الاستخلاص الأخير
من هنا إذن — أعني من خطاب عربي تراثي استحال فيه التسلط إلى ثابت بنيوي لا يمكن نفيه إلا عبر نفي الخطاب ذاته، ومن خطاب عربي معاصر لا يعرف إلا النبذ المتبادل بين نماذجه وتشكلاته الأيديولوجية — يأتي غياب الديمقراطية. ومن دون الوعي بهذا الذي يؤسس لغيابها في العمق — توطئةً لخلخلته وزحزحته — فإنه لا سبيل للحديث عن أفق للتطور الديمقراطي في العالم العربي.
وهكذا فإنه لا سبيل لأي تطور ديمقراطي عربي إلا عبر تحليل وتفكيك الجذور التراثية للتسلط من جهة، وتجاوز الأزمة الشاملة للخطاب العربي المعاصر من جهة أخرى، تلك الأزمة التي تتبدى ماثلةً في اكتفائه بمجرد الاستهلاك الأيديولوجي لمفاهيم النهضة — ومن بينها الديمقراطية — والعجز عن إنتاجها معرفيًّا في حقله الخالص.
ولقد بدا أنه لا سبيل للوعي بما يؤسس لهذه الأزمة إلا عبر ضرب من الحفر المعرفي، يتجاوز تبدلات الأشكال الأيديولوجية عند سطح الخطاب، إلى ذلك الثابت القارِّ خلفها، ينتظمها ويتحكم في تطورها وتدهورها. إذ الوعي بهذا الثابت العميق هو نقطة البدء في عمل يتوجه إلى اجتثاث كل ما يَحُول دون إنتاج الديمقراطية، وغيرها من مفاهيم النهضة، في بنية الثقافة السائدة.
ولعل عملًا كهذا هو عمل أكثر جدوى من مجرد الدعوة السياسية، على أهميتها بالقطع، إلى بناء المؤسسات السياسية والدستورية في الواقع.
إذ الحق أن الجذر المؤسس للتسلط يقوم كما أشرنا لا في الواقع، بل في بنية ثقافة لا تعرف إلا النفي والإزاحة والإقصاء، وليس النقد والتفاعل والاستيعاب، الأمر الذي يعني ضرورة التفكيك المعرفي للتسلط في وعي الخطاب، أو حتى لاوعيه، وليس في مجرد الواقع.
ولعل عدم إنجاز هذا التفكيك للتسلط فيما هو معرفي سيظل حائلًا دون تبلور ديمقراطي أصيل. وعلى هذا فإن أزمة الديمقراطية في العالم العربي ليست أزمة تنظيمات أو وثائق سياسية ودساتير، بقدر ما هي أزمة ثقافة لا تنتج غير التسلط. ومن هنا، فإن تطور الديمقراطية مشروط لا بمجرد النقد السياسي الذي تمارسه فصائل المعارضة للأنظمة السياسية المستبدة في عالمنا، بقدر ما هو مشروط بضرب من نقد ثقافة الاستبداد ذاتها. فدون هذا النقد الأخير لن يُنتِج الخطابُ غيرَ الاستبداد، حتى وهو يفكر في الديمقراطية.
وهكذا، فإن الأفق الممكن لتطور الديمقراطية في العالم العربي هو أفق الثقافة لا السياسة.