الملاك جبرائيل وبراقه
ولعلها أروع صور الخيال الشعبي الفولكلوري الإسلامي تعبيرًا عن الملاك الرسول «جبرائيل» والبراق الذي يمتطيه ليهبط به من السماء، أو ليعود به ثانية إلى داره الأولى، حين ينهي مهمته بإبلاغ وحي أو رسالة.
كما تجدر ملاحظة تضافر الإيقاعات الموسيقية، وتجميع أقصى طاقات صوتية لمداحي ومغني هذا النص «سارة وهاجر»، حين يرد في النص الوصف الشعري للملاك جبرائيل:
والملاحظ أنَّ هذه الوحدات الميثولوجية العربية الإسلامية، الأخاذة الباهرة للملاك الرسول جبريل، وبراقه أو مطيته التي يدعوها هذا النص ﺑ «الأصيلة»، ولعلها بذاتها «فرسة النبي»، وما تزال هذه الوحدات محفوظة داخل التشكيل الإسلامي، سواء في وحدات وموتيفات رسوم الكتب والوشم والنسيجات ومناسك الحج.
واللافت أنَّ الملاك الرسول جبرائيل «جبرا» الإله «إيل» يتبدى واضحًا في هذا النص مرتين، هابطًا ببراقه من السموات العليا في المرة الأولى ليبلغ إبراهيم، برغبة «الإله» في الرحيل أو الإسراء من أرض فلسطين أو بلاد القدس إلى برية فاران أو أرض مكة، التي يبدو أنها كانت تعرف بأرض جعفر قبل تسميتها بمكة:
وهكذا ركب ثلاثي العائلة الخالد إبراهيم وهاجر وبكره إسماعيل «البراق جبرائيل» إلى أن أنزلهم حيث موطنهم المقدر أو أرض ميعادهم التي يحفظ لها النص تسمية أرض جعفر بدلًا من التسمية التوراتية «أرض فاران».
وفي المرة الثانية يظهر جبريل متبديًا مبلغًا إبراهيم باللحاق والانضمام لإسماعيل وقبيلته الذي كبر بدوره، فأصبح بطرقًا تستجيب له المياه، وتنبع لضربة قدمه، وتأتيه الرؤى التي يتمنى فيها وعبرها رؤية أبيه، فيستجيب له الوحي بدوره:
فالنص العربي الفولكلوري الشفهي هذا — سارة وهاجر — يحفظ لإسماعيل دور المنقذ لأبيه وبيته، وهو ما لا يرد له أثر، سواء في النصوص العبرية أو الإسلامية الدينية والتقليدية.
بل إنَّ إسماعيل يرد ذكره هامشيًّا في القرآن مع مجموعة من «الرسل» أو الأولياء المجهلين وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَار (سورة ص: آية ٤٨).
فاللافت أنَّ إبراهيم وآل بيته، وأصل انتقاله أو رحلته هذه المرة بغير إسراء على ظهر البراق الرسول جبرائيل كالمرة السابقة، حين أسري به من «بلاد القدس» لمكة أو أرض جعفر، على ظهر المطايا أو الحمير (المقدسة):
ولعلها ذات الحمير أو الأتان، التي استهوت شاول أول ملوك إسرائيل فتبعها أو عبدها، واعتبرت خطيئة بسببها جز الفلسطينيون رأسه، وعلقوها على عتبات إلههم داجون، إله الحنطة.
فيلاحظ أنه في حالة هجرة ونفي عائلة إسماعيل وأمه هاجر، حين ضمهما إبراهيم وتهيأ للرحيل، جاءه الملاك جبرائيل ببراقه الطائر، فأركبهم وأسرى بهم من فلسطين لمكة.
لكنه في الحالة الثانية اكتفى بمجرد إبلاغه رسالة الرحيل، دون أنْ يركبهم ويسري أو يطير بهما؛ أي إبراهيم وسارة:
وجبريل في الميثولوجيا العربية هو رئيس ملائكة الرحمة، وأحد الملائكة الثلاثة المصرح بذكرهم في القرآن: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل»، والأخير وهو إسرافيل أحد حملة العرش الذي يصفه جبريل بقوله: «وهو الذي ينفخ في الصور نفخات ثلاث؛ أولاهن نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة البعث.»
وصوره النبي محمد بقوله: «جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه التهاويل.»
وتضيف المصادر الميثولوجية العربية الكلاسيكية: «إنه من شدة قوته رفع مدائن قوم لوط، وكنَّ سبعًا بما فيهنَّ من الأمم، وكانوا قريبًا من أربعمائة ألف، وما معهم من الدواب والحيوانات، وما لتلك المدن من الأراضي والمعتملات والعمارات وغير ذلك، رفع ذلك كله على طرف جناحه حتى بلغ بهنَّ عنان السماء، حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب وصياح ديكتهم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، فهذا هو شديد القوى.»
وواضح هنا أنه هو ذلك القوي، الذي أفتى مدينتي البحر الميت «الآثمتين» سادوم وعمورة، ومن بينها سادوم وقراها الخمسة.
ويظهر جبريل في أساطير الخلق الثلاث؛ العبرية والعربية، وعند أساطير خلق الفلاشا الإثيوبية كأحد رسل الله الثلاثة؛ لإحضار الطين المقدس من المياه الفطرية، حين أراد الله تشكيل العالم والإنسان.
إلَّا أنه يتبدى في الأساطير العبرية كإله الموت، وأمير النار والرعود، إلَّا أنه يرد في كل الأساطير العربية كأحد مبلغي الرسالات، وقال عنه «لونجفيلو»: إنه ملاك القمر، وقد ظهر لمريم في العهد الجديد (لوقا: ١–٢٦) وتعده التقاليد الأسطورية العبرية، الملاك الذي يتكلم السريانية والكلدانية، وهو الذي فسَّر رؤى دانيال، وأحد الملائكة السبعة الذين يقدمون عرش الرب في الأساطير الرومانية، كما تروي عنه الأساطير العربية أنه «رأى آدم اثني عشر مرة»، ويُعرِّف الطبري جبريل بأنه أول من نزل على آدم بالحنطة «سبع حنطات» حين جاع آدم عقب طرده من الجنة، وحين سأله آدم: ما هذا؟ أجابه جبريل: «هذا الذي أخرجك من الجنة.» ثم علَّمه كيف زرعه وحصده وجمعه وفركه وطحنه وعجنه، ثم أمره أنْ يخبزه خبز ملة.
ويظهر جبريل في الفولكلور الإنجليزي، مسبوقًا بكلاب شرسة تسمى «كلاب صيد جبريل»، ومهمتها أنْ تعض وتؤذي الأرواح الشريرة في صعودها خلال السماء، ويتوحد جبريل مع الإله هرمس في الميثولوجيا الفرعونية؛ نظرًا لأن كلًّا منهما كان من مهامه النزول إلى الهاوية، أو هاديس أو صقر لإبلاغ رسالات.
ولما كان هرمس في أساطير ما قبل الهلينية، إلهًا مصريًّا، خليطًا من خصائص الإلهين المحليين المصريين «تحوت»، و«جحوتي» إله دمنهور المحلي، وله رأس أبي منجل، ويعرف بإله القمر و«أنوبيس» أوبنو أحد آلهة الموتى، حارس الأرواح في العالم الآخر، والابن غير الشرعي لنفتيس وست، وكان يصور على هيئة كلب متعدد الرءوس، ويقال إن جبريل يتبدى في الفولكلور الإنجليزي والأيرلندي مزيجًا من هذين الإلهين «تحوت وأنوبيس» المصريين، ثم هرمس في الأساطير اليونانية.
أمَّا الميثولوجيون العرب، فقد وحدوا هرمس «بمعنى عطارد» بالنبي إدريس، الذي هو «أخنوخ بن لود»، الذي يقال إنه أول من درز للدروز، وخاط بالإبرة، واستجاب له ألف إنسان ممن كان يدعوهم، فلما رفعه الله اختلفوا بعده، وأحدثوا الأحداث إلى زمن نوح، وهو أبو جد نوح، وعن هب بن منبه «وإنما سمي إدريس لكثرة ما كان يدرس من كتاب الله»، ووصفه ابن قتيبة، بأنه كان «أحسن خُدَّام الله، فرفعه الله إليه»، كما تنسب له بعض المصادر العربية، أنَّ إدريس أول من خط بالقلم، وهي أهم صفات الإله المصري «تحوت» الذي درب الناس على الآداب والفنون، وابتكر لهم الكتابة الهيروغليفية، فكذلك يُعد تحوت أول «مسجل» أو «مذكر» في العالم القديم.
وأخيرًا، فإذا ما كان الإله هرمس عند اليونان هو مزيج من الإلهين المصريين «تحوت» و«أنويبيس»، كما أنه أمكن تصنيف جبريل وإدريس مع هرمس المنحدر من اللاهوت المصري.
هذا بالإضافة إلى أن الملاك «جبريل» قد كشفت عنه الحفريات الحديثة، وأنه يعرف بنفس تسميته العربية السامية جبرائل، أو رسول الإله إيل كبير الآلهة السامية.
وإيل — كما ورد — فهو الأصل المبكر لإبراهيم، وكذا لكرويس أو ساتيرون اليوناني، كما يتضح من تأريخ كل من «سنكن أتين» وقيلو الجبلي أو الدمشقي اللذين حاولا إثبات أن الميثولوجي الكنعاني الفلسطيني السوري هو الأصل الأول للاحقه الهليني اليوناني، منذ أكثر من ٢٠ قرنًا.
ومن هنا يمكن إلحاق إبراهيم وتوحده بكليهما، من حيث توافر عنصري التوحد والتطابق.
وفيما يلي النص الشفهي الفولكلوري لسارة وهاجر.