نابغة المحتالين
حافظ يمثل مندوبًا عثمانيًّا ساميًا – وقوع غني من أهل الريف في شراكه – إنعامه عليه برتبة الميرميران – إنعامه على ريفي آخر بالتبة الثانية.
***
ضاقت سبل العيش في وجه حافظ بعد خروجه من السجن؛ لأنه كان كلما طرق بابًا للعمل سُدَّ في وجهه؛ إذ غدا الناس يخشونه بعد ما ذاع عنه وشاع في حادث احتياله على حضرة الكاتبة الفاضلة صاحبة مجلة «أنيس الجليس» الغرَّاء.
عند ذاك لم يجد بدًّا من العمل بقول الشاعر:
ومن البديهي أن أرباب البطالة الذين لا عمل لهم إلا الاحتيال على الناس تجمع بينهم وحدة الحال، ولهذا ما عتم حافظ أن تعرف على بضعة منهم فانضموا تحت لوائه بلا تعب ولا عناء.
ولما غدا حافظ مثل «أرسين لوبين» نابغة المحتالين الفرنسويين، ذا عزوة ورجال يشدون أزره ويأتمرون بأمره ويسيرون طبق رغباته، أخذ في تدبير المكايد التي يصيد بها الأغنياء الجاهلين، ولقد فشا في تلك الأيام مرض عضال هو مرض الرتب والنياشين الذي أصيب به عدد جم من سراة مصر المعروفين بكل أسف عند السواد الأعظم بالوجاهة والنبل والمجد والفضل، فرأى حافظ أن يغتنم الفرصة — واللبيب من انتهزها — لإيقاع بعض المصابين بداء «السعادة والعزة» في فِخَاخِهِ التي لا يحصى لها عدد.
ولما صحَّت عزيمته على ذلك جمع أفراد عصابته في قهوة بشارع جامع البنات أمام محل عياش وطنبة، وهي قهوة تَعَوَّد التخلُّف إليها منذ أربعة عشر عامًا على ما علمتُ من صاحبها.
أيها الإخوان
إنكم تعلمون — ولا ريب — أن صروف الأيام ونوائب الحدثان أنزلتنا منازل الفقر والهوان، وتركتنا بلا مال نقضي به الأغراض، أو منصب يدفع عنا شر العوَز والشقاء.
غير أن الرجل الذكي القدير يهزأ بالزمن إذا عبس في وجهه ويتغلب على الأيام وإن قلبت له ظهر المجن؛ لأن العقل الرجيح يعرف كيف ينتقم من القضاء بالضحك على صغار العقول والأحلام.
وإننا، ونحن على ما تعلمون من الحاجة إلى المال، لا نجد بدًّا من ركوب المركب الخشن، ولو كان أسنَّة وسهامًا، حتى لا نعيش كالحيوانات الساقطة تحت إمرة سوانا، وعرضة لكل مذلة وهوان.
ولقد خدمتني الصدف اليوم خدمة جلَّى؛ إذ مكنتني عندما كنت في «أوبرا بار» هذا الصباح من معرفة غني كبير من أغنياء الصعيد جاء إلى العاصمة ليشتري له رتبة الميرميران حتى يلقَّب في بلدته وبين عشيرته بسعادتلو أفندم.
ولقد لاح لي من حديث الرجل أنه على غاية ما يكون من الجهل، وأن الذين التفوا حوله ليس في وسعهم أن يخففوا عنه ثقل جيبه.
لهذا رأيت أن أعهد إلى أحدكم التحكك به بعد أن أدله عليه، حتى إذا ما تمكن من محادثته أخبره بأنه مطَّلع على ما يطلب، عارف بأنه إنما جاء إلى مصر ليكون باشا، ثم يوهمه بعد ذلك أن جلالة السلطان عبد الحميد قد أوفد إلى مصر مندوبًا ساميًا يحمل عدة رتب من الميرميران وسواها، وأنه في وسعه أن يحصل له على واحدة منها، فأمَّن الجميع على كلامه كما كان يؤمِّن رجال روكامبول على كل ما كان يشير به.
وللحال تفرق أفراد العصابة بعد أن وضع حافظ لكل منهم خطة عمله، ولم يبقَ معه إلا الذي اصطفاه من بينهم للتغرير بذلك الوجيه المغفل.
وفي اليوم الثاني أخذه إلى «أوبرا بار»؛ لأن ذلك الغني تعود على التردد إليه كل صباح، فلما وصل أشار إليه حافظ، حتى إذا ما وثق من أن تلميذه قد عرفه غادر البار ومن فيه.
•••
جلس تلميذ حافظ إلى طاولة مجاورة للطاولة التي جلس عندها الغني المشار إليه، وأخذ يترقب فرصة لمحادثته، حتى إذا ما تركه الذين كانوا معه شاهد على الطاولة جريدة تركها أحدهم، فتقدم منه وقال له: أتأذن لي سعادتك بقراءة هذه الجريدة؟ فأجابه الغني: تفضل يا بك.
وبعد هنيهة دارت بين الاثنين المحادثة الآتية، وقد رأيت أن أرمز إلى تلميذ حافظ ورسوله بحرف «ت»، وإلى الغني بحرف «غ» دفعًا لتكرار الأسماء.
لهذا رأت جلالته أن ترسل ذلك المندوب السامي المعظم لتسليم من يستحق من أغنياء المصريين براءات الرتب والنياشين التي جاء بها ليعلموا هم أيضًا أن جلالة السلطان عارف بإخلاصهم، وقادر على مكافأتهم.
وإنني لأرجوك ألا تبوح بكلمة واحدة مما قلته الآن لك لأحد ما، ولو كان ابنك أو أباك، وإلا فسد الأمر، خصوصًا وأنك قد حلفت بالحرام.
(ثم صافحا بعضهما، وابتعد تلميذ حافظ مسرعًا إليه.)
اجتمع نابغة المحتالين برسوله، فأوقفه هذا الأخير على كل ما جرى بينه وبين ذلك الغني من الحديث، فَسُرَّ حافظ من نباهته كثيرًا وأثنى على ذكائه ثناء جميلًا، ثم أخذه وذهب به إلى فندق شبرد المعروف، واستأجر هناك ثلاث غرف محاذية لبعضها بعضًا، وأوقف تلميذه على ما يجب أن يفعله بعد أن أوصاه بالانتباه والحذر.
ومن ثم قصد إلى أعوانه وأمرهم بالحضور إليه في الفندق عند الساعة الثالثة تمامًا ليكونوا على استعداد لمقابلة ذلك الوجيه الريفي.
أما هو فذهب إلى أحد باعة الملابس حيث اشترى «بدلة» سوداء عثمانية، ثم قصد إلى أحد حلاقي الأوبرا الخديوية فاشترى منه لحية وشاربًا مستعارين، حتى إذا ما وضعهما ظهر لناظره أنه من عظماء الأتراك.
فعل ذلك كله وحضر إلى الفندق قبيل الساعة الثالثة، وللحال قدم تلاميذه فلما شاهدوه بالبدلة السوداء واللحية والشارب المستعارين أنكروه، فضحك كثيرًا وسُرَّ من إحكام تنكُّره أكثر.
وعند الساعة الرابعة وبضع دقائق وصل تلميذه الأكبر يقود «ضحيته» إلى فندق شبرد، فاستأذن الذين على الباب بمقابلة دولة المندوب الأعظم، فأذنوا له بالدخول عليه.
وعند ذلك خلع الغني الريفي بلغته قبل أن يدخل جريًا على العادة المتبعة عندهم، ثم دخل فخَرَّ حتى قدميه ولثم يد دولة المندوب العظيم الشأن، وجرت بعد هذا المحاورة الآتية، وقد رأيت أن أرمز إلى حافظ بحرف الحاء، مع بقاء «الغين» للغني و«التاء» لتلميذ نابغة المحتالين، فقال هذا الأخير بعد تبادل أقوال التحيات والتهنئة بسلامة القدوم:
ولهذا ما علم بوجود دولتكم في هذه الديار، حتى أسرع لتقديم واجب التهنئة والإخلاص، وعرْض عبوديته لمولانا السلطان الأعظم على يد دولتكم.
(ولما وصلا إلى القاعة الثانية قال له: ما رأيك الآن؟ وأين هو المبلغ الذي ستتبرع به لسكة الحجاز حتى يعطيك دولة المندوب البراءة؟ فأخرج الباشا الجديد من جيبه كيسًا من القماش داخله خمسمائة جنيه، وقال: هذا مبلغ كذا أتشرف بتقديمه لدولة المندوب. فأشار عليه تلميذ حافظ أن يعطيه إليه بيده، فأدخله عليه ثانيًا، وتقدم «الباشا» ولثم يد المندوب ثانية، وقال له: أتشرف يا دولة الباشا أن أقدم لكم خمسمائة جنيه لسكة الحجاز.)
(فأطاع الغني الأمر وأرجع السيف وكأن روحه خرجت عند ذلك، ثم ودع وعاد مع تلميذ حافظ من حيث أتيا على أن يعودا معًا غدًا إلى فندق شبرد لاستلام البراءة والسيف.)
(وفي غد انتظر الغني المغفل عودة تلميذ نابغة المحتالين، فكان حظه حظ الذين انتظروا القارظ العنزي من قبل.)
(ولما طال أمد الانتظار عليه، ذهب بنفسه إلى فندق شبرد وسأل عن دولة المندوب السامي فلم يجد من خَدَمة الفندق إلا السخرية والاستهزاء، فعجب للأمر كثيرًا وكان ندمه شديدًا عندما علم أن الأمر حيلة جازت عليه.)
ومما يذكر من نوادر حافظ عن الرتب والنياشين أن أحد أغنياء الريف شكا إليه سوء حظه في الرتب، وأنه سعى كثيرًا للحصول على الرتبة الثانية فلم ينجح، فبعد أن أطرق حافظ قليلًا قال له: إن الغرض الذي ترمي إليه من الرتبة أن تلقب بعزتلو بك؟ أجاب: نعم. فقال حافظ: إذن لا تهمك تلك الورقة التي تدعى بالبراءة؟ أجاب: نعم، لا تهمني مطلقًا لأنها ليست وسامًا يزين صدر الإنسان.
فقال له حافظ: إن البكوية سهلة المنال، وإذا شئت أمطرتك تلغرافات التهنئة بالرتبة الثانية غدًا، وهرع آل بلدك إلى رفع مراسيم التبريك إليك، ولكن على شريطة أن تنقدني مائة جنيه مصري متى تم ذلك.
فأقسم له الوجيه على أن يعطيه هذا المبلغ إذا جعل الناس كلهم يعلمون أنه بك، وأنه قد أُنعِم عليه بالرتبة الثانية، فسُرَّ حافظ بهذا القسم وخرج من عند ذلك الوجيه على أن يعود إليه مساء غد.
وفي الصباح أسرع إلى إدارات بعض الجرائد اليومية ونشر فيها خبرًا مأجورًا مؤداه أنْ قد ورد في صحف الأستانة العلية إنعام الجناب العالي بالرتبة الثانية على صاحب العزة المفضال فلان بك من عيون المركز الفلاني، ثم أرسل عدة أعداد من الجرائد التي نشرت هذا الخبر إلى بلد ذلك الوجيه ليكونوا على علم من الأمر.
وقبل أن يجتمع حافظ بالبك الجديد كان كثيرون من عارفيه الذين شاهدوه بعد مطالعة الصحف قد هنَّئوه وطلبوا له مزيد التعطفات السامية، فلما شاهد حافظًا عانقه من فرحه ومنحه المائة جنيه رزقًا حلالًا.
ولا تسَلْ عن الاحتفال الباهر الذي قوبل به سعادة البك المشار إليه في بلدته عند وصوله إليها، وهو لا ريب لا يزال يدعى «بك» إذا كان لم يزلْ حتى الآن على قيد الحياة.
ومن هاتين النادرتين الصغيرتين يرى القارئون الكرام أن الذكي إذا صرف ذكاءه إلى جر المال من أي طريق كان لم يعدم ذريعة ينال بها غرضه.
وأظن أن حضرة الفاضل كامل أفندي دياب مراسل المؤيد التجاري على علم من هذه الحكاية الغريبة، ولكنه على ما أظن يرويها محرفة بعض التحريف الذي لا يُخِلُّ بجوهرها.