سارة وهاجر بين التراثين العربي والعبري
وكما هو معروف ومتفق عليه، فليس التراث العبري حكرًا ووقفًا على اليهود دون غيرهم من شعوب وحضارات الشرق الأدنى القديم.
وعلى هذا، فإن العصب الفولكلوري العربي أو السامي موجود في معظمه متضمن للمدونات العبرية، وأخصها التلمودات المتعددة، فكما يقول اليهود التنائيم؛ أي المتعلمين علماء المشنا، وهي الشرائع الشفهية، فإن تدوين التوراة الشفهية كان يتم في أيام الاضطهادات والاضطرابات، وإنها قبلت كسنَّة من النبي موسى في سيناء.
وتوجد نسختان مختلفتان من التلمود، التلمود الأورشليمي أو الفلسطيني — نسبة إلى أورشليم أو القدس — وقام بتدوينه في طبرية أحبار أورشليم الأمورايم؛ أي المفسرون في أواخر القرن الرابع الميلادي، ويحتوي على ٣٩ بحثًا، والتلمود البابلي الذي يقال إنَّ واضعه أو المشرف على عمليات جمع مادته الشفهية، هو رب آشي رئيس الأكاديميا في سورة بالقرب من بغداد، بمساعدة أحبار اليهود في بابل أواخر القرن الخامس الميلادي، وهو أوسع انتشارًا من التلمود الأورشليمي، وكتب حينما كان اليهود في بحبوحة من الأمان والراحة، والحرية التامة في بابل، وهو نحو أربعة أضعاف التلمود الأورشليمي، ويحتوي على ٣٦ موضوعًا باللغة الآرامية، وهي لغة البلاد وقتئذ، والتي عنها جاءت السريانية.
وأنا مضطر هنا لتقديم هذه الإلمامة المبكرة، التي تعد أقدم وثائق ومدونات لهذه التركة من الملاحم والمدائح والأناشيد الدينية؛ نظرًا لاتصال هذه المصادر الأمورية اليهودية المدونة المبكرة بموضوعنا هنا عن سارة وهاجر، منها مثلًا ما تنسبه الأبوكريفا لإبراهيم الخليل، من أنه أول من جاء بالسهاري، أو العبادة المبكرة في الصباح، كما نسبت إليه ٦١٣ وصية قبل وصايا موسى العشر.
فالتلمود والمدراش هما الاسمان اللذان استعملا بدلًا من تعبير الحكمة «تنائيم» الأمورية، ومعناها التعاليم أو بدء التعاليم، ومنها جاءت ثلاثة أفرع المعرفة (مدراش، هالاكاه، هاجاداه)، ثم شروح وتفاسير هذه التعاليم فيما يعرف بالجمارا البابلية والأورشليمية، وهي الروايات والأحاديث والشفاهيات عن أئمة اليهود، وهي عندهم بمثابة دائرة معارف، بل هي كانت النواة الفعلية لدائرة المعارف اليهودية المغلقة المعروفة.
كما أنَّ منها كتابات السريان النساطرة، مثل شروح وإضافات الراهب «نرسي» المتوفى عام ٥٠٢م، والملقب ﺑ «لسان المشرق»، الذي وضع شروحًا على أسفار موسى الخمسة، كما يقول عبد يسوع صاحب فهرست وتاريخ النساطرة، كذلك كتابات منطوقة، منها ٣٦٠ قصيدة رتبها على أشهر العام — الاثني عشر بطريقًا — اثني عشر جزءًا، واستعمل في شعره وزن المقاطع الاثني عشر والسبعة والأربعة، وكان شعره غنائيًّا وقصصيًّا، أمَّا موضوعاته فدينية منها بالاد — مثل سارة وهاجر — عن يوسف الصديق نشر بعض أجزاء منها المستشرقون بدجان وجابوسكي وماكس فايل.
كما عثر على أسفار سريانية تتناول حياة الاثني عشر بطريقًا، أبناء يعقوب المسمى بإسرائيل، مترجمة إلى اليونانية القديمة نقلًا عن الآرامية، تكشف أصولها السامية البروفسير موسى جاستر، والسريانية د. سنيكر أستاذ الساميات بجامعة كمبردج عام ١٨٦٩م، وكان آخر هذه المصادر العبرية المبكرة التلمود الحجازي لكوهين.
إلى أنْ تجيء المصادر العربية الإسلامية التي أشارت إلى قصتنا هذه مثل: وهب بن منبه، والعامري، ومحمد بن إسحاق، والوافدي، وابن الكلبي، وابن المثنى، وسهل بن هارون، وعبد الله بن المقفع، واليزيدي، والعتبي، والأموي، والجيلاني، والبيومي، والطبري، والزمخشري، والأنصاري، وابن شميل، وعبد الله ابن عائشة، والجمحي، والجاحظ، والنميري، والمخزومي، والإنجيلي، والمسعودي، وابن العبري، وابن النديم، وابن ديصان، وابن الأثير وغيرهم.
وتصل الاجتهادات الخرافية في تناول شخصيته وتغطية مختلف مأثوراته، إلى حدود رقمية، من ذلك أنه ولد بعد الطوفان ﺑ ١٢٦٣ سنة، أو بعد خلق العالم ﺑ ٣٣٣٧ سنة.
فمثله مثل معظم الأبطال الأسطوريين والفولكلوريين، طفل موعود، وهم أولئك الذين يجيئون في أزمان لتحقيق رسالاتهم، ولكنهم يواجهون بالاضطهاد من جانب آبائهم، أو من جانب ملوك طغاة، وإبراهيم لهذا يصنف مع هؤلاء الأطفال الموعودين والمتنازع عليهم، مثل رومولس، وريموس، وسميراميس، وموسى، وأوديب، وأوريست، وكيروس عند الفرس المئات غيرهم، وهي فكرة شائعة في كافة أساطير وحكايات العالم، خاصَّة الفولكلور والأساطير المنتمية لشعوب البحر الأبيض المتوسط بطريقة مفرطة جدًّا، فما من حكاية شفاهية أو ملحمة، أو قصة شعرية إلَّا ويجد المرء نفسه وجهًا لوجه مع متنوعات هذه المأثورة أو الموتيف (الفكرة)، ففي مرات يضطهد الطفل وينتزع من أمه، وهي المرحلة التي تسمى بمرحلة قتل الأم، والتي يؤهل بعدها الطفل للانتقال الأبوي البطرقي.
وفي حالات يضطهد بسبب اللون، كما في حالة أبي زيد الهلالي سلامة، وعنترة بن شداد، وفي أخرى يكون مبرر النزاع، هو أنَّ الطفل الإلهي أو الموعود سيجيء على غير دين آبائه، كما في حالات إبراهيم وموسى وبوذا وعيسى.
وقد يكون من بين الأسباب التي يُلقى فيها بالطفل للموت «ووحوش الجبال»، هو التنبؤ له بأنه سيجلب الطاعون أو اللعنة أو الطوفان، كما في حالات أوديب بن لايوس، الذي أُلقي به بعيدًا عن وطنه ومنبته «ثيبس» وأنقذه الراعي، وأصبح أميرًا لمملكة أخرى هي «كورنثة»، وعندما عاد إلى ثيبس؛ هربًا من لعنة قتل أبيه لايوس، والتزوج بأمه على غير علم منه لاحقته النبوءة المسئومة.
وعند الفرس الطفل كيروس عبيد الملك استياجس ملك ميديا، الذي حلم بأن ابنته ستهب الحياة ابنًا يتسبب في مجيء الطوفان، الذي سيغرق آسيا عن آخرها، فانتزع الملك الطفل عند مولده ودفع به إلى الموت، وكما هي العادة أنقذه رجل بسيط، لكن في اللحظة المحتومة قتل جده استياجس.
وباختصار فهي فكرة أو تضمينة أسطورية شائعة جدًّا في كل فولكلور العالم المدون والشفاهي، وجدت أشكالًا لها في الحكايات الفلبينية «هانسل وجريتل، وجوان وموريا»، وفي أيرلندا وشمال أوروبا وإسبانيا، ووجد في سيبيريا وحدها ٦٠ ألف نص روسي، و٥٤ ألف بولندي، و٢٥ ألف ألماني … إلخ.
ومرجع تركيزي على هذه الفكرة أو الموتيف بالنسبة لهذا النص سارة وهاجر؛ فذلك لتداخلها في حياة ثلاثة من شخوصها؛ الأول إبراهيم الذي اضطهد من الملك النمرود ملك بابل، وابنه إسماعيل الذي اضطهد من سارة زوجة أبيه، وابنة عمه، وأخته في الرضاعة، ثم هاجر جارية سارة وضرتها، والتي اضطهدت بدورها من جانبها بسبب خلفها لإسماعيل، الذي سيقدر له أنْ يصبح أمَّة، وأبا للعرب الشماليين العدنانيين في السعودية اليوم.
وهي تلك الحكايات التي تنفرد بها المصادر العربية المختلفة، والتي أخذت مكانها متأخرًا في الآداب العبرية، نقلًا عن العربية، كما يعترف اليهود أنفسهم، والتي ما تزال تواصل طوافها وهجراتها على طول الشرق الأدنى بطريقة تحيل دراستها إلى عناء ما بعده عناء، فبعض هذه «الموتيفات» والأفكار المتصلة بطفولة إبراهيم ترد متناقضة ومتضاربة، مثل:
وكيف أنَّ أباه آزر أو تارح كان وزيرًا للملك النمرود في كوشان، وحلْم الملك النمرود بمجيء طفل ليحطم ملكه ويقتله، ثم تربيته في كهف يلعق أحد أصابعه فيجري عسلًا، ويلعق الآخر فيجري باللبن، ويلعق الثالث فيجري الماء، ثم بحثه عن الله بين أجرام السماء، وبيعه الأصنام مناديًا: «يا مين يشتري اللي لا ينفع ولا يضر»، وتحطيم الأصنام وإلقائه في النار، ثم كيف خمدت النار في سائر بقاع الأرض في ذلك اليوم — كما يقول المسعودي — وكذلك بناء النمرود للقلعة ذات الاثني عشر برجًا ليصل إلى الله، ومنها محاربة إبراهيم لأربعة ملوك وثأريته من الملك النمرود، عندما دخلت البعوضة في أنفه وثقبت مخه، وبنائه الكعبة، ومجيئه وزوجته سارة إلى مصر، وما حدث بين سارة وفرعون، ثم كيف أن إبراهيم كان يحرسه ٤٠٠ كلب حين تتحرك مركبته، وارتباطه بموارد وآبار الماء، ومنها خروجه من أور الكلدانيين إلى بلاد الأنهار، ما بين النهرين بين قادش وآشور.
ويؤرخ البعض لهذه الهجرة بانتهاء الألف الثالث قبل الميلاد، حين نزوله حيران، ويقال إنه استولى على دمشق وأصبح ملكها، ثم توغل في وادي الأردن ونزل نابلس — أوشكيم — بأرض كنعان الفلسطينية، حيث استوطنها الفلسطينيون قبله بحوالي ثلثمائة عام، ثم انتقل إلى بيت إيل وعاي، ثم عبرون، إلى أنْ حلَّ القحط بفلسطين فهاجر إلى مصر، وعندما خرج ورأى ملوك كلدة أسروا ابن أخيه لوطًا، حاربهم وخلصه واسترد ما أخذ من ماشيته.
والغريب أنَّ كل هذه الأحداث سبقت ولادة إسماعيل وبناء الكعبة، وكذلك إذعان الماء لمشيئته حين حفر بئر سبع، وعندما آذاه أهلها فهجرها إلى فلسطين ونزل بين الرملة وإيليا، فنضب ماء بئر سبع، وعندما أدركوه نادمين أعطاهم سبع عنزات من غنمه، وقال: «اذهبوا بها معكم، فإنكم لو أوردتموها البئر قد ظهر الماء حتى يكون معينًا طاهرًا كما كان.»
وبإيجاز شديد، فإن كل هذه الأحداث والأفكار والحكايات والمآثر، ما تزال تواصل اتصالاتها وتبادلاتها الشفهية والمدونة، خاصَّةً في الحكايات الشعبية الشفهية لبلداننا العربية، وأخصها الوطن والأرض الفلسطينية، حيث ما تزال تزدهر مأثورات الخليل الشفهية متواترة على الشفاه في فلسطين والأردن والشام بعامَّة.