سارة وهاجر (١)
وكذلك تؤرخ هذه القصة الشعرية للعديد من مناسباتنا وممارساتنا الشعائرية، منها — من أحد الجوانب — المصادمات والاضطهادات العبرية العربية، وبناء الكعبة، ونبع بئر زمزم، وحجر إبراهيم الأسود، والتضحيات الحيوانية في عيد الضحية.
وتصف سارة هاجر بأنها «حرية شريفة ومهتدية»، بل هي تبدأ في تبيان رغبتها هذه، والكشف عنها في النص، وهي أنْ يدخل على هاجر جاريتها، منذ اللحظة الأولى «يا خليل الله لايمتة تظل صابر»، بمعنى أنها كانت تواصل إبداء هذه الرغبة دوامًا «بس طاوعني وتزوج بهاجر.»
لكن ما أن يستجيب إبراهيم وتقوم سارة بدورها راضية، وبتحمية ضرتها، أو وصيفتها، أو خادمتها هاجر، وتعطيرها «بالزبد والعطرحنة وخضبتها»، ثم كيف «جلستها» بمعنى تجهيزها للعريس لأخذ وشها وفض بكارتها.
وتعلو هامة هذا النص الشعري الغنائي المسرحي بمونولوج سارة الحاد المتصاعد العدواني، وأنا أعني هنا كلمة مونولوج، بمعنى تبادل الحوار والجدل مع الذات، حين تقول سارة:
وهنا يستبد بسارة التساؤل:
وخوفًا من الانجراف وراء الغوص في التحليلات الأدبية التقليدية، وهو ما يتنافى إلى حدٍّ مع مداخلنا بالتعرض لهذا التراث الشفهي كفولكلور، بما قد يحرفه ويفقده لأدق خصائصه الإثنوجرافية.
نعود إلى مجرى محاولة الدخول لهذا النص من مداخله السردية الروائية ومدلولاتها التوظيفية الاجتماعية، عبر علاقات أقرب إلى العبودية والتسلط الأبوي الذكري، الواصل إلى حد توعد الابن «إسماعيل» بالذبيحة.
في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها.
وذلك حين «رأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح، فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها؛ لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق، فقبح الكلام جدًّا في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك، في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها.»
حتى ولو كان القول المقدس هنا، هو إقدام سارة على حرمانه — إسماعيل — من إرثه، كأخ أكبر.
بل والملفت أنْ يؤكد هذا النص الشفهي العربي بدوره، تضخيم «سارة» وإعطاءها كل السلطة في وجه إبراهيم، كما يعكس تواكل إبراهيم، واستسلام هاجر الكامل كجارية مضطهدة لكلا الزوجة الأولى والزوج، في متوالية سلطوية مداها الأخير قتل الابن البكري، وإرساء شعائر التسلط الأبوي البطرقي.
فبعد أنْ أتمت هاجر «أشهرها والليالي، أو أشهر الحمل» وولدت إسماعيل، قامت سارة بواجبها أو اتفاقها — أي إنها أولدت هاجر — واستقبلت المولود «وقطعت السرة وبعدين قمطاته»، ثم كحلته، وعلى الفور ألقت به — ربما عندما تبينت أنه ذكر — في وجه أمه، وكان أنْ طردتهما هو وأمه.
فالتزام سارة بشعائر المولود الجديد إسماعيل، من تقميط وقطع السرة وتكحيل، يشير إلى أنها تمارس بالفعل شعائر تطهرية على الطفل حديث الولادة، والتي عادة ما تستخدم الماء، أو النار، أو الكحل، بهدف تخليص المولود من النجاسة أو الدناسة — كما يسميها تيلور — كشعائر تطهير كالوضوء عند المسلمين، والتعميد بالماء عند المسيحيين.
فإسماعيل هنا هو الطفل الذي دارت المنازعات من حول مولده، وهو وإنْ لم يُنتزع من أمه، مارًّا بمرحلة قتل الأم، وهي المرحلة التي يجتازها — عادة — الأطفال القدريون، إذ إنَّ الأم هنا تمر بنفس الظروف، وهو الاضطهاد والتغريب والتعرض للقتل «بين خلا وجبال، الوحش يهشم في عضاها، يأكل الجثة ويشرب من دماها»، إلا أن كليهما — الأم وطفلها — يمران بمرحلة الطرد والانتزاع من القبيلة.
في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها.
ويستمر النص مصورًا معاناة هاجر وابنها إسماعيل: «ما حداها زاد ولا شربة موية» (ماء).
فيحفظ هذا النص الشفهي الفولكلوري لهاجر، أنها خلال معاناتها بحثًا في صهد الصحراء الموحش عن الزاد والماء، أنها ألقت بإسماعيل على الأرض وسافرت متدارية، كما لو كانت لتفلت بجلدها من براثن العطش قبل الجوع، وفضيحة — أو كبيرة — تخليها عن ضناها.
فبكر إبراهيم صباحًا وأخذ خبزًا وقربة ماء، وأعطاها لهاجر واضعًا إياهما على كتفهما والولد وصرفها، فمضت وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار، ومضت وجلست مقابله بعيدًا نحو رمية قوس؛ لأنها قالت: لا أنظر موت الولد، فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت، فسمع الله صوت الغلام، ونادى ملاك الله هاجر من السماء، وقال لها: مالك يا هاجر! لا تخافي؛ لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي احملي الغلام وشدي يدك به؛ لأني سأجعله أمة عظيمة، وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس (تكوين: ٢١).
إلى أنْ يجيء المنقذ لإسماعيل — الطفل — من وفد المسافرين، الذين راعهم تفجر الماء له كطفل قدري أو مقدس.
وتنسب قبائل جرهم، وهم من العرب البائدة أو العاربة أو المندثرة، وكانوا قبيلة ضمن اثنتي عشرة قبيلة حضارة، منهم عاد وثمود وعرفات العماليق وجرهم، أنهم هم بذاتهم وفد المسافرين هذا، الذين تربى إسماعيل وسطهم وكبر إلى أنْ أصبح أمَّة، بل وتزوج إسماعيل منهم — أي جرهم — بزوجته الثانية التي راقت في عيني أبيه إبراهيم، فباركها وطالبه تيمنًا بصياغة عتبة داره من الفضة النقية.
ومن رحم هذه الزوجة — الثانية — الجرهمية، أنجب إسماعيل ابنه «قيدار»، أبو العرب العدنانيين.
•••
وعندما كبر إسماعيل وتزوج «بصبية» أو زوجته الأولى، التي تَنْسِبُ لها المصادر العبرية أنها كانت وثنية مصرية، كما يلتقي معه النص الفولكلوري العربي، أي في إدانتها.
وحين يشتد حنين إبراهيم لرؤية ابنه إسماعيل، وتتحسس سارة أحزانه، وتسأله: «يا خليل الله، مال النوح زايد؟» فيخبرها بشوقه الجارف لرؤية ابنه، تصرح له بالزيارة إلا أنها تستحلفه وتعاهده، على ألَّا ينزل عن مطيته لهاجر:
ولما كان إسماعيل قد تزوج ﺑ «صبية» لم تحسن معاملة والده في غيابه، وهو القادم المسافر له من بلاد القدس إلى برية فاران أو مكة، وقد تكون أنكرته حين سألها:
والنص هنا يكشف عن مستوى الحوار العالي بين إبراهيم وزوجة ابنه، مصورًا شخصيتها كما لو كانت «دلوعة» أو مائعة حين سألها إبراهيم:
ولما واصلت هي إنكارها للضيف، مدعية سفر إسماعيل «ومعاه صرة أو صرية في مرة، وفي الثانية أنه سافر ومعه جماعة»، فقال لها: «خدي الكلام مني وداعة»، مواربًا بين الزوجة والعتبة «قوليلو غير العتبة يا صاحب العطايا.»
وتوحي الزوجة بعتبة أو مدخل الدار، ذلك الكلام الملغز السحري لإبراهيم، فمثل هذا الكلام الشعري المغطى أو المستتر، المشابه لما يعرف بالفرش والغطاء، أو الرد، أو المرد في الشعر الفولكلوري العربي بعامَّة، وأخصه الملحمي كسمة فولكلورية من أخص سمات التراث العربي، من فولكلوري وتقليدي.
يرد بكثرة في سير وملاحم: سيف بن ذي يزن عبر بحثه عن كتاب النيل، أو منابعه، والسيرة النضالية الفلسطينية المنشأ، والتي تؤرخ لهجرات وفتوحات، وحروب القبائل الفينيقية الفلسطينية العربية المعروفة ببني كلاب، وكالب وكليب، سكان الثغور في سيرتهم المعروفة «الأميرة ذات الهمة» عبر المخاطر السياسية لأحد أبطالها «السيد البطال».
كما أنَّ مثل هذه الأشعار أو المأثورات الملغزة، وردت بكثرة في السيرة العربية الفلسطينية المنشأة أيضًا، الزير سالم أبو ليلى المهلهل، وذلك عقب انتهاء حرب البسوس، وانعزال بطلها الزير سالم وتغربه عجوزًا مهدمًا إلى صعيد مصر، وتحسسه لإقدام عبديه المرافقين على اغتياله، فكان أن حمَّلهما وصيَّته إلى قومه عقب موته، وهي لا تعدو بيتًا وحيدًا، أو غير مغطى من الشِّعر، كشف به لقومه عن اغتيال خادميه له في غربته بصعيد مصر:
فما إنْ اغتاله عبداه قائلين: «نذيقك ما أذقت العرب»، وعادا إلى قومه بخبر موته، فأنشدا وصيته أو بيت شعره المقفل أو غير المغطى، حتى تعرفت قبيلته حقيقة أنَّ العبدين قتلا المهلهل أو الزير سالم، بعد أنْ أشارت عليهما اليمامة بلغز أو جذر أو فزورة عمها الزير سالم المغتال، وأكملت وصيته الشعرية:
فمثل هذه الأشعار الملغزة — غير قاصرة على تراثنا — إنْ لم تكن خَصِيصَة مصاحبة للبالاد وارتحالاتها، والزيادات الشعرية الملغزة أو المطلسمة التي تدفع بنموها — والأمثلة كثيرة — في كلا تراثنا العربي والعالمي على السواء.
فما إنْ نقلت زوجة إسماعيل مقولة أبيه الشعرية: «غيِّر العتبة»، دون فهم، حتى فهم إسماعيل مغزى وفحوى كلام أبيه.
حتى إذا ما قصد بيت إسماعيل ونادى قائلًا: «يا هاجر»، فخرجت له الزوجة الثانية ورحبت بمقدمه، ودعته إلى الترجل عن مطيته والنزول عندهم، ويبدو أنها كانت راقت في عينيه فداعبها، ونسبها إلى هاجر قائلًا لها: «ما فيش أجازة يا بنت هاجر!» فأحضرت له «اللبن الحليب ويَّا المزازة!»، وظلت أمامه وهو على مطيته يأكل من يدها «شايلة الطعام وعلى إيدها المية»، وكان أن رضي عنها إبراهيم، وأبلغ ابنه رضاه عن طريقها قائلًا:
ولقد استوقفني في هذا النص العلاقة التي ربط بها إبراهيم مرتين متتاليتين بين الزوجة والعتبة، ففي المرَّة الأولى طلب الأب الشيخ من ابنه، التخلي عن زوجته وتغييرها: «غير العتبة يا صاحب العطايا»، فكان أنْ فهم إسماعيل وبادر من فوره بأن طلق زوجته الأولى، التي يقال إنها مصرية اختارتها له أمه — المصرية أيضًا — هاجر.
ومع احتفاء إبراهيم بالزوجة الثانية، عاد مرَّة أخرى فوحد بينها وبين العتبة: «صيغ عتبة الدار من الفضة النقية.»
وتوحد الزوجة بالعتبة، تضمينة ملفتة في الحكايات المصرية؛ نظرًا لما صادفني من موتيفاتها وعناصرها في الحكايات الطقوسية، التي تدور حول فكرة البغي الموعودة، التي تقوم من تربتها لتفي وعدها، بمعنى أنه ليس هناك منفذ أو مهرب من الوعد والمكتوب والقدر، حتى لو مات الموعود ودفن تحت التراب، تقول هذه الحدوتة: «إنَّ سيدة طيبة متجوزة رجل طيب، وعايشين مع بعض في الستر، وزارها الوعد، أو إنهم — أي الموعودات — نوهوها فأخذت صيغتها، (فضتها وذهبها)، ودفنتهم تحت عتبة باب بيتها وخرجت من فورها، فسارت معهم ونزلت الوعد، حتى خلصت ما عليها ووفته، ورجعت لبيتها وزوجها قائلة: أنا مراتك فلانة، جوزها بصلها وقاللها: دي ماتت. قالتلو: لا، أنا مراتك، حتى بالأمارة صيغتي مدفونة تحت عتبة الباب، وحفرت باحثة تحت عتبة الباب وأخرجتها، وجوزها صدق، وعرف أنها زوجته.»
كما أنَّ توحد الزوجة بالعتبة وُجد في إحدى الحكايات التاريخية اليونانية، عن ملك يُدعى «بريانر» ملك كورنثة، توفيت زوجته «ميلسيا» وكانت تعرف مكان بعض الكنوز، وعندما تمكن الملك من استحضار شبحها ليدله على مكان الكنوز المخبوءة، وذلك عن طريق تجميعه لكل نساء المدينة، ونزع ملابسهنَّ عن أجسادهنَّ وحرقها فوق قبر الزوجة، التي ما إنْ سرى الدفء في جسدها حتى قامت من تربتها، وكشفت عن مكان الكنوز المخبوءة تحت إحدى عتبات القصر.
فتوحد الزوجة بالعتبة يشير إلى السعد والرزق، وتصاحب الشعائر — المتصلة بالسعد والرزق هذه — المولودَ الجديد وتخطيه للعتبة. ويرى «تيلور» أنَّ الأدعية والهمهمات المصاحبة للعتبات «مثل يا ساتر ويا أهل البيت»، إلى أنها بقايا صلوات قديمة مندثرة.
وعرف عن «الحمس» أو بنو أحمس، الذين طردوا الهكسوس من مصر، وأصحاب القباب الحمر من الأقدم، أو الأدم — نسبة إلى أرض أدوم — تقديسهم لعتبات البيوت، والعديد من الشعائر المتصلة بمداخل البيوت وتحريمها، بل وإتيانها من الخلف، والربط بينها — أي العتبات — وبين المجيء والغياب، أو الميلاد والموت، وتشبيه الدنيا أو العالم بأنها كبيتٍ ببابين، ما إنْ يدخل المرء من عتبته حتى يخرج مشيِّعًا من الأخرى.
•••
ومرَّة أخرى عاد إبراهيم، فنسب إسماعيل إلى أمه هاجر «صيغ عتبة الدار يا ابن هاجر.»
حتى إذا ما جاء إسماعيل وحكت له زوجته الثانية عمَّا تمَّ بينها وبين أبيه، ربما دون أنْ تتعرف أنه حماها والد إسماعيل، فقال لها إسماعيل: «زدتني غلاوة يا صبية، يا ضي عيني، ما فيكيش تفريط حتى تدفنيني.»
ويلاحظ أنَّ الهدف الأسمى هو إرضاء الأب عن زوجة ابنه، مع توالي أو تصاعد دور التسلط النمطي التربوي الأبوي القبائلي، الذي يصل ذروته آخر النص بالتضحية بذبح الابن البكري إسماعيل فاتح الرحم.