هذه البالاد الشعرية الشعائرية الموسيقية العربية
فليكن مدخلنا للماهية العربية الثورية، هو أنْ تجيء علاقة عقلانية متسقة بالجماعة وانتفاضاتها، وحاجتها الملحة إلى وعي جديد عقلاني حذر، يجيء وينبع ويزدهر، عبر حقول التراث وحتمية التوارث والتواتر لهذا الإرث الثقافي الحضاري بالمعنى الإثنوجرافي، المتضمن بالضرورة للمنتجات الروحية والشعائرية، فلعل في إعادة الالتفات لحقول التراث الفولكلوري والأسطوري العربي الإسلامي ما يُفضي إلى مزيد من تفهم ظواهره، ولنقل وجوده الجديد، أو حده الثالث الذي يجيء اليوم ماثلًا عبر اكتمال ومخاض الثورتين الكبريين، الفلسطينية والمصرية الماثلة.
ففي إعادة الالتفات إلى هذا التراث من منطلقات عقلية، ودون عزلة عن المضمون الطبقي للثورة العربية المستقبلية الاشتراكية، أهمية في التبصير بالعمل الثوري ذاته عن طريق هذه السير والملاحم شديدة الانتشار بين شعوبنا.
وأذكر مقولة للناقد الأدبي «مارتن إيزلز» يذكر فيها أنَّ المسلسلات الدرامية التليفزيونية حين تخرج إلى أقصى درجات انتشارها الجماهيري، فإنها في هذه الحالة تصبح كبديل معاصر للملاحم والسير الشعبية، والبالاد الشعرية الموسيقية، التي كان ينشدها رواة ومداحو ومغنُّو العالم القديم.
وعلى هذا النحو كان الانتشار اللامتناهي للسير والملاحم الشعبية، عبر ساحات الأسواق والموالد، ومشارب الشاي وأسواق عكاظ القديمة، حيث كان يجري إنشادها وحكيها، والإبداع في إيصال مواقفها التراجيدية — بل يمكن القول الميلودرامية — الغارقة في بحار الدم والدموع والتجبر الطبقي البربري الوحشي.
وتكثر أمثال هذه السير والملاحم والبالاد، ذات السمات العربية القومية بأكثر من المحلية والإقليمية، مثل قصتنا الشعرية هذه «سارة وهاجر» في المجتمعات الأكثر أمية، كما أنَّ من خصائصها التواجد في المجتمعات المغرقة أو الموغلة في عبادة السلف، فعلى أرض هذه المجتمعات السلفية، تجد هذه السير والملاحم ازدهارها وتواترها، تلك التي تخالط فيها الأساطير والخرافات، كلا الزمان والمكان، أو التاريخ والكيانات، وكلا الشرطين سواء؛ الإغراق في الأمية إلى حد تقديس أعلامها، والتبتل بالسلف — الصالح — الأمي، أو آفة السلفية وتحجرها في طبع الماضي المندثر الغابر على الحاضر الأدنى الماثل، باستخدام كل وسائل وآلات التعسف السلطوي للتراث الخالد، إلى حد نطح جدران كل تعصب.
وقصتنا التي نقدمها — سارة وهاجر — من نوع البالاد، وهي تسمية أطلقت على هذا النوع من الأغاني الفولكلورية الملحمية، التي كانت في منشئها أغاني تؤدى بمصاحبة الموسيقى والرقص، مثل البالاتا الإيطالية.
ويرجع ظهور هذا الشكل الأدبي الفولكلوري في التراث العالمي بعامة، فيما بعد القرن الخامس عشر.
ولعبت حركات الإصلاح الديني في الغرب دورًا دافعًا في تنشيده، والاستفادة من رواته ومنشديه المحترفين، مثل النسوة الندابات منشدات البلينا السوفييتية، برغم أنَّ بعض الكنائس في العصور الوسطى حاولت تحريم إنشاده واضطهاد رواته ومنشديه.
ومن هنا تجيء قصتنا هذه التي تؤرخ للأصول الأولى للعائلة السامية برمتها، للأب السلف إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل أبو العرب.
فالبالاد: قصة شعرية فولكلورية، تروي أحداثًا ملحمية يراد لها الحفظ والاتصال، عادة ما تكون على درجة عالية من الأهمية والخطورة، وعلى مستويات سياسية وشعائرية واجتماعية وتقويمية، تنتهي بكاملها عند هدف أخير، هو حفظ البنية الطبقية، دون أي اعتبار لما طرأ على مجتمع أو مجتمعات، هذه السير والبالاد الملحمية من تغيرات في علاقات إنتاجية، وكذا الشروط أو المتطلبات التي يعيش فيها الناس، وعن طريقها وعبرها يتحدد وعيهم.
حيث إنه عند مرحلة معينة من التطور تدخل قوى الإنتاج المادية في صراع مع علاقات الإنتاج القائمة.
فلم يحدث أن اختفى شكل المجتمع قبل أنْ تتطور كل قوى إنتاجه، ومن هذا فَثِقَلُ مثل هذه النصوص، خاصَّةً تلك التي يكون موضوعها الشعائر والمنتجات الروحية، كنصنا هذا — سارة وهاجر — لا يدخل في اعتباره مطلقًا أن تطور الأفكار والمعتقدات يجيء مسايرًا لتطور التاريخ، وما يتبعه من وسائل وعلاقات الإنتاج.
مع الأخذ في الاعتبار أنَّ العصب أو الجسد الفولكلوري العربي بعامَّةٍ قبائليٌّ، وهو ما يتبدَّى جَلِيًّا في مثل هذه القصص الملحمية القبائلية الأسرية أو القَرابية، بدءًا من حكايات وفابيولات «أنا وابن عمي على الغريب» و«انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، ومرورًا ﺑ «من فات وترك قديمه تاه وانقطع»، وكيف أنَّ الغربة عن الحِمى — حِمى القبيلة — الذي اتفق على حدوده بسماع ونباح كلاب القبيلة — تقل الأصول وتزول، مع ملاحظة أنَّ الحِمى هو بذاته ما أصبح الوطن بمفهومه الحلقي المحلي والقومي، المتواتر إلى أيامنا.
وهو بالطبع ملمح لا يقتصر على فولكلورنا، بقدر ما هو منسحب على العالم القديم برمته، فأهل نيوزلندة القدماء لديهم — كما يذكر كراب — من تخصصوا في حفظ الأنساب القبائلية، ونفس الشيء بالنسبة للقبائل العبرية، وقبيلة الماجي المجوسية لدى القبائل الفارسية الإيرانية، ثم النسابة العرب، وأشهرهم ابن الكلبي، أو هشام الكلبي، وهو من فحول الميثولوجيين الكلاسيكيين العرب، صاحب كتاب «الأصنام» عن بانثيون مكة العربي الجاهلي قبل الإسلام، وعدد آلهته أو أصنامه من إناث وذكور، الذين وصلوا — كما يذكر — إلى ٣٦٠ صنمًا أو إلهًا.
ولعلها آفة السلفية المصاحبة لحضاراتنا هذه القبلية العربية، والتي تطل برأسها مفرطة في هذه البالاد الشعائرية الشعرية، وتدفع بنا لاشعوريًّا اليوم — وأمس المندثر — إلى طبع الماضي على الحاضر، على طول الكيانات العربية، فهي بذاتها المياه الجوفية، والتي بمثابة الحارسة لمجمل أبنية المجتمع، والحافظة المهيمنة على بنية الإستراتيجية الطبقية.
وبالتالي فهي تستخدم أسلحتها هذه أشد الاستخدام من جانب الطبقات السلطوية، على طول الكيانات العربية وغير العربية التاريخية إلى أيامنا وواقعنا الماثل.
•••
على أنَّ هذا لا يعني التقليل من دور وقيم وأهمية إعادة الالتفات بشكل أكبر لتراثنا الملحمي الإنشادي الموسيقي هذا، المبدد على رقعة بلداننا العربية، وما يزال إلى أيامنا هذه يعاني كل اندثار نتيجة للإهمال والتجهيل الذي ما يزال يسود مزالقنا الثقافية.
فالاندثار المحقق لهذا التراث من موسيقي وملحمي وأسطوري وشعري عالي القيمة والأصالة، مرجعه بالطبع الاتساع المتوالي لأجهزة الراديو والترانزستور، وبقية أجهزة الإعلام الإليكتروني.
ويلاحظ أنَّ حَمَلَة هذا التراث المتوارث من مدَّاحين ومنشدين ومغنِّين أو صَيِّيتَة، كانوا في موقع أكثر نجوم مجتمعات ما قبل المعرفة بالراديو؛ أي منذ أقل من نصف القرن الأخير.
ولعلنا ما زلنا نذكر طلائع مداحينا ومُغَنِّينا المرموقين، بعيدًا عن استوديوهات وميكروفونات الإذاعة أو البث، يحوزون كل إعجاب وهم يُنشدون ويتغنون بسير وبالاد وملاحم الملك سيف بن ذي يزن وعنترة، اللتين تجري أحداثهما في جنوب اليمن، ويوسف وزليخة ما بين مصر وفلسطين، ملحمة «خيزران»، التي تجري أحداثها ما بين مدينتي دمشق وحلب؛ حيث إن بطلها تاجر حراير أو أرجوان حلبي، معتاد على التنقل ما بين المدينتين.
وهي واحدة من أشهر الملاحم الغنائية السورية التي عثرت عليها في ريف مصر، ولا أعرف بالدقة مدى انتشارها ومتنوعاتها، وما طرأ عليها في ريف سوريا.
كذلك تجري أحداث ملحمة «الملك فاضل»، أو «سعد اليتيم» في بادية الشام والأردن.
وقد عثرت عليها بإقليم الفيوم عام ١٩٦٥م، وهي واحدة من أهم وأعرق ملاحمنا، حيث إنَّ عمرها أكثر من ألف سنة، فهي تؤرخ للعصر الفاطمي، وتتبدى شخصية بطلها سعد اليتيم، مشابهة ومتطابقة مع شخصية هاملت في تراجيديا شكسبير الشهيرة، حيث إنَّ كلاهما — هاملت وسعد — يصارع عمه قاتل الأب ومغتصب عرشه.
فسعد أو البطل الشعبي لهذه الملحمة المتكاملة وشخصيتها المحورية، يصاحب مولده الخوارق التي تصنفه مع بقية الأطفال الموعودين أو القدريين مثل: إبراهيم، ويوسف، وكرونس، وإيل، وموسى، بل إنَّ أمه تضعه في صندوق وتلقي به في البحر بنفس ما حدث مع النبي موسى وأوزيريس، وتموز، والزير سالم. ويحيى «سعد»، ويكبر على اضطهاد عمه الملك الشرير بدران، مغتصب عرشه بعد أنْ سبق له أنْ اغتصب أباه الملك فاضل بالاغتيال، إلى أنْ يتحول في الجزء الأخير من الملحمة إلى منتقم إيجابي لأبيه من عمه الشرير بدران.
واللافت أنَّ الملحمة تحفظ لهذين الملكين الأخين، أنهما كانا بدورهما مدَّاحين وحَكَوَاتيَّة، تأكيدًا لتقليد الملك الكاهن المدَّاح في التراث العربي السامي، مثل «اللاويين العبريين»، والملك الكاهن المدَّاح عمرو بن لحي الجرهمي، والشاعر أمية بن أبي الصلت عند الجاهليين.
ولا بأس بالطبع من التوقف قليلًا عند ملحمة «سعد اليتيم»، هذه التي تدور حول محوري الملحمة، وهما: البطل الشعبي، وقصة الحب؛ وذلك من أجل التوقف عند الخصائص الغنائية، ذات الطابع الأوبرالي، أو الأداء الموسيقي والغنائي، بالإضافة للرقص الذي كانت تؤدى به هذه الملاحم والبالاد العربية قبل تدهورها واندثارها.
وتبدأ هذه الملحمة على النحو التالي:
وذروة هذه الملحمة في تصوير لحظة اغتيال الملك الشرير بدران لأخيه الملك فاضل، بحربته ذات الأربعة وعشرين مسمارًا من الخلف، على النحو التالي:
وهنا تبدأ سلسلة اضطهادات العم المغتصِب بدران لسعد اليتيم نتيجة لمخاوفه، فيأمر الملك عبيده بانتزاع سعد من أمه الأميرة «فوز» وقتله في شعاب الجبال، لكن العبيد يرقُّون للأم الثاكلة، فينزعون الطفل منها ويلقون به في البحر أو اليم أو النيل، بحسب متنوعات الملحمة في البلدان والبيئات العربية.
وكالعادة يعثر عليه صياد ويربيه، وفي الكتمان تتعرفه ابنة عمه «بدران» الأميرة الجميلة «صبيحة» خطيبته منذ الصغر، وتُفتن به وبمحاسنه وخُلقه، وأصبحت لا تجلس إلَّا وركبتها على ركبته، وعادت صبيحة لتنتقل أحاسيسها الجياشة نحو ابن عمها سعد إلى أمها، وكيف أنه «يشبه لعمي الملك فاضل وآدي جلسته.»
ثم ما تلبث الابنة المحبة صبيحة أنْ تنقل أحاسيسها إلى أبيها الملك بدران، الذي تستبد به المخاوف من أنْ يكون هو بذاته سعد، وأنه لم يمت، وفعلًا تتحقق هواجس الملك، وتبدأ سلسلة جديدة من الاضطهادات لسعد، تنتهي بهربه وفراره من وجه عمه الشرير الحاقد بدران، من بادية الشام إلى أرض مصر، ثم كيف التقى بالمعز لدين الله الفاطمي، فساعده المعز في الانتقام من عمه بدران، وقتله واسترداد عرشه، والزواج من ابنة عمه صبيحة.
•••
وبالنسبة للجانب الإنشادي الموسيقي لهذه الملاحم والمدائح العربية، وأخصه «سارة وهاجر» يلاحظ أنه كان يؤدى قديمًا بأسلوب أقرب إلى الأداء الغنائي الأوبرالي، وهو القاسم المشترك لهذه النصوص الشعرية والشعائرية العربية مجهولة المؤلف، ذلك أنَّ من خصائص النص الشعري بعد تدوينه أنه أشبه بالليبرنو المتعارف عليه في الأوبرا الكلاسيك، وبدايات أوبرا القرن ١٧ وما يلي، فهناك مساحات شعرية وموسيقية للجوقة أو الكورس، ومساحات لكل شخصية مفردة على حدة من شخصيات الملحمة، ومعنى هذا أنَّ هذه الملاحم والقصص الدينية كانت تقدم وتروى على مستمعيها بطريقة أقرب إلى الأداء الأوبرالي، فللجوقة كمعلقةٍ على الأحداث وراوية لها، دورها ومكانها، كما أنَّ لشخصيات الملحمة أو أبطالها — سواء أكانت فردية أو دويتو أو جماعية — أدوارها المحددة شعرًا وإيقاعًا.
وهذه أول خَصِيصَة أو ملمح لهذه النصوص، ومنها نصنا «سارة وهاجر»، كما أنها — على ما يبدو — كانت تقدم قديمًا وقبل اندثارها — بعد انتشار الراديو والتليفزيون — بالأسلوب الصحيح المتوارث، وهو أنْ يكون لكل مغنٍّ ومنشد دوره الثابت والمحدد في النص المروي، لكن ونظرًا للتدهور الذي أصاب فنوننا وآدابنا الفولكلورية، وأخصها فنون مغني الملاحم والسير والمدائح، وهم المدَّاحون، تدهور بالتالي أداؤهم لهذه الملاحم أو الأوبرات الغنائية الموسيقية، فتبددت فرقهم، وأصبحت الفرقة أو الجوقة اليوم — على أحسن الفروض — تتكون من ثلاثة أو أربعة مُغَنِّين وعازفين، وبالتالي لم يعد المجال يسمح لاحتفاظ أبطال الملحمة وشخوصها بأدوارهم المفردة، بالإضافة إلى الجوقة، بل إنَّ التدهور أصاب أيضًا الأداء الموسيقي، فأصبح رتيبًا لا يستقيم في معظم أحواله مع متطلبات النص الشعري وخصائصه الدرامية والتراجيدية.
ولعلها تكون بدايات لأوبرات قومية عربية، لو أننا تمكنا من إعادة جمع هذا التراث الملحمي الموسيقي وتسجيله بحسب الوسائل التقنية، إلى أنْ يحين وتجيء مراحل تطويره واستلهامه، وإعادة صياغته وتوزيعه موسيقيًّا، وهو الحلم الدائم لعديد من موسيقيينا ومُغَنِّينا الأوبراليين.
فلعل الملمح الجوهري للتراث السامي بعامَّة والعربي بخاصَّة، هو التميز بازدهار السير والملاحم والشعر المدائحي والمعلقات، منذ أقدم ملاحم العالم القديم، وهي ملحمة جلجاميش التي تعارف عليها العرب الجاهليون باسم «قلقاميش»، والتي تسبق نظائرها الهلينية — الإلياذة والأوديسة — بحوالي ألفي سنة، كذلك سبقت هذه الملحمة العربية الملحمة الآرية الهندية «الماهابهاراتا»، التي يقال بأنه اشترك في كتابتها مائة شاعر، وتعتبر أطول ملحمة في التاريخ، فيصل طولها إلى ١٠٨ آلاف بيت شعر من أبيات الشعر الثُّمانية المقاطع.
وكما هو معروف فإن للملاحم وظائفها منذ عصور ما قبل المعروفة بالكتابة على المستوى الجماعي أو العشبي؛ لذا فهي وعاء حافظ — سواء للأبنية الأسطورية والطقوسية أو الشعائرية — كما هو الحال مع معظم الملاحم، ومنها الإلياذة والأوديسة، كما قد تؤرخ لحروب وهجرات جماعية، كما يتبدى في الماهابهاراتا وملحمتنا أو سيرتنا الملك سيف بن ذي يزن، والزير سالم، والهلالية، وعنترة، وغيرها.
كذلك قد يكون من أغراض الملحمة الاحتفاء بالأعياد الدينية والتقويمات — كما هو الحادث مع «سارة وهاجر» — التي تؤرخ لبناء الكعبة واستبدال الضحية البشرية بالضحية الحيوانية، أو خروف العيد الكبير، أو عيد اللحم، أو الضحية.
وأنشره هنا — دون تدخل يُذكر — بما يحفظ له فونيماته وخصائصه الفولكلورية.