن تصوُّب تلك المياه أي نزولها من عَلٍ أمرٌ يمكن للعقل تصوُّره وإن كان العلم ينكره، أما تصعُّدها إلى عَلٍ فأمرٌ يجلُّ عن التصور.
- (١٤)
وقد هامت السَّفينة على وجه الماء شهورًا طوالًا ثم غاص الماء واستقرت السفينة على جبال أراراط بأرمينيا (على مقربة من حيث ينبع الفرات).
ولم يتبيَّن نوح أحسر الماء عن اليابسة أم هو ما فتئ يغمرها؛ ولهذا أطلق بعض الطيور تستجلي له ذلك، بادئًا بالغراب النوحي:
«وعاد فأرسل الحمامة من الفلك فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها. فعلم نوح أن المياه قد قلَّت عن الأرض فلبث أيضًا سبعة أيام أُخَر وأرسل الحمامة فلم تعُد ترجع إليه أيضًا» (تكوين ٨: ١٠–١٢).
وشجرة الزيتون التي أتت الحمامة نوحًا بورقة منها، كيف تأتَّى لها أن تبقى سليمة وقد ظلَّت أكثر من سنة تحت مياهٍ سُمكها كيلومترات تضغطها ضغطًا ماحقًا مع ما نعرفه من رقَّة شجر الزيتون تحمله؟
- (١٥)
كيف رجعت الحيوانات من جبال أراراط المجلَّلة بالثلوج (لأنَّها فوق خط الثلج الدائم إذ إنها تعلو مستوى سطح البحر بأكثر من ٤ كيلومترات) إلى مواطنها الأُوَل في متباين القارات؟ وكيف اهتدت إلى تلك المَواطن حيث كانت تعيش بنات أجناسها؟ وكم سنة استغرقتها الحيوانات الوئيدة السَّير في مآبها آلاف الكيلومترات والباقي من عمرها لا يفي بذلك؟
•••
من العسير أن يجيب المرء عن أي من هذه الأسئلة بإجابة مُقنِعة؛ فقصة الطوفان اليهودية لا تقبل دفاعًا ولا يسلِّم بصحتها في الوقت الحاضر إلا رجل يفكر في القرن العشرين بعد الميلاد تفكير الذين كانوا يعيشون في القرن العشرين قبل الميلاد؛ رجل يتمتع بعقل كعقول الأطفال وتصديق ساذج كتصديق العجائز.