التضحية بالأبناء والفداء
فيحتفي هذا النص أشد احتفاء «بشعائر» التجبر الأبوي، والتزام الأبناء بإطاعة الوالدين، كَسِمَةٍ سلفية قصوى في هذا التراث الثقافي الحضاري بالمعنى الإثنوجرافي إلى حد التضحية، حين أقدم إبراهيم بعد أن زاره الهاتف أو الوحي الملازم له على طول هذا النص، ممثلًا في الملاك جبريل.
وأمره بذبح إسماعيل في يوم التضحية بالأبناء فاتحي الرحم، الذي لا يبعد بنا كثيرًا عن أعياد الضحية والتطهر بالدم في العيد «الكبير».
ثم كيف هبَّ إبراهيم مبتهجًا، مطالبًا هاجر بالقيام بنفسها «بشعائر» تزيين الضحية ابنها أو وحيدها أو بكرها:
وهو ما لا يزال محفوظًا متواترًا إلى أيامنا في «وقفة» أعياد اللحم، حين يقوم المضحون بتزيين ضحاياهم من كباش وأغنام وعجول بالزهور، وأحيانًا الصلاصل والألوان، ويطوفون بها الشوارع والحواري في احتفاء بالضحية الحيوانية، التي أخذت مكان إسماعيل، أكحل العينين، مُحَنَّى الكفوف، واحتفاء هذا النص الشعري الإنشادي الموسيقي «سارة وهاجر» بإقدام الخليل إبراهيم على التضحية بابنه «البكري» أو فاتح الرحم «إسماعيل»، واستبدال الفداء البشري بالضحية الحيوانية التي يُحتفى بها في أعياد اللحم «الكبيرة».
ولعل في هذا ما يشير من جانب إلى مدى قِدَم هذا النص المدائحي، المصاحب لشعائر الاستبدال أو الإحلال للضحية الحيوانية، بدلًا من البشرية، خاصة إذا ما كانت لأب سالف في موقع آدم أبو البشر، وهو إبراهيم بالنسبة للعرب الساميين بعامة.
وفي هذا الجو المصاحب لاستقبال مواسم الحجيج العائدين، ينشط حفظة هذا النص الشعائري من منشدين ومدَّاحين، لتذكير جموع الحاضرين وعلى دقات الدفوف الضخمة العنيفة بمدى ثقل ما كان حريًّا أن يحدث لهم ولذويهم «البكور»، حين يستل الأب سكينة ليجز رأس ابنه على عادة ما كان متبعًا بكثرة تفوق كل تصور، سواء ما جاءت به النصوص المدونة أو الحفرية الأركيولوجية، خاصة عبر مسرح أحداث هذا النص؛ الشام وفلسطين والجزيرة العربية.
وحيث كانت تنتشر بكثرة مفرطة شعائر التضحية بالأبناء، ووأد البنات عند العرب الجاهليين، على طول كيانات الجزيرة العربية، وحتى وقت لاحق للإسلام، حيث كان المفروض أن يضحي جد النبي محمد (عبد المطلب) بابنه عبد الله.
وأسوق هنا مكتشفات عالم الساميات «ستيورت ماكاليستر» الذي استفاد فريزر من نشر حفرياته في «جيزر» بفلسطين، منها الوصف الجنائزي المرعب لأحد المقابر «الكنعانية»، وهو حجرة أسطوانية ارتفاعها ٢٠ قدمًا نحتت من الصخور التي اتخذتها الحضارات الثمودية والنبطية مقابر لدفن موتاهم، وترك مدخلها في قمتها على هيئة فتحة دائرية، وعُثر في أرض هذه المقبرة المتسعة على ١٥ جثة «أو بالأحرى» أربعة عشر هيكلًا ونصف هيكل؛ ذلك أنه لم يُعثر لهيكل أو جثة من هذه الهياكل سوى على جزئه العلوي، في حين لم يُعثر على جزئه السفلي.
مما يرجح أنه قبر «شعائري» فلسطيني أو كنعاني، كان يجري فيه وعلى أرضه التضحية بالأبناء.
ومنه هذا الوصف — المحزن — لهيكل جثة فتاة، أورد سير جيمس فريزر وصفه كاملًا.
ويرى فريزر أن هذا التشابه الجسدي بين هؤلاء الرجال القدماء، وسكان فلسطين المعاصرين كافيًا لأن يبرر لنا أن نعدهم أفرادًا ينتمون إلى أصل واحد، فربما حق لنا أن ننتهي إلى أن كليهما ينتمي إلى الأصل الكنعاني، الذي كان يستوطن فلسطين قبل غزو العبريين لها، والذي لم ينجح العبريون قط في إبادته، على الرغم من محاولتهم إخضاعه لسطوتهم، فوجهة نظر الخبراء أن الفلاحين المعاصرين والمزارعين الفلسطينيين الذين يتحدثون اللغة العربية، إنما هم سلالة القبائل الوثنية التي سكنت فلسطين قبل الغزو الإسرائيلي، وارتبطوا بأرضهم منذ ذلك الوقت، وعلى الرغم من أن موجات الغزو المتعاقبة على فلسطين قد غمرتهم، إلا أنها لم تنجح في القضاء عليهم، فإذا كان الأمر كذلك، فإنه يحق لنا أن نفترض أن الهيكل النصفي للفتاة الذي عُثِر عليه في «جيزر»، يُعد أثرًا باقيًا لعادة التضحية بإنسان، تلك العادة التي لعبت دورًا بارزًا في الديانة الكنعانية، ونحن نستدل على ذلك بالعادة المشابهة لها التي أشار إليها الأنبياء العبريون، وكتاب العصور الكلاسيكية القديمة، وقد دعم هذا الافتراض ما عُثر عليه من هياكل لأطفال عُثر عليها في «جيزر» محفوظةً في جرار تحت أرض المعبد، فقد اعتقد الباحثون في العادة، أنَّ هذه المخلفات تشهد على عادة التضحية بالابن الأول أو البكري، فاتح الرحم، كما هو في حالة إقدام إبراهيم على التضحية بإسماعيل ابن هاجر تكريمًا للإله المحلي، وقد عُثر على مزيد من هؤلاء الأطفال المدفونين في جرار حول معبد منحوت في الصخر في بلدة «تعنك» في فلسطين، وقد فسَّر تحنيط هؤلاء الأطفال على النحو الذي أشرنا إليه.
ولكن إذا كان هيكل الفتاة الذي عُثر عليه في مقبرة «جيزر» يمثل حقًّا بقايا عادة التضحية بإنسان، فما زال علينا أن نتساءل: لماذا شُقَّ جسد الفتاة أو نُشر على هذا النحو؟ إن عهد إبراهيم الذي نقيس عليه، وبالمثل الطقوس المتشابهة التي تحدثنا عنها، تشير إلى أن شطر الفتاة الضحية إلى شطرين، ربما كان يقصد به الوقاية الجماعية، أو التصديق على عهد، أو أننا نفترض — حتى نكون أكثر وضوحًا من هذا — أن جسد البنت قد قُطع إلى نصفين، وأن الناس مروا بين هذين النصفين، إما بقصد تضليل قوى شريرة كانت تعيش بينهم أو تتهددهم أو بقصد تأكيد معاهدة سلمية تأكيدًا يتسم بالرهبة، ولنبدأ الآن بالتفسير التطهري أو الوقائي.
فعندما استولى «بيليوس» على مدينة «أولكس» ودمرها، وأسر زوجة ملك المدينة وتُدعى «استي داميا»، قطعها إلى نصفين، وترك جيشه يمر بين هذين النصفين قبل أن يدخل المدينة، ولا يبدو أن هذه العادة المتوارثة من قبيل الاختراع الصرف، فربما كانت بقايا عادة بربرية متخلفة، كان يتبعها الظافرون عند دخول المدينة المندحرة، ونحن نعلم أن الإنسان في العصور الأولى كان يخشى كل الخشية من سحر الغرباء، وأنه كان يقوم باحتفالات عديدة؛ لكي يحصن نفسه ضد هذا السحر، سواء عندما يسمح لغرباء أن يدخلوا بلدته، أو عندما يخطو هو نفسه إلى أرض قبيلة أخرى، وربما كان خوف مشابه لهذا من سحر الأعداء، يدفع المنتصر أن يصطنع احتياطات غربية بقصد حماية نفسه وجيشه من مكائد أعدائه، وذلك قبل أن يجرؤ على دخول المدينة التي استولى عليها منهم بسيفه، وربما تمثل هذا الاحتياط الغريب في أسر أسير، وشق جسده أو جسدها إلى نصفين، وجعل الجيش يمر بين النصفين وهو في طريقه إلى المدينة. ووفقًا لتفسير السر المقدس لهذا الطقس، فإن التأثير الذي يحدثه المرور بين جزئي الضحية من شأنه أن يخلق عهدًا دمويًّا بين الظافرين والمنهزمين معًا، ومن ثم فهو يؤمن المنتصرين ضد كل المحاولات العدائية من جانب المنهزمين، وهذا يفسر ما قام به «بيليوس» عند دخوله مدينة «أولكس»، عندما أسر الملكة، وشق جسدها إلى شقين، فإذا كان هذا الإجراء وسيلة مقدسة لخلق وحدة بين الغزاة والمغزوين، وإذا كان هذا التفسير مقبولًا، فإنه قد يشير إلى أن الجثث المشطورة إلى نصفين التي عُثر عليها بالمقابر الكنعانية، سواء في فلسطين، أو ربوع الشام بأسره، من كنعانيين لفينيقيين لثموديين لموآبيين، هدفها الأمن وافتقاده.
فلعل شعائر التضحية بالأطفال والأبناء والنساء، ربما كانت قاسمًا مشتركًا لا يستهان به بالنسبة لروافد حضاراتنا العربية، منذ ما قبل التاريخ، أو منذ أفول الألف الثالث قبل الميلاد، وهو ما صاحب نزول إبراهيم إلى أرض كنعان، وصاحب تضحياته من حيوانية طوطمية وبشرية، ممثلة في إسماعيل وإسحاق، ومنها أولى تضحياته المصحوبة بدلالتها الطوطمية: «لتضح لي ببقرة عمرها ثلاث سنين، ونعجة عمرها ثلاث سنين، وكبش عمره ثلاث سنين، ويمامة وحمامة صغيرة.»
وما إن قام الخليل بشطر ضحاياه إلى نصفين ومزج السائلة بمحرقة أعلى الجبل، حين تزاحمت جوارح الطير، التي جاهد إبراهيم في طردها إلى أن استغرقه النوم مع غروب الشمس.
وبالطبع تنتهي الخرافة بأتون النار الخاطف عبر ظلام الصحراء الجاثم، وظهور الرب، وقطع العهد، أو أخذه الذي ما يزال متواترًا إلى أيامنا وداخل أنماط التصوف الشعبي، وطرقه المتعددة المسالك، والتي توثق «بقطع العهد» الذي عادة ما يصاحبه التوعد بالدم، والتطهر به في ذات الآن.
ولقد شغل موضوع الإكثار من شعائر التضحيات البشرية، وعلى مدى أطوار العمر المختلفة عديدًا من الأنثروبولوجين والمختصين بالدراسات السامية، أهمهم روبرتسون سميث، الذي أشار إلى أن الهدف من التضحيات العنيفة هذه هو الربط والالتزام والتحالفات — قبائلية — الدموية.
ووصل البعض في تفسيراتهم لشعائر التضحيات البشرية، نظرًا لكثرتها بأنها كانت نوعًا من تحديد النسل البدائي أو التلقائي، سواء للآلهة أو الطواطم الإلهية، أو للعبادات الطقسية من شمس وقمر وكواكب وأجرام، وأهمها هنا الشِّعرَى اليمانية ونجمة الصباح المعروفة باسم العزى، وذكرت في القرآن كأخت ثانية لبنات الله الثلاث أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [النجم: ١٩-٢٠].
فهي نجمة الصباح، التي ما زالت متواترة داخل رقعة الأغاني والمواويل الفولكلورية بكثرة واضحة، وكذلك ترد في الأغاني الدينية، وأغاني التخمير تحت اسم ليليث أو ليلى.
وينسب للملك الشاعر المداح الجاهلي عمرو بن لحي الجرهمي، مسجوعات حول العزى هذه منها: «إن ربكم يشتو بالعزى لحر تهامة، ويتصيف باللات لبرد الطائف.» فالأخت الثانية من بنات الله الثلاث «العزى»، عُرِفَت بدورها تحت هذا الاسم في الميثولوجيا البابلية، وقيل إن معناها ملك أو إله النار، فالعزو هي النار في اللغة البابلية، ومعناها في العبرية الدة أو القوة (تاريخ كلدو وآشور، مجلد … ص٨).
وبحسب رواية تيودوروس بركوني هي نجم الصيح، ولها أسماؤها المختلفة باختلاف الألسن؛ فطيء دعتها عوزى، واليونان أفروديت، والقدشيون طشقميث، والكلدانيون بلتى أو بلثى، والأراميون أستيرا، والراداتيون ملكة أشعيا، والعرب ناتي.
ويمكن القول بأن العزى عند العرب هي في منبتها الأصلي «إينانا» عند السومريين، والتي اشتهرت باسمها الأكادي عشتروت عند البابليين، وإناثا أي أنثى عند الكنعانيين، وإيزيس في مصر، وأفروديت عند اليونان، وفينوس عند الرومان، وكوبيلا عند الحيثيين.
يقول نولدكة: «إن الشاعر السوري إسحاق الأنطاكي الذي كان يعيش في أوائل القرن الخامس الميلادي ذكر احتفاء العرب بعبادتهم العزى أو نجم الصباح أو الزهرة «فينوس»، كما يقال إنهم كانوا يقدمون لها التضحيات، فالمنذر ملك الحيرة قدَّم لها قربانًا من الأسرى، وقيل إنه — أي المنذر — ذبح ابن حليفه المسيحي الملك الحارس، قربانًا لها.»
«إن ربكم يشتو بالعزى لحر تهامة، إلهة فصل الشتاء والاخضرار والخصب والجنس»، كما يقول الملك الكاهن عمر بن لحي.
يقول الألوسي: «كانت المرأة من العرب إذا عسر عليها خاطب النكاح، نثرت جانبًا من شعرها، وكحلت إحدى عينيها، وحجلت على إحدى رجليها، ويكون ذلك ليلًا، وتقول: يا نكاح أبغي النكاح قبل الصباح»، أي إنها تريد الزواج أو المخاطبة الجنسية قبل ظهور نجم الصباح أو الزهرة، وتحفل المواويل والأغاني الشعبية، بآلاف القطع الشعرية التي تتغنى إلى اليوم بنجمة الصباح.
ويضيف سميث: إن عبادة الزهرة أو نجم الصباح والتضحيات البشرية لها انتشرت في اليمن، وخلال إقامة شعائر أعيادها كانت تقام الاحتفالات والأفراح المختلطة، أو ما عرف عند معظم الشعوب والأقوام السامية بالعرس المختلط، وما تزال بقاياه سارية حتى وقت قريب خلال الاحتفالات بالموالد المحلية، على طول مصر والعالم العربي، وربما ما تزال أيضًا تقويمات العرس المختلط سارية يجري التعامل بها.
في ثمانية الأولى من شهر «آب» يعصرون خمرًا حديثًا للآلهة، ويسمونه بأسماء مختلفة كثيرة، ويضحون في هذا اليوم بصبي طفل حديث الولادة للإلهة الأم أو للأصنام، يذبح الصبي، ثم يلصق حتى يهترئ، ويؤخذ لحمه، فيعجن بدقيق السميذ وزعفران وسنبل وقرنفل وزيت، ويُعمل منه أقراص صغار مثل التين، ويُخبز في تنُّور جديد، ويكون لأهل السر للشمال لكل سنة، ولا تأكل منه امرأة ولا عبد ولا ابن أمة — أي جارية — ولا مجنون، ولا يطلع على ذبيحة هذا الطفل وعمله إذا عُمل إلا الثلاثة كمرين (الكهنة)، وما بقي من عظامه وأعضائه وغضاريفه وعروقه وأوردته، يحرقه الكمرين قربًا للإلهة.
وكانت الشرائع الموسوية، التي تبيح التضحية بالأطفال، تشترط التضحية بالابن البكر، سواء من البشر أو من البهائم، بما يؤكد ترجيح كفة أن الضحية كانت إسماعيل؛ لأنه هو البكر وليس إسحاق: «وكلَّم الرب موسى قائلًا: قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم من بني إسرائيل، من الناس ومن البهائم، إنه لي»، ويبدو من اشتراط أن تكون الضحية، النتاج الأول أن هذا كان جزءًا من الشعيرة، إذ هي متكررة جدًّا في المصادر القديمة، ويكون متى أدخلك الرب أرض الكنعانيين، كما حلف لك ولآبائك أو أعطاك إياها، إنك تقدم للرب كل فاتح رحم، وكل بكر من نتاج البهائم التي تكون لك، حتى الخبز والطعام، اشترط فيه البكورة: «أول عجينكم تعطون للرب رفيعة في أجيالكم.»
والتضحية بالأطفال، عادة شعائرية ليست بقاصرة على شعوبنا السامية، حيث كانت تمارس في أغلب مجتمعات العالم القديم، وما تزال لها بقاياها السارية عند عديد من القبائل البدائية منها ما كان قد أشار بها سير جيمس فريزر، من أن البولينسيين، وبعض قبائل جزر تاهيتي، يقتلون ثاني ثلاثة أطفال من ذرياتهم. وخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر نشرت «مسز تيورا هنري» مسودات وأبحاث جدها المبشر «ج. م. أورسموند» التي أكدت ما أشار به فريزر من أن اثنين من ثلاثة أطفال، كانوا يُقتلون قبل أن ترى عيونهم ضوء أول يوم يلي ولادتهم، وكانوا يُعرفون ﺑ «الأطفال المخنوقين».
وعند قبائل «المايايا» في البرازيل تقتل الأم كل أطفالها، إلا ما تعتقد بأنه آخر أطفالها، أما إذا ما حدث وأنجبت طفلًا غيره، هنا يحل قتل سابقه.
وتوجد حالات ثلاث تبيح قتل الطفل عند الهنود الحمر بأميركا الشمالية؛ إذا ما كان المولود أنثى، أو كسيحًا، أو أحد توأمين.
وفي بعض القبائل يحتم قتل أحد التوأمين، ويفضل وأد التوأم الأنثى، والنساء عند قبائل «الشاكو» ما تزال تئد البنات، رغم تحريم القرآن لوأد البنات (سورة ١٧: آية ٣٣)، والشاكو قبائل ظلت محتفظة بأصلها العربي حتى القرن السادس الميلادي.
وفي بعض القبائل الإفريقية، يؤكل ثاني طفل يولد قبل فطام الأول، وعند الصينيين كانوا يؤمنون بتناسخ الأرواح، فيتم قتل البنات بالطريقة الآتية، يدفنون داخل المقابر أحياءً لفترات محدودة، بما يحقق لهم فرص معاودة الولادة كذكور.
وعند قبائل «كانار» في الإكوادور، عادة التضحية السنوية بمائة طفل، وهي عادة مرتبطة بما يسمى عندهم عيد الحصاد. وعند بعض القبائل المكسيكية كانت تختار التضحيات البشرية، بحيث تتساوى مع كثرة المحصول، فيضحى بالأطفال حديثي الولادة في فترات إنبات المحصول وبالأولاد الكبار قبل موعد الحصاد، ثم بالعجائز في أعياد الحصاد.
وكان يقال للضحية البشرية قبل قتلها عند قبائل «الخوندز» في البنغال: «لقد بعناك وقبضنا ثمنك كاملًا، ولا خطيئة علينا طالما أننا لم نغتصبك»، وكان الملوك المقدسون، يقدمون أنفسهم للقتل والتضحية بهم عند قبائل «الشيتومي» في الكنغو، ويعتقد أن الفاكهة تنبت من قدرة هؤلاء الملوك على التضحية بأنفسهم؛ لذا كانت توهب لهم أول قطفة من الفاكهة، وكان من المعتقد أن الجدود من الملوك المقدسين في إثيوبيا يرسلون رسلهم المتوالية لسلفهم الملك الحالي، بأن يُقْدم على التضحية بنفسه ليلحق بأسلافه، وينسب للملك «أون» ملك السويد أنه ضحى بأولاده التسعة على التوالي، فبعد أن ضحى بثاني ابن من أبنائه عاهده الإله «أودن» بأن عليه أن يذبح له ابنًا من أولاده عقب كل تسع سنوات كاملة يعيشها، وبعد أن التزم الملك، وضحى بابنه السابع، وكان ما يزال حيًّا، إلا أنه لم يكن يقدر على المشي، فكانوا يحملونه، واصل التضحية بابنه الثامن، وعندما عاش تسع سنوات أخيرة، ممددًا في فراشه لا يفارقه، ضحى بابنه التاسع، وعندما حدثت المعجزة، وعاش تسع سنوات أخرى، وهب بأن يضحي بآخر أبنائه، تدخل الكهنة والشعب وأرغموه على العدول، فمات على الفور ودفن في «أبسالا».
وكانت الأساطير الهلينية تسمح للملك الأب باستبدال التضحية به بابنه الحبيب، كما حدث في حالة ديونسيوس بن زيوس وهيرا الذي صورته الحفريات يأخذ مكان أبيه بعد أن ارتدى زيه الملكي آخذا مكان أبيه زيوس ليضحي بنفسه بدلًا عنه.
والغريب أن ذلك الموقف الذي أدهش هردوت منذ حوالي ٢٥٠٠ عام، وهو التساؤل عن سر تحضر المصريين القدماء على خلاف جيرانهم المحيطين بهم من كافة الجهات، وهو نفسه الموقف الذي حيَّر الكثيرين من الأنثروبولوجيين من أمثال إليوت سميث وتشايلد، القائل بأن ثمة «التقاء فريدًا بين الظروف مكَّن قدماء المصريين أن يخترقوا حلقة الوحشية، وأن يخلقوا المدنية، ويبدءوا نشرها، ولم يثبت وجود العبودية في السجل الأركيولوجي لمصر فيما قبل التاريخ، وحتى في العصور التاريخية المبكرة»، وكما هو متعارف عليه فيما يتصل بنظريات علم الاجتماع المقارن، أو الأنثروبولوجي، وهي العلوم التي نيط بها دراسة الحضارات القديمة والمجتمعات خلال تتابعها الزمني، وإشعاعاتها الانتشارية الحضارية، مثل انتقال الأشياء والمواد من موطن لآخر بما يوازيه بالنسبة للتراث العقائدي من أساطير وشعائر وحكايات شفهية، وحتى الحذر أو الفوازير، وأي ما يتصل من بعيد أو قريب «بنمط» الحكاية الموحدة القابلة للانقسام إلى سلسلة متتابعة من «الموتيفات»، أو التضمينات القابلة للمقارنة.
ولقد تمكَّنت هذه العلوم الحديثة المترابطة، مثل علوم الأنثروبولوجي والأثنولوجي والفولكلور، ومن جانب آخر حضارات ما قبل التاريخ «أركيولجي» من إلقاء المزيد من الضوء على بعضها البعض، وتبادل الخبرات بما يحقق أكبر قدر من المعرفة العامة المتساندة المكتملة الجوانب.
وعلى هذا يصبح تحريم التضحية بالأطفال لدى المصريين القدماء، ظاهرة مخلة بالبناء العقائدي العام الشبه سائد فيما يتاخم مصر من بلاد على طول الشرق الأوسط عامة.
فعادة التضحية بالأطفال ووأد البنات كانت عادة منتشرة بكثرة عند الساميين؛ نظرًا لاعتقادهم الراسخ بأن «الطعام والأطفال هما الشيئان اللذان لا ينالهما الإنسان إلا بقوى سحرية وشعائرية متصلة ومرتبطة إلى الفضول»، وقد وجدت هذه الشعائر عند الكنعانيين والفينيقيين والموآبيين والإسرائيليين، واكتشفت الأكيولجين، خنق الكنعانيين للأطفال حديثي الولادة بكثرة شديدة داخل الكهوف، وإلى جوارهم أواني الطعام والشراب، وذلك ترضية للآلهة والإلهات التي تهب الطعام والأطفال، مثل «مولش»، و«ميلكوم» و«ميلكارث» و«ميليش» و«يهوه» عند الإسرائيليين الأوائل، عندما كان «يهوه» أو رب الجنود إلهًا فينيقيًّا، وكذلك «للبعل» و«كرونس» عند الكنعانيين الفلسطينيين.
وفي كل غرب آسيا تسود عقيدة تحتم على الملك أو حاكم القبيلة تقديم ابنه ضحية لشعبه في أوقات الأخطار؛ لذا يقول «فيلو» في بحث عن اليهود: يبدو أنها تقاليد بعيدة الغور تقضي بأن يهب حاكم المدينة أو القبيلة ابنه الحبيب مضحيًا به من أجل شعبه لطرد المخاوف والأرواح الشريرة، وكان الأطفال المضحى بهم يجتازون شعائر وتعازيم أسطورية شديدة التعقيد، حتى إن «كرونس» الذي لقبه الفينيقيون بإسرائيل، حين أصبح ملكًا للأرض كان له طفل وحيد يُدعى «شديدًا»، ومعناها باللسان الفينيقي «الوحيد» خلع عليه زيه الملكي، ورفعه على المحرقة في وقت عصيب.
ولقد تبدت آثار شعائر التضحية بالأطفال عند الساميين في المصادر اليهودية والسريانية، وكذلك عند العديد من النِّحَل والملل التي كانت سائدة عند أغلب شعوب الشرق الأدنى، والتي ذكرها ابن النديم في «الفهرست» نقلًا عن محمد بن إسحاق، ومنها: النسطورية، الصامية، الديصانية، الغولية، المرمسية، الملورية، والأدوقية النفسطونية، العنزوية، الهيلانية، والحرانية، والكثيرون غيرهم، ثم العربية لحين استبدال الضحية البشرية بأخرى حيوانية، كما جاء في قصة إبراهيم، إلا أنها ظلت سارية المفعول حتى القرن السابع ق.م عند اليهود (الملوك الثاني ١٧، ٣١).
كذلك تبدت عند السريان، وجاءت بها قصة برص قسطنطين الأكبر وشفائه بالمعمودية التي يرجع نصها المنظوم إلى القرن الخامس الميلادي، والتي عثر على نصوصها النثرية المخالفة للنص الشعري، وإن كانت تتفق مع النص الشعري الذي مجمله «إنه نزل برص بقسطنطين الأكبر، فلما انتقل إلى مدينة روما هرب من كان بها من المسيحيين خوفًا على أنفسهم منه، فزاره قوم من الوثنيين، وأخبروه أنه إذا ما كان يريد البرء من برصه والشفاء منه فعليه بجمع أطفال هذه المدينة بالحيلة، وذبحهم والاغتسال بدمائهم، ولما لم يجد قسطنطين الأكبر بُدًّا أمر الملك بذلك، ولما جمعت الأطفال ضجت المدينة جميعها بالبكاء، فكان أن لان قلب قسطنطين، وأعاد الأطفال إلى ذويهم.»