استهلال
على مدى القرنَين، بين الدخول الأول للعرب إلى العالم الحديث عند مطالع القرن الماضي،
ووقوفهم الراهن على أعتاب ما يتصورونه نظامًا عالميًّا جديدًا؛ فإنهم لم يتوقفوا أبدًا
عن
السؤال: لماذا تخلَّف المسلمون، ولماذا تقدَّم غيرهم؟
١
وعلى تبايُن الرؤى واختلاف المرجعيات، فإنه يبدو وكأن ثمة اتفاقًا بينهم على اعتبار
تفوق
الغرب (أو البلاد الأوروبية التي تعرَّفوا عليها) راجعًا أساسًا إلى نظامه السياسي الضامن
في
رأيهم للحرية، والمقيِّد للسلطة بالقانون، وأن تأخُّر الشرق، بما فيه البلاد الإسلامية،
راجع أيضًا
إلى طبيعة نظامه السياسي القائم على «الاستبداد».
إن هذا الموقف يَصدُق على الفكر الإصلاحي العربي والإسلامي عمومًا، سواء ذلك الذي
قام باسم
السلفية، أو ذلك الذي أراد أن يكون ليبراليًّا.
هنا يلتقي لطفي السيد مع علال الفاسي، كما يلتقي محمد عبده مع خير الدين التونسي.
٢
بأن الاستبداد هو أصل التخلف وجذره، وأن نقيضه الضامن للحرية والمقيِّد للسلطة بالقانون
هو،
في المقابل، أصل النهضة؛ فإن شرط النهضة عند هؤلاء المفكرين كان لا بد أن يتحدَّد بتجاوز
الاستبداد لا غير.
٣
وهكذا كان لا بد أن يئول سؤال النهضة إلى سؤال السياسة: «كيف السبيل إلى تجاوز الاستبداد؟»
واللافت أن الإجابة على سؤال السياسة قد تحددت بطريقة الإجابة على «سؤال النهضة».
فإذا
كان الوعي قد أدرك جذر تخلفه في الاستبداد، بسيادة نقيضه (اللااستبداد) في أوروبا، أصل
النهضة
ونموذج التقدم؛ فإنه هنا قد راح يربط بين لا استبداد أوروبا، وبين ما لها من التنظيمات
السياسية المؤسسة على العدل، ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها.
٤
ومُنذئذٍ والخطاب العربي لا يعرف إلا مجرد السعي إلى استعارة ونقل هذه التنظيمات،
وبما يجري
تداوله في فضائها من مفردات «الدستور» و«الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» وغيرها، وذلك عبر
المماثلة
بينها، وبين ما يراه موازيًا لها في هياكله التراثية القديمة، ساعيًا بذلك إلى إزالة
شبهة
تناقضها مع الشرع، وهكذا دون أن يشغله الوعي بالسياق المعرفي الخاص الذي تبلورت واكتملت
هذه التنظيمات والمفاهيم في إطاره، فراح، لذلك، يستعير مفاهيم انتهت إلى الانفصال في
مجالها الأصلي عن دلاليتها الدينية، بواسطة مفاهيمه التي لم تزل لصيقة بدلاليتها الدينية،
ومن هنا عجزه وشقاء وعيه.
والمهم أن العالم العربي قد شهد منذ أواخر القرن الماضي — وبسبب هذا الانشغال بالدستور
والتنظيمات — تجارب حزبية وبرلمانية متفاوتة القيمة والتأثير، لكنها — وخصوصًا بعد العجز
عن
إنجاز الاستقلال، وتفاقم حدة الوضع الاجتماعي — سرعان ما انحسرت تمامًا عند الخمسينيات،
حيث
شهد العالم العربي موجة من الانقلابات العسكرية كتبت النهاية الحزبية لهذه التجارب، وأعلنت
عودة الاستبداد صريحًا لا يكذب، رغم أن البعض قد راح يزخرفه بأنه قد عاد مستنيرًا وعادلًا
هذه المرة. لقد بدا إذن أن التنظيمات ليس فيها الإبراء من الاستبداد.
٥
وبإزاء هذا الإخفاق الشامل، فإن البعض قد مضى يتأمل في مدى ملائمة الوضع الاجتماعي
السائد، أو حتى طبيعة الدول العربية الراهنة، لبناء الديمقراطية الحقة. وهكذا فإن ثمة
من صار —
قياسًا على كون الديمقراطية الأوروبية قد اكتمل نضجها بتبلور الطبقة الوسطى ونمو وعيها
—
إلى أن مأزق الديمقراطية في العالم العربي يرتبط بضعف الطبقة الوسطى، وهشاشة وعيها وهلاميته،
ومن هنا ضرورة أن نساعد الرجل، رجل الطبقة المتوسطة، على أن يغرس في بلادنا هذه الشجرة،
شجرة
الديمقراطية.
٦
وثمة أيضًا من راح يرى عوائق الديمقراطية في طبيعة الدول العربية التابعة، التي «لا
تستطيع — مع الضعف وانعدام تنمية مبنية على تنظيم وتطوير انفتاح، والتحكم في فائض القيمة،
الذي يصب
أغلبه في الخارج — أن تفي بوعدها لمواطنيها، وأن توفر الخدمات، وتتكفل بالحاجات المتزايدة
بتزايد السكان، الذي هو ظاهرة العالم الثالث. وهكذا يشتد ضغط المجتمع بمشاكله المتفاقمة
عليها، فتقاومه بقمع متزايد، وباعتماد أكثر على الخارج في طلب المساعدة والحماية، وهذه
الوضعية هي من العوائق الموضوعية لقيام نظام ديمقراطي.»
٧
وبالرغم من قيمة هذه التحليلات وجديتها، فإن أحدًا لم يتجاوز — في بحثه عن سبيل لتخطِّي
الاستبداد — السياسةَ إلى ما وراءها، وأعني إلى الثقافة بما هي خطاب يؤسس لكل ممارسة،
حتى
السياسي منها. والحق أن ظروف الإخفاق الراهن — في المسألة الديمقراطية وغيرها — تقتضي
الحفر
فيما وراء كل ممارسة عن جملة المفاهيم والتصورات المعرفية المؤسِّسة لها في العمق، والتي
تفعل
فعلها غالبًا على نحو غير مشعور أو مَوعيٍّ به.
فدون هذا الحفر، ستبقى الشروط المنتجة للإخفاق قائمة في العمق، بلا أي تجاوز. ومن
هنا
ضرورة البحث عما يؤسِّس لغياب كل ما هو إنساني وديمقراطي من عالمنا في بنية الثقافة السائدة،
وليس في مجرد الشرط الاجتماعي والسياسي، على أهميته. ولعل ذلك، لا غيره، هو القصد
هنا.