برج بابل
يذكر الكتاب المقدَّس أن ذرية نوح كلها. وقد كثر عددها بعد الطوفان، ارتحلت مُيمِّمة صوب المشرق إلى أن حطَّت رحالها في أرض شنعار؛ أي في بابل، فأقاموا بها بعض الوقت ثم:
«قال بعضهم لبعض هَلُمَّ نصنع لبنًا ونَشْوِهِ شَيًّا. فكان لهم اللبن مكان الحجر. وكان لهم الخمر مكان الطين» (تكوين ١١: ٣).
ويؤخذ من ذلك أن أولئك القوم توصَّلوا إلى اختراع الآجرِّ دفعةً واحدة دون أن يتدرجوا في صناعة مواد البناء فيبدءوا بصنع اللبن المجفف في أُوَار الشمس ويُشيِّدوا به منازلهم رَدَحًا من الدهر ثم ينتقلوا خطوة تالية فيشووه في النار.
ثم تجاذبوا أطراف الحديث و:
«قالوا هَلُمَّ نَبْنِ لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلا نتبدد على وجه كل الأرض» (تكوين ١١: ٤).
فكيف جال بأذهانهم أن يقوموا بالدعاوة لأنفسهم في عالمٍ ليس فيه غيرهم، وأن يكونوا فيه معلمين؟ وكيف يحول اشتهار اسمهم وذيوع صيتهم دون تشتُّتهم في مختلف أقطار المعمورة؟ وكيف دار في أخلادهم أن يبنوا مدينةً وهم لم يروا مدينةً من قبلُ؟ إن المدن تُبنى في قرون، والمثل الإنجليزي يقول: إن روما لم تُبْنَ في يوم واحد.
ولسنا ندري ما الذي آلت إليه فكرة بناء المدينة؛ ولهذا نقتصر على قصة البرج.
زعم حاخامو اليهود أن ذلك البرج جاوز في ارتفاعه مائة كيلومتر، ومن السهل بناء القصور في الهواء، أما نحن فلا يخالجنا شك في أنه، على فرض صحة القصة، كان دون مائة متر.
وقد عزا المؤرخ اليهودي يوسفس بناء البرج إلى أن «نمرود» بن كوش بن حام بن نوح (تكوين ١٠: ٨–١٠).
أعلن قومه بأنه سيقتصُّ من الله إذا بدأ له أن يُغرق العالم مرة أخرى، وأنهى إليهم أنه سيبني برجًا لا ترقى إلى ذروته المياه يُيسِّر له أن يثأر من الله لأجداده المغرَقين.
ويستفاد من هذه القصة أن القوم لم يثقوا بما عاهدهم الله عليه هم والبهائم حين:
«كلم الله نوحًا وبنيه معه قائلًا: وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم، ومع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم. الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض التي معكم من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الأرض. أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضًا بمياه الطوفان. ولا يكون أيضًا طوفان ليخرب الأرض» (تكوين ٩: ٨–١١).
كان بناة البرج يحلمون بأن يعتلُوا متن القبة الزرقاء، وكانوا يخالونها جسمًا صلبًا أُلصِقت بباطنه الشمس والقمر والنجوم، ويحسبونها لا تعلو كثيرًا على مستوى السُّحب.
إن الذين أوتوا حظًّا من العلم يضحكون من هذا الحلم؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ بناء برج يصل إلى القمر، وهو أقرب الأجرام السَّماويَّة منها وتُعَدُّ الشُّقَّة بيننا وبينه كقفزة البرغوت بالقياس إلى ما بيننا وبين الأجرام السماوية الأخرى، يقتضي أن تنبسط قاعدة هذا البرج حتى تغطي وجه الكرة الأرضية كله وأن تستعمل في بنائه مواد تماثل المواد التي في كتلة الكرة الأرضية خمسين ضعفًا.
لقد كشف الذين دوَّنوا هذه القصة عن جهالة عمياء، وحاشا لله جل جلاله أن يكون على غرارهم في الجهالة فيذعره ما أجمع القوم عليه من غزوه في علياء سمائه حتى إنه لم يلبث أن:
«نزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما» (تكوين ١١: ٥).
من أين نزل؟ أليس هو في كل مكان؟ وفيمَ نزوله؟ هل كان كلِيلَ الطرف وكان يُعوزه منظار مقرب فلم تتسنَّ له الرؤية من بُعد؟
وهل اعتقد أن القوم قادرون حقًّا على إمضاء ما بيَّتوا النية عليه؟
«وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد. لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالفعل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعلموه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض» (تكوين ١١: ٦–٨).
لقد عنَّى نفسه عناء ما كان أغناه عنه؛ فهل نسي قانون الجاذبية؟ هل جهِل مهندس الكون قواعد البناء؟ هل غاب عن وعيه أن بناءً قاعدتُه ذات سطح معين لا يمكن أن يعلو فوق ارتفاعٍ معيَّن؟ ألا إنه لو ترك القوم يتمادَون في البناء لانقلب (البناء) على رءوسهم، فما باله سبحانه قد اضطرب وعظُم بَلْبَاله؟
السبب هو أن هذا الرب لم يكن إلا يهوه، إله قبيلةٍ من الهمج لا يعلم أكثر مما يعلم عابدوه.
•••
- (١)
أن الجنس البشري كان إلى ما بعد الطوفان بفترة من الزمن وإلى قُبيل مولد إبراهام ينطق كله لسانًا واحدًا.
- (٢)
وأن الحال كانت على أن تظل كذلك لولا تلك المحاولة لبناء البرج.
- (٣)
وأن جميع لغات الأرض وُلدت في بابل من اللغة الأم — وهي العبرية — ولادةً خارقةً للعادة بمعجزة.
- (٤)
وأنه ليس بين لغات الأرض جميعًا لغة تبلغ من العمر خمسة آلاف سنة غير اللغة العبرية.
وليست هذه المزاعم بعجيبة من قوم يجهلون سنن التطور ويُنكِرون نظرية النشوء والارتقاء. وإنها لتجافي الحقائق العلمية المسلَّمة، ومنها أن لغات أمريكا الأصلية، على ما بين إحداهما والأخرى من وثوق أواصر القربى، مبتوتة الصلة بلغات العالم القديم، وليس ثم ما يدل على أنها موروثة عن العبريين أو الفينيقيين أو الكاتيين أو غيرهم.
ليست اللغة شيئًا تصنعه الآلهة وتبثُّه في أذهان الناس وإنما هي تنشأ وترتقي تدريجًا في بطء خلال أزمنة طويلة، فإن القبائل والشعوب قد عضَّتها خطوب وحكتها مِحَنٌ وتجارب مختلفة، وشعرت باحتياجات متباينة، واكتنفتها بيئات غير متماثلة، وعلقت بأذهانها انطباعات مما رأت وسمعت وشمت وذاقت ولمست؛ ومن ثَمَّ اختلفت لغاتها وتباينت تصوراتها الدينية ونُظمها السياسية وعاداتها الاجتماعية. وتتركب لغات الهمج من أصوات قليلة لا يستطاع التعبير بها عن شيء غير أفكار أو حالات عقلية محدودة كالحب والاشتهاء والخوف والكره والازدراء، أما اللغات التي تصلح للإفصاح عن أفكار مركبة فلا بد لنموِّها من قرون كثيرة.
وقد جاء في الإصحاح الثاني من سِفر التكوين أن الله عرض جميع أنواع الحيوان بين يدي آدم، وأن آدم جعل يُطلق على كلٍّ منها اسمًا من عنده، فمن أين جاء آدم بهذه الأسماء وهو ما يزال حديث العهد بالخروج من التراب غِرًّا خَلْوًا من التجارب والانطباعات؟!
وكيف حدث أن أصبح هو وحوَّاء والحية يتكلمون لسانًا واحدًا؟! لقد زعموا أن آدم كان يتكلم العبرية في جنة عدن!
«ودعا آدم اسم امرأته حواء؛ لأنَّها أم كل حي» (تكوين ٣: ٢٠).
وأن حوَّاء تكلمت بها بعد خروجها من الجنة:
«وعرف آدم حوَّاء امرأته فحبلت وولدت قايين وقالت: اقتنيت رجلًا من عند الرب» (تكوين ٤: ١).
وإن لامك بن متوشالح تكلم بها قبل الطوفان بستة قرون:
«ودعا اسمه نوحًا، قائلًا: هذا يعزينا عن عملنا وتعب أيدينا من قبل الأرض التي لعنها الرب» (تكوين ٥: ٢٩). وكانت أسماء البطارقة العشرة السابقين للطوفان كلها عبرية.
من الخطل أن يأخذ المرء بما يُفهم ضمنًا من الكتاب المقدَّس من أن اللغة العبرية هي لغة العالم الأصلية؛ إذ إنها ليست سوى لهجة من اللهجات السامية، شأنها في ذلك شأن اللغة العربية واللغة الآرامية. وليس ثمة وشيجة قربى تربط اللغات السامية باللغات الآرية:
«هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض» (تكوين ١١: ٧).
ولكن كيف بلبل الله ألسنتهم وشوَّش لغاتهم؟ هل أفقدهم حافظتهم؟ هل شلَّ جزءًا من أمخاخهم؟ هل ضرب على أعضاء النطق عندهم حتى لا تؤدي النبرات والأصوات التي في اللغة القديمة؟
ولمَ أفضى تبلبُل ألسنتهم إلى أن:
«بددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض فكفُّوا عن بنيان المدينة»؟ (تكوين ١١: ٨).
ولماذا لم يتلبثوا إلى أن يفهم بعضهم بعضًا بوسيلة من الوسائل؟ إن ما كانوا عليه من الضعف والعجز قمين أن يجعل كلًّا منهم يحس الحاجة إلى عون أخيه، وكان الاستمرار في بناء البرج أيسر من الهجرة إلى غير غاية:
«لذلك دُعي اسمها بابل؛ لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض» (تكوين ١١: ٩).
فيا له من تخريج عجيب!
وكم من أسطورة من أساطير العبريين وغيرهم مبعثها اشتقاق لغوي خاطئ.