بعد السجن
كيف جعل نفسه ابن أخي أفلاطون باشا
حافظ يحتال على يوناني في اليوم الأول لخروجه من السجن – اجتماعه بأبيه – اشتغاله بفن الكهرباء.
***
أرسل حافظ إلى أحد عارفيه في العاصمة كتابًا قبل خروجه من سجنه ببضعة أيام سأله فيه أن يبعث إليه بريالٍ واحد وبنطلون؛ ليتسنى له القدوم إلى القاهرة عند خروجه من السجن، فلم يخيِّب ذلك الرجل طلبه؛ لأنه وأكثر عارفي حافظ كانوا إلى ما قبل اشتهاره بالنصب والاحتيال يعتقدون أنه بعيد عن الدنايا والنصْب، وأنه على سعة من العيش وذو عقاراتٍ تغنيه عن ارتكاب المحرمات؛ لأنه كان يدعي ذلك دائمًا، ولا يعلم الصحيح إلا الله.
خرج حافظ من السجن فارتدى بذلك البنطلون، ولا أدري من أين جاء بالجاكته والصديري والقميص والحذاء وغير ذلك؟ ثم ركب القطار حال خروجه عائدًا إلى عاصمة القُطر.
ولما وصل إلى العاصمة نزل في فندق البوستة الكائن بشارع وجه البركة أمام «رويال أوتيل»، ولعل سوء حظ صاحب هذا الفندق هو الذي بعث به إليه.
ولا ريب أن جيب حافظ كان أفرغ من جوف أم موسى؛ لأنه لم يستطع أن ينال مالًا داخل السجن، ولعل ذلك لأن المسجونين ممنوع عليهم أن يدخلوا السجن ومعهم نقود؛ وإلا لما عجز عن الاحتيال على أحدهم، فلما نزل في فندق البوستة فكر في رجل ينصب له شَرَكًا، فلم يجد أقرب إليه من صاحب الفندق نفسه، فوضع له فخًّا سرعان ما وقع فيه.
وبيان ذلك أن حافظًا ادَّعى عندما دخل الفندق أنه ابن المرحوم نجيب باشا — ولا أدري إذا كان يوجد في مصر باشا بهذا الاسم — وأن عمه المرحوم أفلاطون باشا، وأن عمته مقيمة في سراية بشبرا وأنه وريثها الوحيد، فلما اعتقد صاحب الفندق ذلك أكرمه وبالغ في العناية به لا سيما وأن حافظًا عندما حل في الفندق طلب أحسن غرفة فيه، فلم تَرُقْ له غير غرفة فيها سريران فاتخذها لنفسه راضيًا عن دفع أجرة سريرين بدلًا من سرير حبًّا في راحته؛ لأنه لم يتعود إلا على الترف والدلال.
ولما شعر صاحبنا حافظ «أن السمك قد أكل الطعم»؛ أي إن صاحب الفندق اغتر به، ناداه وقال له إنه لم يدخل الفندق إلا لأن عمته وهي شقيقة المرحوم أفلاطون باشا طريحة الفراش، وقد حضر من الإسكندرية لزيارتها خاصة، ولأخذ مبلغ كبير منها تعودت على أن تعطيه إليه سنويًّا في مثل هذا الشهر، فلما رآها مريضة لم يشأ أن ينام عندها واختار الإقامة في الفندق، ثم دعا صاحبه إلى مصاحبته لزيارة عمته المشار إليها، فلبى الرجل دعوته عن رضًى وارتياح.
وللحال أمَرَ حافظ أحد الخادمين أن يحضر عربة تكون عجلاتها من ذات المطاط (كاوتشو)، وركبها وصاحب الفندق قاصدًا إلى شبرا.
وفي ذلك الشارع الكبير المزدان بالقصور العظيمة التي يسكنها عدد من عظماء مصر، أوقف العربة أمام باب قصر منها ودخل بالرجل اليوناني إليه.
فلما وصلا إلى المندرة حيث يُستقبَل الضيوف جلس وإياه برهة شربا في خلالها القهوة.
وقد سأل حافظ الخادم أمام صاحب الفندق عما إذا كانت عمته لا تزال مريضة، فأجابه بالإيجاب، فقال لصاحب الفندق لا سبيل لنا إذن لمقابلتها اليوم، فلنعُدْ إليها غدًا أو بعدُ، حيث تكون قد نالت الشفاء أو تماثلت إليه.
ولما ركبا العربة دارت بينه وبين صاحب الفندق المحاورة الآتية:
(ولعله قال ذلك عن طمع منه بالربا الذي يتقاضاه اليونانيون من أبناء الذوات، ولكن ما كل ذي ورمٍ بذي سِمن.)
وفي اليوم الثاني خرج حافظ من الفندق وأمضى النهار متنزهًا هنا وهناك، وعندما خيم الغسق عاد إليه وقال لصاحبه إن عمته لم تزل مريضة، وإنه ليس في وسعه الحصول على النقود إلا بعد أسبوع من الزمان، ولذلك هو يرجوه أن يقرضه خمسين أو ستين جنيهًا، فأثر بكلامه على الرجل؛ لأنه أحضر إليه المبلغ في الحال، فكتب له حافظ به كمبيالة يدفعها إليه عند الطلب.
وفي اليوم التالي شاهدْتُه في الطريق فحياني وشكرني على ما نشرته له من المقالات والقصائد التي بعث بها إليَّ من سجن الحضرة، فقلت له أنْ لا موجب لهذا الشكر؛ لأنني أعتقد أن ما أتاه هفوة منه لا يبعد عليه أن يصلحها وهو لم يزل في سن الشباب، فأخذ يُقسم لي بأغلظ الأيمان أن كل ما روته الجرائد عنه محض اختلاق، وأن مسألة سجنه سر من الأسرار، فلم أُطِلْ معه الكلام في هذا الصدد، بل سألته ما إذا كان زار أباه وإخوته، فقال: لا، وما ذلك إلا لأني خَجِل من مقابلة أبي، فقلت له: أنا الكفيل لك برضاه إذا وافقتني وذهبت معي لزيارته، فرضيَ.
وعند ذاك ركبنا عربة وقفت بنا عند منزل أبيه، وهو حضرة الفاضل أحمد أفندي نجيب في جزيرة بدران في شبرا، فلما اجتمع الوالد بالولد أظهر الأب لابنه استياءه الشديد مما حصل له، ووبخه توبيخًا صارمًا، فقال له حافظ: «كم في الحبس من مظاليم!» ومع ذلك فالمثل يقول: ما فات مات، فانظر لما هو آت.
وبعد حديث غير طويل صفح أبوه عنه، واتفق وإياه على أن يدير حركة المحل الذي افتتحه حديثًا إذ ذاك لتركيب المصابيح والأجراس الكهربائية بأول شارع الدواوين تحت عنوان — شركة الكهربائية الحقيقية — فوعد حافظ أن يستلم زمام العمل من غد، ثم خرج مع أبيه حيث تنزها في المساء معًا.
وهنا لا بأس من إيراد كلمة موجزة عن الفاضل أحمد أفندي نجيب؛ ليرى القراء الكرام أن الصالح يُنبت الطالح في بعض الأحايين، كما ينبت النرجس من البصل أحيانًا.
عرفت أحمد أفندي نجيب، وهو مأمور لمركز المنصورة منذ ثماني سنوات تقريبًا في اليوم الذي حدثت له تلك الحادثة المشهورة مع بعض وكلاء الصحف، فرأيت الرجل مثال الأمانة والاستقامة، اشتهر بين الناس أجمعين بالتقى والعبادة والنزاهة، حتى إنه أفرط في المحافظة على روح القانون إفراطًا غريبًا، فلم يكن يفرق بين شخص وآخر؛ إذ كل الناس لديه سواء.
وهو ذو همة علياء؛ فقد طارد كبار اللصوص في الفيوم مطاردة ألقت الرعب في قلوبهم، وشهد له المستشار السابق وجميع كبار نظارة الداخلية بالإقدام الغريب والنزاهة التامة.
ومما يروى عنه أنه ضبط قاتلًا فحكم عليه بالإعدام، ولكنه مع ثقته بعدل القضاء كان يخشى كثيرًا أن يكون رجلًا مظلومًا، فاتفق مع حارسِيهِ في سجنه على أن يسألوه عند منتصف الليل تمامًا من يوم معلوم عما حمله على إنكار الجريمة، حيث يكون هو واقفًا بالباب مصغيًا لما يجيب به فصدعوا بأمره، وعندما سألوا القاتل ذلك السؤال أجابهم: «وهل يجوز الاعتراف في مثل هذه الأحوال؟»
فعند ذاك استراح ضميره الحي، وأيقن أن الرجل قاتل أثيم يستحق القتل، ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.
وهو الآن مأمور الأوقاف في الفيوم، وشهرته ذائعة بالاستقامة والفضل، فما قول القارئ الكريم في هذا التباين العجيب بين الوالد والولد.
•••
عرف القارئ أن حافظًا استلم إدارة محل الكهرباء لمساعدة أبيه، فمضت أيام لم أرهُ فيها، ولكني علمت أن صاحب فندق البوستة يفتش عليه؛ لأنه علم بأن حافظًا ليس ابن أخي أفلاطون باشا كما ادَّعى «صح النوم»، وأنه احتال عليه.
وقد صادف أني شاهدت الرجل بنفسي وسألته جلية الخبر فقصه عليَّ مفصَّلًا، ثم سألني إذا كنت أشتري مبلغ الستين جنيهًا التي له على حافظ بخمسة جنيهات، ويحول لي الكمبيالة، فأبيت طبعًا.
ثم لم تمر أيام قليلة حتى هجر حافظ محل أبيه، ولا حاجة بي إلى ذكر السبب؛ لأنه لا يجوز للكاتب أن يدخل بين الوالد والولد.
وهكذا ذهب أمل أبيه سدًى كما ذهبت أموال وأحلام صاحب فندق البوستة أدراج الرياح.