الماء والعطش في هذه البلاد
ويلعب الماء والعطش دورًا ملحوظًا على طول أحداث هذا النص الشعري المدائحي «سارة وهاجر»، فالماء أو «الموية» هو عصب حياة هذا النص، كما هو بالنسبة للصحاري والبوادي والبراري.
فإبراهيم حين يبكي فراق بكره إسماعيل يصوم «عن الزاد وشرب الموية.»
وحين يواجه إبراهيم — متوحدًا بإسماعيل — بجفاء وجحود زوجته الأولى «الهنية أو العفوفة»، يرتمي على الأرض، ويرشونه بالماء «رشوا عليه موية»، أما حين يتبدى له ضيق إسماعيل في الحلم «نزلت دموع العين موية.»
كما أن كلاهما «إبراهيم وإسماعيل» يجري الماء له، حيث يتواجد إبراهيم حين نبعت له «بئر سبع» بفلسطين، وبِكْره «إسماعيل الذي من الأرض نبعت له الموية»، حيث منفاه بالوادي غير ذي زرع بمكة أو برية فاران، حيث نبعت له بدوره بئر زمزم بعد أن كوت ألسنة العطش، بحثًا عن الماء في جدب الصحراء، هاجر أمه، فكان أن ضرب برجله إسماعيل، ﺑ «فنبعت زمزم»، وفاضت في الوديان القاحلة.
وكذا يجيء رضاء الشيخ «البطرك» إبراهيم للزوجة الثانية، حين أكرمت استقباله في العام التالي، حين قدم لزيارة إسماعيل من أرض فلسطين إلى مكة، فقدمت له «اللبن الحليب ويَّا المزازة.»
وكما يحفظ النص التزام إبراهيم بوعده الذي سبق أن قطعه لسارة، بألَّا ينزل عن بَكْره أو جَمَلِه أو ناقته، فتوقفت الزوجة الثانية في مواجهته وهو على جمله — في النص العربي — أو حماره ومطيته — في النص العبري — «شايلة الطعام وعلى إيدها الموية.»
وعليه فنحن بإزاء آلهة «رزق» على عادة ما هو متبع حتى في التسميات لدى فقراء الشرق الأدنى القديم، الذين تحظى الصحراء والجدب بالنصيب الأوفر لهم.
ولعل صراع الماء وموارده هو جوهر الحِمى والحماية عبر قحط الصحاري والبوادي، إنه البديل السالف لصراع البترول والطاقة اليوم.
لذا يُنسب لشيخي القبائل السالفين؛ إبراهيم وبِكره إسماعيل، مقدرة نبع الماء لهما من الأرض القاحلة، إسماعيل في مكة، وإبراهيم في بئر سبع الفلسطينية.
فلقد كانت الكعبة قبل تفجر بئر زمزم بها يسمونها «الأخشف» أو «الغبغب»، وواضح أنها أسماء آلهة ماء ورزق، في ذات المكان «البانثيون»، أو مجمع الآلهة القبائلية العربية، الذي ينسب لشاعر وملك كاهن خرافي يُدعى «عبيد بن شريه الجرهمي» استقدام وتنصيب أصنام مكة التي قيل إنها بلغت ٣٦٠ صنمًا وإلهًا قبائليًّا بعدد أيام السنة القمرية، أو الهجرية الإسلامية فيما بعد واليوم.
فكان العرب الجاهليون يعبدون الدهر والقدر والماني، وجمعها منايا أو منوات في هيئة أصنام، فكان الصنم: منايا أو مناة، من أقدم المعبودات الجاهلية.
ويضيف ابن الكلبي أن العرب جميعًا كانوا يعظمون الإلهة «مناة»، ويذبحون لصنمها، كما أنهم تسموا باسمها «عبد مناة، وزيد مناة، وتيم مناة …» إلخ.
ويشير الجمع بين هذين الإلهين؛ منى وجاد إلى ارتباط المنايا والأقدار بالتنبؤ ومعرفة المستقبل، الذي ارتبطت المعرفة له بالإله «جد»، أو «جاد»، والذي من اسمه تسمت قبائل جاد العبرية.
كما أن الإله جد أو جاد كان من آلهة القبائل الثمودية المندثرة قبل منى أو مناة، وكهل … إلخ، ومن اسم جاد تسمى الإله «بعل جاد» عند اليهود والآراميين والعرب الشماليين في سوريا، وكان يعرف بإله السعد والرزق والحظوظ والمستقبل عامة.
ومن هنا يأتي ارتباطه بالآلهة الدهرية والقدرية والرزقية.
ومن هذه الآلهة الدهرية القدرية إله القمر السبئي نسر أو نسور، الذي ورد في نصوص المسند السبئية باسم «بيت نسور»، بل لقد أطلق على أهل سبأ بعامة «أهل نسور»، ويبدو أنه كان لهم مذهب ديني شبه مميز، نسبة إلى عبادة النسر أو النسور، وسمي معه أيضًا أحد رموز السنة السبئية المتأخرة «ذي نسور.»
وتشير الأسطورة التي أوردها عبيد بن شريه الجرهمي عن الحكيم لقمان بن عاد صاحب النسور أو «ذي نسور» الذي ارتبط موته بفناء أنسره السبعة، ومنها ما يشير إلى قدرية أو «تلفيقة» بسط الرزق والمسيرة، وكانت أسماء هذه النسور على التوالي: المصون وعوض وخلف ومغبغب واليسر أو المسيرة — أي الحظ — وأنسًا — أي لقمان الأنس — وكان سابعها هو النسر لبد، وفسر عبيد الجرهمي «لبد» بمعنى الدهر، بل إن لقمان نفسه عرف «لبد» بالأبد أو الأبدية.
فحين وافت المنية ذلك النسر السابع «لبد»، وسقط مشرفًا على الموت، ولم يطق «لبد» أن ينهض وتفسخ ريشه، هال ذلك لقمان هولًا عظيمًا، ووقع موته منه موقعًا جسيمًا وناداه: انهض «لبد» أنت الأبد، وأنشد لقمان يبكي نفسه:
ويلاحظ في الأسماء السبعة التي أطلقها لقمان على نسوره السبعة، أنها من الأسماء التي تطلق على الخلفة والذرية، مثل «خلف» و«المصون»، و«عوض»، وعوض أيضًا اسم للإله الجاهلي القدري عوض.
كما يلاحظ أن الإله القمري نسر الذي يتوحد بالدهر والزمن، هو ما أصبح رمزًا قوميًّا لدى أغلب الشعوب العربية والسامية عامة.
كذلك فإنه يثير الالتفات تلقيب لقمان لنسره الخامس باسم الميسر، أو الميسرة أو التيسر وسعة الرزق، وهي كلمة مرادفة للحظ والسعد، ومنها جاء الميسر بمعنى القمار.
ومن المعروف عن المقامرة «أنها نوع من التكهن والاستشارة، إنها جواب الآلهة للسائل»، ولعب الميسر كان في منشئه شعيرة فلكية لاهوتية، مثلها في هذا مثل القرعة، وضرب الأقداح تحت أقدام صنم الإله الجاهلي هُبَل، وذلك حين الإقدام على إتيان فعلٍ جَلَلٍ كالحرب، وأخذ الثأر، والتضحية، كما حدث مع النبي محمد الذي كان يحلو له القول: «أنا ابن الذبيحين»، أي السلف إسماعيل، وأبيه عبد الله، الذي تعرَّض بدوره للتضحية من جانب أبيه المتوحد بإبراهيم (عبد المطلب).
فالميسر والميسرة تترادف مع المن والأرزاق والمنون، والتي تصل إلى حد المنايا بمعنى الموت وانقضاء الأجل.
وهو ما توارد حين طالب إبراهيم الزوجة الأولى لابنه إسماعيل «الهنية والعفوفة»، مبلغًا إياها برغبته في أن يراه، قبل أن توافيه المنية:
مما يشير أكثر إلى ارتباط المنايا — أي الموت — بالمن وبسط الرزق، الذي اكتمل أيديولوجيًّا وعقائديًّا في بسطه، أي الرزق بغير حساب.
فهذه القدرة والدهرية والوعيدية والمنايا التي تهب الرزق بغير حساب، أفكار مترادفة، وردت بكثرة شديدة جدًّا، سواء في الشعر المنتسب إلى القبائل العربية البائدة، أو عند لاحقيهم من العرب الجاهليين ثم الإسلام، وكذلك ترد بكثرة شديدة في الآلاف المؤلفة، بل الملايين من المواويل والشعر الشفهي الشعبي المعروف بالمواويل الحمراء، أي تلك التي تتصل مواضيعها بأفعال ونكائد الدهر والزمن وتقلبات الدنيا والأيام وإمساكها بالمصير الإنساني … إلخ.
ولقد عرفت شعوب عرب آسيا الأبدية، التي أَطْلَق عليها العرب الجاهليون مرادف الدهرية والدهر والمنايا والحتف والآجال والحمام والمنون والقضاء والقدر والمقدر والزمان والأيام والليالي والخطوب.
ولقد وحد الساميون الأوائل من القبائل العربية البائدة بين القدر أو الدهر أو المنايا وبين الله، وكذلك تسمت إلهتهم باسم «منى» ومناة، وهي الأخت الثالثة من بنات الله الثلاث، كما كانت معروفة بهذه الصفة والاسم منذ البابليين الأوائل، وعنهم أخذتها بقية الشعوب والقبائل السامية خاصة العرب الجاهليين فيما بعد.
وتؤدي لقطة «مناة» معنى «الماني» بمعنى القادر، نسبة إلى ابن ماني، الذي قتله الملك «بهرام» ملك الفرس، وقال له: «أنت تقول بتحريم النكاح يستعجل فناء العالم»، ومنها جاءت تسمية مذاهب «المنانية»، أو «المناوية» نسبة إلى «ماني»، وكان راهبًا بحران، وأحدث «دين المناوية»، والمنية تعني الموت، أو أن الموت مقدر محسوب، ويبدو أن لفظة «منية» كلمة سامية مشتركة، وردت في أغلب لهجات الشعوب والقبائل السامية، ويرى البعض أنها مرتبطة بالإلهة البابلية «مامانتو»، وعنهم أخذها الكنعانيون ولقبوها «منى» والإلهة الثمودية «منوات»، ثم «منات» عند العرب الجاهليين، ومنها «عوض»، وهو اسم صنم، وحده الشعراء مع الدهر، و«عوض» كان اسم صنم أو معبود قبيلة بكر بن وائل.
بل إن المستشرق «نولدكة» يرى أن كل هذه المترادفات للقدر والمنون والدهر والموت ما هي إلا أسماء لآلهة دهرية «وليست أسماء أعلام.»
وعلى هذا يلاحظ أن انقضاء سلطة إلهة الرزق بغير حساب، والموت هذه «مناة» المتوارثة منذ البابليين ٢٨٠٠ق.م بهيئتها الضارية المخيفة لم يسقطها أيديولوجيًّا أو عقائديًّا في التراث الإسلامي حتى أيامنا.
«مناة يا إلهة الموت والقدر — الرزق — أيها الروح المخدوم، وملك الموت.»
وكما كانت «مناة» الأخت الثالثة لبنات الله الثلاث، اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى «في الميثولوجيا الإسلامية» الماثلة، فإن الأمر لا يبعد بنا كثيرًا عما كانت عند الجاهليين ورثة البابليين، حين سموا هذا الثالوث ﺑ «بنات الدهر».
وقائل هذا الشعر الجاهلي التالي يتحسر على أن «بنات الدهر» رَمَيْنَهُ غيلة، فأصبن منه مقتلًا، دون أن يكون في مقدوره الرد على مغتاليه.
وكانوا يصفون الدهر بالرامي، أي ذلك الذي لا يخطئ الرماية:
كما أنهم تصوروا الدهر — وبناته آلهة المايا — ساقيًا يسقي الإنسان كأس المنايا:
ووسع العرب الجاهليون في مفهوم وخرافات الدهر فقالوا: «يد الدهر» و«ريب الدهر»، «عدواء الدهر»، و«غلواء الدهر»، كما قالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر.
وعلى هذا كانوا «أرضيين» غير زراعيين، لم تلحقهم أفكار ومترادفات البعث، والعودة بعد الموت، والحياة الأخرى، على عكس ما كانت أساطير الشعوب الزراعية في دالات الأنهار ووديانها؛ الرافدين والنيل والأردن وفلسطين.
ولما كانت الأساطير في منشئها وغاياتها تأليه لعناصر الطبيعة من برق ورعد ورياح وسحب ورعود جوية، أي فينومولوجية، بما يشمله التعريف من ظواهر مناخية، وإحيائية بيئية، أي تأثير الظواهر المحيطة في مخيلة الإنسان البدائي، الشبيه بكائن طفولي يتفتح على العالم، وهو ما يتبدى واضحًا في تراثنا القديم، وبقاياه المسايرة في تراثنا المعاصر من إغراق في إضفاء مظاهر القدسية على الجبال وقممها، والصحاري ومجاري الماء من بحور لآبار لعيون ماء راكدة عفنة، لا تخلو منها مدينة أو قرية على طول مصر والعالم العربي، ومشاع حول هذه المزارات أو الأضرحة من الآلاف المؤلفة من الخرافات، بل إنَّ من الصعب تصور مدى ما تسببه هذه المزارات العطنة من تدمير للصحة العامة من بدنية بخاصة وعقلية بعامة، بدءًا من آباره المقدسة، ومرورًا بشعائر التعميد بالماء في نهر الأردن، حتى ما ارتبط وأثير حول الأنهار وموارد الماء، التي هي قاسم مشترك أعظم لمهبط عرش الله على أسطح المياه، والتي عادة ما يتوحد بها الإله الخالق وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: ٣٠]، وكذا ارتباط الإيمان بتفجر أنهار الماء: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (الإسراء: ٩٠-٩١).
فيترتب على تأليه وتقديس موارد المياه والظواهر الطبيعية والبيئية المحيطة، وما يستتبعه هذا من صراع النور أو الخير مع الظلام والشر، وهو المنهج التطوري الذي اكتمل بعد الدارونية، والذي أكده — بالنسبة للأنثروبولوجيا — تيلور ومعاصره أندرو لانج وفريزر (خاصة تفسير تيلور أو سبقه إلى اكتشاف مدى سيطرة العادة داخل هذه المجتمعات الغيبية بما يحقق توارثها لأدق حياتها وطفولتها الأولى)، حين أراد تفسير ظواهر الطبيعة القاسية من حولهم، خاصة هنا في شرقنا الأوسط الحديث، أو شرقنا الأدنى القديم، فلعل الاختلافات البيئية والظواهرية والجوية هي المخصب الرئيسي لهذا التراث الذي اكتملت فيه الأديان الثلاثة الرئيسية في عالمنا العربي؛ اليهودية والمسيحية والإسلام.
فجغرافية المنطقة — كما يشير د. جمال حمدان — تجمع ما بين دالات الأنهار في دلتا مصر والعراق — أي المجتمع الزراعي — الذي قدَّم تفسيره الأزلي السائد إلى اليوم عن الموت والقيامة ممثلًا في أساطيره عن الآلهة الزراعية الممزقة التي اكتملت في المسيحية.
والمجتمع الصحراوي المجدب القبلي، مجتمع الإغارة على موارد الماء، واعتبار الحرب نوعًا من الصيد، وبالطبع يصل هذا المدخل القبائلي الفاشي عند الجبليين سكان الجبال إلى أقصى مداه.
إلى حد أن تاريخ المنطقة، قديمه وأوسطه ومعاصره، لا يعدو أن يكون تاريخ حرب وإغارة وتنكيل ممتد، خاصة في بؤرة هذه المنطقة الشام وفلسطين، وأينما وجدت موارد المياه أو «الإيلات» — نسبة إلى إيل أو كرونس — ومنها ميناء إيلات العدواني، وبالنسبة لميناء جبل أو جبيل بلبنان الذي يتعاظم دوره السلفي المتخلف في حالة الكتائب، فهي على طول تاريخها مجال نزاع دائم للمئات من القبائل والحضارات والأجناس المتطاحنة.
وكما يقول الجغرافي الفرنسي فرناند موريت، فهي بلاد تجبر فيها تضاريس الأرض سكانها على العمل والصبر والدأب، كما أنها بلاد يعتبر البحر فيها الطريق الأسهل للتجارة والترحال، فجغرافية الأرض مقسمة إلى دويلات متناحرة، نتيجة لحدودها الطبيعية من سهول وجبال وصحاري، أي مناطق جفاف، وفيضانات ماء ورياح، ومساحات شاسعة خربة، كل هذا فرض نظام القبيلة والعشيرة، وما يتبعهما في أساطير وفولكلور هذه المنطقة المغرقة في القبيلية العصبية، التي عرفت شارة الصليب المعقوف قبل أن تعرفه ألمانيا النازية الفاشية، بأكثر من ٣٠ قرنًا من الزمان.
وعلى هذا فأساطير وفولكلور منطقتنا هي في المحل الأول أساطير وفولكلور القبيلة، وحماها أو موطنها، الذي كان يحده نباح الكلب.
وبالطبع يمكن القول بأن الجسد الفولكلوري لمختلف فولكلور العالم، هو في أدنى أشكاله قبائلي، أو هو ما يزال إلى اليوم يحتفظ بملمح القبيلة، بمعنى أن القبيلة هي أدنى أشكال أي مجتمع بشري، ومن تجمع عدة قبائل واصلت اتحادها، تحت أقوى شعاراتها أو شعائرها، طواطمها أو آلهتها إلى أن تصل في مجموعة القبائل المتحدة أو المتحالفة إلى درجة الأمة أو الحضارة.
ووصل البعض من أصحاب النظريات الطقسية أو الشمسية — مثل روبرت غريفز ورفائيل يتاي — إلى حد الدفاع عن أن انقلابًا تقويميًّا عامًّا قد صاحب معظم قبائل العالم القديم من خلال تحولها من عبادة القمر أو الإلهة الأنثى القمرية، والسير بتقويمه القمري أو الهجري إلى عبادة الشمس، أو الإله الأب الذكر، والأخذ بتقويمها الميلادي فيما بعد، واعتبار السنة ٣٦٠ يومًا، وهو ما صاحب أيضًا المعرفة بالزراعة، والانتقال إلى طورها.
وذهب البعض الآخر من أصحاب النظرية الأنثروبولوجية في تفسير الأساطير، إلى مدى أكثر عمومية تحت تأثير التطور — الوعي — الدارويني، والاستفادة من المادية التاريخية، على اعتبار أن معتقدات وأفكار الناس في تطورها التاريخي تجيء مجبرة أو حتمية لتطور بيئتها ووسائل إنتاجها وعلاقاتها الاجتماعية، أي إن تغيير البناء التحتي — الاقتصادي والاجتماعي — يستوجب بالضرورة تغيير أفكار ومعتقدات وأساطير وعادات وممارسات وأخلاقيات ونظم قرابة وتزاوج وشعائر وقوى غيبية، أي كل ما يتحكم في حياتهم من أبنية اجتماعية.
على هذا فمجتمعات العالم القديم — في مراحل التكون القبلي أو العشائري — قد عاشت في مختلف البيئات والمناخات، من مجتمعات زراعية ورعي وجبل وبحر، والمقصود بالعالم القديم هنا هو مجموعة الحضارات والقبائل العربية أو السامية القديمة، وهو ما يتضافر في الكشف عنه اليوم مجموعة مترابطة من العلوم، أهمها طبعًا علما الأنثوجرافيا والتاريخ.
وعن هذا الطريق يمكن تعريف الحضارات التي شهدها شرقنا الأوسط وتحديد معالم وخصائص كل منها، ذلك أن الحضارة — كما يعرفها عالم ما قبل التاريخ جوردون تشايلد — تقوم على ما يستخلصه الإنسان من غذائه ومجتمعه الإنساني وكافة نواحي السلوك الإنساني من لغة ودين وفلسفة وأخلاق وقانون، بالإضافة إلى أدوات الإنتاج التي يستخدمها، فعن طريق التكيف مع البيئة أو قوى الإنتاج أو مصادر الثروة الطبيعية تتحدد الحضارة، ومن هنا وبالضرورة تدين سماتها ومعالمها للبيئة وطبيعة المكان.
وهذا هو هدفنا في تناولنا لهذه البلاد سارة وهاجر البيئة واختلافاتها، وتنوع مصادر القوى الإنتاجية لعالمنا العربي، أو منطقة الشعوب السلمية.
وكما سبق أنْ أوضحنا فإن الاختلافات البيئية وبالتالي المناخية، تظهر بوضوح على طول هذا التراث، وهذه البقعة من العالم منذ فجر التاريخ، من صراع بين الحضارة الزراعية في دالات الأنهار، وبين البداوة ومجتمعات الرعي والصيد والإغارة.
ويتركز هذا الصراع بأجلى معانيه في الأسطورة «الأم»، التي حددت أجناس شعوب وقبائل المنطقة السامية، حين قدَّم ابنا نوح «حام وسام» بعد الطوفان قربانهما إلى الرب، وكان أحدهما وهو حام صاحب زرع، والثاني هو سام صاحب رعي، فتقبل الله قربان صاحب الرعي، ولم يتقبل قربان صاحب الزرع، فكان أن حقد الفلاح «قابيل» على شقيقه «هابيل»، وأقدم على اغتياله.
وهي تضمينة أو فكرة أسطورية تتوالى بكثرة شديدًا جدًّا في هذه التراث الطوطمي القبائلي.
ولعل أقدم أشكالها — ٣ آلاف سنة ق.م — جاء بها النص السومري لملحمته جلجاميش في صراع جلجاميش — الفلاح المتحضر — وأنكيدو، الراعي الوحشي الذي تربى مع حيوانات الغابة وشعر رأسه كشعر امرأة.
كما وردت بنصها في صراع ابني إسحاق؛ يعقوب الذي سُمِّي إسرائيل، وشقيقه توصه عيسو أو العيص العربي السوري الأردني، وموطنه الأول أرض أدوم أو الصحراء الأدومية، التي اشتقت منها تسمية آدم أبو البشر بالأردن وسوريا.
كما تطل برأسها على طول التاريخ القديم السابق للإسلام، وحتى فيما بعد مجيء الإسلام، مثل صراع قبائل الأوس والخزرج، من فلاحين ورعاة.
بل إنَّ هذا الصراع حول الزراعة والبداوة يتبدى بشكل خاص في صراع ابني إبراهيم إسماعيل وإسحاق، وهو ما لم يرد ذكره في هذا النص الفولكلوري العربي «سارة وهاجر».