مقاربة أنثروبولوجية
رغم أن مفهوم «المقدس» ينصرف إلى موجود بعينه، مُتعالٍ ومُفارِق، وتكون قداسته من
نفسه،
ثم تتنزَّل إلى ما يَصدُر عنه ويرتبط به، من كتب ووصايا ووعود، وهياكل وأماكن وبيوت،
بل وحتى
أزمان وأيام؛ فإنه يُلاحَظ أن الثقافات لم تتوقف — على مدى تاريخ طويل — عن ممارسة
التقديس، وإنتاج ضروب من المقدس يخضع لها، وبها، البشر، وتُلزمهم بعدم انتهاكها، أو حتى
مجرد التفكير فيه، وذلك عبر التعالي بضروب من الأفكار والنصوص، بل حتى الأشياء
والأشخاص، من حدود التاريخي والواقعي، وإطلاقها في فضاء المفارقة والتسامي، ليقدسها
البشر، ويضعوها خارج حدود القابل للتفكير والفهم، ناهيك عن المساءلة والنقد. وإذا كان
يبدو هكذا أن التقديس، كممارسة داخل الثقافة، إنما يُنتج مقدسًا، فإن ذلك يعني أن «المقدس»
لا يكون من وضع نفسه دومًا، بل يكون من وضع الثقافة في الأغلب.
وإذ يرتبط ذلك بما صار إليه «دور كايم»، من أن القداسة لا تكون كافية في الأشياء
نفسها
بقدر ما تُضفي وتخلع عليها؛
١ فإنه يلزم التأكيد على أن الأمر يتجاوز ما تصوره دور كايم — من أن هذا الوضع
للمقدس إنما يجد أساسه فيما هو ديني بالذات — إلى اعتباره نتاج ممارسة أنثروبولوجية،
قد
يكون الديني أحد أهم عناصرها، ولكنه ليس الأوحد أبدًا.
إذ الحق أن عناصر شتى — يتشابك فيها النفسي والاجتماعي والتاريخي والمعرفي والسياسي،
إضافةً إلى الديني بالطبع — تتضافر معًا في إنتاج هذه الممارسة على نحو يجعل منها ممارسة
ثقافية بالمعنى الأتم.
وإذ يئول ذلك إلى مكان التمييز بين ضربَين من القداسة؛ تكون في أحدهما «هبوطًا من
الأعلى»، حيث يُضفي المقدس المتعالي قداسته على كتبه ووصاياه، ليَهَبها دوام الحضور وأبدية
البقاء، فيما تكون في الآخر «صعودًا من الأدنى»، حيث يخلعها التقديس — كممارسة داخل
الثقافة — على ضروب من الأفكار والأشخاص، ليفك روابطها من التاريخ، حتى تسكن خارجه في
سكون وثبات يستعصيان على أي تجاوز أو انكسار؛ فإنه يلزم التنويه بأن حدود الانشغال
هنا لن تتسع لما هو أكثر من تفكيك هذا النوع من القداسة الذي تنتجه الثقافة، وأعني
المنتج داخل الثقافة الإسلامية بالذات.
الحق أن نصوصًا وتجارب وخطابات قد راحت تتعالى في محيط هذه الثقافة، من حدود الإنتاج
والتداول التاريخي، لتسكن فضاء تستحيل فيه إلى «مطلقات وأصول» لا يقدر الوعي على
مقاربتها تحليلًا ودراية، بل يخضع لسطوتها «تكرارًا ورواية»، وهو ما يعني أنها تستحيل
من
موضوعات ﻟ «المعرفة والأسس»، إلى مطلقات ﻟ «الاجترار والتقديس».
ولعل هذه الاستحالة إلى مطلق للتقديس قد كانت من أهم أدوات الخطابات والنصوص، لا
في
مجرد تكريس هيمنتها، بل والأهم في تأييدها على الدوام. ومن هنا ذلك الارتباط بين كلٍّ
من
الهيمنة والتقديس من جهة، في مقابل الارتباط النقيض بين الإخضاع والتدنيس من جهة أخرى،
وأعني أن بناء الخطاب — أيِّ خطاب — لهيمنته وإخضاعه لغيره، لا يتأتَّى فقط من إضفائه
على
نفسه لوصف المقدَّس، بل ومن وصمه للخطاب النقيض بوصمة المدنَّس.
٢
والغريب حقًّا أن تعجز هذه الخطابات المدنسة النقيضة عن الانفلات من أحبولة التقديس
والتدنيس، بل إنها، وعبر نوع من تبادل المواقع لا غير، قد راحت تعيد إنتاجهما على نحو
كامل. وهكذا فإنها، وبدلًا من السعي إلى زحزحة الخطاب السائد عبر نقض قداسته وتفكيكها،
وبما يعني تفكيك وردَّ الدنس عنها أيضًا، لم تفعل إلا أن راحت تعيد إنتاج القداسة لحسابها،
والتطهر من الدنس بردِّه إلى الآخر؛ الأمر الذي بدا معه وكأنه صراع الخطابات بالتقديس
والتدنيس.
وضمن سياق هذا الصراع، فإنه يُشار مثلًا إلى أن الخطاب الشيعي — وهو أحد أهم
الخطابات النقيضة في الثقافة — لم يفعل في مواجهته لتلك القداسة التي راح يخلعها الخطاب
السني المهيمن على نفسه، إلا أن راح يعيد إنتاجها لحسابه، وعلى طريقته؛ الأمر الذي
بدا معه أنه لا يفعل إلا أن يعيد إنتاج نقيضه، بدلًا من أن يزحزحه وينقضه.
٣
ولقد كانت تلك هي مفارقته التي تكاد أن تكون هي ذات مفارقة سائر الخطابات النقيضة
في
الإسلام، وأعني من حيث راحت جميعًا تعيد إنتاج ما راحت تُخايل بأنها تنقضه. وإذا كانت
الهيمنة، في الثقافة، قد تحققت كليًّا لذلك الخطاب الذي دشَّنه الشافعي (في الفقه) على
رأس
المائة الثانية، وراح الأشعري يكرِّس هيمنته (في العقيدة)، بعد ما يربو على القرن بقليل؛
ففي ضرب من التجاوب بين «الفقهي» و«العقيدي»، يكاد أن يبلغ حد انصهارهما فيما يمكن اعتباره
«الخطاب الشافعري»،
٤ الذي راح الغزالي، والرازي من بعده، يُلاشِيان أي تمايز بين جناحيه الفقهي
والعقيدي، حيث سيخضعان عندهما لعملية انبناء يزول معها تمايزهما المتوهَّم؛ فإن ذلك
يعني أن رصدًا لمسار التقديس، وتفكيكًا لآليات إنتاجه وطرائق اشتغاله في الثقافة، لا
يقبل التحقق إلا من داخل هذا الخطاب، لا من خارجه.
وإذ يتقنَّع التقديس في هذا الخطاب خلف نوع من التكريس (في المعرفي) لسلطة نموذج-أصل
يعيِّن حدود القابل، وغير القابل، للتفكير ومجاله؛ فإنه يبدو أن هذا القناع المعرفي لم
يكن،
هو نفسه، إلا قناعًا لنوع من التكريس (في السياسي) لسلطة الحاكم-الأب، والذي يعيِّن
بدوره حدود المسموح، وغير المسموح، السياسي. والحق أن جوهرية «الأصل» في هذا الخطاب
قد بلغت حدود توظيفه في تسمية الخطاب لنفسه، ومع الإدراك، بالطبع، لحقيقة أنه لم ينشغل
—
كخطاب — بمجرد تعيين الأصل، وحدود اشتغاله، وعلاقته بغيره، على نحو يجعل منه موضوعًا
يبدأ
منه الوعي سيرورة اشتغاله مستوعبًا ومجاوزًا، بل انشغل بترتيب علاقته وتأسيس سلطته
وتثبيتها على نحو يستعصي على أي تجاوز، وأعني أن مدار الانشغال في الخطاب، هكذا، لم يكن
إلا تأسيس سلطة الأصل وإطلاقها إلى فضاء تهيمن فيه على الوعي على نحو يئول إلى إلغائه،
بدلًا من صوغه وبنائه.
وإذا كان التجاوز في سيرورة التقديس من «السياسي» إلى هذا «المعرفي» قد راح يتحقق
عبر
توسط «الديني»؛ فإنه يلزم التنويه بأن واحدًا من عناصر «السياسي» و«المعرفي» و«الديني»،
المتضافرة في إنتاج وتأسيس «التقديس»، لا يعمل ولا يكتسب دلالته إلا من خلال علاقته
بغيره. وبالرغم من ذلك، فإن ما سيكشف عنه التحليل من أن «الواقع» لم يكن نقطة البدء فقط،
بل والمنتهى أيضًا، في سيرورة التقديس الطويلة، كان لا بد أن يجعل من رصد إنتاج التقديس
في
«السياسي» بمثابة التوطئة لتأسيسه في «المعرفي»، كخطاب لن يفعل إلا أن يعيد إنتاج
التقديس أبدًا. وإذن فإنها «السياسة» هي نقطة البدء في التقديس.
وهكذا، فبالرغم مما يبدو من أن قداسة الديني لم تطل المجال السياسي في الإسلام على
نحو مباشر، وأعني من حيث تخلو نصوصه المؤسِّسة مما يمكن أن يقيد الممارسة في هذا المجال،
ويضعها تحت سطوته؛ فإنه يبدو أن كافة الممارسات في هذا المجال، لم تخلُ من أي حضور أو
مخايلة بالقداسة أبدًا، وأن الأمر لا يتجاوز حينذاك أن يتعلق فقط بأن «مقدس الدين» قد
كان عليه أن يتخلف في البدء قليلًا، ليفسح المجال أمام «مقدس القبيلة»، الذي سرعان ما
أجبرته الأحداث على أن يتخفَّى، هو نفسه، وراء مقدس الدين، حين بدا أن التطورات — على
عهد
معاوية بالذات — قد راحت تُخلخِل بعض عناصر هذا المقدس، أعني مقدس القبيلة.
وهكذا فإن المجال السياسي في الإسلام قد تبلور تحت سطوة القداسة المزدوجة لكلٍّ من
الدين والقبيلة، ولم يحدث أبدًا أن تبلور بعيدًا عن أي حضور للقداسة. وضمن سياق هذا
التبلور، فإنه يبدو أن العلاقة بين كلا المقدسَين (الدين والقبيلة) قد راحت تتأرجح بين
التماهي الكامل بينهما في البدء — حين راح مقدس القبيلة يحيل نفسه إلى مقدس إلهي — وبين
التخفِّي اللاحق للواحد منهما (أو مقدس القبيلة) وراء الآخر (أو مقدس الدين)، ولكن من
دون أن
تنفصم عُراها أبدًا. بل إنه يبدو أن نفس المراوحة بين التماهي والتخفِّي تظل هي التي
تنتظم مسار العلاقة بينهما للآن.
فالحق أن التماهي بين المقدسَين، ولا شيء سواه، هو ما يمكن قراءته وراء سطور الأقوال
والروايات التي تضعها المصادر التاريخية على ألسنة الفرقاء المتنازعين على خلافة النبي
ﷺ
منذ ما قبل وفاته. وليس يقلل أبدًا من قوة دلالة هذه الروايات ما يُقال من
ظهور الانتحال والوضع عليها؛ إذ الحق أن انتحال القول ووضعه إنما يشير إلى قوة حضور
دلالته في الواقع، وبحيث يبدو أنه كلما كانت الدلالة أكثر حضورًا، كلما جرى وضع القول
الدالِّ عليها على ألسنة ذوي السلطة الرمزية، وحتى الفعلية، الأعلى والأقوى. وهكذا فإنه
لا
مجال للتعليق، بالنسبة لهذه المرويات وغيرها، بشيوع الوضع فيها؛ إذ يبقى مجرد وضعها دالًّا،
أكثر من غيره، على الحضور الفاعل لدلالتها، وبمعنى أن الوضع، هنا، لا ينتج أثره حضورًا
في الواقع، بل الحضور في الواقع، بالأحرى، هو الذي ينتج أثره وضعًا لقول أو
رواية.
وهكذا، فإنه إذا كانت ثمة من المصادر ما قطع بأن عمر بن الخطاب قد راح — في لَجاج
مع
ابن عباس — يُجابِه طموح آل البيت لخلافة النبي
ﷺ بالقول: «إن الناس قد كرهوا أن يجمعوا
لكم النبوة والخلافة، وإن قريشًا قد اختارت لنفسها فأصابت»؛
٥ فإن مصادر أخرى — وللغرابة — قد راحت تضع هذا القول نفسه لعمر على لسان من
خوطب به، وهو ابن عباس، ولكن بعد أن أجرت عليه تحويرًا ملفتًا حلَّت فيه كلمة «الله»
محل
كلمة الناس، فأصبح القول هذه المرة على لسان «ابن عباس» يخاطب به «الحسين بن علي»، إبان
مسيره إلى الكوفة يطلب الأمر لنفسه من يزيد: «والله يا ابن أخي ما كان الله ليجمع لكم
بين
النبوة والخلافة.»
٦
وبالرغم من ظهور الوضع وصراحته على هذه الصيغة المنسوبة لابن عباس،
٧ فإنه يبقى أنها تُحيل إلى دورة إنتاج «التقديس»، واحتلاله لفضاء المجال
السياسي في الإسلام منذ وقت مبكر.
فإذ يكاد ينصرف مدلول لفظ «الناس»، في القول على لسان عمر، إلى قريش بالذات، وذلك
ما
يؤكده شطر قوله الثاني على أي حال؛ فإن ذلك يعني أنه التحول من أن «القبيلة أو قريش هي
التي
تأبى الجمع لآل البيت بين النبوة والخلافة»، إلى أن «الله هو الذي يأبى ذلك»؛ الأمر الذي
يحيل —
لا محالة — إلى ضرب من الإحلال ﻟ «الله» محل القبيلة إحلالًا يتكشَّف عن تماهيهما المطلق،
الذي يتعالى فيه «مطلب القبيلة» إلى مقام «المطلب الإلهي».
والحق أن الأمر، في العمق، لا يتعلق بأكثر من القبيلة — وقد انتصرت في مواجهة
مناوئيها — انطلقَت تكرِّس انتصارها رمزيًّا وتؤيده عبر هذا التماهي مع الله، والذي لم
تقبل
إلا أن تجعله بإقرار المنهزم نفسه، لتأكيد إخضاعه والسيطرة عليه.
إذ الحق أن ترتيبًا للرواية وبناءً للأحداث، يرتدُّ إلى وقائع الخلاف على خلافة النبي
قبل وفاته مباشرة، لَيكشف عن أن تثبيت «نظام القبيلة»، أو بالأحرى تقديسه، قد كان هو
الشاغل الأهم للعديد من كبار الصحابة، الذين بدَوا غير قادرين كليًّا على التفكير في
أمور
الإمامة والرئاسة على الناس إلا في إطار نظام القبيلة السائد،
٨ وإلى حد أن بعضهم قد أحال بين النبي وبين كتاب يبدو أنه ارتأى أن يكتبه
ليحدد أمر خلافته من بعده، حيث تخوفوا من أن يجعلها بكتابه وراثة في آل البيت، فينحسر
نظام القبيلة، الذي لم يعرف الوراثة إلا نادرًا، كسبيل للرئاسة.
٩
فقد أورد ابن خلدون: «إن أهل البيت لما تُوفي رسول الله
ﷺ كانوا يرَون أنهم أحق
بالأمر، وأن الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش. وفي الصحيح أن رسول الله
ﷺ قال في
مرضه الذي تُوفي فيه: «هلموا أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا»، فاختلفوا عنده في
ذلك وتنازعوا، ولم يتم
الكتاب، وكان ابن عباس يقول إن الرزية ما حال بين رسول الله
ﷺ وبين ذلك الكتاب،
لاختلافهم ولغطهم، حتى لقد ذهب كثير من الشيعة إلى أن النبي
ﷺ أوصى في مرضه ذلك لعليٍّ.»
١٠
وبالرغم من أن هذه الوصية لا تصح عند ابن خلدون، استنادًا إلى إنكار السيدة عائشة
لها،
فإنه يبقى أن رواية ابن خلدون تربط بين الكتاب الذي انتوى النبي
ﷺ كتابته، وبين قضية
خلافته، التي يبدو أن البعض قد تخوف من أن يجعلها في آل البيت دون سواهم من قريش، فحال
بين النبي وكتابه.
وإذا كانت رواية ابن خلدون لا تحدد شخصًا بعينه وراء هذه الحيلولة دون الكتاب، فإن
رواية للشهرستاني — في سياق تعيينه للخلافات المؤثرة في تاريخ الأمة — تكشف عن أن عمر
كان هو الذي رد على طلب النبي للقرطاس والدواة معترضًا: «إن رسول الله
ﷺ قد غلبه
الوجع، حسبنا كتاب الله»، فكثر اللغط، وقال النبي: «قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع.»
١١ والحق أن الأمر في وعي عمر، أو حتى لاوعيِه، كان يتعلق بشيء آخر غير كتاب
الله؛ لأنه أن يطلب النبي قرطاسًا ودواة ليكتب كتابًا، فإن ذلك يعني، من جهة، أن ما كان
ينتوي كتابته لم يَرِد عنه شيء في كتاب الله أصلًا، أو أنه قد ورد مجملًا، وشاء النبي
أن
يجعله مفصلًا، وإلا ما كان النبي قد طلب أن يكتبه. ثم إن هذا الذي انتوى كتابته هو، من
جهة أخرى، شيء في قوة كتاب الله، وإلا ما كان قد جعله مما يُكتب، حيث لم يُكتب آنذاك
إلا
الوحي أو كلام الله. ومن هنا فإنه لا يصح الاحتجاج بقول عمر: «حسبنا كتاب الله»؛ لأن
الأمر يتعلق بشيء لم يرد في كتاب الله، ولكنه في مثل قوته، لأنه سوف يُكتب مثله.
وهكذا فإن شيئًا غير «كتاب الله» هو ما يقف حقًّا وراء اعتراض عمر على كتاب النبي،
ولعله
لم يكن إلا التقاليد التي تريد بأصل السلطة إلى القبيلة بأسرها، «حيث لم يكن من حق شيخ
القبيلة أن يعين من يرأسها بعد وفاته، ولا يتعدى على صلاحية مجلس شورى القبيلة».
١٢ ومن حسن الحظ أن مسار الأحداث اللاحق، بل وحتى قول عمر نفسه لابن عباس حسب
رواية ابن خلدون هذه المرة: «إن قومكم ما أرادوا أن يجمعوا، يعني بني هاشم، بين النبوة
والخلافة، فتحموا عليهم»،
١٣ لما يؤكد على أن هذه التقاليد كانت هي الأصل في الاعتراض على كتاب من النبي
كان يمكن أن يئول إلى تقويضها، وهي التي تؤكد عبارة عمر: «إن قريشًا اختارت لنفسها، فأصابت،
أنها سوف تغلب وتسود.» والحق أن ما يبدو هكذا من
أن اختيار القبيلة قد غلب وانتصر، في مواجهة ما انتوى «النبي اختياره»، لا يكشف عن
صلابة التقليد القبلي واستقراره فقط، بل يكشف — وهو الأخطر — عن تعدِّيه لسلطة النبي
نفسها، وعلى نحو يبدو فيه التقابل دالًّا وحاسمًا بين سلطة النبي من جهة، وبين سلطة
القبيلة وتقاليدها من جهة أخرى.
والمهم أنه يبدو هكذا أن الشيء الذي حال حقًّا دون كتاب النبي لم يكن «كتاب الله»
بقدر
ما كان «تقليد القبيلة»، ومن هنا فلعل عمر حين كان ينطق: «حسبنا كتاب الله»، إنما كان
يقصد: «حسبنا تقليد القبيلة».
وإذ يحيل ذلك إلى نوع من الإحلال المضمر لكتاب الله محل تقليد القبيلة، فإن ذلك يعني
إكمال دائرة التماهي بين مقدس الدين ومقدس القبيلة، وذلك بعد ما سبق من الإحلال المعلن
ﻟ
«الله» على لسان ابن عباس، محل «القبيلة» على لسان عمر، الذي أوردته المصادر.
ولعله كان لزامًا أن يبلغ هذا التماهي ذروته، فيتجاوز إلى المخايلة بأن آلية القبيلة
في تداول السلطة عبر ما يمكن اعتباره شورى الشوكة والمغالبة، قد كانت هي نفسها شورى النص،
أو الاختيار والمبايعة. فإذ تكاد تجمع كافة المصادر السنية على أن الشورى كانت هي
الموجِّه لأمر الخلافة بعد النبي
ﷺ، فإنها تتجاهل أي تمييز بين ما يمكن اعتباره شورى
القبيلة من جهة، وشورى العقيدة من جهة أخرى، لكي تخايل بتماهيهما، ونفي أي اختلاف بينهما.
والحق أنه يلزم التمييز بين هذين الضربين من الشورى، رفعًا لأي التباس يوحي بالتماهي،
الذي يكتسب فيه أحدهما قداسة الآخر.
فإذ تنبني شورى القبيلة على الشوكة والمغالبة، حيث «الرياسة لا تكون إلا بالغلب،
والغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه، فلا بد في الرياسة على القوم أن تكون من عصبية
غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة؛ لأن كل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم أحسوا
بالإذعان والاتباع».
١٤ على نحو يبدو معه وكأن الأمر طوع وشورى. وإذن فإنها الرياسة تكون للأقوى
مغالبةً وشوكةً، والإذعان من الأدنى انصياعًا وبيعةً، هي ما تمثل بنية شورى القبيلة،
التي
أدرك فيها الغزالي جوهر ما جرى في الإسلام منذ ما بعد وفاة النبي،
١٥ والتي لم تزل تحكم فضاء الممارسة السياسية العربية للآن، وبالطبع بعد أن
أُضيفت إلى شوكة القبيلة أو قريش، قوةُ الجيش.
١٦
والحق أنها تغاير، بحسب هذا البناء، شورى
العقيدة، بكل ما قيل إنها تفترضه من وجوب الاختيار والممانعة. وهكذا فإنه إذا كان نظام
القبيلة قد راح يجد ما يدعمه في نصوص الشورى (في القرآن)، فإنه يلزم التأكيد على أن ذلك
لا يعني أبدًا أن هذه النصوص كانت هي التي وجَّهت الأمر، بل إنها شورى القبيلة قد كانت
هي
الموجِّهة لشورى النص، وليس العكس. وبالرغم من ذلك، فإنه يبقى أن هذه المخايلة بالتماهي
هي
أحد أقنعة التماهي الأكبر بين مقدس الدين ومقدس القبيلة. وإذا كان يبدو هكذا أن
استمرار التقليد الخاص — تداول السلطة عبر شورى القبيلة أو المغالبة، وليس الوراثة —
قد آل
حسب كل ما سبق إلى وجوب التماهي بين مقدس الدين ومقدس القبيلة، فإنه كان لا بد أن يتولى
كسر هذا التقليد بالذات، والتحول إلى الوراثة مع معاوية، إلى ضرب من التحوير في العلاقة
بين كلا المقدسين، راح فيه الواحد منهما (أو مقدس القبيلة) يتخفَّى وراء الآخر (أو مقدس
الدين)، وذلك بدلًا من تماهيهما المعلن أو المضمر. ولعل هذا التحوير، بما يعنيه من
دوام العلاقة — رغم التخفي — بين كلا المقدسين، وليس نفيها؛ إنما يرتبط بحقيقة أن نظام
القبيلة لم يكن أبدًا بسبيل الانهيار والتحلل، بقدر ما كان يتجه إلى طور من التخفِّي
والتحول، إذ الحق أن مصائر السياسة والثقافة في الإسلام، لن تفلت أبدًا — وحتى الآن —
من
قبضة التوجيه الحاسم لهذا النظام. وهكذا، فلعل الأمر مع معاوية لم يتجاوز حدَّ أنَّ تحولًا
كان لا بد أن يطرأ على أحد عناصر هذا النظام، والخاص بتداول السلطة بالذات، على نحو
يلائم التحول إلى دولة إمبراطورية أوسع، بما لا يُقاس مع حدود القبيلة، وأعني لأن رقعة
الدولة قد اتسعت على نحو يجاوز قدرة القبيلة على أن تظل تحكم وتتداول السلطة،
بأساليبها القديمة.
وإذا كان ابن خلدون قد ظل يرى في الوراثة، رغم كل شيء، أحد تجليات حضور القبيلة،
«إذ
بنو أمية يومئذٍ لا يرضَون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم»،
١٧ وبما يعني أنها — أي الوراثة — قد أصبحت أداة الغلبة مع الأمويين، بعد أن
كانت الشورى هي أداتها قبلهم، فإنه يبقى أن هذا التحول إلى الوراثة قد ظل يمثل كسرًا
لأحد العناصر المستقرة في نظام القبيلة؛ ولهذا فإن كافة الاعتراضات على هذا التحول قد
اتخذت شكل اعتراض القبيلة، ولم يحدث أن احتجَّ أحد بالدين أبدًا؛ الأمر الذي يعني أن
أحدًا لم يدرك في هذا التحول خروجًا على مقتضيات الدين والعقيدة،
١٨ بقدر ما أدرك فيه الكافة خرقًا لقانون القبيلة.
وهكذا، فإن رصدًا لكافة الاحتجاجات على ما أحدث معاوية لا يتكشف عن شيء يجاوز حدود
ما
قاله عبد الله بن الزبير يحتجُّ على معاوية: «إن هذه الخلافة لقريش خاصة، تتناولها
بمآثرها السنية، وأفعالها المرضية، مع شرف الآباء وكرم الأبناء، فاتقِ الله يا معاوية،
وأنصف من نفسك.»
١٩
والغريب حقًّا أن يأتي الاعتراض أيضًا من بني أمية أنفسهم، وهم عصبية معاوية الغالبة،
والمخصوصة بالأمر، وهو ما يعني أن الأمر حين يتعلق بما يتهدد نظام القبيلة، فإنه ليس
ثمة
من فاروق بين أموي داخل في الأمر، وغير أموي خارج عنه، انطلاقًا من سيادة وعي القبيلة
عند الكافة. ولعل في ذلك تفسيرًا لما حدث حين كتب معاوية إلى مروان بن الحكم (الأموي)،
وكان عامله على المدينة، يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد، فإن مروان بن
الحكم لما قرأ كتاب معاوية أبى من ذلك وأبَته قريش (وبما يعني أن الأموي لم يختلف عن
القريشي في الرفض).
فكتب لمعاوية: «إن قومك قد أبَوا إجابتك إلى بيعتك ابنك …» بل وراح يتهدده: «فأقم
الأمر يا ابن أبي سفيان، وأهدئ من تأميرك الصبيان، واعلم أن لك في قومك نظرًا، وأن لهم
على مناوأتك وزرًا.»
٢٠
وهكذا فإن الخدعة لم تَنطلِ على الأموي المراوغ مروان، الذي أدرك فيما يبدو أنَّ
جعل
معاوية من بيعته ليزيد شيئًا قضى الله به على لسانه، وبما يعنيه من القصد إلى إخفاء
قضائه الخاص وراء قضاء الله الذي لا يُرد؛ لا ينطوي على أكثر من سعيه الخفي إلى إزاحة
القبيلة وإخراجها من الأمر كليًّا،
ولذلك فإنه يلحُّ على تذكير معاوية: «إن لك في قومك نظرًا، وإن لهم على مناوأتك وزرًا.»
ولأن معاوية كان قد أجمع أمره، ولم يكن شيء من ذلك مما يمكن أن يَثنيه ويردَّه، فإنه
—
وحين أدرك أن شيئًا من قبيل «إن يزيد أعظمنا حلمًا وعلمًا، وأوسعنا كنفًا، وخيرنا سلفًا،
وقد أحكمَته التجارب،
وقصدت به سبل المذاهب»؛
٢١ ليس مما يجدي في مواجهة القبيلة المحتجة، فإنه قد راح
يقطع ﺑ «إن أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم»،
٢٢ وبحيث بدا وكأنه لا يكتفي، هنا، بأن يخفي قضاءه الخاص وراء قضاء الله فقط،
بل وبالإعلان الصريح عن القصد إلى إزاحة الناس (أو العباد حسب تسميته)، وليس القبيلة
فقط،
عن الأمر تمامًا، فكشف عن أن تقديس المجال السياسي إنما يستهدف التعالي بالسياسة إلى
ذروة لا تتسع إلا للمستبد وصحبته.
وإذ يبدو، هكذا، أن «القضاء من الله» قد كان سلاح معاوية في كسر اعتراضات القبيلة
أو
حتى العشيرة؛ فإنه يلزم التنويه بأن الأمر، هنا، لا يتعلق أبدًا بأكثر من كسر اعتراض
القبيلة، وليس كسر نظامها. حيث الأمر لا يتجاوز أن تحولًا كان يطرأ — فيما سبق القول
—
على أحد عناصر هذا النظام (أعني نظام القبيلة) على نحو يتسع به لتحولات الواقع؛ ولهذا،
فإن ما كان يحدث بالفعل هو أن هذا النظام (وهو مقدس القبيلة الذي لا تتنازل عنه) قد كان
يتخفَّى، هذه المرة، وراء مقدس الدين الذي يستحيل كسره، وذلك بعد أن كاد يتماهى معه،
ولكن
من دون أن ينكسر هذا النظام أو يتخلخل. إن هذا التخفي قد راح يمثِّل تدعيمًا لنظام القبيلة
على نحو ما، وأعني من حيث ابتدأت به سيرورة التقديس لسلطة الحاكم-الأب، الذي لم
تفارقه البتة ملامح رب القبيلة وشيخها، بكل ما تحمله من أبوية طاغية، هي الأصل في بناء
القبيلة لا شك، وبما يحيل، في النهاية، إلى أن التخفِّي القبائلي وراء العقائدي إنما
ينطوي على ضرب من التخفي لتقديس هذا النظام وراء تقديس السلطان.
وبالرغم من أن حقيقة الأمر لم تتجاوز، هكذا، حدود أن تقديس النظام قد راح يتخفى وراء
تقديس السلطان، وإنما يحيل إلى دوام التقديس في كل الأحوال؛ فإنه يبقى أن الأمر قد بات
ينطوي على التجاوز من التقديس ينتج نفسه في السياسة إلى التقديس يؤسس
نفسه في الثقافة. وهنا، فإنه إذا كان إنتاج التقديس، في السياسة، قد راح
يتحقق عبر استراتيجية يتعانق فيها التماهي والتخفي لكلٍّ من القَبَلي والعقيدي؛ فإن تأسيسه،
في الثقافة، قد راح يتحقق بدوره عبر استراتيجية يتجاوب فيها النقلي مع العقلي، وأعني
من حيث إن المرويات، في النقل، عن تقديس السلطان-الأب (سواء جاءت على لسان النبي
ﷺ
أو كانت إنتاج الثقافة) قد تضافرت، في تأسيسها للتقديس، مع نظام معرفي يؤسس، في العقل،
لسلطة النموذج-الأصل، وذلك بالطبع عبر التوسط الدائم للدين، حيث القداسة-الأصل قداسة
الرب.
•••
وإذا الأمر، هكذا، إنما يتجاوز مجرد التجاوب بين النقلي والعقلي إلى التبعية، في
العمق لأحدهما (أو العقلي) للآخر (أو النقلي)؛ فإن ذلك يحيل إلى أن مركزية النقل في هذه
الثقافة، التي تكاد أن تكون قد تبلورت كليًّا ضمن سياق النقلي الخالص، لا بد أن تكون
هي
نقطة البدء في تأسيس التقديس، الذي يبدو أن النقل، كآلية معرفية (أولًا)، وكمضمون معرفي
(ثانيًا)، قد لعب دورًا بالغ الجوهرية في ترسيخه وتثبيته. ولعل هذه المركزية للنقل،
تتأتى مما يمكن ملاحظته من أن علم الحديث يكاد أن يكون بمثابة الأب لجملة العلوم التي
ابتدأت الثقافة سيرورة انبنائها وتشكُّلها من الاشتغال بها أساسًا، حيث كان الحديث هو
المادة الواسعة التي تشمل جميع المعارف الدينية (وغيرها) تقريبًا. فهو يشمل التفسير،
ويشمل التشريع، ويشمل التاريخ (وكلها بمثابة التشكلات والانتظامات الأولى في الثقافة)،
وكانت كلها ممتزجة بعضها ببعض تمام الامتزاج؛ فراوي الحديث يروي حديثًا فيه تفسير لآية
من القرآن، وحديثًا فيه حكم فقهي، وحديثًا فيه غزوة من غزوات النبي
ﷺ، وحديثًا فيه شرح
حالة اجتماعية زمنَ النبي أو الصحابة أو التابعين … وهكذا، فمنزلة الحديث بالنسبة للعلوم
الدينية (ولم يكن ثمة من علوم غيرها آنذاك) كمنزلة الفلسفة للعلوم العقلية.
٢٣
والقصد بالطبع أنه بمثل ما كانت الفلسفة هي أم العلوم في الثقافة اليونانية، فإن
الحديث قد كان بمثابة الأب للعلوم في الثقافة الإسلامية، وبما يعنيه ذلك من أن مركزية
العقل في إحدى الثقافتين، إنما تحيل إلى مركزية النقل في الأخرى. والحق أنه لا مجال
للادعاء بأن هذا التمركز النقلي قد كان في ابتداء تشكلها فقط؛ لأنه يبقى الأكثر حسمًا
في مسار تشكلها اللاحق كله، وأعني من حيث كان لا بد للطابع النقلي لآلية الاشتغال في
لحظة الابتداء والتشكل أن ينسرب إلى الثقافة، ويترسخ في نظامها الأعمق.
وإذا كان ثمة من راح يرد هذا التمركز النقلي للثقافة إلى عالم البداوة — كاشفًا عن
حضور القبيلة في الثقافة — حيث «الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى
أحوال البداوة، وإنما أحكام الشريعة كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا فأخذوها
من الكتاب والسنة بما تلقَّوه من صاحب الشرع وأصحابه». والقوم يومئذٍ عرب لم يعرفوا أمر
التعليم والتدوين، ولا دعتهم إليه حاجة إلى آخر عصر التابعين، وكانوا يسمون المختصين
بحمل ذلك ونقله القراء، فهم قراء لكتاب الله سبحانه وتعالى، والسنة المأثورة التي هي
في
غالب مواردها تفسير له وشرح؛
٢٤ فإنه يبدو أن الأمر يتجاوز إلى ما هو أعمق، وأعني إلى أن آلية النقل إنما
تحمل ملامح عالم القبيلة على نحو ملفت، حيث يمثل النقل كآلية معرفية انعكاسا كليًّا
لطريقة في العيش تتميز بها القبيلة، ولا تعرف فيها إلا مجرد الاستيلاء والسطو على ما
في
أيدي الآخرين، «ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة، حتى
تُجلَب إليه من قُطر آخر.»
٢٥
وإذ النقل للجاهز والمعطى هو آلية القبيلة في بناء حياتها، فإنه سيكون آليتها في
بناء
ثقافتها. ومن هنا إمكان الانتقال بدلالة عبارة ابن خلدون الآنفة من حقل الأشياء
والصنائع إلى فضاء العلوم والمعارف، وبمعنى أن ممارسة القبيلة للاجتلاب والنقل عن
الغير لا تقف عند حدود الصنائع، بل تتجاوز إلى الأفكار والمعارف، حيث النقل كنمط في
التفكير إنما يتجاوب مع النقل أو الجلب كنمط للعيش.
٢٦
والحق أن ما يلوح من وراء ذلك، من أن مركزية ما يخص عالم القبيلة وينتمي إليه في بناء
التقديس، إنما يتجاوز السياسة إلى الثقافة، لمما يؤكد على أن تجربة التقديس بناءً من
السياسة وتأسيسًا في الثقافة، لا يمكن أن تنفصل البتة عن أنماط في الحياة والتفكير ترتد
إلى أشكال الوجود الإنساني الأسبق والأقدم. وبالطبع فإن إعادة إنتاج التقديس إنما تحيل
إلى أن هذه الأنماط، وخصوصًا تلك التي تتعلق بالتفكير بالذات، قد ارتفعت إلى مستوى
النظام العميق المتخفي في بناء الثقافة، والذي يُعاد إنتاجه رغم غياب شرطه أو قرينه،
وأعني به نمط العيش الملازم له.
وإذ ظل النقل يعتمد آلية التداول الشفاهي، حتى تضخمت المعارف وتشعبت على نحو صار
معه
التحول إلى التدوين الكتابي لازمًا؛ فإن انشغال ثقافة ما، منذ البدء، بصيرورة هذا
التحول من الشفاهي إلى الكتابي قد كان لا بد أن يجعل من سلطة القابضين على الرأسمال
الشفاهي للجماعة (من الحُفاظ والرواة والنَّقَلة) هي السلطة العليا آنذاك. ومن هنا ما
يُلاحَظ
من أن لقب الحافظ قد اعتُبر — داخل الثقافة — من ألقاب السيادة والهيمنة، حتى لقد راح
الكثيرون يتطلعون إلى احتيازه والفوز بشرف التلقُّب به (التماسًا بالطبع لأسباب السلطة
والسطوة، ولو حتى الرمزية). ويبدو — لسوء الحظ — أن هذه السلطة لم تتزحزح أبدًا للآن.
إذ
الحق أنه إذا كان العقل قد راح يبحث لنفسه، فيما بعد لحظة التشكل والانبناء الأولى عن
مكان يمارس منه سلطته داخل الثقافة الإسلامية؛ فإنه يبدو أن هذه الممارسة للعقل قد ظلت
أبدًا مقيدة بسلطة تحدها وتعوقها من الخارج، بل إن سلطة النقل — وللغرابة — قد راحت
تتعزز وتتدعم مع انفتاح الثقافة على العقل وعلومه، وذلك من حيث ظل النقل هو آلية
اشتغالها ضمن هذا السياق أيضًا،
٢٧ بل إن آليتها في ترسيخ هيمنة النقل من خلال تكريس سلطة الأصل الذي لا يمكن
الانحراف عنه، بل لا بد من تكراره أبدًا، فقد راحت تعيد إنتاج نفسها حال اشتغالها
بالعقل وعلومه.
٢٨
ولعل ذلك مثلًا ما يتكشف عنه سعي ابن رشد إلى تكريس سلطة «أرسطو» كأصل لا سبيل إلا
إلى احتذائه، واستعادته أصليًّا ونقيًّا مما تصوره ضروبًا من الانحراف والفهم المجاوز.
وبالطبع فإن هذا التثبيت لأرسطو كأصل نهائي مطلق، إنما يحيل إلى نوع من التقديس الرشدي
له.
والمهم أنه بدأ وكأن آلية النقل قد راحت تعيد إنتاج نفسها عند العقلاني الأكبر، في
شكل تفكير بالمأثور العقلي هذه المرة، بعد أن كان قبلًا مجرد مأثور سلفي فقط.
وإذ كان لا بد أن تئول هذه المركزية للنقل إلى مركزية آلية التفكير بالمأثور أو
المنقول سلفيًّا أو عقليًّا (وهي الآلية التي تمثل السلف المباشر لآلية «التفكير
بالنموذج»، التي تسود فضاء الخطاب العربي المعاصر)، فإن قوة التفكير بالمنقول قد بلغت
حد أن الثقافة حين كانت لا تجد منقولًا سلفيًّا أو عقليًّا تفكر به، فإنها كانت تضعه
وتنتجه.
ومن هنا شيوع الانتحال والوضع، ليس فقط للمأثور السلفي (على لسان النبي والصحابة
والتابعين، وهم رموز الدين)،
٢٩ بل وحتى للمأثور العقلي (على لسان رموز العقل من كبار الفلاسفة).
٣٠⋆
ويعني الوضع هنا أن شيئًا في الواقع يمتلك قوة حضور، تبلغ حدًّا من المركزية كان لا
بد معه أن يكون ثمة مأثور أو منقول يمنح هذا الحضور قوته الرمزية. ولكن عدم وجود مثل
هذا المأثور بالفعل يدفع الثقافة إلى وضعه. وكما سبق القول، فإن القوة الرمزية لمن يُرَد
إليه هذا المأثور ويُوضَع على
لسانه، لا بد أن تتوازى مع القوة الفعلية لهذا الحضور في الواقع، والذي قد يكون جرحًا
في قلب أمة أو جماعة، ولا سبيل إلى التئامه إلا بالتعويض عبر هذا الانتحال.
وإذا كان هذا التمركز النقلي للثقافة قد لعب دورًا جوهريًّا في إنتاج وتأسيس
التقديس؛ فإن ما يبدو من إمكان التمييز، ضمن بناء النقل، وبين آليته ومضمونه، إنما يكشف
عن تجاوبهما في هذا التأسيس على نحو كامل. فإذ تحيل آلية النقل إلى تثبيت سلطة ما في
الماضي كأصل ثابت وخالد، مكتمل ومطلق، حتى لَيستعصي على أي تخطٍّ أو تجاوز، وليس من سبيل
بإزائه إلا التكرار والترجيع، وبما يعني أن الوعي لا يعرف، بحسب هذه الآلية، إلا أن
يتهاوى في قبضة موضوعه خاضعًا لأبويته وسلطانه على نحو مطلق، فإن ذلك يحيل إلى موقف
للوعي بإزاء هذا الموضوع لا يجاوز البتة حدود «التوقير والإجلال»، التي تمثِّل جوهر العلاقة
بالمقدس. وبالطبع فإن كون الموضوع يتحدد بحسب آلية النقل، على هذا النحو من الإطلاق
والثبات والمفارقة، وأن علاقة الوعي به تتحدد بحسب نفس الآلية، إحلالًا وخضوعًا لسلطة
أبويته وسلطانه، إنما يحيل أن هذه الآلية «تكاد لا تفعل حقًّا إلا أن تنتج كل ملامح
المقدس وسماته».
والحق أنه لا يكون غريبًا أن يتجاوب النقل كمضمون، مع ما تئول إليه هذه الآلية من
تأسيس التقديس على نحو كامل، بل إنه قد راح يحققها تمامًا، ولكن مع الملاحظة أنه إذا
كان النقل «كآلية» قد راح يؤسس للتقديس على العموم، فإنه قد راح «كمضمون» ينتجه ضمن سياقات
محددة، يبدو الأبرز والأكثر إلحاحًا منها إنتاجه ضمن سياق السياسة بالذات، وذلك من
حيث بدا — وللغرابة — أنه يتجاوب بالذات مع ذلك التخفي، الذي سبق التنويه بأن القبيلة
قد
أنجزته مع معاوية تحديدًا، لتقديس النظام (أعني نظام القبيلة) وراء تقديس السلطان.
فإذ تواترت المرويات، عديدةً وشتَّى، عن فضل السلطان وحقه، تكريسًا لسلطة لا يمكن
مناوأتها،
وتثبيتًا لهيمنة يتعذَّر ردها؛ فإن ثمة من هذه المرويات ما راح يتعالى بالسلطان إلى مقام
يتماثل فيه مع الله، تماثلًا لن تفعل الثقافة بعد ذلك — وأعني كنظام معرفي يكرس سلطة
الأصل — إلا أن تنتجه خطابًا يتعالى بالسلطان، عند عديد من المتكلمين وفقهاء السياسة،
إلى مقام الأصل الذي يُقاس عليه الله كفرع. وهنا، فإنه إذا كان المأثور الأشهر عن السلطان
هو ظل الله في الأرض، الذي يكاد، لكثرة تداوله، أن يكون أحد مسلَّمات عالم السياسة في
الإسلام، يكتفي بأن يقارب بين الله والسلطان، ولو إلى حدود المشابهة بينهما تشابه الشيء
مع ظله، وذلك ابتداءً من أن كلمة الظل تحمل معنى الدنو والمشابهة،
٣١ فإنه يبقى أن ظل الشيء هو غيره، وأن السلطان هكذا، هو ظل لحضور أصل، ولهذا
فإن مسافة ما تظل قائمة بينهما، رغم أي دنو أو مشابهة. ومن هنا تباين هذا المأثور عن
مرويات أخرى راحت تُلاشي المسافة وتُلغيها بين الأصل والظل على نحو كامل، وبمعنى أنها
راحت تنتج
تماثلًا، ذاتًا وصفةً وفعلًا، أو أداةً يتحدد من خلالها شكل فعل الله في
العالم.
والملاحظ أن ثمة حالة نموذجية يتضافر فيها المأثور النبوي مع المأثور الثقافي في
إنتاج التماثل الكامل بين كلٍّ من الله والسلطان ذاتًا وحضورًا. فإذ أورد البخاري حديثًا
للنبي
ﷺ يقول: «لا تسبُّوا الدهر، فإن الدهر هو الله»،
٣٢ فإن آليات إنتاج التماثل في الثقافة، لم تقبل إلا أن راحت تتداول أثرًا
موازيًا ينهى، هذه المرة، عن سب الزمان، لأن الزمان هو السلطان!
٣٣
وبالرغم مما يبدو، هكذا، من أن التصور المستقر في الثقافة قد راح ينتج مأثورًا يحقق
به المماثلة الكافية، فإن ذلك يعني إمكان تجاهل هذا المأثور المنتج ثقافيًّا وإهماله،
وذلك من حيث يفتقر إلى القوة المستمَدة من سلطة النبي؛ إذ الحق أنه يستمد قوة حضوره من
سلطة لا تقل سطوةً، وأعني سلطة الواقع، التي بلغت سطوتُها حدَّ توظيف سلطة النبي ذاتها
لحسابها، وذلك حين راحت تضع على لسانه أحاديث لم يقلها، ومرويات ليست له؛ كي تستخدمها
في
حسم صراعاتها. وإذن فإن المأثور يستمد قوته لا بد من سنده المرفوع إلى النبي، بل من
تفاعله وتجاوبه مع التصور المهيمن والأكثر فعالية في كلٍّ من الواقع والثقافة. وبالطبع
فإن التصور إنما ينتج المأثور لكي يُعاد إنتاجه، هو نفسه، من خلال هذا المأثور، في دورة
إنتاج يعيد فيها الواحد منهما إنتاج الآخر ودعمه. وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى أن كلا
الأثرين (النبوي والثقافي) يتضافران ويتكاملان في إنتاج ودعم التصور المهيمن في الثقافة
لعلاقة الله والسلطان، وذلك بدءًا من اللغة، التي تعكس تطابقًا أسلوبيًّا دالًّا وكاشفًا،
وكذلك
المضمون الذي يُطابِق بين الله والسلطان حين يجمع بينهما في النهي عن السب وعدم
الطاعة، وإذن فإنه التطابق ينتجه الأثران على صعيد الشكل والمضمون معًا.
وهكذا، فرغم ما يبدو من أن التقابل بين الدهر والزمان ينتج نفسه تقابلًا الله بين
والسلطان، فإن ما يبقى قائمًا بينهما حقًّا هو التماثل والتطابق.
إذ الحق أنه إذا كان ثمة من تقابل أو فارق بين الزمان والدهر، انطلاقًا من كون أحدهما
(وهو الدهر) باقيًا، والآخر (وهو الزمان) فانيًا وزائلًا، فإنه يبقى فارقًا خارجيًّا
محضًا؛
لأنه لا يتعلق بنوع حضور الواحد منهما وكيفيته، بقدر ما يتعلق بامتداد هذا الحضور
وكميته، ولهذا فإنه من نوع الفارق الذي لا ينال البتة من طبيعة الحضور المتماثل لذات
كلٍّ
من الله والسلطان. إنه فقط يتناهى بالسلطان، إذ يربطه بالزمان، فيما يطلق الله خارج حدود
التناهي حين يربطه بالدهر، ولكن من دون أن يؤثر أيٌّ من التناهي أو الإطلاق على طبيعة
الحضور المتماثل لذاتهما أبدًا، وأعني أن التباين يتأتَّى فقط — حسب دلالة هذه
المرويات — من كون أحدهما «باقيًا»، وهو الله، والآخر «فانيًا»، وهو السلطان. وأما فيما
يتعلق بماهية
الحضور الذاتي لكل منهما، فإنه لا شيء إلا التماثل، الذي يمكن منه المصير إلى تصور الله
هو
السلطان الباقي، وتصور السلطان هو الإله الفاني أو غير الباقي. وإذ يبدو، هكذا، أن ما
يطرأ على السلطان من الفناء إنما يقطع امتداد حضوره فقط، ولكن من دون أن يغير في طبيعته
وماهية ذاته؛ فإن ذلك يعني أنه يتماثل «ذاتًا وماهية حضور» مع الله تمامًا، وذلك
حال بقائه المنقطع على الأقل.
وحتى هنا، فإنه كان حضور السلطان الفاني/المنقطع، إنما يتجدد في آخَر باقٍ/ممتد …
وهكذا
دوالَيك، فإن هذا التجدد ينطوي على نوع من قهر التناهي، الذي لا بد أن يخايل بالتماثل
تامًّا، حيث الحضور المتجدد للسلطان يوازي، لا محالة، الحضور الممتد لله.
والحق أنه لن يكون غريبًا أن يتجاوز هذا التوازي، عبر تعويض الحضور الممتد بالحضور
المتجدد، حدود الذات إلى إنتاج نفسه — وعبر ذات الامتداد والتجدد — على صعيد الصفة أيضًا.
وإذ
القرآن هو كلام الله أو صفته التي ليست مجرد صفة كغيرها، بل تكاد أن تكون هي الصفة الأهم
لله، حيث «مسألة القرآن (أو كلام الله) هي أهمها»؛
٣٤ فإن المرويات لم تقبل إلا المصير إلى «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع
بالقرآن»، سعيًا إلى المخايلة بالطبع بأنه إذا كان الوازع في القرآن لم يعد — رغم امتداد
فعاليته — يتجدد بسبب إكمال الدين وتمام الوحي، فإن ذلك لا يعني
انقطاعًا كاملًا ونهائيًّا لتجدُّد هذا الوازع الممتد، بل إن تجدُّده سوف يدوم ويستمر،
ولكن
عبر السلطان هذه المرة، الأمر الذي يعني أن الوازع الممتد في القرآن إنما يستحيل إلى
نوع من الوازع المتجدد بالسلطان، وعلى نحو يصح معه اعتبارهما معًا (القرآن والسلطان)
صفة
لله. وذلك من حيث إنه إذا كان القرآن — أو الوازع الممتد — هو صفة لله بالفعل، فإن السلطان
بدوره — وابتداءً
من كونه وازعًا أيضًا (ولو متجددًا) لا بد أن يقارب حدود أن يكون صفة له أيضًا.
والعجيب أن الأمر لم يقف عند حدود هذه المماثلة للسلطان بالقرآن، والتي تكاد تجعله
مثله صفة لله، بل ويتجاوز إلى أن يكون فعله، أو أداة، على الأقل، يتحدد من خلالها شكل
فعله
في العالم، حيث السلطان ليس فقط «ظل الله في الأرض، بل وهو أيضًا رمحه»، حسب مأثور يجمع
للسلطان بين كونه الظل والرمح لله.
٣٥
وإذ الرمح هو فعل الله — أو بالأحرى أداته — في مجال الحياة والموت، فإن ثمة مأثورًا
راح يجعل من السلطان أداة الله في مجال العطاء والقبض من خلال كونه قفله، وذلك على قول
«أبي جعفر المنصور»، أول خلفاء العباسيين: «أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه،
أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فَيئه، أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه
بإذنه، قد جعلني الله عليه قفلًا، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم
فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني.»
٣٦
وهكذا يتحدد فعل السلطان في أهم ما يخص البشر في إطار دولة الغزو (موتًا وحياة)
والفيء (قبضًا وعطاء) باعتباره فعل الله. وبالرغم مما يحيل إليه ذلك من أنها دولة
الغزو والفيء، التي لا يعرف فيها السلطان إلا أن يكون رمحًا (في الغزو) وقفلًا (في
الفيء)، وهي تخفي ممارسته الباطشة وراء الله، فإنه يبقى — من وراء ذلك كله — أن ثمة
التداني بالسلطان إلى حدود أن يكون فعل الله أو أداته.
والغريب أن هذا التماثل بين الله والسلطان (ذاتًا وصفةً وفعلًا) قد راح يتحول إلى نوع
من التسوية، أو التماثل، في إطلاق الوصف نفسه على حال من يجهل الواحد منهما. وهكذا، فإنه
إذا كانت الثقافة قد أحدثت وصف الجاهلية، وأطلقته على من يجهل الله، ويظن به غير الحق،
حيث الجاهلية هي «اسم حدث في الإسلام، للزمن الذي كان قبل البعثة، ومنه:
يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ»؛
٣٧ فإن المرويات قد أحدثته، بدورها، على حال من يجهل السلطان هذه المرة. وضمن
هذا السياق، فإنه إذا كان من مات من غير أن يعرف الله لا بد أنه قد مات ميتة جاهلية،
فإنه
بات لازمًا أن «من مات ولم يعرف السلطان مات ميتة جاهلية» أيضًا!
٣٨
وهكذا كان لا بد أن يتأدَّى الأمر من تماثل الحال (بين الله والسلطان) إلى تماثل
الموقف منه جهلًا وخروجًا
٣٩ يئول بصاحبه إلى الجاهلية، أو معرفة (وطاعة) تئول إلى الإيمان لا محالة. وإذ
يكشف حضور نفس المأثور عند الشيعة، ومع استبدال لفظ الإمام بلفظ السلطان،
٤٠ عن شيوع دلالته بين الكافة، أعني سلطة ومعارضة، فإنه يبقى أن هذا التحدد
للموقف من السلطان، أو الإمام، ضمن ثنائية الجاهلية والإيمان، إنما يكمل دائرة تماثله
مع
الله تمامًا.
وإذ يبدو، هكذا، أن النقل كآلية تنطوي على تثبيت سلطة ذات حضور خالد، تنبثق منها
المعرفة اجترارًا، إنما يتكامل مع النقل كمضمون يعين هذه السلطة ذات الحضور الخالد ضمن
مجال السياسة بالذات، في إنتاج التقديس؛ فإن الأمر سوف يتجاوز إلى تأسيسه، أعني تأسيس
التقديس،
٤١ كخطاب يتخفى في البناء الأعمق للثقافة في شكل نظام معرفي يكرس على
الدوام لسلطة نموذج-أصل، وهو نظام لن تتوقف الثقافة عن إنتاجه أبدًا ضمن كافة
حقولها تقريبًا، وبكيفية لا مجال فيها للتعلق بمضمون الأصل ونوعه. وهنا يُشار إلى أن
مركزية النقل كآلية معرفية سائدة كان لا بد أن تئول إلى مركزية الأصل، وبمعنى أنه
الانتقال من النقل إلى الأصل، حيث النقل يستند بأسره إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا
مجال فيه للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول؛ لأن الجزئيات الحادثة
المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه، فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي، إلا
أن
هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم من الأصل، وهو نقلي، فرجع هذا القياس إلى النقل
(أو الأصل)؛ لتفرعه عنه.
٤٢ وإذ يبدو، هكذا، أنه التماهي — في العمق — بين النقل والأصل، فإن ذلك يحيل
إلى تثبيت هيمنة النقل داخل الثقافة، عبر إخفائها وراء نظام خطاب لا يعرف إلا التفكير
بالأصل.
وبالطبع فإنه لن يكون غريبًا — والحال كذلك — أن تبتدئ سيرورة التقديس كخطاب، ضمن
فضاءات حقول أو علوم لم تعرف مجرد التفكير بالأصل فقط، بل وأخذت منه تسميتها
أيضًا.
وإذ يُشار هنا إلى علم الأصول بالذات، وبجناحيه الفقهي والعقيدي معًا؛ فإنه يلزم
التأكيد على أن الأمر، في كلا العلمين (أعني أصول الفقه وأصول الدين)
٤٣ لم يتجاوز حدود تأسيس سلطة الأصل، وتثبيته كحضور مُتعالٍ، وخارج أي سيطرة للوعي،
وبمعنى أنه يتجاوز حدود أي سعي للوعي للانطلاق منه كنقطة ابتداء تتبلور منها سيرورة
اشتغاله، مستوعبًا ومستدمجًا للأصل ضمن بنائه، محيلًا له إلى تركيب يسع العالم ويتسع
به،
ونافيًا عنه، لا محالة، حضوره كمعطًى مطلَق، ليس للوعي أو العالم بإزائه إلا التلاشي
والجمود. ولعل ذلك يعني أن أساس «التقديس» لا يقوم في الأصل بمجرده، بل في الثقافة
بالأحرى، وأعني في كيفية إنتاجها للأصل على نحو ينطوي على النفي للعالم والإزاحة
للوعي، ولا يتكشف إلا عن سطوته كاملة عليهما معًا. وإذ يبدو، هكذا، أن هذه الكيفية في
إنتاج الأصل هي تمامًا كآلية التداول النقلي للنص المؤسس (القرآن)، والتي لم تكن
بدورها من النص، بل من الثقافة، فإن ذلك يعني أنها، مثلها أيضًا، ترتدُّ إلى ذات البنية
الأقدم، التي تتجاوز الإسلام إلى عالم القبيلة الأسبق.
والحق أنه ليس غريبًا أن تجد آلية التفكير بالأصل، وكآلية النقل تمامًا، ما يؤسس
لحضورها اللاحق والمهيمن داخل الثقافة، في بناء عالم القبيلة ولوازمه، وذلك من حيث
بلغت مركزية الأصل في هذا العالم حد أن تكرِّس القبيلة أحد أهم علومها (وهي بالطبع قليلة)
من أجله، وأعني به علم النسب، الذي كان للعرب في الجاهلية مزيد اعتناء بضبطه ومعرفته؛
لأنه أحد أسباب الألفة والتناصر. وهم كانوا أحوج شيء إلى ذلك، حيث كانوا قبائل
متفرقين، وأحزابًا مختلفين، لم تزل نيران الحرب مستعرة بينهم، فحفظوا أنسابهم ليكونوا
متظافرين
به على خصومهم؛ لأن تعاطف الأرحام وحميَّة القرابة يبعثان على التناصر والألفة، ويمنعان
من التخاذل
والفرقة، أنَفةً من استعلاء الأباعد على الأقارب، وتوقيًا من تسلط الغرباء والأجانب.
٤٤
وإذ أدرك ابن خلدون أن «العرب كانوا أحوج شيء إلى ذلك، لأسباب تتجاوز مجرد الاستعلاء
والتسلط، إلى ما اختصوا به من نكد العيش، وشظف الأحوال، وسوء المَواطن»؛ فإنه قد راح
ينتقل
من هذا الاختصاص بنمط من العيش إلى اختصاصهم بالعلم نفسه، حيث «إنما هذا «العلم» للعرب
فقط»، قال عمر رضي الله تعالى عنه: «تعلموا النسب، ولا تكونوا كنبط السواد، إذا سُئل
أحدهم عن أصله قال: من قرية كذا.»
٤٥ وبالرغم من هذا الإلحاح على وجوب تعلم النسب، الذي لم ينسَ عمر — في
إشارة بالغة الدلالة — أن يُماهيه مع الأصل؛ فإن ثمة مَن سعى في الإسلام (ولعلهم كانوا
من
غير ذوي الأنساب)
٤٦ إلى خلخلة مركزية هذا العلم؛ احتجاجًا بأنه «علم لا ينفع، وجهالة لا تضر»،
إلى غير ذلك من الاستدلالات.
وهنا، فإن الكثيرين قد تصدَّوا لتثبيت مركزيته ضمن عالم الإسلام أيضًا، انطلاقًا
من أن
الحاجة تدعو إليه في كثير من المسائل الشرعية، مثل تعصيب الوراثة وولاية النكاح،
والعاقلة في الديات، والعلم بنسب النبي
ﷺ، وأنه القريشي الهاشمي الذي كان بمكة، وهاجر
إلى المدينة، وأن هذا من فروض الإيمان، ولا يُعذَر الجاهل به. وكذا الخلافة عند من يشترط
النسب فيها. وكذا من يفرق في الحرية والاسترقاق بين العرب والعجم. فهذا كله يدعو إلى
معرفة الأنساب، ويؤكد فضل هذا العلم وشرفه، فلا ينبغي أن يكون ممنوعًا.
٤٧
ورغم ما يبدو من أن الأمر قد راح يتجاوز شروط واقع القبيلة إلى شروط إعمال الشريعة،
فإن ذلك لا يعني أكثر من أن مركزية النسب/الأصل إنما تعيد إنتاج نفسها ضمن شروط مغايرة،
وبحيث لا يتجاوز الأمر حدود تثبيت هذه المركزية على نحو يكشف عنه دوام الهيمنة لما يخص
عالم القبيلة، الذي بدا من المرونة بحيث راح يتشكل، متخفيًا، ضمن عوالم الدين والثقافة،
وحتى رغم غياب شرطه في الواقع، وإلى حد ما سيبدو لاحقًا من أن القَبَلية
tribalism سوف تعيش من غير قبيلة
tribe، وأعني في إطار دولة الخلافة، بل ودولة
الحداثة!
إذ الحق أنه إذا كانت ضروب من التحول قد طرأت على جهة النسب منذ منتصف القرن الثاني
الهجري، حيث كان لون النسب الجنس والقبيلة، فأصبح لونه الدين، والقرب أو البعد من
الرسول. وكان اللون الأول يشوبه الفخر والحميَّة، فأُضيف إلى اللون الثاني، على توالي
الأيام، نوع من التقديس والبركة؛
٤٨ فإن هذا التحول قد كان بمثابة التوطئة لتحوله الأهم إلى الاشتغال في عالم
الثقافة تفكيرًا بنموذج-أصل هذه المرة، ولكن مع دوام نفس طابع التقديس والبركة. فإذ
يبدو أن هذا التمركز للنسب حول النبي (قربًا وبعدًا) إنما يعني أن لحظات الزمان بدورها
سوف تكون موضوعًا للشرف والقيمة، بل وحتى القداسة، قربًا أو بعدًا من الرسول أيضًا، فإن
ذلك يعني أن مركزية النسب لم تتأدَّ فقط إلى هيمنة تصور للتاريخ سقوطًا — لا يرتفع أبدًا
—
من لحظة-أصل (أو نموذج)، بل وإلى تكريس نوع من مركزية الماضي في الثقافة بأسرها،
والتي لم تزل تحضر للآن تفكيرًا بنموذج-أصل.
٤٩
وإذن فإنه التحول من النسب-الأصل (في القبيلة) إلى النموذج-الأصل (في الثقافة)،
ودائمًا عبر وساطة — أو بالأحرى قداسة — النبي-الأصل، نسبًا وزمنًا وعلمًا، التي
تتأتَّى من فضاء العقيدة.
وإذ كان لزامًا أن يحضر هذا التحول — وبكافة عناصره المؤسسة من القبيلة والعقيدة
والثقافة، وأعني من دون أن يغيب أحدها أو يتخفى كما سيحدث لاحقًا — في فضاء البدايات
وإرهاصاتها؛ فإن في ذلك تفسيرًا لما يسود فضاء النص المؤسس في علم الأصول، وأعني نص
الرسالة للشافعي، من أن تكريس سلطة الأصل، وتثبيت آلية التفكير به (في الثقافة) يتحقق
في
ارتباط جوهري وصميم مع تثبيت النسب-الأصل (في القبيلة)، وعبر توسط القداسة المستمَدة
من النبي
ﷺ نسبًا وعلمًا.
ومن هنا دلالة الاستهلال لهذا النص بإثبات النسب، الذي لا معنى له بمعزل عما يترتب
عليه لاحقًا من تثبيت مركزية القبيلة، والذي يتجاوز أمره حدود مجرد الإثبات الشكلي في
المُفتتَح إلى لعب دور بالغ الجوهرية في بناء النص وصوغ بنيته.
والغريب حقًّا أنه فيما انشغل القدماء، وخصوصًا من مؤلفي المناقب،
٥٠ بقراءة دلالات هذا الإثبات واكتناه معانيه، كجزء من سعيهم إلى تثبيت
هيمنة الشافعي (نسبًا ومذهبًا)؛ فإن أحدًا من دارسيه المحدثين لا يكاد يلتفت إلى الدور
المركزي الذي لعبه هذا الإثبات للنسب في بناء نصه وترتيب نظامه، وأعني من حيث إن إثبات
النسب-الأصل في المُفتتَح لم يكن إلا نقطة البدء إلى نسق فقهي ينبني على الإزاحة
المطلقة لكل ما سوى الدليل-الأصل، وهو النص.
ولعل سعيًا إلى اكتناه الدور المركزي للنسب في نسق الشافعي ونصه، إنما ينطلق من حقيقة
أنه إذا كان قد ثبت بالتواتر — حسب الرازي — افتخار الشافعي بنسبه الذي يصله بالرسول،
مباشرة، عند بني عبد مناف؛
٥١ فإنه قد بدا أن الأمر إنما يتجاوز مجرد هذا الفخر بالنسب الخاص، إلى مركزية
«علم الأنساب» في وعيه على العموم.
وهنا، فإنه إذا كان علم الشافعي بالأنساب يتبدى في رده على الرشيد يسأله: كيف علمك
بالأنساب؟ قائلًا: يا أمير المؤمنين، ذلك علم لم يسعنا جهله في الجاهلية، مع
تَمحُّط الكفر، وتَغمُّط الحق، ليكون عونًا على التعارف، ومعرفة الأكْفاء، وإني لأعرف
جماهير
الأقوام، وأنساب الكرام، ومآثر الأيام، وفيها نسب أمير المؤمنين، ونسبي، ومآثر آبائه
وآبائي.
٥٢ فإن مركزية هذا العلم، في وعيه، تتأتَّى من حقيقة أنه كان في ابتداء أمره
يطلب الشعر وأيام العرب (والناس) والأدب، ثم أخذ في الفقه (بعد ذلك)،
٥٣ الأمر الذي يعني أن «أخذه في الفقه» كان مسبوقًا بضرب من التبلور المعرفي
المتمركز ضمن حقول الشعر والأدب وأيام العرب والناس (أو تاريخ والأنساب)، وهي التي أدنى
ما تكون إلى علوم القبيلة.
٥٤ وبالطبع فإنه، ورغم ما يبدو، هكذا، من أن سيرورة وعي الشافعي إنما تنطوي
على التحول من علوم القبيلة إلى علوم الشريعة؛ فإنه يبقى أن وعي القبيلة قد ظل — من خلال
التبلور المعرفي الأولي — كامنًا يعمل عنده في خفاء من تحت رداء
الشريعة.
فإذ الفخر (وهو أحد بقايا عالم القبيلة المنهي عنها) قد انسرب عند الشافعي إلى النسب
(وهو أحد علومها الموصى بها)؛ فإن ذلك قد راح ينتج نفسه داخل بنائه الفقهي، وذلك من حيث
إنه إذا كانت إضافة الفخر إلى النسب إنما تنطوي على نوع من القصد المجاوز للتعرُّف، إلى
الترفُّع، أعني مجاوزة مجرد التعرف «على الأنساب»، إلى الترفع بأنساب الكرام على جماهير
الأقوام، وهو ما تأكد تمامًا بإثبات ابن حجر كتابًا للشافعي في فضائل قريش.
٥٥ فإن الشافعي قد راح يعيد إنتاج هذا الضرب من الترفع بقريش داخل نسقه الفقهي،
لا على صعيد مضمونه فقط، بل — والأهم — على صعيد بنيته ونظامه.
حيث الملاحَظ أنه، وعبر توسط مركزية النبي، قد مضى يترفع بقريش إلى مقام القبيلة-الأصل،
وذلك عبر جعلها — ابتداءً من مقدمة نصه الرسالة — موضوعًا لخطاب إلهي صريح. فقد
انطلق يبني على أن النبي
ﷺ هو المفضَّل على جميع خلقه، وأنه أفضل خلقه نفسًا؛ أنه
أيضًا خيرهم نسبًا ودارًا،
٥٦ منتقلًا هكذا من الترفع به (شخصًا ونفسًا) إلى الترفع به (قومًا ونسبًا)،
وهو الترفع الذي كان لا بد أن يتكرس تمامًا مع اختصاص القوم بخطاب إلهي، أدركه مجاهد
في
الآية:
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، حيث يُقال: ممن الرجل؟ فيُقال: من العرب، فيُقال: من أي العرب؟
فيُقال: من قريش.
٥٧
وإذ أدرك مجاهد دلالة القوم، هكذا، في قريش خاصة، وليس في العرب على العموم، وأكد
الشافعي على أن ما قاله مجاهد من هذا بيِّن في الآية، مستغنًى فيه بالتنزيل عن التفسير.
٥٨ فإنه — أي الشافعي — سرعان ما راح ينتج هذا الترفع داخل القبيلة نفسها (أو
قريش)، حيث الله جل ثناؤه قد خص قومه وعشيرته الأقربين في النذارة، وعمَّ الخلق بها
بعدهم، ورفع بالقرآن ذكر رسول الله، ثم خص قومه بالنذارة؛ إذ بعثه فقال:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ.
وزعم بعض أهل العلم بالقرآن أن رسول الله
ﷺ قال: «يا بني عبد مناف، إن الله بعثني أن أُنذِر عشيرتي الأقربين، وأنتم عشيرتي الأقربون.»
٥٩ وإذ هو الترفع بالعشيرة — بعد القبيلة — أو بني عبد مناف، التي يلتقي عندها
النسب الخاص بكلٍّ من النبي والشافعي مباشرة، فإنما ليخايل بنوع من الترفع بشخصه من وراء
ذلك كله، وهي المخايلة التي كان لا بد أن تتأدَّى بكتاب المناقب إلى وجوب «كون الشافعي
متبوعًا لغيره من العلماء والمجتهدين، وأن يكون غيره أتباعًا له مطلقًا، بل وإلى حد
القطع» بوجوب الصلاة عليه (يعني الشافعي، للغرابة)!
٦٠
وهكذا تبدأ مسيرة الترفع، الذي يبلغ حد التقديس بالشخص (وهو النبي)، وتنتهي أيضًا
بالشخص (الذي هو الشافعي)، وعبر توسط القبيلة والعشيرة، الذي بدا وكأن البعض يسعى إلى
إقصائه، منتجًا للتماهي الكامل بين كلٍّ من النبي والشافعي، وإلى حدٍّ أمكن معه أن تتواتر
الرواية عن البعض بأنه رأى ليلة مات الشافعي قائلًا يقول: الليلةَ مات النبي
ﷺ.
٦١ بل إن الرازي قد راح يتجاوز مجرد ذلك، ليخايل ترتيبًا على النسب القرشي
للشافعي، بأن تخطئته والرد عليه تكاد تبلغ مقام التخطئة والرد على الله نفسه، وذلك
قياسًا على قول النبي: «ألا من آذى (وردَّ على) قرابتي فقد آذاني (وردَّ عليَّ)، ومن
آذاني (وردَّ
عليَّ) فقد آذى (وردَّ على) الله»،
٦٢ فبدا وكأنه الانتقال من مجرد التماهي مع النبي إلى التماهي مع الله نفسه،
حيث الردُّ على الشافعي هو — عبر وساطة الرد على النبي — ردٌّ على الله. ومن هنا ما قطع
الرازي من أن «من تعرَّض لمنازعته (يعني الشافعي)، فقد جعل نفسه هدفًا لعذاب الله تعالى،
من
حيث إنه إهانة لقريب رسول الله
ﷺ»،
٦٣ التي هي — بدلالة ما سبق — إهانة للرسول، ثم إهانة بالتالي لله
نفسه.
وهنا فإنه، ومع إمكان الإحلال بالطبع للقبيلة (الكل) محل القريب (الفرد)، فإن الباب
ينفتح واسعًا أمام إعادة إنتاج القبيلة-الأصل، وأعني من حيث تصبح منازعة القبيلة،
قياسًا على منازعة القريب، من قبيل المنازعة لله.
وهكذا تتبدى الدلالة كاملةً لما سيبدو نوعًا من التسوية أقامه الشافعي بين كلٍّ من
الله
والنبي، وإلى حد مشارفة آفاق التوحيد بين الإلهي والبشري، بما يستتبعه ذلك من إهدار
خصوصية الرسول
ﷺ وبشريته، بوصفه مبلِّغًا للوحي، وشارحًا له،
٦٤ وأعني من حيث إن مشارفة الشافعي لآفاق التوحيد بين الإلهي والبشري (الذي هو
النبي)، إنما تقوم دلالتها في تلك المشارفة، ومن الرازي، لآفاق نفس التوحيد بين الإلهي
والبشري (ولكن مع الملاحظة أن دلالة البشري عنده إنما تقع على الشافعي)، وأيضًا فيما
يمكن
المصير إليه من مشارفة آفاق التوحيد ذاته بين الإلهي والبشري (والذي هو القبيلي هذه
المرة).
وهكذا ينتج الخطاب ضروبًا من الإحلال والتماهي، صريحة ومضمرة، بدأها الشافعي ﺑ «إنتاج
التماهي» بين الله والنبي، ثم جاء من أجل «القبيلة والشافعي» محل النبي، تثبيتًا لسلطة
أصل مقدس تستحيل منازعته.
٦٥
والحق أن هذا التثبيت الكامل لسلطة الأصل ومركزيته (نصًّا وشخصًا وقبيلة) هو ما يوجِّه
عملية تأسيس الشافعي للأصول وترتيبه لها، على نحو جعله يتعالى بسنة النبي إلى مقام النص
الإلهي، كالقرآن تمامًا. فإذ مضى البعض يؤسس لحضور سنة النبي، بوصفها اجتهادًا يعكس
حدود خبرة النبي وتجربته، وهو التصور الذي سوف يبلغ بالبعض حدود إمكان تجاوزها، فإن
الشافعي قد مضى، في المقابل، إلى تثبيت هذا الاجتهاد كأصل مطلق، وذلك عبر التعالي به
من
حدود النتاج البشري المشروط، إلى مقام الوحي الإلهي اللامشروط، الذي لم يكن ليجعل للنبي
فقط سلطة أن «يسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، «بل وأن» يلزمنا الله اتباعه في كل ما
سن»
(سواء ما سن مع كتاب الله مبينًا ومكملًا، أو فيما ليس فيه نص كتاب).
وجعل في اتباعِه طاعتَه (أي: الله)، وفي الفتور عن اتباعها (أي: السنة) معصيتَه (أي:
الله)،
التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله
ﷺ مخرجًا، لما وصفت.
٦٦ وأما ما وصف الشافعي مما يؤسس عليه لزوم هذا الاتباع، فإنما يتمثل فيما
عقده من الربط والقِران بين الله والرسول في الطاعة والإيمان، ثم ما ينبني عليه من قِران
السنة والقرآن. فإذ مضى الشافعي إلى أن «الله وضعَ رسولَه من دينِه وفرضِه وكتابه الموضعَ
الذي أبان
جل ثناؤه؛ أنه جعله علَمًا لدينه، بما افترض من طاعته، وحرَّم من معصيته، وأبان من فضيلته،
بما قَرَن من الإيمان برسوله مع الإيمان به»،
٦٧ مستدلًّا بنصوص شتى تحتشد بها رسالته؛
٦٨ فإنه راح ينتقل من هذا القِران بينهما في «الإيمان»، إلى قِران الكتاب،
وهو القرآن، مع الحكمة، التي «سمعتُ مَن أرضَى مِن أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة (هي)
سنة رسول الله»، مستدلًّا أيضًا بحشد من النصوص التي تتجاوز مجرد الجمع بين
الكتاب والحكمة، إلى اعتبار تلك الحكمة (أو السنة) من قبيل القول الإلهي، وذلك عبر كونها
من الوحي إلقاءً في الرُّوع.
٦٩
وبالطبع فإنه يترتب على إثبات الإلهية للنبي «نصًّا» أن تتسرَّب إليه «شخصًا»، وذلك
حسب
ما يبدو من إلغاء الشافعي أيَّ تمايُز بين النص والشخص.
٧٠
وإذ يبدو أن انسرابها إليه (شخصًا) لا بد أن يئول إلى انسرابها إليه (نسبًا) كذلك،
وأعني بحسب منطق الإحلال والإزاحة الذي يفعل مضمرًا داخل الخطاب، فإن ذلك يتجاوب، على
نحو كامل، مع ما سبق للشافعي إنتاجه من تكريس مركزية القبيلة والعشيرة حين جعلهما
موضوعًا لخطاب إلهي، وأعني من حيث المخايلة، هنا، بانسراب الإلهية من «السنة» إلى
«القبيلة»، ابتداء من أن النبي هو الأصل-المركز فيهما (السنة والقبيلة) معًا.
ولعل ما يؤكد على أن مركزية السنة عند الشافعي، هي نوع من إعادة إنتاج مركزية القبيلة
داخل نسقه الفقهي، وبما يترتب على ذلك كله من تثبيت لمركزيته الخاصة،
٧١ وهو ما سيمضي إليه الشافعي من إعادة إنتاج نفس المركزية للقبيلة داخل نسقه
من خلال اللغة بعد السنة. فإذ ينطلق المشروع الفقهي للشافعي بأسره من السؤال:
كيف البيان؟ وبما يحيل إلى تمحوره الكامل حول البيان، فإن
ذلك ينطوي، لا محالة، على تأكيد مركزية اللغة داخله، وذلك من حيث يكاد
ينحل البيان إلى مجرد اللغة،
حيث البيان هو المنطق الفصيح
المُعرِب عما في الضمير.
٧٢ وهنا، فإن ما يبدو من أن لفظ المنطق قد ينطوي على ما يجاوز اللغة، سوف
يجعل ابن كثير يمضي إلى أن المنطق هنا إنما يعني النطق، وهو الأحسن والأقوى؛ لأن السياق
في تعليمه تعالى للقرآن، وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق،
وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين، على اختلاف مخارجها وأنواعها،
٧٣ وبما يئول إلى انحلال البيان إلى مجرد اللغة واللسان، وبأدق معانيهما، أي:
نطقًا وكلامًا فقط، وليس فصاحة أو بلاغة سوف تأخذ كامل تسميتها من البيان بدورها، حين
تصبح علم البيان.
وليس من شك في أن هذا التمركز اللغوي للفقه — (وذلك من حيث ينحل، حسب الشافعي، إلى
بيان)، والذي يكاد يُحيل الفقه إلى نوع من التفكير باللغة وفيها — إنما ينطوي على نوع
من
التثبيت لمركزية القبيلة-الأصل (قريش)، وأعني من حيث يمضي الشافعي إلى أن أولى الناس
بالفضل مِن اللسان، مَن لسانُه لسانُ النبي.
٧٤ ولأن أحدًا قد يصير إلى أن القصد من لسان النبي هنا هو لسان العرب على
العموم، فإن الشافعي يتدارك فيخصِّص اللسان المقصود بالفضل بأنه لسان قومه (يعني النبي
ﷺ) خاصة.
٧٥ وبالطبع فإنه، وإذ سبق التنويه بأنه يصرف دلالة القوم إلى قريش بالذات، وذلك
حسب تفسير ابن مجاهد الذي تبنَّاه كليًّا لآية
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، فإن ذلك يعني أن
اللسان الأفضل، والحال كذلك، هو لسان قومه (قريش). وإذا كان لا بد — مع تفاضل الألسنة
—
أن يكون بعضهم تبعًا لبعضهم، وأن يكون المفضَّل في اللسان المتبَع على التابع؛ فإنه
لا يجوز أن يكون أهل لسانه أتباعًا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان تبع
للسانه، وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه. وإذ يتكشف تثبيت المركزية عن تكريس
الاتباعية، فإن ما يبدو من أنه الاتباع في الدين واللسان فقط، إنما هو ما يرتبه الشافعي
على مركزية القبيلة-الأصل-اللسان،
٧٦ سوف يتسع عند الرازي إلى نوع من الاتباع المطلق،
يُسنِده إلى قوله
ﷺ: «الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع
لكافرهم.» وقوله
ﷺ: «في هذا الشأن» ليس المراد به الخلافة (أو الدين)؛ لأن قوله: «وكافرهم تبع لكافرهم»
ينفي حمل اللفظ على الخلافة
٧٧ (أو الدين بالطبع)، بل هو الاتباع مطلقًا وأبدًا. وإذ تقوم الدلالة القصوى
لاتساع الرازي بحدود الاتباع على نحو مطلق، في سعيه إلى أن يرتب على تثبيته لمركزية
الشافعي وجوبَ كونه متبوعًا لغيره من العلماء والمجتهدين، وأن يكون غيره أتباعًا له
مطلقًا؛
٧٨ فإن ذلك يحيل، لا محالة، إلى انسراب المركزية والاتباع من القبيلة إلى
الشخص. لكن ما يبدو وكأنه الاتباع، هنا، لمجرد القبيلة أو حتى الشخص، سرعان ما سيتجاوز
إلى تكريس الاتباع المعرفي، الذي سيترتب، هائلًا، على الانعكاس البنيوي لمركزية القبيلة
داخل النسق الفقهي للشافعي.
فإذ سيبلغ إنتاج الشافعي لمركزية القبيلة ذروة اكتماله وتمامه، عبر إعادة إنتاجه
لهذه
المركزية من خلال النظام النبوي لنسقه الفقهي بأسره، الذي يبدو أن تمحوره حول ما يكاد
يمثل ثابت بنيته الأعمق، أو الدليل-الأصل، هو أحد أشكال إنتاج القبيلة-الأصل؛ فإنه
كان يمضي إلى ترسيخ ثوابت الاتباعية في الثقافة، على نحو كامل؛ إذ الحق أن الثقافة لن
تتوقف بعده أبدًا عن إنتاج هذا الدليل-الأصل، وتثبيت اتباعيته. فقد مضى الشافعي يمحور
جهده الفقهي كله حول بناء وتكريس دليل-أصل، يستحيل الخروج عليه أو الانحراف عنه مطلقا،
وذلك ابتداء من أن «الله لم يجعل لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله،
وجِهةُ العلم بعدُ: الكتابُ والسنة والإجماع والآثار، وما وصفتُ من القياس عليها».
٧٩ ولأن ما وصف من القياس عليها لا يجاوز البتة حدود ما طُلب بالدلائل على
موافقة الخبر المتقدم، من الكتاب والسنة؛ لأنهما على الحق المفترض طلبه؛
٨٠ فإن ذلك يعني أن جهة العلم هي الكتاب والسنة، أو النص (الذي هو علم إحاطة
في الظاهر والباطن)، أو ما يُطلب بالدلائل منه (وهو علم الظاهر دون الباطن).
٨١ وهنا يُشار
إلى أن مفهوم النص عند الشافعي قد راح ينبني عبر استراتيجية تعتمد آليتَي التوسع
والإلحاق، وأعني التوسع بالأعلى من وجوه العلم ليتسنى إلحاق الأدنى به، وإلى حد اعتباره
جزءًا منه، وهكذا فإن ما سبق من توسع الشافعي بمفهوم «الوحي» ليبتلع السنة،
٨٢ سوف ينتج نفسه توسعًا بالسنة لإلحاق الإجماع بها كمجرد جزء منها، وبما يعنيه
ذلك من مقاربته لتخوم الوحي بدوره.
ولقد تبنَّى الشافعي آلية في الاتساع بالسنة تنبني على مماثلتها باللغة، وإلحاقها
باللسان في الاتساع واستحالة الإحاطة، وذلك استنادًا إلى قاعدته المؤسِّسة والحاكمة في
أن
يلحق «الشيء» بأَولى الأشياء شبهًا به.
٨٣ وهكذا فإنه، وإذا مضى إلى أن «لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها
ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها
حتى لا يكون موجودًا فيها من يعرفه …»؛ فإنه راح يبني على ذلك أن «العلم به عند العرب
كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلًا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء».
٨٤ وقد كان لزامًا أن يترتب على هذا التماثل بينهما من جهة العلم، وأعني من
حيث لا نعلم رجلًا (بمفرده) جمع «اللغة والسنة»، فلم يذهب منهما شيء، والذي يتأتَّى بالطبع
من تماثلهما في «الاتساع واستحالة الإحاطة»؛ أن تكون السنة بدورها لا نعلمها يحيط بجميع
علمها إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منها شيء على عامة أهل العلم حتى لا يكون موجودًا
من يعرفها (بمفرده). وتبعًا لذلك، فإنه لا سبيل إلى الإتيان على كافة السنن بالعلم إلا
«إذا جمع علم عامة أهل العلم بها (الدين)، إذا فُرِّق علم كل واحد منهم، ذهب عليه الشيء
منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودًا عند غيره».
٨٥
وهكذا، فإذ لا يكون موجودًا من يعرف «اللغة» كلها بمفرده، فإنه لا يكون موجودًا كذلك
من يعرف «السنة» كلها بمفرده، فيتفرد (لذلك) جملة العلماء بجمعها.
٨٦
ولعل هذا التصور للسنة على هذا النحو من الاتساع، الذي يستحيل معه أن يحيط بعلمها
إنسان غير النبي، وبحيث لا يبقى من سبيل للعلم بها إلا عبر الجمع لما تفرق منها عند كل
واحد؛ هو ما يؤسِّس كليًّا لمفهوم الشافعي عن الإجماع. فإذا مضى الشافعي يبني الحجة في
اتباع
ما اجتمع الناس عليه، مما ليس فيه نص حكم لله، ولم يحكوه عن النبي
ﷺ،
٨٧ منطلقًا من نوع من التمييز فيما اجتُمع عليه؛ بين ما اجتمعوا عليه فذكروا أنه
حكاية عن رسول الله
ﷺ، فكما قالوا إن شاء الله، (وبين) ما لم يحكوه، فاحتمل أن يكون قالوا
حكاية عن رسول الله، واحتمل غيره. ولا يجوز أن نعُدَّه له حكاية،
٨٨ فإنه سرعان ما راح يُلاشي أيَّ تمايز بين المحكي وغير المحكي، ليطويهما معًا
تحت المظلة الهائلة للسنة، وعلى نفس قاعدة اتساعها، التي تجعلها — وكاللغة تمامًا — لا
تَعزُب
عن عامتهم، وقد تَعزُب عن بعضهم.
٨٩ وإذ يُضاف ذلك إلى ما «نعلم من أن عامتهم لا تجتمع على خلاف لسنة رسول الله
ﷺ»،
فإن ما أجمعوا عليه ولم يحكوه لا يكون — على قاعدة استحالة الإجماع على خلاف السنن؛
لأنها لا تَعزُب عن الكل، وقد تَعزُب عن البعض — من قبيل غير المخالف للسنة فقط، بل من
قبيل
السنة التي لا تَعزُب عن الكل، أو حسب تسمية الشافعي «السنة المجتمع عليها»،
٩٠ التي يميزها عن السنة المحكية تواترًا، أو حتى عبر خبر الواحد، الذي أجهد نفسه
تمامًا في تثبيت حجته.
٩١
والعجيب أن تمييز الشافعي، هنا، بين السنة منقولةً أو محكية، وبين السنة المجتمع عليها،
إنما يتجاوب تمامًا مع تمييزه — الذي ألحق من خلاله السنة بالوحي — بين الوحي المتلو
(أو
القرآن)، وبين وحي الإلقاء في الرُّوع (أو السنة) الذي لا يُتلى. فإذ الوحي (التلاوة)
يقابل السنة (الحكاية)، فإن وحي الإلقاء في الروع (الذي لا يُتلى) يقابل سنة الإجماع
(التي لا تُحكى)، وبما يعني أنها ذات الاستراتيجية في التوسع والإلحاق — التي ألحق من
خلالها الشافعيُّ السنة بالوحي — تعمل هنا إلحاقًا للإجماع بالسنة.
والحق أن مجرد البلوغ بقياس الشافعي للسنة على اللغة، في الاتساع واستحالة الإحاطة،
إلى منتهاه، لما يئول، بدوره، إلى إلحاق الإجماع بالسنة حتمًا، وأعني من حيث إنه إذا
كان اتساع الشافعي باللسان العربي — إلى حد اعتباره أوسع الألسنة — قد أمكنه من أن يُلحِق
به ما يُقال بأنه أعجمي ليس منه؛ فإن اتساعه بالسنة سوف يكون، قياسًا، أداته في أن
يُلحِق بها ما يُقال بأنه ليس منها، لأنه لم يُحكَ منطوقًا، بل اجتُمِع عليه فقط. وإذ
ينطوي
إلحاق الشافعي للإجماع بالسنة على ما يحيل إلى انتزاعه من سياق كونه التعبير الحي عن
الخبرة التاريخية للجماعة، بكل ما تتسع له من ضروب التراكم والتطور، والتعالي به إلى
مقام النص المقدس، الذي يجري تثبيته على نحو مطلق؛ فإنه يُلاحَظ أن الشافعي قد راح يضع
الإجماع كنص مطلق الحضور والهيمنة. فإذا مضى إلى أنه «لا يجوز الإجماع إلا على ما وصفتُ،
من أن لا يكون مخالِفٌ»،
٩٢ ثم راح يحدد بأنه لا يكون مخالِفٌ مع الرأي؛ «لأن الرأي إذا كان تُفُرِّق (اختُلِف)
فيه»، فإنه كان لا بد أن يقطع بأن الإجماع لا يكون عن رأي.
٩٣
وبالطبع فإنه إذ لا يكون عن رأي، فإنه لا يبقى إلا أن يكون عن نص، وإذن فإنها المخالفة
التي يُقصيها الشافعي، ولا يسمح لها بأي حضور ضمن حدود النص، فيما يسمح لها بنوع من الحضور
التافه وغير المنتِج ضمن حدود الاجتهاد فقط، هي ما يتأسس عليها، أو على غيابها بالأحرى،
نصية الإجماع؛ ذلك أن ما كان لله فيه نص حكم، أو لرسوله سنة، أو للمسلمين فيه إجماع،
لم
يسَع أحدًا عَلِم من هذا واحدًا، أن يخالفه. وما لم يكن فيه من هذا واحد كان لأهل
العلم الاجتهادُ فيه بطلب الشبهة (يعني التشابه) بأحد هذه الوجوه الثلاثة. فإذا اجتهد
من
له أن يجتهد وَسِعه أن يقول بما وجد الدلالة عليه، بأن يكون في معنى كتاب أو سنة أو
إجماع، فإن ورد أمر مشتبه يحتمل حكمين مختلفين، فاجتهد فخالف اجتهادُه اجتهادَ غيره،
وسعه
أن يقول بشيء، وغيرُه بخلافه، وهذا قليل.
٩٤
وإذ تبدو المخالفة، هكذا، هي علامة الشافعي الفارقة بين النص والاجتهاد، فإن إقصاءها
عن
محيط الإجماع لا يعني مجرد وضعه كنص فقط، بل وينطوي على تأكيد افتراقه عن الاجتهاد،
الذي يتدنى به الشافعي إلى مجرد لاحقة للنص، وكذا عن الرأي، الذي يدينه ويقصيه تمامًا
خارج حدود التداول.
والحق أن تأكيد افتراق النص عن الاجتهاد قد راح ينعكس كليًّا على استراتيجية الشافعي
في
بناء الاجتهاد مقابل النص؛ إذ فيما اعتمد في بناء النص آليتَي التوسع والإلحاق، فإنه
سوف يعتمد في بناء الاجتهاد، على النقيض، آليتَي التضييق والإهدار، وأعني تضييق الاجتهاد
إلى مجرد القياس؛ لأنه لا يكون أبدًا إلا على طلب شيء، وطلب الشيء لا يكون إلا بدلائل،
والدلائل هي القياس.
٩٥ ثم الإهدار الكامل لكلٍّ من الرأي والاستحسان، ومن قال هذين القولين قال قولًا
عظيمًا؛ لأنه وضع نفسه في رأيه واستحسانه، على غير كتاب ولا سنة، موضعهما (يعني موضع
الكتاب والسنة) في أن يُتَّبع رأيه كما اتُّبعا،
٩٦ وفي أن رأيه أصل ثالث أمر الناس باتباعه،
وهذا خلاف كتاب الله عز وجل؛ لأن الله تبارك وتعالى إنما أمر بطاعته وطاعة رسوله، وزاد
قائل هذا القول رأيًا آخر على حياله بغير حجة له في كتاب ولا سنة، ولا أمر مجتمَع عليه،
ولا
أثر، وبما يحيل إلى استحالة القول على غير أصل أبدًا، وبالطبع فإن هذه الاستحالة هي
الأصل في تضييق الشافعي لحدود الاجتهاد إلى حد لا يكاد يتمايز معه عن النص
البتة.
وهكذا، فإن القصد مما صار إليه الشافعي من أن الاجتهاد ليس بعين قائمة (أي: ليس نصًّا)،
وإنما هو شيء يُحدِثه «المجتهد» من نفسه.
٩٧ لم يكن أبدًا تأسيس الاجتهاد كأصل مستقل الحضور، ولو في الحد الأدنى، بقدر
ما كان هو إلحاقه بالنص على نحو لا يكاد يتميز عنه، وأعني من حيث راح الشافعي يرتب على
أن الاجتهاد ليس بعين قائمة (أو نص)، وإنما هو شيء يحدثه «المجتهد» من نفسه، أن المرء
لم يؤمر باتباع نفسه، وإنما أُمر باتباع غيره، (ولهذا) فإحداثه على الأصلين اللذين افترض
الله عليه أولى به من إحداثه على غير الأصل الذي أُمر باتباعه، وهو رأي نفسه.
٩٨
وإذ ينحل الاجتهاد، هكذا، إلى نوع من الإحداث على أصل، لأنه لا يكون إلا على مطلوب،
والمطلوب لا يكون أبدًا إلا على عين قائمة تُطلب بدلالة يُقصد بها إليها، أو تشبيه على
عين قائمة …
والخبرُ من الكتاب والسنة عينٌ يتأخَّى (يتوخَّى) معناها المجتهدُ ليصيبه؛
٩٩ فإنه يكون قد انحل إلى النص أو كاد، وأعني من حيث يضيق إلى الحد الذي لا
يتسع لقول على غير أصل أبدًا. والحق أن ما يبدو هنا من إلحاق الشافعي للاجتهاد بالنص،
عبر هذا التضييق، هو ما تأدى إلى أن يمتنع بعض أهل العلم من أن يسمي هذا قياسًا (أو
اجتهادًا)، ويقول: هذا معنى ما أحل الله وحرم، وحمد وذم؛ لأنه داخل في جملته، فهو بعينه،
لا قياس على غيره.
١٠٠
وهكذا فالاجتهاد-القياس داخل في جملة النص، أو هو بعينه نص، لا قياس على غيره.
وبالرغم من أن الشافعي — وحين بدا أن ما يعتبره أقوى قياس
١٠١ هو أدنى إلى النص — قد راح يمنع أن يُسمَّى القياس إلا ما كان يحتمل أن يُشبَّه
بما احتمل أن يكون فيه شبهًا من معنيين مختلفين، فصرفه على أن يقيسه على أحدهما دون الآخر،
١٠٢ وبما
يعني أنه لا يستحق اسم القياس إلا إذا ورد مشتبه يحتمل حكمين مختلفين، فاجتهد (المجتهد)
فخالف اجتهادُه اجتهادَ غيره،
فإنه يسعه أن يقول بشيء وغيرُه بخلافه،
١٠٣ فإنه يُلاحَظ أنه سرعان ما راح يتدارك بأن هذا قليل،
١٠٤ كاشفًا عن طبيعة رؤيته للاجتهاد-القياس، إما كنص أو مجرد هامش ضئيل
عليه.
والملاحَظ أن استراتيجية الشافعي في إلحاق الاجتهاد بالنص، على هذا النحو، إنما تنبني
على نفس آليات استراتيجيته في بناء النص عبر التوسع بالأعلى مقابل تضييق الأدنى، ليتسنى
إلحاقه به. وهكذا، فإنه إذا كان الشافعي قد اتسع بالوحي (وهو الأعلى) ليتسنى إلحاق السنة
به
(وهي الأدنى)، وذلك عبر التضييق لها، بحيث لا تتسع لما يكشف عن حدود وعي النبي وتجربته
الخاصة بعيدًا عن الوحي، ثم اتسع بالسنة-الوحي (وهي الأعلى) ليتسنى إلحاق الإجماع بها
(وهو الأدنى). وعبر ذات التضييق للإجماع بحيث لا يتسع لوعي الجماعة وخبرتها الحية، فإنه
قد راح، بالمثل، يتسع بالنص — كتابًا وسنة وإجماعًا — (وهو الأعلى)، ليتسنى إلحاق الاجتهاد
به (وهو الأدنى). وعبر ذات التضييق له، بحيث لا يتسع لأيٍّ من ضروب الرأي والاستحسان،
وفي كلمة واحدة، فإنه التضييق ﻟ «الإنساني»، وإلى حد إهداره، مقابل الاتساع ﺑ «النصي»
ليبتلعه
في جوفه.
وهكذا، فإنه لا اعتبار لرأي أو استحسان أو مصلحة أو واقع، أو حتى تاريخ متحقق، بل
راح
الشافعي يُقصي ذلك كله خارج السياق تمامًا، إفساحًا للفاعلية المطلقة للنص، ولا شيء سواه.
ولهذا فإنه إذا كانت الممارسة الفقهية السابقة عليه قد اتسعت لكل هذه الضروب في بنائها
للاجتهاد، فإن الشافعي قد راح يقطع معها على نحو كامل.
فإذ الرأي تفرق، فإنه ليس لأحد أن يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يُحدِثه
لا على مثال سبق، (ولهذا) فإنما الاستحسان تعسف وتلذذ أو قول بالهوى، بل وحتى: «من استحسن
فقد شرَّع.»
١٠٥ وليس من اعتبار لواقع أو تاريخ، حتى ولو تحققت وقائعه، بل إنه الإهدار لها،
مع تحققها، ما دامت تشي بما يبدو وكأنه الانحراف عن النص. وهنا يُشار بالذات إلى واقعة
فتح مكة، التي يكاد ينفرد الشافعي برواية أنها فُتحت صلحًا مهدرًا. «إجماع أهل العلم،
ومن
له أدنى علم بالسير والفتوح — كالبلاذري وابن تيمية والسرخسي والكرخي والشوكاني وغيرهم
—
على أنها قد فُتحت عَنوةً لا صلحًا.»
١٠٦ والغريب أن إهدار الشافعي لإجماع أهل العلم على رواية الفتح عنوة، وانفراده
برواية الفتح صلحًا، لا يتأتى من تحقيقه لروايته تاريخيًّا،
١٠٧ بقدر ما يتأتى من استدلاله عليها (فقهيًّا)، فجعل «الفقهي» — وللغرابة — يعيد
بناء «التاريخي» وتوجيهه.
فإذ تقطع أحكام النصوص بأن كل ما فُتح عَنوةً يجب قسمته، فإن تركه الإمام ولم يقسمه،
فوقَفَه المسلمون أو تركه لأهله، رُد حكم الإمام فيه؛ لأنه مخالف للكتاب ثم السنة معًا،
فإن قيل: فأين ذكر ذلك في الكتاب؟
قيل: قال الله عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ (الأنفال: ٤١).
وقسم رسول الله
ﷺ الأربعة الأخماس على من أوجف عليه بالخيل والركاب، من كل ما
أوجف من أرض أو عمارة أو مال.
١٠٨ ولأن شيئًا من ذلك الذي قضى به الكتاب
والسنة (أو النص) لم يحدث بعد فتح مكة، ولم يقدر الشافعي على تصور أن يكون قضاء النص
قد
تعطَّل استثناءً في مكة «منًّا على أهلها»، على قول الشوكاني، أو تشريفًا لها، وهي على
قول النبي
ﷺ نفسه، أحب بلاد الله إلى قلبه، فإنه قد راح يستدل من «الفقه» على
«التاريخ»، قاطعًا: قد فُتحت صلحًا لا عَنوةً؛ لأنها وإذ لم تُقسم بين الفاتحين يكون
قد
جرى عليها حكم الفيء الذي لا يُقسم، وليس الغنيمة التي تُقسم، وبالطبع فإنها إذ تكون
فيئًا تكون قد فُتحت صلحًا لا عنوة؛ لأن ما فُتح صلحًا من غير قتال هو ما يجري عليه فقط
حكم الفيء. وإذن فإنها الواقعة في «التاريخ» يُعاد بناؤها في ضوء ما جرى به «الفقه»،
وحتى لو اقتضى الأمر إنكارها كليًّا.
١٠٩
وبالطبع فإنه لا مجال، ضمن سياق هذا الإقصاء، لكل ما يخص الإنسان (عقلًا وواقعًا
وتاريخًا) إلا لتكريس سلطة الدليل-الأصل من جهة، وتثبيت وجوب اتباعه من جهة أخرى، حيث
لا يبدو من فعل للإنسان بإزاء هذا الدليل-الأصل — على مدى النص الشافعي بأسره — إلا مجردُ
الاتباع، ولا شيء سواه. وإذا كان قد بدا أن بناء الدليل-الأصل هو ذروة الإنتاج
للقبيلة-الأصل ضمن بنية النسق الفقهي (والمعرفي)، فإن وجوب الاتباع المعرفي لذلك الدليل-الأصل
(أو النص) هو بدوره من قبيل الإنتاج لما سبق للشافعي تكريسه من وجوب اتباع
القبيلة-الأصل (قريش)، ولما سيلحق، عند كاتبي مناقبه، من وجوب اتباع الشخص (الشافعي)،
وبما يحيل إلى اكتمال دورة إنتاج الأصل، ووجوب اتباعه (نصًّا وقبيلةً وشخصًا). وبالطبع
فإنه، وعبر هذه الدورة من إنتاج الأصل وتثبيت اتباعه (نسبًا ونصًّا وشخصًا) تتسرب
القداسة، من خلال ضروب الإحلال والمبادلة، من الواحد إلى الآخر.
والحق أن قراءة تتجاوز نص الشافعي إلى شخصيته هذه المرة، لَتكشف عن أن تأسيس كل هذه
الضروب من التقديس (نسبًا ونصًّا وشخصًا)، إنما يبدو وكأنه مجرد أداته في أن يعوض (بالمعنى
النفسي الفرويدي) بؤسه وانسحاقه الشخصي، متعاليًا إلى مقام ينقاد له فيه علماء الدين
وأكابر السلف.
١١٠ فقد تواتر عن الشافعي ما يكشف عن أن شيئين قد تلازما في وعيه منذ صغره، ولم
يفارقاه أبدًا، وأعني ذلك التلازم بين نسبه وفقره؛ فإذ يروي الشافعي بنفسه: «كان أبي
رجلًا من تبالة (قرية بالحجاز)، وكان بالمدينة، فظهر فيها بعض ما يكرهه، فخرج إلى عسقلان
فأقام بها، وولدتُ بها، ثم مات أبي، فقَدِم عمي من مكة إلى عسقلان، وحملني إلى مكة، وأنا
ابن سنتين» (وفي الرواية: فلما أتى عليَّ سنتان حملتني أمي إلى مكة).
١١١ فإن ثمة من راح يردُّ حمله إلى مكة توًّا وردَّه إلى أهله إلى أن أمه «كانت تريد
أن تستعين على تكاليف العيش بما ينال الطفل من سهم ذوي القربى، باعتباره مُطَّلبيًّا»،
١١٢ حيث كان أبوه فقيرًا، أو — على قول «ابن بنت الشافعي» — قليل ذات اليد. وهكذا، فإنه
لا شيء إلا سيرة أب فقير وشبه طريد، وأم منكسرة، لا تجد ما تستعين به على العيش إلا
ما ينال الطفل من نسبه المُطَّلبي، وهو ما يبدو وكأنه قد ترسب واستقر في أعماق الشافعي،
ولم يفارقه أبدًا بعد ذلك، بل ظل كامنًا في الأعماق يفعل من تحت أقنعة شتى، أهمها
القداسة؛ إذ ليس من شك في أن ذروة التقديس التي انتهى إليها الشافعي، عبر تثبيت مركزية
الدليل-الأصل (في الفقه)، والذي تَحرُم مقاربته إلا اتباعًا وليس استيعابًا وإبداعًا،
كقناع
لمركزية النسب-الأصل (في القبيلة)؛ إنما ترتد إلى تلك الأغوار السحيقة، التي استقر
فيها منذ البدء قيمة نسبه وإمكان توظيفه — كما علَّمَته أمه — في مغالبة انسحاقه
وفقره.
وبالطبع فإن تعاليه بهذا النسب إلى مقام النسب-الأصل لا يرتبط بمجرد ما يئول إليه
من مغالبة الفاقة والفقر، بل وبما سوف يخلعه على شخصه من تعالٍ وسمو، يرتفع به عبر
تماهيه مع الأصل المتعالي (دليلًا ونسبًا) إلى مقام السلطة المقدسة في الإسلام.
والغريب أنه، وبمثل ما كان الفقر هو ما يقف وراء سعيه إلى تثبيت مركزية نسبه الأصل،
فإنه يقوم كذلك وراء سعيه إلى تثبيت مركزية الفقه (في الثقافة)، ثم مركزيته (أي: الفقه)
حول ثابت الدليل-الأصل، الذي يعمل كقناع للنسب-الأصل بالطبع. فإذ يُلاحَظ أن مركزية
النسب في وعيه قد كادت — حسبما سبق — أن تستغرقه كليًّا، فيما يمكن اعتباره علوم النسب/القبيلة،
من أدب ولغة وتاريخ وأنساب، التي استوعبت تشكله المعرفي ما قبل الفقه كله؛ فإنه
يبدو كذلك أن نفس فقره وفاقته
١١٣ سوف يجبرانه على أن ينتقل من الاشتغال بتلك العلوم غير النافعة، إلى
الاشتغال بما يعينه على التكسب، فجاء تحوله إلى الفقه، ومع الوعي بأنه قد نقل معه إلى
الفقه انشغاله بنسبه، الذي يبدو أنه لم يفارقه البتة ابتداءً من درس أمه، الذي جُعل دربًا
لخلاصه.
وإذ بدا وكأن الشافعي، عبر هذا التحول، إنما يستعيد تجربة سلفه المباشر أبي حنيفة،
فإن
تحولهما معًا إنما يعكس ملامح تجربة القرن الثاني الهجري، الذي عاشا فيه، والتي تتكشف
عن حقيقة تبدي الفقه باعتباره الأداة الفاعلة في إنجاز الحراك الاجتماعي فرديًّا
وجماعيًّا، حتى لقد استوقف البعضَ أنه لما انقرض عهد الصحابة ما بين تسعين ومائة من
الهجرة، وجاء عهد التابعين، انتقل أمر الفتيا والعلم بالأحكام إلى الموالي إلا قليلًا.
عن
عطاء قال: دخلت على هشام بن عبد الملك فقال: هل لك علم بعلماء الأمصار؟
قلت: بلى. قال: فمن فقيه المدينة؟ قلت: نافع مولى ابن عمر، وفقيه مكة عطاء بن رباح
المولى، وفقيه اليمن طاووس بن كيسان المولى، وفقيه الشام مكحول المولى، وفقيه الجزيرة
ميمون بن مهران المولى، وفقيها البصرة الحسن وابن سيرين الموليان، وفقيه الكوفة إبراهيم
النخعي العربي.
قال هشام: لولا قولك عربي لكادت نفسي تخرج.
١١٤ والحق أن الأمر يرتبط بسعي الموالي إلى تغيير وضعيتهم كجماعة مسحوقة في زمن
الأمويين، وذلك عبر الفقه، فاحتكروا الاشتغال به، باستثناء عربي واحد.
١١٥
ولعله ليس أصرح من أبي حنيفة في الإقرار بأن ما يقف وراء تحوله إلى الفقه ليس شيئًا
إلا التكسب والرياسة في الدنيا. حيث أورد عنه أبو يوسف، تلميذه الأكبر، قوله: لما أردت
طلب العلم جعلت أتخير العلوم، وأسأل عن عواقبها (في الدنيا طبعًا)، فقيل
لي: تعلم القرآن. فقلت: إذا تعلمت القرآن وحفظته، فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد
ويقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثم لا تلبث أن تُخرِّج فيهم من هو أحفظ منك أو يساويك في
الحفظ، فتذهب رياستك، قلت: فإن سمعت الحديث وكتبته، حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني؟ قالوا:
إذا كبرت وضعفت حدَّثت
واجتمع عليك الأحداث والصبيان، ثم لم تأمن أن تغلط فيرموك في الكذب، فيصير عارًا عليك
في عقبك. فقلت: لا حاجة لي في هذا، ثم قلت: أتعلم النحو. فقلت: إذا تعلمت النحو والعربية
ما يكون آخر أمري؟ قالوا: تقعد معلمًا، وأكثر رزقك ديناران
إلى ثلاثة. قلت: وهذا لا عاقبة له.
قلت: فإن نظرت في الشعر، فلم يكن أحد أشعر مني، ما يكون من أمري؟ قالوا: تمدح هذا،
فيهب لك ويحملك على الدابة، أو يخلع عليك خِلعة، وإن حرمك هجوته، فصرت تقذف المحصنات.
فقلت: لا حاجة لي في هذا. قلت: فإن نظرت إلى الكلام، فما يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم مَن
نظر في الكلام مِن شنعات الكلام، فيُرمى بالزندقة، فإما أن يؤخذ فيُقتل، وإما
أن يسلم فيكون مذمومًا. قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تُسأل وتفتي الناس، وتُطلَب للقضاء
إن كنت شابًّا. فقلت: ليس في العلوم شيء أنفع من هذا، فلزمت الفقه وتعلمته.
١١٦
وإذن فإنه التنقل بين علوم العصر كافة، من القرآن والحديث، إلى النحو واللغة والشعر،
إلى الكلام، ثم أخيرًا إلى الفقه، وليس مِن قصدٍ أبدًا إلا النفع والعواقب في الدنيا
والتكسب، التي يحققها الفقه لا غير.
والحق أن ذلك ما تتكشف عنه الحقيقة، أن الشافعي بدوره قد راح يتنقل بين معارف وعلوم
عصره، حتى استقر على الفقه، وأخذ هو أيضًا يحقق سيرة أبي حنيفة نفسها، حيث كان في ابتداء
أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب، ثم أخذ في الفقه، وبما يلوح من أنه النفع هو ما
يسعى
وراءه مثل سلفه، وعلى نحو تؤكده نصيحة نسيب له رآه يطلب العلم، فقال له: لا تَعجَل بهذا،
وأقبِل على ما ينفعك (يعني التكسب).
١١٧
فإنه قد راح يخفي مبرر هذا التحول إلى الفقه وراء المتعالي، ومن دون أن يرده إلى
شرطه
في الواقع. حيث يروي مبررًا تحوله: «كنت أنظر في الشعر، فارتقيت عقبة بمنًى، فإذا صوت
من
خلفي يقول: عليك بالفقه.»
١١٨ ومن دون أن يحدد مصدر هذا الصوت المبهم، ليرسخ بأنه من مصدر إلهي مفارق.
وبالطبع فإنه كان يرسخ هنا أحد أهم ثوابته في التفكير بالمتعالي وإهدار الواقعي، وهو
الثابت الذي اشتغل كليًّا عند بنائه لنصه، ثم راح يستعيده لترسيخ المخايلة بقداسة شخصه.
وهكذا فإن التجربة الأولى والأهم في «تأسيس التقديس» ضمن الثقافة، من خلال تكريس سلطة
الدليل وتثبيتها، النص، النموذج-الأصل، وبكل ما يلازمه، فيؤسس له أو يتأسس به من
تكريس سلطة النسب وتثبيتها، الشخص الأصل-الأصل، إنما تجد القدر الأكبر مما يؤسسها في
الأغوار السحيقة للنفسي والاجتماعي، بل وحتى السياسي، الذي يبدو قارًّا تحت سطح نص
الشافعي، يتأسس عبر ما يكرسه من التثبيت لسلطة الأصل، دليلًا أو نصًّا (في الفقه)،
وحاكمًا وأميرًا (في السياسة)، ثم تثبيته للعلاقة مع هذه السلطة اتباعًا وخضوعًا فقط.
والغريب حقًّا أنه لن يكاد يمر قرن بعد الشافعي، إلا وستُعاد تجربته في تأسيس التقديس
كاملةً، ضمن سياق الجناح العقيدي لعلم الأصول (أو أصول الدين)، ومن خلال الأشعري، الذي
سوف
يكسر الحضور الكامل للأصل وهيمنته على نحو مطلق في الثقافة بأسرها. والحق أن خطابه يكاد
أن يكون بأسره تنظيرًا أكثر شمولًا واتساعًا للمسكوت عنه والمضمر الذي يتأسس عليه خطاب
الشافعي كله. ومن هنا أن الخطاب الفقهي الشافعي إنما يجد (ورغم أسبقيته التاريخية) ما
يؤسسه في الخطاب العقيدي الأشعري، الذي وإن كان لاحقًا تاريخيًّا، فإن أوليته تتأتى من
كونه
المؤسس معرفيًّا، تمامًا بمثل ما أن الخطاب الأشعري سوف يجد في الخطاب الشافعي أحد
تحققاته أو تعيناته الأسبق تاريخيًّا.
والحق أنه، ومع إمكان صرف النظر عن هذه الأسبقية (تاريخية أو معرفية) للواحد منهما
على
الآخر، فإن التجاوب بينهما، سواء على صعيد ما يمارسانه وينتجانه، أو حتى حين يكونان
موضوعين لممارسة، يكاد يبلغ حد التماثل الكامل. فإن انطلق الشافعي يبلور خطابه ضمن سياق
الممارسة الفقهية، التي ابتدأت مع الصحابة، وحتى أصحاب المذاهب السابقة عليه، واتسعت
لكل
ضروب العقلي والتاريخي والواقعي، وإلى حد استدماج هذه الضروب التي تتكشف عن الفاعلية
الكاملة للإنساني، ضمن بناء الأدلة الفقهية ذاتها رأيًا وأعرافًا وتقاليد وخبرات محلية
وغيرها، ثم راح الشافعي يُحدِث انقطاعًا داخل هذه الممارسة، تحولت بمقتضاه من الاتساع
للإنساني، وإلى حد استدماجه ضمن بنائها، إلى إهداره والاستغراق في بناء الدليل-النص
كأصل لا سبيل إلا احتذاؤه والتفكر به، فإن الأشعري بدوره لم يفعل إلا أن راح يمارس
هكذا، وأعنى أنه أيضًا قد راح يقطع مع ممارسة عقائدية انفتحت خلالها الفرق المتصارعة
على
ضروب من التاريخي والواقعي، راحت تنعكس على الأبنية العقائدية لهذه الفرق، التي تتكشف
مجرد تسمياتها (خوارج ومعتزلة ومرجئة وشيعة) عن الاتساع للتاريخي إلى حد أن تأخذ منها
اسمها ذاته، ليتعالى — وهو الذي كان جزءًا من هذه الممارسة المنفتحة — إلى حد التنكر
لهذا
الواقعي والتاريخي، وهو ما يتكشف عنه ما جرى معه من التحول — فيما يتعلق بمجرد تسميته
فرقته «الأشعرية» — من التاريخي إلى الشخصي، بكل ما يشع حول شخص الأشعري بالذات من أطياف
الديني ومخايلاته، وذلك على الضد من «السياسي»، الذي يحيل إليه «التاريخي»، ومستغرقًا
في
ضرب من التفكير بما نُص عليه، أو رُوي عنه، أو بما أُجمع واتُّفق عليه.
١١٩
ومن هنا، فإنه إذا كانت تنظيرات الفرق قبله قد اتسعت إبان تحليلها للممارسة السياسية
اللاحقة على وفاة النبي
ﷺ للوعي، بفاعلية منطق القبيلة الذي راح يعمل في صوغ الأحداث من
خلال الغلبة، حتى وإن تزركشت بالشورى، فإن الأشعري قد راح يهدر كل ذلك، ليؤسس ما جرى
آنذاك على مجرد الدليل من «النص أو الإجماع»، رغم أنه لا وجود لأيٍّ منهما في أحداث تلك
الحقبة بحسب أي تحليل نزيه. ولعل الأصل في ذلك هو الرغبة في التعالي بتلك اللحظة في
الماضي إلى فضاء تكتسب فيه قداسة «الأصل والإجماع» التي لا بد أن تنسرب، لا محالة، إلى
سياسة الحاضر باعتبارها مجرد امتداد لها. وإذن فإنه السعي إلى تقديس الحاضر هو ما يؤسس
لتقديس الماضي بوصفه أصله. وبالطبع فإنه يبقى أن هذا التفكير الأشعري بالأصل (نصًّا أو
إجماعًا)، إنما يتجاوب على نحو كامل مع سبق الإلماح إليه من إهدار الشافعي للتاريخي
(المتعلق بفتح مكة) لحساب الأصل الفقهي.
بل إنه وحتى حين أصبح الواحد منهما موضوعًا لممارسة خطابية، فإن تماثلها قد أبى إلا
أن ينتج نفسه كاملًا أيضًا. فإذ تعالى كاتبو مناقب الشافعي (متابعين له) بقومه وعشيرته
إلى حد جعلها موضوعًا لخطاب إلهي، فإن كاتب سيرة الأشعري قد أبى إلا أن يتعالى بقومه
(أي: الأشعري) أيضًا، وذلك عبر جعلهم موضوعًا لخطاب نبوي، بل وإلهي.
١٢٠ ومن جهة أخرى، فإنه إذا كان الربط بين الشافعي والنبي
ﷺ (وهو رأس قومه) قد
تجاوز مجرد الربط بينهما نسبًا، إلى الربط بينهما فكرًا؛ فإن الأمر نفسه قد جرى فيما
يتعلق
بالأشعري، حيث تجاوز الربط بينه وبين الصحابي أبي موسى الأشعري (ولاحظ المخايلة بالصحابي
هنا) مجرد الربط بينهما نسبًا إلى الربط بينهما فكرًا أيضًا،
١٢١ وبما يعني تماثل الواحد منهما مع الآخر فيما
يتعلق بإعادة إنتاجه لسلفه-الأصل (نبي أو صحابي). بل إن الأمر قد راح يتجاوز، مع الأشعري،
مجرد الارتباط بالصحابي إلى مخايلة الارتباط بالنبي، ليس نسبًا، بل فكرًا وتجربة. إذ
الحق أن تحليلًا لتجربة التحول التي خاضها الأشعري إنما يتكشف، بلا أدنى مواربة، عن
السعي إلى التماثل الكامل مع النبي تجربة وفكرًا. والمدهش أن التجاوب بين الخطابين في
تأسيس التقديس إنما يتجاوز ذلك كله، إلى التماثل على صعيد التجربة الحية القارة وراءهما
أيضًا، وأعني من حيث إن تجربة الأشعري إنما ستجد بدورها ما يؤسسها كاملًا من ذات الأغوار
السحيقة للنفسي والاجتماعي، وحتى السياسي، ولكن على نحو أكثر مراوغة وتعقيدًا.
١٢٢
فإذا كان تحليل نص الشافعي قد تكشف عن أن كافة المركزيات المنتجة للتقديس في خطابه،
إنما تدور وتنبثق من مركزية النسب-الأصل، فإنه يبدو أن تحليل هذا التمركز الشافعي حول
النسب-الأصل قد اقتضى تجاوز تحليل النص (وهو الوحدة الصغرى في الخطاب) إلى تحليل الشخص،
تجربة ومسيرة. وهنا فإن تحليلًا أوليًّا قد آل إلى إمكان القراءة الفرويدية للشافعي (وهو
الأمر الممكن للأشعري أيضًا) الشخص (وليس النص)، وأعني زوج أم الأشعري، التي كانت أحد
أهم
الدوافع الخفية وراء تحولات الأشعري، التي يكاد ينتظمها ثابت الإعلاء والتسامي.
وبالطبع فإنه كان لا بد مع اكتمال تأسيس التقديس من خلال الأشعري وأفراد سلالته
الكبيرة،
١٢٣ وانسرابه إلى بناء الثقافة، بل واستحالته إلى أحد أهم ثوابت النظام العميق، ألا
تتوقف الثقافة عن إنتاجه أبدًا في صور وأشكال شتى، تتضافر كلها من أجل إضفاء التقديس
وخلعه
على أنظمة وأفكار وأشخاص، وعلى نحو راح يتيسر معه التعالي بالحكام (الذين سيتكشف الخطاب
لاحقًا، ومع الغزالي والرازي بالذات، عن أنهم هم موضوع التقديس وقصده) إلى مقام الآلهة،
أو
حتى أنصافها،
١٢٤ وبالمبشرين بهم وحاملي صولجانهم إلى مصافِّ الأنبياء، وحتى بالأيديولوجيين
وخادمي البلاط إلى حضرة الأولياء، الذين ليس لأحد أن يقاربهم سؤالًا واعتراضًا، وإلا
فهو
التكفير جزاء من يخرق أستار التقديس، فتنكشف عورات أحمق تعيس، ويسقط القناع عن جلالة
الرئيس.