الفصل الثاني

المأزق الديمقراطي العربي

مقاربة معرفية

١

إذا كان لا بد للحضارة — أي حضارة — من فكرة تقوم عليها،١ فإن الوحي، بلا شك، هو الفكرة التي قامت عليها الحضارة الإسلامية، وإلى حد أنه «لو لم يكن هناك قرآن (أو وحي) لما قام التراث القديم، ولما نشأت الحضارة الإسلامية.»٢ وإذ قد يُصار، هكذا، إلى أن الوحي قد تنزَّل من مصدر مُفارِق، وعلى نحو يبدو معه أدنى إلى الفكرة المفروضة من الخارج، والتي يستحيل أن تكون مؤسسة لأي حضارة، فإنه يلزم التأكيد على أن كون الوحي من مصدر مفارق، لا يحيل بالضرورة إلى أنه، هو نفسه، من طبيعة مفارقة.

إذ الحق أن تحليلًا للسياقات التي تشكَّل فيها، تكشف عن أنه قد تشكل في التاريخ، وبالتاريخ، ومن أجل التاريخ؛ الأمر الذي يعني أنه ليس أبدًا مجرد مبدأ قسري مفروض على الحضارة من الخارج، بسبب طبيعته المفارقة، بقدر ما هو المبدأ الباطني المعبِّر عن روحها الذاتي، وذلك بصرف النظر عن مصدره المفارق؛ والذي يلزم عن تصور فعله ضمن سياق لا تاريخي نقض مبدأ الوحي ذاته؛ لأنه أبدًا فعل في التاريخ، لا خارجه.

والحق أنه يستحيل، رغم المصدر المفارق، تصور مضمون الوحي نفسه من طبيعة مفارقة؛ لأن من طبيعة المفارق أنه المكتمل والمتطابق مع ذاته على نحو مطلق؛ ولذلك فإنه لا ينطوي على أي نزوع نحو مفارقة ذاته، ولا يعرف أبدًا إلا مجرد التوحد معها. إنه هوية باطنة مغلقة لا ترتبط إلا بنفسها، ويحيل اكتمالها وتطابقها مع ذاتها إلى ذلك الضرب من الوجود — في ذاته — être-en-soi، الذي تصوره سارتر، وجودًا مصمتًا بالنسبة إلى نفسه، دون أن يكون فيه داخل يمكن أن يجعله في مقابل خارج على صورة شعور أو حكم أو قانون (يعني «وجود متحقق في الخارج»). وليس في هذا الوجود سر (يمكن أن يفضَّه التاريخ)، وهو وجود متكتل، جوانية لا يمكنها أن تتحقق، وتأكيد لا يمكنه أن يتأكد، ونشاط لا يمكنه أن يفعل، إنه ما هو عليه، ولا شيء أكثر من ذلك.٣ إنه، والحال كذلك، لا شيء أكثر من كونه مجرد هوية مصمتة يستحيل إلا تصورها خلوًا من أي حياة. وليس من شك في أن ذلك يعني أن تصور الوحي هوية مكتملة ومتطابقة مع ذاتها، إنما يئول إلى جموده ومواته،٤ حيث يغدو الاكتمال والتطابق مع الذات — حسب هذا الضرب من منطق الهوية — مجرد واقعة أولى يستحيل معها أي تطور أو تجاوز، وذلك فيما تحيل الحياة الوحي (وحتى ثراءه) إلى تصور اكتماله وتطابقه مع ذاته، واقعة نهائية تتبلور عبر ضروب من التحقق في أشكال وجود وخبرات تاريخية تخضع للتجاوز الدائم أبدًا.

والحق أنه لا شيء أكثر من تصور الوحي مجرد هوية لا ترتبط إلا بنفسها يجعله الأكثر فقرًا وخواء؛ لأن كون الفكرة — أي فكرة — لا ترتبط إلا بنفسها، إنما يحيل إلى أنها لا تعرف شيئًا إلا أن تكتفي بمجرد تكرار نفسها، وبحيث يستحيل وجودها كله إلى ضرب من التكرار الممل والفارغ الذي لا ينتهي. وليس من شك في أن الفكرة ضمن التكرار، لا تملك الاغتناء بشيء خارجها، ناهيك عن أن تغنيه بالطبع. وإذ العالم، في الخارج، يغتني بأشكال الوجود والخبرات الجديدة التي ينبثق عنها دومًا، بحسب طبيعته، فيما يكون التكرار الفارغ هو قانون حياة الفكرة، فإن ذلك يحيل إلى أن هذه الحياة (إذا صح أنها كذلك) لا تنبثق إلا عن الخواء والإفقار المتزايد.

ومن دون شك فإنه لا شيء يمنع الفكرة من تكرار نفسها، إلا أن تفارق إلى الارتباط بشيء خارج ذاتها في العالم. وهكذا فإن حياة الفكرة وثراءها، إنما يدفعانها إلى التخارج في العالم، والارتباط بأشكال وجود وصور مباينة لها. وبالطبع فإن هذا التخارج هو ما يجعل من الاختلاف، وليس مجرد الهوية الصورية، أحد عناصر علاقة الفكرة بذاتها؛٥ لأنها حسب هذا الضرب من الاختلاف تتخارج من ذاتها، لا لتغترب عنها أبدًا، بل لتعود إليها أكثر وعيًا بحدود وجودها وثراء ممكناته، وبآفاق تطورها، ومن هنا ضرورة هذا الجهد الخلاق الذي يتكشف عبره الوحي عن ضروب من التعين يتخارج فيها من ذاته، ليحققها في العالم في شكل إبداعات نظرية وثقافية وممارسات تاريخية، لا يمكن أن تكون تكرارًا، بل استيعابًا، لماهيته الخاصة، وارتفاعًا بها إلى آفاق أكثر رحابة، وبما يجعل الوحي يجد فيها ثراء حياته الحقة.
ولعل من قبيل المفارقة حقًّا أن تصور الوحي موضوعًا للتكرار، إنما يئول إلى تكريس تناهيه وجزئيته، وذلك من حيث يستحيل التكرار — أي تكرار — إلا في إطار تصور للمعنى يكون مجرد معطًى نهائي، وليس كلية لا تتناهى صيرورة اكتمالها أبدًا. وهذا التصور للمعنى يكون مجرد معطًى نهائي، وليس تكوينًا مفتوحًا إنما يئول إلى ضرورة تصوره على نحو يكون فيه محددًا وجزئيًّا، وهكذا فإنه ينتهي حقًّا إلى تكريس تناهيه وجزئيته.٦

ومن جهة أخرى، فإنه إذا كان التكرار يتأسس على الانتزاع الكامل للفكرة من سياقها (التاريخي والمعرفي) الخاص، فإنه يئول بذلك إلى اعتسافها واختزالها، والعجز المطلق عن إدراكها وفهمها حقًّا، وتلك سمات الوعي المكرر الذي لا يعرف كيف يتجاوز، لا مجرد جزئية موضوعه، وهو الأهم.

وإذن فإنه يستحيل، تبعًا لذلك كله، أن يحتفظ الوحي بماهيته الخاصة، أو صورته التي تنزَّل بها في لحظة ما، ويبقى مع ذلك حيًّا أو كليًّا، بل إن ذلك يُدخِله دائرة الاضمحلال والجمود، حيث الماهية بمجردها لا تنطوي على غير الخواء والتناهي، الذي لا يمكن تبديده إلا عبر الإغناء التاريخي لها بشتى ضروب الخبرة والتطور والوعي.

والحق أنه يلزم التنويه، هنا، بأنه إذا كان ثمة من يخشى تصور الوحي «هوية تغتني بشيء خارجها»؛ فإن ثمة من راح يرى، وأعني ابن عربي، أن الذات الإلهية نفسها تخضع لنفس مبدأ التخارج والتعلق بشيء خارجها، فإنه لما شاء الحق سبحانه، من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء، أن يرى أعيانها (بظهورها الذي يقتضي وجود العالم مع ما فيه، حتى الإنسان) وإن شئت قلت أن يرى عينه (لأن أعيانها عينه)، وهو ما يحيل إلى علاقة الهوية بين الحق وبين هذه الأعيان-الموجودات، في كون جامع يحصر الأمر كله، لكونه متصفًا بالوجود، ويظهر به سره إليه (أي أن يرى (الحق) عينه في كون جامع، ويظهر بذلك الكون سره، أي: وجوده الخفي إليه)؛ فإن رؤية الشيء نفسه ما هي مثل رؤية نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإن بين رؤيتين فرقًا بيِّنًا، وليست الرؤية الأولى (أعني رؤية الحق نفسه في نفسه) مثل الثانية (أي: رؤية الحق نفسه في أمر آخر)، فإنه يظهر له في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل، ولا تجليه له،٧ وهو ما يعني أن الاختلاف والتباين يظهر للحق من ذاته ما لم يكن ليظهر له من دونه أبدًا.

ولعل هذا الظهور لجوانب من ذات الحق لم تكن لتظهر له نفسه من غير وجود الخلق؛ يتجلى، على نحو لافت، من خلال قراءة للحديث القدسي الذي أولاه ابن عربي اهتمامًا كبيرًا: «كنت كنزًا مخفيًّا، فأردت أن أُعرَف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني (أو عُرفت).» إذ يبدو أن الحق لم يكن مخفيًّا من غيره فقط، بل عن ذاته أيضًا؛ لأن آخَر أو غيرًا لم يكن هناك ليكون الحق مخفيًّا عنه؛ ولهذا فإنه الخفاء عن ذات أدركت منذ الأزل ضرورة الآخَرية، لبيان حضورها الخلاق، وليس الخفاء عن آخر ليس له بعدُ وجود. وهكذا، فلعل الحق لم يرد فقط أن يُعرف من الآخر، بل لعله أراد، بالأحرى، أن يتعرف ذاته الحقة عبر الآخر، الذي هو، في حقيقته، هذه الذات بعد أن تخارجت في العالم، وهكذا تتأكد جوهرية التخارج في آخر من أجل التعرف على الذات الحقة، واكتمال الوعي بها. وإذ صار البعض إلى تعلق هذا المبدأ بالله نفسه، فإن تعلقه بالوحي يكون أولى لا محالة.

٢

وإذا كان تخارج الوحي يعني تحققه في الأنظمة الثقافية ومؤسسات تاريخية، فإن التأويل ينبثق باعتباره الأداة التي يحقِّق عبرها الوحي تخارجه في هذه الأنظمة، وتلك المؤسسات، وهو ما يعني أن التأويل هو الكيفية التي ينتظم الوحي عبرها العالم ويحكمه.

وهنا يلزم التمييز بين حكم الوحي عبر التأويل، وبين مفهوم الحاكمية المتداول بقوة في الأدبيات السلفية الراهنة؛ ذلك أن المفهوم الراهن للحاكمية إنما يتكشف فقط عن الحضور المطلق لنص الوحي بمجرده، ودون أي فاعلية للبشر بإزائه (فهمًا وتأويلًا)؛ الأمر الذي يئول، لا محالة، إلى الإهدار الكامل لقدرة الوحي على أن يكون فاعلًا في العالم،٨ وذلك من حيث يبدو المعنى في الوحي، ضمن هذا السياق، هو معطًى مطلقًا غير مشروط بأي فاعلية إنسانية أو تاريخية، بينما العالم، في جوهره، هو تكوين تاريخي لا يقبل الانحصار ضمن حدود أي معطًى مطلق.

وإذا كان التكوين التاريخي لعالم الإسلام قد راح يتحقق من خلال الإمامة «التي أخذت — ومنذ وقت مبكر جدًّا — تمثِّل الأساس المركزي لكلٍّ من الفكر والممارسة في هذا العالم الآخذ في التبلور»، فإن ذلك يكشف عن الارتباط الجوهري والعميق بين كلٍّ من التأويل، باعتباره الأداة التي يتخارج عبرها الوحي في العالم، وبين الإمامة باعتبارها الأداة التي يتكون عبرها هذا العالم نفسه تاريخيًّا.

إذ التخارج النظري للوحي، عبر التأويل، في ضروب من الإبداع الفكري والثقافي، يبقي محض التجريد ما لم يتعين في ضروب من الممارسة الواقعية (الاجتماعية والسياسية)،٩ وأعني ما لم يتحقق في نظام دولة يحققه ويتحقق به في آنٍ معًا. وبالطبع فإن هذه الدولة تتبلور، لا كمجرد شكل سياسي فقير لتنظيم المجتمع، أو بالأحرى قمعه، وذلك بسبب كونه مفروضًا على المجتمع من خارجه، بل كتحقيق للفكرة الحضارية الخاصة بهذا المجتمع،١٠ وعلى النحو الذي تكون فيه هذه الدولة أساس ومركز العينية في حياة المجتمع، أعني أساس ومركز الفن والقانون والأخلاق والدين والعلم،١١ ولهذا فإنها (أي: الدولة حسب التصور) تستحق أن تكون جوهر التاريخ وروحه، وإلى حد يستحيل معه التاريخ تمامًا دونها. وإذا كان يبدو، هكذا، أن هذه الدولة «هي الأصل في التكون التاريخي للعالم، وذلك من حيث يستحيل — وحسب هيجل بالطبع — الحديث عن عالم تاريخي تكون قبلها، فإنه يمكن القول بأن الإمامة بدورها هي الأصل في التكون التاريخي لعالم الإسلام، وذلك من حيث ارتبط التشكل التاريخي لكلٍّ من الفكر والممارسة في الإسلام بإشكاليتها المركزية».١٢ وبالطبع فإنها الإمامة «حين تصبح أساس ومركز العناصر العينية في حياة المجتمع، كالأدب واللغة والفقه والأخلاق، وحتى العلم، وسائر فروع الفكر الديني».١٣ وأعني حين تصبح أساسًا لكل نشاط فاعل وخلاق للذات الإنسانية بإزاء الوحي فهمًا وتأويلًا، وتحقيقًا له في هياكل وأبنية سياسية واجتماعية، وتتجاوز كونها مجرد ممارسة سياسية جدباء، أو حتى تنظيرًا فقيرًا لها، تمثله بجلاء نصوص الآداب السلطانية المتأخرة.
وإذن فإنها الإمامة حين تصبح قرينة التأويل وصنوه،١٤ وهو الاقتران الذي لمحه الصحابي الجليل «عمار بن ياسر» من خلف غبار المعارك في صفين، حين رأى في الصراع الدائر على الإمامة آنذاك مجرد قناع للصراع على التأويل.١٥ ثم أكَّد الاقترانَ نفسه ابنُ قتيبة، وهو بصدد تأويل مختلف الحديث، حين ربط بين اختلاف الناس على التأويل، وبين تنازع سلطانين، كل واحد منهما يطلب الأمر ويدعيه لنفسه.١٦ وهكذا تتجاوز الإمامة كونها مجرد سياسة فقط،١٧ وذلك من حيث تبدو السياسة فيها مشروطة بحضور تأويلي ينتظمها؛ الأمر الذي يعني أن تجد الدولة، هكذا، ما يؤسسها ثقافيًّا في مبدأ باطني خاص، هو الوحي وتأويله، ومن هنا قوتها وتمكُّنها. ولعله يلزم التنويه بأن قوة الدولة — ضمن هذا السياق — لا تتأسس على مجرد خضوعها للوحي، وذلك من حيث إن الوحي يمثل عندئذٍ مبدأ قسريًّا يفرض نفسه على الدولة من الخارج، وأعني أنه يصبح مبدأ خارجيًّا فقط. وإذ المبدأ الخارجي لا يمكن أن يكون أساس أي وحدة أو تماسك باطنيَّين؛ فإن وحدة الدولة وتماسكها يصبحان، هكذا، خارجيَّين أيضًا، الأمر الذي يكرِّس، تبعًا لذلك، ضعف الدولة وهشاشتها، وليس قوتها وتماسكها.١٨ وأما أن يكون الوحي مبدأ باطنيًّا للدولة، غير مفروض عليها من الخارج، فإنه يعني أن تكون وحدتها وتماسكها باطنيين أيضًا. ومن هنا، لا شك، قوة الدولة، أعني من حيث كونها تمثل تجسيدًا لمبدأ باطني خاص (هو الوحي في حالة الدولة الإسلامية التقليدية، التي كان لا بد أن يتوقف انهيارها وتفككها، تبعًا لذلك، على تحول الوحي بتأثير العجز عن تطويره وإغنائه، إلى مبدأ خارجي يغطي وحدتها الهشة).
ومن هنا اختلاف هذه الدولة في طور قوتها عن الدولة العربية الراهنة، التي واجهت ظروف عجز الدولة التقليدية السابقة عليها، لقرون طويلة، عن تطور المبدأ الحضاري الذي كانت تقوم عليه؛ الأمر الذي أحاله إلى مبدأ خارجي يغطي وحدتها الهشة، وهو ما آل بها أخيرًا إلى التفكك والانهيار،١٩ فاضطُرت وريثتها (أعني الدولة القُطرية الراهنة) إلى استعارة مبدأ آخر تقوم عليه، وكان ذلك هو المبدأ العلماني، الذي كان قد أثبت فاعلية كبيرة في سياق آخر، ثم استحالت هذه الفاعلية إلى قوة النار والبارود، التي عانى منها آخرون خارج حدوده. وهكذا فإنه، ورغم القيمة القصوى لهذا المبدأ وجدواه في سياقه الخاص، إلا أنه قد استحال، وبسبب الفرض القسري له من الخارج على دولة لا تنتمي إليه ثقافيًّا، إلى مجرد قشرة هشة تُخفي ضعف هذه الدولة وهشاشتها، بل وتكشف عن كون وجودها ذاته مرهونًا بإرادة خارجية محضة،٢٠ ومن دون أن يكون تجسيدًا لمبدأ باطني ذاتي؛ الأمر الذي يكشف بالطبع عن عَرَضية وجودها ولاجوهريته.

وهنا، فإنه إذا كان البعض قد أدرك عجز هذه الدولة الراهنة شاملًا، فاندفع يسعى إلى استعارة المبدأ التراثي القديم الذي أسس لدولة السلف، فإن هذا المبدأ لا يمكن، بالكيفية التي يُستعار بها، أن يمثل أي تجاوز لمأزق الدولة الراهنة، بل لعله يفاقم مأساتها، وذلك من حيث لا يعرف، بدوره، إلا مجرد الفرض القسري للمبدأ السلفي على الدولة من الخارج، الأمر الذي لن يئول إلا إلى دولة هشة غير متماسكة أيضًا.

إذ الأمر يقتضي تحويل المبدأ السلفي من مبدأ خارجي يُفرض قسرًا على تلك الدولة، إلى مبدأ باطني يخصها، وهو ما يتعذر إلا عبر فعالية تأويلية تغيب عن الوعي السلفي الراهن لسوء الحظ. والحق أن كلا المبدأين (السلفي والعلماني) في حاجة إلى مقاربة إبداعية كيما يتحول كلٌّ منهما من مبدأ خارجي محض يُفرض على الدولة الراهنة من خارجها، إلى مبدأ باطني ذاتي يؤسس لجوهرية وجودها وفاعليته.

ولعل ذلك يكشف عن حقيقة أنه فيما يقوم الجذر الأعمق للاستبداد في هذا الفرض القسري لمبدأ حضاري على مجتمع أو دولة لا تنتمي إليه ثقافيًّا، فإن الحضور الإنساني الفاعل والخلاق، وذلك عبر المقاربة الإبداعية لكلا المبدأين (السلفي والعلماني)، لكي يستحيلا من مبادئ خارجية تُفرض قسرًا من الخارج إلى مبادئ ذاتية باطنية، هو ما يؤسس — في المقابل — لعالم أكثر تسامحًا وأقل تسلطية.

إذ الحق أن تسلطية الدولة الحديثة في العالم العربي إنما تُستفاد من هذا الجذر الأعمق المنتِج لكل استبداد، وأعني من الفرض القسري للمبادئ والأفكار، بدلًا من مقاربتها إبداعيًّا وإعادة إنتاجها.٢١ وإذا كان ذلك يعني أن تجاوز الاستبداد، على صعيد كلٍّ من الثقافة والسياسة، إنما يرتبط بحضور فاعل للإنسان مبدعًا ومنتجًا للمبادئ والأفكار، وليس مجرد مكرر ومستهلك لها، فإن الأمر — لسوء الحظ — قد مضى فيما يتعلق بتطور كلٍّ من الثقافة والسياسة، في العالم الإسلامي على غير هذا النحو.

٣

لعل الثقافة هي النتاج الذي يحيل عبره الإنسان كل ما لا ينتمي إليه من أشياء العالم وكائناته، إلى وجودات تخصه، وبناءات تنتمي إلى عالمه؛ الأمر الذي يعني أنها الوسط الذي يسعى من خلاله الإنسان إلى أنسنة العالم، وفرض هيمنته عليه، وجعله وجودًا يخصه ويعنيه. ولهذا فإن كل الأشياء في العالم تنفصل، من خلال الثقافة، عن وجودها المحايد (الطبيعي والزماني) الذي يفتقر للمعنى، وتستحيل إلى وجود تاريخي مسكون بالمعنى والدلالة يخص الإنسان وينتمي إليه.٢٢ وفي كلمة واحدة، فإن الثقافة هي الذات الإنسانية تتخارج في العالم، وتفيض من روحها على موجوداته وأشيائه.
وإذا كان يبدو أن الثقافة، على العموم، هي السعي إلى بناء العالم من منظور إنساني، فإنه يبدو، لسوء الحظ، أن تطور الثقافة الإسلامية قد راح يمضي في الأغلب، لا في اتجاه تكريس الطابع الإنساني للعالم، بل في اتجاه التنكر لهذا الطابع بالأحرى. ولعل ذلك يرتبط بحقيقة أن هذه الثقافة قد ابتدأت تبلوُرها في سياق حقل كان قد راح، هو نفسه، يسجل منذ فترة مبكرة تغييبًا مطردًا للإنسان وتهميشًا له، وأعني بذلك حقل السياسة.٢٣ ولهذا فإن أي تحليل لهذه الثقافة، وللفكر العربي الإسلامي، سواء كان من منظور بنيوي أو من منظور تاريخاني، سيظل ناقصًا، وستكون نتائجه مضلِّلة إذا لم يأخذ في حسابه دور السياسة في توجيه هذا الفكر، وتحديد مساره ومنعرجاته، حيث إن اللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحددها العلم (كالحال في التجربتين اليونانية والأوروبية الحديثة، وإنما كانت تحددها السياسة).٢٤
فمنذ البدء، يشهد حقل تبلور الثقافة الإسلامية أن منتجيها كانوا صناعًا للسياسة، ثم انتهت بهم إحباطاتهم في هذا الحقل إلى الانشغال بخطاب الثقافة. ولعل ذلك ما يؤكد حقيقة أن الفرق الإسلامية، التي راح يتبلور معها خطاب الثقافة الإسلامية لأول مرة، قد انتهت إلى هذا المصير بعد حقبة تزيد على القرن، كانت تسعى خلالها إلى تغيير العالم من خلال ممارسة السياسة، وآل بها الإخفاق في هذه الممارسة إلى الانشغال بالتنظير في حقل الثقافة، فالملاحَظ أن الفرق الأولى عامة قد تبلورت أولًا بوصفها أحزابًا للمعارضة السياسية، وقد اتخذت هذه المعارضة، في البدء، شكلًا عمليًّا، تمثَّل في العديد من الثورات التي أضرمها كلٌّ من الشيعة والخوارج والمعتزلة ضد السلطة القائمة. وإذ جوبِهَت هذه الفرق بالقمع والإبادة العنيفة؛ فإن ذلك قد اضطرها إلى تبنِّي ميكانيزمات دفاعية ملائمة، تجلَّت، على نحو خاص، في الانكفاء على الذات، والتحول بالمعارضة من ميدان «السيف» إلى ميدان «القلم»، أو من السياسة إلى الثقافة، وهكذا راحت تصوغ أنساقًا ثقافية وعقائدية مضادة لتلك التي تروِّج لها السلطة. ولقد كان ذلك هو ما حدث، مثلًا، مع التشيع — الذي انبثقت منه كل فرق الإسلام، سواء بالمعارضة أو المعاضدة — والذي ظل مدة طويلة عنوانًا على حركة سياسة فقط، ولم يتحول إلى نسق نظري مغلق إلا مع الإمام جعفر الصادق (١٤٨ﻫ)، وهشام بن الحكم، وذلك بعد أن عانى التشيع من ضروب القمع السلطوي ما عجز — في صورته الأولى — عن تحمُّله، والحق أن الأمر نفسه ينطبق على الاعتزال وغيره.٢٥
ولسوء الحظ فإنه يبدو أن هذا التحول من السياسة إلى الثقافة، قد اتخذ شكل التحول من «الأنثروبولوجي أو الإنساني، إلى الثيولوجي أو اللاهوتي»، أو من العياني إلى المجرد؛ وكان ذلك لأن البعض راح يتعالى بالصراع من صراع في «الأرض»، مجاله السياسة، إلى صراع في «السماء»، حقله الثقافة. وبالطبع فإن ذلك كان يعكس جوهر أزمة هذه الثقافة، التي راح «الإنساني» يتعرض للتهميش فيها، وذلك فيما تقصد الثقافة، من حيث هي كذلك، إلى ترسيخ حضوره وتكريس فاعليته. وهكذا، فإنه إذا كان ابن خلدون قد راح يبرر أولوية السياسة على الثقافة بأن حاجة الدولة في ابتداء أمرها إلى «القلم» تكون أدنى من حاجتها إلى «السيف»؛ فإنه يبقى أن ترتيبه للعلاقة بينهما ينطوي على تصور «السيف» يصنع أحداثًا ويخلق أوضاعًا، ينشغل «القلم» بتكريسها والحفاظ عليها.٢٦ وبالطبع فإنه ليس من سبيل إلى ذلك أفضل من التعالي بجوهر الصراع في العالم من العياني إلى المجرد.
والغريب حقًّا أن خطابات المعارضة داخل هذه الثقافة لم تفلح في كسر هيمنة الخطاب السائد وتقويض سطوته، بقدر ما راحت تتماهى، غير واعية فيما يبدو، مع سعيه إلى التعالي من الأنثروبولوجي إلى الثيولوجي. ولعل ذلك يرتبط بحقيقة أن الخطاب السائد لم يسلك بحياد تجاه تلك الخطابات المضادة، بل مارس عليها ضغوطًا وانزياحات كانت شديدة الفعالية؛ لأنها راحت تجد ما يدعمها في سياق المعرفي يتضمن سيادة نمط من التفكير النقلي من جهة،٢٧ وفي شرط تاريخي واجتماعي يتجاوب مع هذا النمط التفكيري من جهة أخرى.٢٨ وهكذا راحت هذه الخطابات النقدية تعاني حصارًا جعلها تندفع — ولو على نحو غير واعٍ — إلى تبنِّي بعض آليات الخطاب السائد. وهنا يُشار، على سبيل المثال، إلى أنه إذا كان الاعتزال قد انبنى على أولوية العياني على المجرد، الأمر الذي يتجلى في أسبقية العدل (وهو المبحث العيني الخاص بالإنسان) على التوحيد (وهو المبحث المجرد الخاص بالله)، وكان ذلك هو مصدر جذريته في مواجهة الخطاب السائد في الثقافة، الذي انبنى، في المقابل، على أولوية المجرد على العياني، أو التوحيد على العدل (وهذا بالطبع إذا كان ثمة وجود للعدل أصلًا)؛ فإن أمر الاعتزال لم يقف عند مجرد انسراب هذه الآلية النقيضة إليه، وبحيث راح، ومع القاضي عبد الجبار بالذات،٢٩ ينبني حسب هذه الأولوية للتوحيد على العدل، بل إن ثمة من سيأتي بعد القاضي (وأعني تلميذه النيسابوري) قاصرًا كتابته على التوحيد فقط من دون العدل، الأمر الذي يعني أن الاعتزال أخيرًا قد راح ينبني، على نحو نهائي، طبقًا لآليات الخطاب النقيض. والحق أن الأمر يتجاوز الاعتزال إلى غيره من الخطابات المناوئة للخطاب السائد داخل الثقافة الإسلامية، والتي تتجلى مأساتها الحقة في كونها لم تقف فقط عند حدود العجز عن كسر هيمنة هذا الخطاب السائد وتجاوزه، بل لعلها راحت تدعمه وتدور في فلكه، حين راحت الآليات المنتجة لهذا الخطاب السائد ونظامه تتسرب إليها، فتشكِّلها حسب نظامه، وتُخضِعها لهيمنته وتوجيهه، فبدت هذه الخطابات مناوئةً للخطاب السائد على السطح، ومكرِّسة له في العمق.٣٠
وإذا كان يبدو، هكذا، أن تطورًا داخل الثقافة بأسرها قد راح يمضي في اتجاه تهميش الإنسان، وسلب فاعليته، وذلك من حيث لم تفلح حتى الخطابات المعارضة في تقويض هذا الاتجاه، بل إنها راحت تخضع لهيمنته وتوجيهه — كما سبق القول — فإنه يلزم التأكيد على أنه تطور بالفعل كان يعكس الاتجاه المتزايد نحو تهميش فاعلية الإنسان ومسئوليته في مجال السياسة؛ إذ إن الممارسة السياسية الإسلامية تشهد، منذ الفتنة، ابتعادًا دائمًا عن المبدأ، الذي حافظت عليه الخلافة ضمن حدود ما، وأعني به مبدأ مشاركة المحكومين في الفعل السياسي،٣١ وذلك في اتجاه تركيز هذا الفعل بكامله في شخص الحاكم فقط.
وإذا كانت نقطة البدء في هذا الاتجاه السياسي تنطلق من عثمان، الذي راح ينظر للخلافة بوصفها قميصًا قمَّصه الله إياه، ولا دخل للناس في الأمر، فإن خلفاءه وورثته من الأمويين قد تبنَّوا هذه السياسة على نحو كامل، وإن كان بكيفيةٍ مراوِغة تناسب دهاء معاوية، مؤسس هذه السياسة.٣٢ ولقد كان ذلك ما صار إليه أحد معارضيهم من المعتزلة الأوائل، حين اتجه بخطابه إلى الحسن البصري، المعارض الأكبر للأمويين، شاكيًا أن هؤلاء الملوك (يتحدث هكذا عن ملوك، لا خلفاء أو أمراء للمؤمنين) يسفكون دماء المسلمين، ويأكلون أموالهم، ويقولون إنما أعمالنا تجري على قدر الله، فكشف بذلك عن جوهر سياستهم، التي دارت حول نفي القدرة والفاعلية عن الإنسان (محكومًا)، ونفي المسئولية عنه (حاكمًا)؛ ولهذا فإنه لن يكون غريبًا أن يمضي أحد معارضيهم من المعتزلة المتأخرين هذه المرة إلى أن الجبر عقيدة أموية.٣٣ وهنا يلزم التأكيد على حقيقة أنه رغم كون النص يخايل بأن الجبر المقصود هو الجبر الديني، فإن أحداث التاريخ وشواهده لتكشف — على نحو لا خفاء فيه — عن أنه كان، في العمق، جبرًا سياسيًّا، وذلك من حيث راح يوفر الأساس الأيديولوجي لسلطة تسعى إلى تغييب الحضور الإنساني بالكلية، لا في مواجهة الله حسب مخايلة «الجبر الديني»، بل في مواجهة الحكام، الذين لم يجدوا ما هو أفضل من «الله» يُخفون وراءه جملة ممارستهم الباطشة واللاإنسانية.

وإذ الأمر، هنا، يتعلق بالسياسة التاريخية، كما مورست بالفعل، وليس بالسياسة النظرية كما كُتب عنها؛ فإنه يبدو أن الأمر في السياسة النظرية قد مضى، رغم طابعها المثالي والوعظي، في اتجاه تبرير ضروب من السلطة تستمد أساسها من مجرد الغلبة أو الشوكة، وليس من رضاء المحكومين وإرادتهم الحرة. وهكذا فإن الأمر في السياسة لم يتطور أبدًا إلى الأفضل، بل لعله راح ينحدر إلى الأسوأ، لا في مجال الممارسة فقط، بل وفي حقل الخطاب أيضًا. ولسوء الحظ، فإنه يبدو أن المعارضين في حقل السياسة لم يكونوا أفضل حالًا من الناقدين في خطاب الثقافة، وذلك من حيث لم يقفوا، فقط عند حدود العجز عن طرح ما يتجاوز السياسة القائمة، وبل ولأنهم راحوا كذلك يكرِّسون تلك السياسة، حيث مضَوا يمارسون حسب قواعد نظامها.

وهنا يُشار، على سبيل المثال كذلك، إلى أنه إذا كان قد بدا للشيعة أن خلافة الإمام علي، وآل البيت عمومًا، غير مرغوبة أو مستحبة للبشر، فإنهم قد انتهَوا من ذلك إلى أن «إرادة الأرض» تعارض خلافة لم يشكُّوا لحظة واحدة في أنها المؤهلة وحدها لتحقيق «إرادة السماء»؛ ولهذا فإنهم قد انشغلوا بالبحث عن إرادة أعلى تستند إليها الإمامة مطلقًا، حتى لقد مضَوا إلى أنه ليس للناس أن يتحكموا فيمن يعينه الله هاديًا ومرشدًا لعامة البشر، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه؛ لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمل أعباء «الإمامة» العامة، وهداية البشر قاطبة، يجب ألا يُعرف إلا بتعريف الله، ولا يُعيَّن إلا بتعيينه، فالإمامة كالنبوة، لا تكون إلا بالنص من الله تعالى.٣٤ وهكذا صارت الإمامة شأنًا من شئون السماء التي لا دخل للبشر فيها مطلقًا.
ولو أن الظرف التاريخي كان يسمح للشيعة بأكثر من ذلك، لأدركوا أن ما بلغوه لم يكن حلًّا يتجاوز مأزق السياسة القائمة، بقدر ما كان يمثِّل تحولًا من نمط سياسي ينبني على هيمنة أرستقراطية ذات مضمون «قَبَلي» Tribal، إلى آخر ينبني على سيادة أرستقراطية ذات مضمون ديني. وإذ انحصرت الأرستقراطية الأولى في الأجنحة المتميزة اجتماعيًّا واقتصاديًّا من قريش، فإن الأخرى قد انحصرت في جناحها المتميز دينيًّا، وأعني آل البيت خاصة. وهكذا قدم الشيعة تجاوزًا مقلوبًا لمأزق ما كان ليتسنى تجاوزه إ لا عبر المزيد من «الأنسنة»، والتسييس الديمقراطي، وليس الأرستقراطي. لقد كان إذن تحولًا، وليس تجاوزًا؛ إذ التجاوز الحق كان يمكن أن يتحقق، لا باستعارة مضمون مغاير للنمط السياسي السائد نفسه، بل بتفجير هذا النمط شكلًا ومضمونًا، والبحث عن شكل ومضمون جديدين، لعله كان يمكن بلوغهما لو تأمل الذهن المغزى الحق لتولي ابن أبي طالب للخلافة، الذي تحقق بإرادة حرة ذات مضمون اجتماعي لافت، حيث مارسها أولئك الذين أسماهم معاوية «الأوباش» و«الحمقى» و«الغوغاء». وبالرغم من أن هذا التحول قد أمدَّ النسق الشيعي بقدرة هائلة على الصمود والمقاومة، وذلك من حيث أحال الموت في سبيل الإمامة إلى ضرب من الاستشهاد لأجلها؛ فإنه قد راح يمثل مأزقًا لذات النسق أيضًا، وذلك من حيث آل، في خطاب الثقافة، إلى نفي فاعلية الإنسان وتهميشه على نحو يكاد أن يكون تامًّا، حين انتهى إلى تصور التاريخ فضاء «انتظار» لعودة الإمام الذي غاب (أعني المهدي)، ليملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا وظلامًا. وهكذا فإن قصد التاريخ وغايته لا يتحققان، حسب هذه الفكرة المهدوية، كنتاج لفاعلية الإنسان (وعيًا وممارسة) في مواجهة عالمه، وبفضله — وهي مواجهة يضع فيها العالم عقباته المتنوعة أمام الإنسان، الذي يتجاوزها، بالطبع، عبر المزيد من الوعي والفعل الخلاق، محققًا عبر هذا التجاوز تاريخًا ينتسب إليه حقًّا — بل يتحققان (أي: قصد التاريخ وغايته) بمجرد ظهور المهدي المخلِّص، وبدون أي جهد من الإنسان، الذي لا حضور له ضمن هذا السياق «فاعلًا»، بل الحضور له «منتظرًا» فقط أن يتحقق وعد الله، و«شاهدًا» على تحققه. وهكذا آل الأمر إلى غياب للإنسان في نسق لم يكن ليحقق أهدافه، في مواجهة خصومه، إلا من خلال حضوره وفعله، وتلك مفارقته التي أدركها البعض، وراح يسعى إلى تجاوزها. وهنا يُشار إلى جهود علي شريعتي وغيره من مفكري التشيع المعاصر.

وإذن فقد بدا أن الخطاب الواحد الذي ساد في كلٍّ من السياسة والثقافة، وراح ينسرب إلى الخطابات المناوئة فيعيقها عن زحزحته، ويخضعها لهيمنته، كان هو قدر التجربة التاريخية للإسلام، ولسوء الحظ، فإن الثقافة لم تكتفِ فقط بأن تعكس ما جرى في مجال السياسة من تهميش للإنسان وتغييب له، بل إنها راحت تستره وتغطي عليه بالزخارف والإكسسوارات ذات الطابع المثالي، وعلى نحو يدعمه بما يطيل أمد بقائه، حتى لقد استحالت، هي نفسها، إلى جذر وأساس يستمد منه هذا الوضع النافي للإنسان أسباب وجوده، الأمر الذي يعني أنها قد استحالت إلى بنية متعالية، بعد أن استقلت عن الواقع الشارط لها، وراحت تمارس فعلها في الواقع بعد ذلك، على نحو متعالٍ وغير مشروط. وليس من شك في أن هذا الفعل في الواقع، على هذا النحو المتعالي وغير المشروط، لا بد أن يئول، حتمًا، إلى واقع يعيد إنتاج نفسه؛ لأنه ما لم يحقق الذهن الامتلاك النقدي والواعي لهذه الثقافة، فإنه لن يفعل إلا أن يعيد إنتاجها أبدًا، الأمر الذي يعني أنها والواقع أيضًا لا يمكن أن يكون موضوعًا لأي تطور أو تجاوز.

ومن هنا ضرورة التحليل النقدي لخطاب هذه الثقافة؛ توطئةً لامتلاك الوعي بها، والذي يُعَد الشرط اللازم لكل سعي نحو خلخلة جذور الاستبداد وغياب الإنسان في بناء كلٍّ من الواقع والوعي الراهن؛ وذلك لأن الواقع، على قول غادامير، ليس مجرد قوًى تفرض ذاتها، ولكن هو اتحاد القوة والمعنى. وما لم يكتشف الوعي هذا المعنى (ويمتلكه)، فإن الواقع يرتد إلى مستوى اللامعقول، وتضيع جهود كل ثقافة جادة من أجل جعل العالم قابلًا للفهم والتوجيه، بل إنها تصبح أصلًا لإعادة إنتاجه هو نفسه.

٤

انطلاقًا من أنه يمكن التمييز، ضمن أي ثقافة، بين «المجال» الذي تتحقق فيه علومًا وفنونًا وممارساتٍ من جهة، وبين النظام الذي يفسر كل ما يتحقق في مجالها وينتظمه من جهة أخرى؛ فإن نقطة البدء في أي تحليل لثقافةٍ ما، لا بد أن تنطلق من ضرورة الوعي بحدود هذه الثقافة وحقول تحققها، وكذا بالنظام البنيوي القادر، فيما وراء هذه الحقول (المعرفية)، على منحها المعقولية والقابلية للتفسير. وإذا كان تحليلًا منتجًا للثقافة، لا بد بالطبع أن يتجاوز مجرد الوقوف عند «مجالها»، إلى الْتماس «نظامها»، فإنه يمكن المصير إلى أنه إذا كانت الثقافة الإسلامية تنطوي على حشد كبير من الحقول المعرفية، أو العلوم التي راحت تتشكل من خلالها، كعلوم الدين واللغة والآداب والعلوم العقلية والإنسانية، بل وحتى ضروب الممارسة الفنية والتقنية، فإن تحليلها المنتج لا بد أن يتجاوز مجرد الرصد الخارجي لحقولها المتعددة (الذي يقف عند مجرد الوصف الجامد لموضوعاتها، والتأريخ لها كوحدات معزولة) إلى اكتشاف نظام علاقاتها الباطنية، ورصد بنيتها العميقة.

وهنا، فإن وعيًا بهذا النظام الباطني لا يمكن التماسه أبدًا إلا ابتداءً من تحليل هذه الحقول نفسها، تحليلًا لا يحصر نفسه ضمن الحدود الجزئية لكل واحد من هذه الحقول، بل ينفتح من خلالها على ما يشملها ويتعداها في آن معًا. فرغم أنه لا يمكن بلوغ البنية العميقة لنظام ثقافة ما، إلا من خلال التحليل المعرفي لأحد النصوص الجزئية التي تنتمي إلى هذه الثقافة؛ فإن هذا النظام يتجاوز، لا شك، إطار هذا النص الجزئي، إلى ما يشمله مع غيره من نصوص، ليس فقط داخل حقله المعرفي الخاص (كالحديث أو التاريخ أو التفسير مثلًا)، بل وضمن سائر الحقول المعرفية داخل نفس الثقافة. الأمر الذي يعني أن نظام الثقافة إنما يشمل النص الجزئي ويتعداه في آن معًا. وهكذا، فإنه إذا كان نص ما (كصحيح البخاري مثلًا) ينتمي إلى حقل معرفي جزئي، (هو الحديث)، فإنه نظام الثقافة يطويهما معًا في جوفه، ويتجاوزهما أيضًا إلى الانطواء على غيرهما من النصوص والحقول.

ورغم أنه يبدو هكذا، فإنه لا يمكن الْتماس النظام الكلي للثقافة إلا ابتداء من حقولها الجزئية، وأن ذلك لا يعني أبدًا أولوية هذه الحقول (الجزئية) على النظام (الكلي)؛ إذ الحق أن الثقافة تحقِّق هذه الحقول المعرفية في جزئيتها، بنفس القدر الذي تحقِّق به هذه الحقول الثقافة في كليتها، حيث الثقافة لا يُوعَى بها بوصفها نظامًا كليًّا إلا عبر هذه الحقول، تمامًا كما أن هذه الحقول لا تكتسب المعقولية والقابلية للتفسير إلا عبر انتمائها إلى نظام كلي ينفي عنها جزئيتها المضادة للعلم. وهكذا، فإن الجدلية، وليست القَبْلية priorism، هي مضمون العلاقة بين الثقافة وسائر حقولها ونصوصها. وإذا كانت كافة الحقول المعرفية، التي تنتمي إلى نظام ثقافة ما، تتضافر جميعًا — وبكيفيات متباينة — في صوغ بنية هذا النظام والتعبير عنه، فإنها تتباين فيما بينهما في درجة انكشافها وتجليها عن هذا النظام، ونظام إنتاج المعرفة المتداول في محيط كل منها.٣٥

وبما يعني أن حقلًا معرفيًّا يكون أكثر قدرة من غيره على التعبير الأجلى، والصياغة الأكمل لهذا النظام، ولعل ذلك يرتبط في التحليل الأخير بالطبيعة الخاصة للموضوع المدروس في كل واحد من هذا الحقول؛ إذ ثمة من هذه الحقول المعرفية ما يكون ابتداءً من الطبيعة الخاصة لموضوعه أكثر مقاربة للتنظير والتجريد، في مقابل غيره الذي تفرض طبيعة موضوعه الخاصة ارتباطًا بالظاهرة الجزئية، بكل ما تنطوي عليه من كثافة وقتامة تشوش على الحضور الجلي للنظام البنيوي.

وإذا كان يبدو، هكذا، أن النظام البنيوي لثقافة ما، إنما يتبدَّى من غير تشويش في أكثر حقول هذه الثقافة مقاربةً للتنظير والتجريد؛ فإن ذلك يعني أن الفلسفة هي مجال التجلي الأظهر لأنظمة الثقافة؛ إذ يعكس الطابع النظري المجرد للنشاط الفلسفي، من جهة، درجة من الشفافية لا ينطوي عليها أي حقل معرفي آخر، ومن هنا قدرة الفلسفة على التكشف، أكثر من غيرها، عن نظام الثقافة التي تنتمي إليها. ومن جهة أخرى، فإنه إذا كان نظام الثقافة ينطوي على جملة القواعد والشروط (المعرفية) الفاعلة في محيطها، والقائمة فيما وراء كل ما تنتجه من علوم ومعارف، فإن الفلسفة، بما هي الحقل الذي يجعل من نظام التفكير ضمن ثقافة أو حقبة ما (وليس التفكير الفردي، الذي هو موضوع علم النفس) موضوعًا له، ساعيًا إلى التماس قواعده الباطنة، وشروطه المؤسِّسة، ستكون هي الحقل الأقدر من غيره على إجلاء هذا النظام بلا تشويش.٣٦ وأخيرًا، فإنه إذا كان النظام في الثقافة هو كذلك لأنه كلي، فإن ذلك مما يجعل قرابته مع الفلسفة أقوى، وذلك من حيث لا تعرف الفلسفة لنفسها موضوعًا إلا الكلي، وليس الجزئي بكل ما ينطوي عليه من قصور ومحدودية.
وإذا كان التنظير الذي عرفته الثقافة الإسلامية قد ارتبط، حال تبلوره، بالدين على نحو جوهري؛ فإن ذلك يعني أن التماس نظام هذه الثقافة لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الحقل الأكثر مقاربة، لا لمجرد التنظير والتجريد فقط، بل وللمضمون الديني أيضًا. ولعله يكون الحقل علم الكلام، الذي مضى البعض، تأكيدًا لطابعه التنظيري، إلى أنه يمثل «الإبداع الفلسفي الأصيل للمسلمين»، فيما صار كثيرون، تأكيدًا لمضمونه الديني، إلى حد اعتباره علم أصول الدين أو التوحيد أو الذات والصفات أو العقائد. وليس من شك في أن هذا العلم كان لا بد أن ينطوي انطلاقًا من كونه الأكثر تنظيرًا، والأكثر انشغالًا بالمضمون الديني، على التشكل الأكمل، والتعبير الأجلى عن نظام بنية الثقافة الإسلامية؛ ولذلك فإنه العلم الأكثر مركزية فيها، تلك المركزية التي راحت تتجلى في اعتبار الانتماء في العلم، لا مجرد محدِّد للانتماء في العقيدة أو الدين فقط، بل محدِّد للانتماء (أو عدمه) إلى الثقافة بأسرها.٣٧
وكذا فيما انتهت إليه حقول معرفية شتى داخل الثقافة من السعي إلى هذا العلم، تستعير مفاهيمه، وحتى مقولاته، كأسانيد نظرية، وإطارات مرجعية، تعالج من خلالها بعض مشكلاتها وقضاياها الخاصة. بل إن مركزية العلم قد راحت تتجاوز مجرد ذلك إلى أن إنجازات معرفية هامة، قد تبلورت خارج حدوده الخاصة، ابتداء من الانشغال بقضاياه المركزية،٣٨ وأيضًا تنبثق المركزية من حقيقة أن آليات وطرائق إنتاج المعرفة المتداولة ضمن نظام الثقافة الإسلامية قد راحت تجد، ضمن هذا العالم لا سواه، تسويغها النظري الذي كان لا بد أن يرتفع بها من مجرد ممارسة جزئية تفتقر إلى ما يؤسسها في بنية معرفية أشمل؛ ولهذا فإنه إذا كان الاشتغال بتلك الآليات، أو بعضها، قد تم في العقائد (وهي موضوع علم الكلام) لاحقًا على الاشتغال بها في علوم أخرى أثناء التدوين؛ فإن الاشتغال بها في العقائد قد ارتفع بها، بالطبع، من فقر الممارسة التي يعزوها التأسيس، إلى إغنائها بالتأسيس المعرفي الشامل.٣٩ ولعل ذلك ما تؤكده حقيقة أن منهج الرواية وصحة السند — الذي سبق الإلماح إلى كونه الآلية التي انبنت أثناء التدوين بحسبها علومُ التفسير والحديث واللغة والآداب — قد ظل مجرد ممارسة تفتقر لأي تسويغ نظري، إلى أن ارتفعت به نظرية الجوهر الفرد، ذات الحضور المركزي في النسق الأشعري، من هذا المستوى الفقير، إلى مستوى الآلية التي تأسست ميتافيزيقيًّا وأنطولوجيًّا. وهكذا، فإن الأمر في العلم لم يكن يتعلق إذن بمجرد صياغة قواعد العقائد، بل والأهم بصياغة قواعد التفكير وآلياته التي اشتغلت بها الثقافة بأسرها. ولعل ذلك يكشف عن أن سعيًا نحو تحليل الثقافة الإسلامية، توطئةً لاكتشاف نظامها، لا بد أن يتخذ نقطة بدئه من هذا العلم المركزي، بل إنه يمكن القول — انطلاقًا من أن ضربًا من القطيعة مع الثقافة التراثية، عبر استيعابها وتجاوزها، لم يتحقق بعد — إن الأمر، فيما يتعلق باتخاذ العلم نقطة بدء في التحليل، يتجاوز إطار الثقافة التراثية، إلى الثقافة الحداثية أيضًا.٤٠
واللافت أن رصدًا للسياق التاريخي الذي تشكل فيه هذا العلم المركزي — والذي يُعَد، في العمق، سياقًا لتشكُّل نظام الثقافة ذاتها — ليتكشف عن ضروب من الاجتهاد والتعدد، سرعان ما توارت، لتدع الدرب فسيحًا أمام هيمنة لا هوادة فيها لواحد منها فقط. وبالطبع فإن ذلك لم يكن أبدًا نتاجًا لتميزه الخاص، وتفوقه المبدئي، بقدر ما كان اعتمادًا على قوة خارجية، أو سلطة سياسية، استمدت منه بالذات المشروعية والتبرير، فراحت ترد له المقابل دعمًا وتكريسًا لهيمنته وسيادته، التي لم تكن عندئذٍ إلا مجرد هيمنتها الخاصة.٤١ وهكذا، فإن ما ينطوي عليه العلم من طابع استبعادي وإقصائي هو مجرد وجه لنفس الطابع، يقوم في عالم الممارسة، وانطلاقًا من أن جميع عناصر العلم ومباحثه الجزئية لا بد أن تتضافر في تكريس هذا الطابع الاستبعادي وتأكيده، فإنه يمكن الاكتفاء، بالطبع، بتحليل واحد فقط من هذه العناصر، حتى ولو كان مجرد التعريف الذي يقدمه العلم نفسه، أو يقدمه، بالأحرى، النسق المهيمن داخل العلم.
علم الكلام يتضمن الحجج (أو الدفاع) عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة.٤٢ هكذا راح النسق المهيمن داخل العلم يطرح، على لسان أحد كبار منتجيه، تعريفًا للعلم لا شك في جدارته. والحق أن جدارة هذا التعريف، الذي ينطوي على التبلور النهائي للتصور الأشعري للعلم، لا تتأتَّى فقط من كونه يصدر عن أشعري متأخر، هو ابن خلدون، بل والأهم، لأنه يصدر عن أهم مؤرخ للعلوم الإسلامية في عصره؛ وإذن فإنها الجدارة المزدوجة معرفيًّا وعقائديًّا.

وإذ كان ما يُلاحَظ على هذا التعريف، لأول وهلة، أنه يتكشف عن مجرد السعي إلى تقديم العلم على نحو عقائدي خالص، فإن الوقوف عند بعض التساؤلات التي يثيرها، وهي كثيرة، لتتكفل بالكشف عن مضمون مغاير بالكلية.

ولعل أول وأهم ما يُثار من تساؤل يتعلق بالخصم الذي يدافع العلم عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية في مواجهته. فإذ يخايل التعريف بأن هذا الدفاع قد تبلور في مواجهة الخارجين على العقائد، سواء من أهل الديانات الأخرى، أو الذين ينكرون الأديان على العموم، الأمر الذي يعني أن العلم قد تبلور أساسًا من الانشغال بالخصومة مع الآخر غير المسلم، فإنه يبدو، على العكس، أن نقطة البدء في تبلور العلم هي صراعات الداخل وخصوماته، حيث الصراع على الإمامة، وما ارتبط به من مسائل القدر ومرتكب الكبيرة وغيرها، كان أول وأهم ما اصطرعت حوله الفرق وراحت تبلور العلم، ابتداء من التفكير فيه. ولهذا فإن العلم لم ينشأ — حسبما يخايل التعريف — مدافعًا عن عقائد الإسلام في مواجهة الخارجين عليه، بل نشأ، بالأحرى، من خلافات الفرق التي اشتعلت أولًا صراعًا في العالم، ثم تنظيرًا في العقائد.

وإذ كان يبدو، هكذا، أن الأمر في حاجة إلى نوع من التحليل التاريخي لرصد السياقات السياسية التي تبلور فيها العلم؛ فإن ذلك ما يمكن إنجازه لا من خارج العلم، بل من العلم ذاته، وأعني من مجرد رصد التباين بين نوعين من المصنفات داخل العلم؛ أولاهما، وهي الأسبق ظهورًا، تختص بالتأريخ للفرق، والأخرى، ذات الظهور المتأخر، تختص بوضع نظام العقائد. وتتجلي دلالة هذا التباين في الكشف عن حقيقة أن العلم قد تبلور، أولًا، كنوع من التأريخ (السياسي والديني) للفرق، ثم راح يكتسي طابعًا نظريًّا خالصًا للعقائد، وبالأحرى لعقائد الفريق الذي ساد وهيمن. ولعل هذه البداية للعلم تأريخًا للفرق التي تشكلت أساسًا من الانشغال بقضية الإمامة (أو السياسة)؛ تقطع بأن السياسة، لا الإيمان، كانت هي الإطار الذي تبلور العلم من الانشغال به، مدافعًا عن موقف في مواجهة الآخر، ومنحازًا لفريق ضد آخر من الفرق المتناحرة داخل الإسلام ذاته، ثم راح (أي: العلم) يكتسي طابعًا نظريًّا، استحالت معه الإمامة، وهي جذره العيني الأول، إلى مجرد هامش تافه يسعى العلم لتغييبه، ليحيل نفسه إلى بنية عقائدية مقدسة ينبغي تلقِّيها بالتسليم والخضوع، دون أي مساءلة أو نقد. ولعل هذا السعي إلى تجنُّب المساءلة والنقد هو المسئول عن تقديم العلم على نحو عقائدي خالص.

فإذ يتخذ العلم من عقائد الإيمان موضوعًا له، يثبته ويدافع عنه، فإنما ليوهم بأن نقده إنما يمثل نقدًا لموضوعه (وهو العقائد). وإذ يتعذر طبعًا نقد هذا الموضوع، نظرًا لحساسيته الخاصة، فإن ذلك يحيل إلى استحالة نقد العلم نفسه، انطلاقًا من استحالة نقد موضوعه الذي يتوحد معه. وهكذا يقدم العلم نفسه، ومنذ البدء، باعتباره غير قابل لأي نقد أو مساءلة.

والعجيب أنه إذا كان هذا الجزء من التعريف، قد انطوى على السعي إلى إخفاء ما يتضمنه العلم من الانحياز لفريق من المسلمين ضد الآخر (وبما يعنيه ذلك من السكوت عن الأصل السياسي للعلم)، خلف الشعار النبيل الخاص بالدفاع عن العقائد على العموم؛ فإن الجزء الثاني من التعريف قد صار إلى كشف هذا المسكوت عنه وفضحه، لأن ما صار إليه التعريف في هذا الجزء من أن العلم يتضمن أيضًا «الرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة»، لا يكتفي فقط بتحديد الفريق الذي ينحاز له العلم (وهو أهل السنة والسلف)، بل ويضع اعتقادات هذا الفريق كمعيار يُعَد المخالف له مبتدعًا ومنحرفًا، «فاستبدل الانحراف بالمغايرة والاختلاف والابتداع» بالرأي والاجتهاد. ولعله كان يمكن — لولا الانحياز المسبق — كتابة هذا الجزء من التعريف بلغة محايدة تشير إلى الرد على مجرد المخالفين (وليس المبتدعة المنحرفين) لاعتقاد أهل السنة. ولكن النص آثر استخدام لغة مسكونة بحكم قيمة سلبي على نحو مطلق، حيث لا تكتفي بالإشارة إلى مجرد الانحراف بما ينطوي عليه من دلالة أخلاقية سلبية، بل وإلى الابتداع بما ينطوي عليه من الضلالة المفضية إلى سوء المصير، وذلك بالطبع توطئة لنفي المخالف وإقصائه، لا في هذا العالم فقط، بل وفي العالم الآخر أيضًا.

وبالطبع فإن هذه اللغة المسكونة بالانحياز لا بد أن تسرب انحيازها إلى القارئ الذي يصبح، ابتداء من هذا الانحياز المسبق الذي تسرب عليه، غير قادر على إنتاج معرفة حقة بموضوع العلم، سواء ما يتعلق منه النتاج الفكري لكافة المخالفين لأهل السنة والأشاعرة (أو الفريق السائد)، أو حتى ما يتعلق بالنتاج الفكري لهذا الفريق نفسه، وذلك من حيث تسرب هذه اللغة إلى القارئ حكم قيمة مسبقًا، يكون بالطبع إيجابيًّا في حال الفريق السائد، وسلبيًّا في حال خصومه، وليس من شك في أن هذه الأحكام المسبقة، سواء بالسلب أو الإيجاب، إنما تحول دون إنتاج القارئ لأي معرفة حقة بموضوعه.

وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى أن التعريف، في جزئيه، ينطوي على نزعتين تتضافران معًا في تغييب الإنسان والتنكر له، تتمثل أولاهما في تلك النزعة الاستبعادية الصارمة، التي تتجلى في نزوع الفريق أو النسق المهيمن داخل العلم على أن يضع نفسه في هوية واحدة مع الدين الحق، وبحيث يصبح الاختلاف معه لا اجتهادًا يكشف عن ثراء كلٍّ من الواقع والنص وتعدد الممكنات داخلهما، بل ضربًا من الانحراف عن الدين الحق، ونوعًا من الابتداع فيه. وهكذا، فإن النسق الأشعري قد راح مع البغدادي يلحُّ — تكريسًا لهيمنته٤٣ على أن يتماهى مع «الدين القويم والصراط المستقيم، مميزًا نفسه على الأنساق المناوئة، التي لا تعبر إلا عن الأهواء المنكوسة، والآراء المعكوسة».٤٤ فهو نسق القوامة والاستقامة، في مقابل الهوى والضلالة، نسق الفرقة الناجية، في مقابل الأخريات الهالكة، نسق الجماعة وأهل السنة، في مقابل أهل الفرقة والبدعة. وهكذا يتوازى النسقان، ولا يلتقيان، في سلسلة من الثنائيات المتضادة، التي تئول دومًا إلى استبقاء واحد منها فقط، ونفي وإقصاء ما عداه؛ إذ كيف لخطاب الرأي والهوى أن يوجد وهناك القوامة والاستقامة؟! إن مآله، لا ريب، هو النفي من حقل الملة والأمة معًا، وإن النفي والإقصاء يلحقانه أيضًا خارج العالم، حيث لا شيء هناك إلا المصير «إلى الهاوية، والنار الحامية». وهكذا، فإن الإقصاء في العالم يتبعه الإقصاء خارجه، لا مفر، حيث الخطاب المهيمن هنا لا يكتفي بضمان النعيم لحامليه في الدارين، على النبذ الكامل لمخالفيه فيهما أيضًا.
وأما ثانية النزعتين، فإنها تتعلق بذلك النزوع إلى تغييب السياسة من بناء العلم، رغم الدور المركزي الذي لعبته في تبلوره. وإذا كان هذا التغييب للسياسة قد تبدى كجزء من سعي النسق الأشعري، الذي تماهى مع العلم، إلى تحويل نفسه لبنية مقدسة لا ارتباط لها بالتاريخ؛ فإن ثمة دلالة أخرى لهذا التغييب تأتي من التأكيد على الغياب الأعمق للإنسان، حيث السياسة هي، في الجوهر، بلورة لفاعلية الإنسان في العالم، سواء كان حاكمًا أو محكومًا. وهنا، فإن ما أشار الغزالي إلى اعتباره وظائف اعتقد كافة السلف وجوبها على العوام، والتي تتصاعد من التقديس والتصديق إلى الاعتراف بالعجز وعدم السؤال، ثم إلى الإمساك والكف، وحتى التسليم، أخيرًا، لأهل المعرفة والعلم،٤٥ الذين كان ينبغي أن يستحيلوا — ابتداء من ذلك كله — إلى مركز للسيادة العليا التي لا تكتفي فقط بإنتاج الشروط التي تؤسس لاستبداد السلطة الحاكمة، بل وتعمل على تأبيد هذه الشروط، وهو الأهم، حيث تتكشف هذه الوظائف على نحو نموذجين عن مجمل آليات الإلجام والكف والإسكات التي سادت محيط الثقافة، مكرسة لضرب من التسلط والاستبداد المعرفي، هو، في الأعمق، أحد أهم أقنعة الاستبداد السياسي. ولعل ذلك ما يؤكد أن الثقافة، من خلال النسق المهيمن فيها، قد مضت مع الغزالي تقرن الخروج على أي واحدة من هذه الوظائف بضرورة زجر العوام، والتنكيل بهم تنكيلًا يتصاعد بدوره من مجرد الضرب بالدرة إلى التلويح بالسيف والسنان.٤٦ وهكذا، فرغم أن الثقافة كانت في المجال الذي تبلورت فيه هذه الآليات وتشكلت، فإنه يبقى أن السياسة كانت، في العمق، هي الحقل الخفي والمسكوت عنه، الذي يُراد هذه الآليات أن تفعل فيه وتبنيه.
ولهذا، فرغم أن النسق قد راح يخايل بأن هذا التغييب للإنسان وقمعه، إنما يرتبط بالقصد إلى إفساح المجال أمام فاعلية الله المطلقة؛ فإن ما ينطوي عليه من إحاطة وضع الله ذاته بالحظر بسبب هذا التغييب للإنسان،٤٧ إنما يكشف عن القصد الآخر من وراء هذا التغييب. والملاحَظ أن النسق نفسه، ومن خلال فلتات لسانه، قد مضى يفضح هذا القصد الذي يسكت عنه، ويلحُّ على إخفائه، والذي لم يكن للأسف إلا السعي إلى إطلاق القدرة للسلاطين والحكام المستبدين، الذين لا يمكن أبدًا أن يجدوا ما هو أفضل من الله يتلاشى الإنسان تحت وطأته؛ إفساحًا، في الظاهر، لمطلق قدرته، وإنتاجًا في الباطن، لمجمل الشروط التي تجعل استبدادهم، لا مجرد شيء ممكن فحسب، بل أمرًا واجب الوجود، وكلي الحضور.
والحق أن هذه التغطية بالله على الاستبداد، إنما تجد ما يدعمها على نحو كامل، فيما يقيمه النسق، مع الغزالي أيضًا، من رفع للفارق بين الله والسلطان، وإلى حد تكريس ضرب من التماهي الخفي بينهما، حيث «الحضرة الإلهية لا تفهم، على قوله، إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية».٤٨ وإذا كان يبدو، هكذا، أن الغزالي قد أباح لنفسه استخدام منطق التماثل بين ما هو إنساني (الحضرة السلطانية) وما هو إلهي (الحضرة الإلهية)؛ فإنه لا يبيح أبدًا استخدام هذا التماثل حين يتعلق الأمر بالعلاقة بين العوام وغيرهم من أهل المعرفة والعلم، رغم أن الجميع ينتمون إلى عالم إنساني واحد، ويلح، في المقابل، على تكريس ضرب من التفاوت الصارم الذي «لا ينبغي (معه للعامي) أن يقيس بنفسه غيره، فلا تُقاس الملائكة بالحدادين، وليس ما يخلو منه مَخادع العجائز يلزم أن يخلو عنه خزائن الملوك. فقد خُلق الناس أشتاتًا متفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائر الجواهر، فانظر إلى تفاوتها وتباعد ما بينها لونًا وخاصية ونفاسة، فكذلك القلوب معادن لسائر جواهر المعارف، فبعضها معدن النبوة والولاية والعلم ومعرفة الله تعالى، وبعضها معدن للشهوات البهيمية والأخلاق الشيطانية».٤٩ وهكذا، فإنه فيما لا يتورع الغزالي عن تكريس التماثل بين الله والسلطان من جهة، فإنه يلح من جهة أخرى على تكريس التفاوت بين العوام وغيرهم من منتجي المعرفة ومالكيها، الذين يضيفون بهذا الامتلاك للثقافة رأسمال رمزيًّا يتواطأ مع الرأسمال الواقعي الذي يحوزونه أصلًا، وهو التواطؤ الذي كشف عنه الغزالي بدون قصد حين مضى يرفع الفارق بين خزائن الراسخين في العلم، التي تغصُّ بالمعارف والأسرار، وبين خزائن الملوك التي لا تعمر إلا بالنفائس والأموال. والحق أن كلًّا من التماثل والتفاوت ليسا هنا مجرد مقولتين معرفتين تلعبان دورًا في بناء النص، بل مقولتان سياسيتان تلعبان دورًا في بناء الواقع السياسي. إذ في حين يضع التماثلُ مع اللهِ السلطانَ فوق أي نقد أو مساءلة؛ فإن التفاوت يجعل العامي معدن الشهوات البهيمية والأخلاق الشيطانية، الأمر الذي يجعله مستوجبًا للزجر والتنكيل على الدوام.
وإذا كان يبدو، هكذا، أن التعريف يتكشف، في قسمَيه، عن القصد إلى تغييب الإنسان وقمعه؛ فإن هذا القصد قد راح يتحقق بالفعل داخل النسق عبر الإلغاء الكامل لقدرة الإنسان على الفعل والمعرفة والتقييم، بل وحتى الكينونة والوجود. وهكذا، فإنه إذا كان ثمة «برهان قاطع على أن كل ممكن تتعلق به قدرة الله تعالى، وكل حادث ممكن، وفعل العبد حادث، فهو إذن ممكن، فإن لم تتعلق به قدرة الله فهو محال»؛٥٠ فإن هذا النفي لقدرة الإنسان على الفعل كان لا بد أن يئول — على صعيد الأخلاق — إلى «المنع من أن يكون في العقل بمجرده الطريق إلى العلم بقبح فعل أو بحسنه»،٥١ وإلى التأكيد على استحالة أي معرفة ضمن حدود إنسانية على الإطلاق، حتى إن العلم بأمر من قبيل تمييز الأغذية من الأدوية والسموم القاتلة — لا مدخل فيه إلا للعقل والتجربة — قد صار «غير مُنال ولا مُدرَك من جهة العقول، وإن الناس محتاجون في علم ذلك إلى سمع وتوقيف».٥٢ وحتى فيما يتعلق بقضايا يستحيل مجرد التفكير فيها بمعزل عن نشاط الإنسان وفاعليته في التاريخ، مثل قضية الأسعار مثلًا، فإن القطع كان حاسمًا بأن «السعر يتعلق بما لا اختيار للعبد فيه»،٥٣ وأن السعر، غلاءً أو رخصًا، يكون «من قِبَل الله تعالى، الذي يخلق الرغائب في شرائه، ويوفر الدواعي على احتكاره».٥٤ وحتى فيما يتعلق بمجرد الوجود المادي للإنسان، فإنه قد أصبح — ابتداءً من انحلاله إلى جواهر وأعراض لا تنطوي على ما تقوم بها ذاتيًّا — عرضة للتصدع والتفتت والانهيار، وذلك من حيث يفتقر إلى أي مقوم داخلي أو باطني لوجوده ووحدته، ويبقى تقومه مستفادًا من الخارج فقط، وأعني من قدرة الله المطلقة، التي تتجلى، والحال كذلك، في الإبقاء على وحدة الجسم ووجوده.٥٥ والحق أن هذه الأنطولوجيا التي تنبني على شمول الإرادة وكلية القدرة، وليس اطراد القانون؛ هي قناع، في العمق، لواقع سياسي واجتماعي، ينبني بدوره على شمول الإرادة وكلية القدرة، وأعني إرادة المستبد وقدرته، التي تصبح آنئذٍ بديلًا لأي قانون ينتظم ممارسته في العالم.

وهكذا يئول الأمر إلى تجريد الإنسان من كافة ملكاته وممكناته، ليبقى المتسلط وحده خير من يعرف، وأصلح من يقرر، وأفعل من يوجد. ولسوء الحظ، فإن رؤانا للعالم قد تشكلت، وتبلور خيالنا السياسي والاجتماعي ضمن هذا السياق، وعلى النحو الذي جعل منا كيانات نموذجية بإزاء أي نظام متسلط؛ لأنها لا تكتفي بقبول التسلط مفروضًا عليها فقط، بل إنها تستدعيه وتصنعه حين لا تجده. وهنا يجدر التنويه باستحالة الحديث عن أي حقوق للإنسان في إطار خطاب لإنتاج التسلط يسكننا، ويمارس فاعليته في وعينا، لا على نحو غير مشعور به فحسب، بل، والأهم، على نحو يصعب في حال إنكاره فهم بنية وعينا ذاته وتفسيرها. إذ يقتضي الأمر أولًا تحررًا من هيمنة مثل هذا الخطاب، وذلك بتفكيكه وزحزحته وكسر طرق قداسته، بردِّه إلى التاريخ الذي أنتجه، والأيديولوجيا التي وجَّهته.

ولقد دام هذا الخطاب التراثي ينتج التسلط ويغذيه، إلى أن جاء وريثه الحداثي، فاضطلع بإنتاج المزيد من الآليات التي تطيل أمد بقائه. والحق أن ترتيبًا معكوسًا للعلاقة بين البنية المعرفية وسياقها الأيديولوجي هو ما يؤسس لإنتاج التسلط في الخطاب العربي المعاصر. وبمعنى أنه إذا كان إنتاج التسلط يرتبط في الخطاب التراثي بتحويل النسق المهيمن فيه لنفسه إلى بنية معرفية خالصة تتنكر للتاريخ، وتتسامى على الأيديولوجيا، فتحوز عبر هذا التنكر والتسامي كل سمات الإطلاق والقداسة، وبالشكل الذي تتمكن معه من التماهي مع الحق الخالص، وإقصاء كل ضروب الاجتهاد الأخرى، التي تقترن بالانحراف والابتداع؛ فإن إنتاجه (أي: التسلط) في وريثه الحداثي يربط، في المقابل، بوضعه لنفسه كفضاء تتناثر فيه رؤًى أيديولوجية عديدة عن التقدم والنهضة تتفق، بدورها، في الجهل والتنكر للسياق الإبستمولوجي الذي أنتجها.

وهكذا ينتج خطاب التسلط؛ مرة بأن يضع نفسه كإبستمولوجيا تتنكر للأيديولوجيا المنتجة لها، ومرة أخرى بأن يضع نفسه كأيديولوجيا تتنكر للإبستمولوجيا المنتجة لها.

فقد أظهر الخطاب العربي المعاصر، وهو خطاب الأيديولوجيا بامتياز، تناطحًا بين منظومات أيديولوجية شتى، رأت كل منها في نفسها المخرج الأوحد للواقع من أزمة جموده وتخلفه، لكنها جميعًا — والوضع الراهن خير شاهد — أخفقت في تجاوز هذه الأزمة؛ لأنها جاءت مفروضة على الواقع من خارجه، ودون أن تكون نتاجًا لتطور وتراكم يلحقان بنيته الداخلية. وهذا الفرض على الواقع من خارجه يعني أننا — مع كل تيارات الخطاب — بإزاء حل للأزمة مستعار، وفقط يأتي التباين بين تيار وآخر داخل الخطاب من تباين مصدر الاستعارة. وأعني أنه إذا كان الإسلاموي يستعير تجربة أسلافه العظام، فإن الليبرالي ينقل عن روح القوانين وتراث الليبرالية الأوروبية، وأما الماركسي فإنه لا يتميز عن سابقَيه إلا باستعارته لنص مغاير.

وهكذا الجميع مريدو طريقة واحدة، دون أدنى وعي بتباين السياقات التاريخية والمعرفية بين النموذج المستعار والواقع المستعار له. وإذن، فإنها إبستمولوجيا استعارة النماذج الجاهزة المعطاة، تهيمن على عقل الخطاب عند إنتاجه لأي معرفة بواقعه، وهي معرفة لا يمكن إلا أن تكون زائفة؛ لأنها لا تبدأ من الواقع لتصعد منه إلى نموذج عبر ضروب من التحليل والفهم، بل تبدأ من نموذج جاهز ثم تهبط منه إلى الواقع، فتبدو — ومع التجاوز بالطبع — أشبه بالوحي يتنزل بالأمر والنهي.

وفي هذا التنزل على الواقع من خارجه يكمن الجذر الأعمق للتسلط والاستبداد؛ إذ المعرفة هنا لا ترى الواقع حقلًا تتبلور منه وفيه، تنطلق منه ثم تعود إليه، في مراوحة مستمرة لا تنتهي، بل تراه مجرد موضوع لا بد أن ينصاع لشروطها ولو بالقسر. وهي تريده ليبراليًّا تارة، وماركسيًّا تارة، وسلفيًّا تارة أخرى، وحين يستعصي الواقع على الانصياع لما تريده، لأنها لم تنصع بدورها لمنطق تطوره الخاص، فإن تسلطها عليه بالسخرية والرفض يكون ردها الأوحد.

ولهذا فإن «التنكيت والتبكيت» كانا على الدوام جزءًا من بنية الخطاب العربي المعاصر، الذي عجز عن النفاذ إلى الواقع والتأثير فيه، فانطلق يسخر ويتهم، لعله يبرأ بذلك من شقاء وعيه وتناقضه.

والعجيب أن هذا النفي الذي انتظم العلاقة بين النماذج داخل الخطاب، وبين الواقع خارجه؛ قد انتظم العلاقة بين هذه النماذج نفسها أيضًا، بمعنى أن كل واحد منها قد راح يؤسس وجوده على نفي الآخر وإقصائه. فقد تحولت النماذج داخل الخطاب — وبسبب تنكُّره المزدوج لكلٍّ من تاريخها الذي أنتجها، ولتاريخ واقعه كذلك — إلى كيانات صورية مجردة، يكاد الواحد منها أن يحتفظ بوجوده الخاص في إطار وحدة أشمل، يحتفظ فيها كل نموذج باختلافه عن الآخر، ولكن مع ملاحظة أن اختلافه هنا لا يكون من أجل تأكيد ذاته، بل من أجل إثراء وإغناء وحدة عينية تحتويه وتتجاوزه في آن معًا. وهكذا تحول الخطاب من ساحة تتفجر في محيطها نماذجه، فتُثريه بتنوعها وتغنيه باختلافها، إلى ساحة يؤكد عليها كل نموذج وجوده الخاص. ولقد كان لزامًا أن يسعى كل نموذج في سياق تأكيده لوجوده الخاص، إلى نفي وإزاحة كل ما يزاحمه من نماذج تسعى، بدورها، إلى تأكيد وجودها الخاص على ساحة الخطاب، حتى لقد تحول الخطاب إلى مجرد ساحة للصراع يمارس عليها كل نموذج نفي الآخر وإزاحته. وضمن هذا السياق التناحري للنماذج (ليبرالية واشتراكية وقومية وسلفية … إلخ)؛ فإن الخطاب لم يفعل إلا أن راح يتوهم إمكان أن يصالح بينها ويوفق، لكنه أبدًا، وعلى مدى تاريخه، لم ينتج توفيقًا، بل أنتج على الدوام تلفيقًا. إذ الحق أن نماذج مضطرة بسبب طابعها الصوري المجرد، الناتج عن انفصالها عن الواقع، إلى أن ينفي كل منها الآخر، لا يمكن أن يكون بينها أي توفيق، بل لا شيء سوى التلفيق.

والحق أن طريقة الخطاب في إنتاج المعرفة (بكل من واقعه ونماذجه)، والتي تُعَد من بقايا الممارسة التراثية للعقل الفقهي في إنتاجه للمعرفة، قياسًا للفرع على نموذج جاهز، هو الأصل، لا تقوم إلا على افتراض الفكر مطلقًا خارج أي تحديد زماني أو مكاني.

وبالفعل فإن عقل الخطاب قد راح يرى في الأفكار أنساقًا تهيم في الفضاء بلا تاريخ أو سياق، فتصور — تبعًا لذلك — إمكان غرسها طوعًا أو كرهًا في سياقه الخاص، ومن هنا فقط راح الخطاب يسعى إلى استعارة الأفكار الأوروبية عن الليبرالية والتنوير، هادفًا إلى غرسها في سياقه التاريخي المغاير، وحين لم يطاوعه الواقع — وكان ذلك لازمًا على أي حال — فإنه قد انتهى تاريخيًّا إلى أن سلم مقاليد أموره للعسكر يسعَون للغرس كرهًا وقهرًا.

وهكذا انتهت الليبرالية في العالم العربي إلى التنكر لأصولها، والحق أنها لا بد أن تنتهي هكذا، لا لنقص في إخلاص الليبراليين عندنا، بل لاستحالة استعارتها بصورة نموذج جاهز يُفرض على الواقع من خارجه. وحين أخفق العسكر أيضًا في هذا المسعى — طوعًا أو كرهًا أيضًا — إلى استعارة أو غرس نموذجها السلفي المضاد، ورغم النفوذ المتعاظم لهذا النموذج، فإن مصيره لن يكون أبدًا أفضل من مصائر سابقيه؛ إذ الأمر لا يتعلق بمضمون النموذج المستعار المراد غرسه، بل يتعلق بآلية الاستعارة ذاتها كأداة لإنتاج معرفة زائفة بالواقع.

ولكن ذلك لا يعني التفكير — بطريقة حرق المراحل — في إمكان القفز على هذه المرحلة التي يسعى فيها النموذج السلفي للهيمنة؛ لأن ذلك يرتبط بقدرة العقل العربي على تجاوز مرحلة التفكير طبقًا لنموذج، الأمر الذي يبدو أنه غير قابل للتحقق إلا بعد أن يتبدى له إخفاق آخر نماذجه الجاهزة، أعني النموذج السلفي.

فعندئذٍ فقط سيدرك العقل ضرورة التحرر من إبستمولوجيا استعارة النماذج الجاهزة؛ هذه الإبستمولوجيا التي تبدو وكأن التسلط والعنف هما أهم ثوابتها البنيوية، وذلك من حيث تأبى الانصياع لمنطق الواقع، وتصر فقط على ضرورة انصياعه وخضوعه لشروط نموذجها المعطى إن طوعًا وإن قهرًا. ولعل تجاوز التسلط يكون، ضمن هذا السياق، مشروطًا بتجاوز هذه الإبستمولوجيا للاستعارة والاتباع، إلى أخرى للخلق والإبداع. إنه إذن ليس عملًا سياسيًّا، بقدر ما هو فعل معرفي يتحقق بتحرير العقل أولًا من هيمنة إبستمولوجيا النماذج الجاهزة، سعيًا إلى تكريس قدرته على التنظير للواقع على نحو مباشر، وليس بتوسط نموذج. والحق أن ذلك لن يتحقق إلا عبر نقد للعقل السائد في محيط الخطاب، نقدًا معرفيًّا يستهدف تفكيك وخلخلة آليات إنتاجه للمعرفة، وليس نقدًا أيديولوجيًّا مارسته كثيرًا فيالق الأيديولوجيين العرب، ومن دون كثير جدوى؛ لأنها لم تستطع الإفلات أبدًا، في طريقة إنتاجها لنقدها، من أحابيل ما تنتقد.

١  أفاض الفلاسفة الألمان — وعلى الأخص هيجل واشبنجلر، رغم تباينهما — في الحديث عن الروح الخاص بكل حضارة. إذ في حين يتبين هيجل في هذا الروح الخاص مجرد لحظة جزئية في مجرى التطور العام للروح المطلق، فإن اشبنجلر يراه — كالموناد عند ليبنتز — مجرد وحدة مقفلة على نفسها، وذلك من حيث إن الحضارة تعبِّر عن روح، وهذا الروح يختلف بين الحضارة والأخرى تمام الاختلاف في جوهره وأسلوبه وممكنات وجوده. انظر: هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ، ج١ (العقل في التاريخ)، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٨٠م، ص١٦١-١٦٢؛ واشبنجلر، تدهور الحضارة الغربية، ترجمة أحمد الشيباني، دار مكتبة الحياة، بيروت، ١٩٦٤م، ٣ أجزاء، والكتاب بأسره هو مجرد بسط لهذه الفكرة. ولا بد هنا من ملاحظة أن هذه الروح لا تمثِّل وجودًا متعاليًا على التاريخ، بحيث تبدو معطًى مطلقًا، ملقًى من الخارج، ومفروضًا مسبقًا، بقدر ما تتبلور في التاريخ — وإن في واحدة من لحظات تبلورها على الأقل — ثم تستقل بمجال خاص، يبدو غير خاضع لفعالية العملية التاريخية على نحو مباشر، لكنه، وحتى مع التجاوز عن الأصل الأنطولوجي لهذه الروح، فإنه لا إدراك لها أبدًا خارج التاريخ، الأمر الذي يعني أنها لا تنفصل — إن وجودًا أو إدراكًا — عن تاريخها أبدًا.
٢  حسن حنفي، التراث والتجديد، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص٣، ١٩٨٧م، ص١٣١. ويبدو لحسن الحظ أن ذلك يمثِّل مبدأ مطلقًا؛ إذ الدين هو المجال الذي تُقدِّم فيه الأمة لنفسها تعريفًا لما تعتقد أنه الحقيقي، وبوصفه النفس المتغلغلة في كل شيء جزئي، ولذلك فإن تصور الله يشكل الأساس العام لشخصية كل شعب من الشعوب. انظر: هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ، ج١ (سبق ذكره)، ص١٥٨.
٣  ج. سارتر، الوجود والعدم، ترجمة عبد الرحمن بدوي، منشورات دار الآداب، بيروت، ط١، ١٩٦٦م، ص٤٣.
٤  لعله يلزم التأكيد على أن الاكتمال — موضوع النقد هنا — هو بالطبع ما يخص التأويل لا التنزيل؛ إذ الحق أن ثمة مفارقة ينطوي عليها الوحي، بما هو «التنزيل»، في مقابل انفتاح ولاتناهي «التأويل»، حيث التأثير في التاريخ في حاجة، على الدوام، إلى فعل تأويلي منفتح وخلَّاق. وإذن فإنها مفارقة «الوحي» التي تجعله ينطوي على الاكتمال والانفتاح في آن معًا، أو تجعله بناء منطويًا على الهوية والاختلاف معًا.
٥  ولعل في ذلك ما يؤدي إلى ترسيخ أساس نظري للاختلاف، يسمح بقبوله كمبدأ أصيل في عالم الممارسة، وهو ما يُعَد التوطئة اللازمة لتكريس مبدأ التسامح، الذي يُعَد شرطًا لازمًا لبناء عالم إنساني حقيقي.
٦  وإذ لا ينطوي الوعي السلفي الراهن، في مصر وغيرها، إلا على مجرد التكرار الممل للوحي، فإن ذلك يكشف عن تصوُّره للوحي هويةً مغلقة لا تحيل إلا إلى نفسها، ولسوء الحظ فإن الوعي لا يرى في تصور الآخرين للوحي هوية تنفتح للعالم فتسعه وتتسع به في آنٍ معًا، مجرد تصور ممكن للوحي، بل يرى فيه ما يدنو من إنكاره. والحق أن الأمر لا يتعلق، في العمق، بالتباين بين تصورين أحدهما يقبل الوحي والآخر ينكره، بقدر ما يتعلق بالتباين بين علاقتين مع الوحي، إحداهما تكتفي بمجرد استهلاكه وتكراره، في حين تطمح الأخرى إلى إبداعه وإعادة إنتاجه ضمن شروط مستجدة.
٧  ابن عربي، فصوص الحكم، بشرح القاشاني، مكتبة الحلبي بمصر، القاهرة، ط٢، ١٩٦٦م، ص١١-١٢.
٨  بالطبع فإنها مفارقة الحاكمية التي تنتهي، والحال كذلك، إلى إهدار فاعلية الوحي، وذلك من حيث تبتغي تكريس هيمنته الشاملة، وهو الإهدار الذي يأتيها من نفي الإنسان وتغييبه؛ إذ الإنسان يُعَد جزءًا من تصميم بنية الوحي، لا بما هو مجرد قصد له، بل — والأهم — باعتباره أداة حياته الحقة في التاريخ. ولقد كان ذلك هو ما أدركه الإمام علي، عندما أثيرت مسألة «الحاكمية» للمرة الأولى أثناء حرب صفين، بعد أن رفع خصوم الإمام القرآنَ على أسنَّة الرماح، ودعَوا إلى تحكيم كتاب الله، واندفع بعض أنصار الإمام — وقد خدعتهم الحيلة — يرددون نفس الدعوى، فما كان من الإمام إلا أن راح ينبِّه أصحابه إلى أن القرآن إنما «هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما ينطق عنه الرجال»، وكان يعني بالطبع أنه ما من حضور للقرآن في العالم إلا من خلال الإنسان وبه.
٩  وبالطبع، فإنه يلزم التأكيد على أن هذه الضروب نفسها من الإبداع النظري تتحدد بنوع من الممارسة الواقعية القائمة، وإن عبر السعي إلى تجاوزها في الأغلب.
١٠  ومن حسن الحظ أن ذلك تحديدًا هو ما ينتهي إليه تحليل الدولة الإسلامية التقليدية عند مُنظِّريها الكبار، وأعني الفارابي وابن خلدون خاصة؛ إذ الدولة، عندهما، تبدو تجليًا للفكرة الحضارية الخاصة بمجتمعها، ومن هنا تمايزها عن دولة-المدينة اليونانية بما هي تحقق لفكرة حضارية مغايرة. ولهذا، فإنه بالرغم من انفتاح الفارابي خاصة على هذه الدولة الأخيرة، وإلى حد توظيف بعض مفاهيمها، فإن مدينته الفاضلة تحتفظ بتمايزها عن جمهورية أفلاطون، وذلك لتمايز الفكرة الحضارية التي ينطوي عليها كلٌّ منهما. ومن هنا أيضًا تمايزها عن الدولة العربية الراهنة، بما هي مجرد شكل سياسي مفروض على المجتمع من خارجه لقمعه وتدجينه.
١١  هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ، ج١ (العقل في التاريخ)، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٨٠م، ص١٥٦. ولكن لا ينبغي أن يُستفاد من ذلك أن الدولة هي خالقة هذه العناصر، وإلا لما كان هيجل نفسه قد أشار إلى أن صورة الدين تحدد صورة الدولة ودستورها (المصدر السابق، ص١٥٩). وإذن فإن الدولة تحقق هذه العناصر، بمثل ما تتحقق وتتحدد بها أيضًا، وذلك في جدلية يصعب التمييز فيها بين طرف فاعل وآخر منفعل.
١٢  فإذا ارتبط التبلور التاريخي بانتقال الإنسان من حالة الوجود الطبيعي إلى حالة الوجود الاجتماعي والسياسي المنظم، عبر العقل، فإن ذلك يؤكد على أن «الدولة» هي الأصل في التكوين التاريخي للعالم. وبالطبع فإن الأمر نفسه ينطبق على الإمامة، التي استطاعت بدورها أن ترتفع بالإنسان، في شبه الجزيرة، من حالة الوجود الطبيعي في قبيلة، إلى حالة الوجود الاجتماعي والسياسي المنظم في الدولة. ورغم أن القبيلة قد ظلت فاعلة وبقوة في بناء هذه الدولة، فإنها لم تعد هنا وجودًا مستقلًّا بذاته، بل راح يتجلى حضورها من خلال الدولة فقط.
١٣  ولعل كون الإمامة هي الأساس لكل هذا النشاط الإبداعي يتأتى من خلال انسراب البنية التي تبلورت في حقل معرفي، انبثق أساسًا من الانشغال بمعضلة الإمامة، إلى كافة الحقول المعرفية الأخرى التي أبدعتها الثقافة، فقد كان الانشغال بالإمامة هو الجذر الذي انبثق منه التعين النظري الأول للوحي في «علم الكلام»، وهذا العلم هو الحقل الذي تبلورت في فضائه الصياغة الأكمل لبنية الثقافة التراثية بأسرها، الأمر الذي راحت معه كافة الممارسات الإبداعية في الحقول المعرفية الأخرى (من تاريخ ونحو وفقه وبلاغة وتفسير وغيرها) تتوجه — تأكيدًا لانتمائها إلى نفس الثقافة — إلى البحث عن أسانيد نظرية من علم الكلام، تعالج من خلالها قضاياها الخاصة.
١٤  رغم أن الإمامة التي يقترن بها التأويل، على هذا النحو من العمق، تتجاوز كونها مجرد سياسة، فإن كون السياسة لا تغيب عنها، رغم كل شيء، يحيل إلى الرابطة الجوهرية التي عرفتها الثقافة العربية (التراثية والحداثية) بين الثقافة والسياسة، وإلى حد أن مسار الواحدة منها يكاد أن يكون نفس مسار الأخرى.
١٥  فإذ اتجه «ابن ياسر» بخطابه إلى الأمويين قائلًا:
نحن ضربناكمْ على تنزيلِهِ
واليومَ نَضرِبْكمْ على تأويلِهِ
نقلًا عن: كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، دار المعارف بمصر، ط٢، القاهرة، ١٩٦٦م، ص٤١٢؛ فإنه كان يكشف بذلك عن أن الإمامة (أو الخلافة)، كأصل للنزاع في صفين، هي المظهر، وأن التأويل هو الجوهر، ولكن من دون أن يعني ذلك لا جوهرية المظهر؛ لأنه لا يتحدد بالمضمون أو الجوهر فقط، بل يحدده أيضًا. فالأشعرية، مثلًا، كجوهر تأويلي لسلطة ما (هي السلطة التي سادت أبدًا) لم تكن تحدد السلطة (كمظهر لها) فقط، بل وتتحدد بها كذلك. ومن هنا وحدتهما معًا، أعني الإمامة والتأويل بالطبع.
١٦  ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، طبعة مصر، ١٣٢٦ﻫ، ص١٩٣. والحق أن هذا الوجه التأويلي للإمامة يتضاءل — وإلى حد الغياب أحيانًا — في النصوص السنية. ولم يكن ذلك فقط بتأثير المواجهة مع الشيعة، الذين اختزلوا الإمامة في مجرد التأويل، بل وبما حدث من الانقطاع الذي تكرَّس مع ولاية معاوية بين الأمراء والعلماء، حيث كان الأمراء — حسب ابن العربي — قبل هذا اليوم، وفي صدر الإسلام، هم العلماء، والرعية هم الجند، فاطرد النظام، وكان العوام القواد فريقًا، والأمراء فريقًا آخر. ثم فصَّل الله الأمر بحكمته البالغة وقضائه السابق، فصار العلماء فريقًا، والأمراء آخر. نقلًا عن: محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط١، ١٩٩٠م، ص٢٣٤. ولعل دلالة هذا الانفصال بين العلماء والأمراء تتمثل، لا في الانفصال المطلق بين الإمامة والتأويل، بل في الإشارة فقط إلى إمكان عدم توحدهما في شخص واحد، ولقد كان ذلك بالفعل هو جوهر التحول الجذري الذي عرفه المجتمع العربي الإسلامي ودولته مع معاوية (انظر: المصدر السابق، ص٢٣٥). ولعل ذلك ما يؤكد إصرار الشيعة، في المقابل، على توحيد الإمامة والتأويل في شخص واحد كجزء من تأسيسهم، بالطبع، بنموذج دولة التنزيل، حيث يتوحد في شخص الرسول الإمامة والتأويل في شخص واحد، بينما لا يُشترط ذلك عند أهل السنة، وذلك هو جوهر الخلاف بينهما.
١٧  ومن المفارقات أن ثمة، لابن قتيبة نفسه، نصًّا يختزل الإمامة في مجرد كونها سياسة فقط، وأعني به نصه الشهير «الإمامة والسياسة».
١٨  ولعل ذلك هو مأزق الدولة التي يسعى السلفيون، في مصر وغيرها، إلى تكريسها عبر الفرض القسري للمبدأ السلفي على الدولة من الخارج.
١٩  وبالطبع فإنني أعني دولة آل عثمان، التي لم تعرف شيئًا تقدمه للإسلام، على مدى القرون، إلا مجرد القوة تحميه بها، والحق أن الإسلام لم يكن على مدى هذه الفترة الطويلة في حاجة إلى قوة فقط، بقدر ما كانت حاجته ماسَّة إلى ضخِّ الدماء في شرايين حضارته الشاحبة، وذلك عبر تطوير مبدأ الوحي وإغنائه. وهنا لم يكن آل عثمان — الذين كانوا مجرد قبائل محاربة تركت مواطنها بغية القنص والاستحواذ، ودونما أي سند من حضارة أو تراث — يملكون البتة شيئًا يقدمونه للإسلام.
٢٠  إذ الدولة في البلدان العربية تشترك مع غيرها من الدول الواقعة على هامش مراكز الإنتاج والمعرفة، في أنها تعتمد في استمرارها على طبيعة علاقتها مع المراكز بأكثر مما ترتكز على مجتمعها. انظر: علي أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، دار التنوير، بيروت، ط١، ١٩٨٥م، ص١٩٩. ولعل ذلك يرتبط بظروف نشأة البورجوازيات أو النُّخَب العربية، التي كانت بيدها مهماز النهضة والاستقلال، في عصر تحول البورجوازية الأوروبية إلى الإمبريالية، وذلك ما فرض عليها طبيعة كمبرادورية تابعة، بحيث انصرف همها أولًا إلى تكييف مصالحها الخاصة مع مصالح البورجوازية الأوروبية المهيمنة، فجاء مشروعها كله محكومًا بهذا الهم لا غيره، حتى لقد لاح للبعض أن تاريخنا القومي الحديث ليس إلا تاريخ تطور أشكال ارتباط هذه الطبقة بالغرب الاستعماري، وتاريخ إعادة وتجديد جلدها وشكلها حسب تطور هذا النظام. انظر: برهان غليون، بيان مجرد من أجل الديمقراطية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط٤، ١٩٨٦م، ص٣٨.
٢١  انظر: علي مبروك، مساهمة في التحليل المعرفي للعنف السياسي، كتاب قضايا فكرية، العدد ١٣، ١٤ (الأصوليات الإسلامية)، أكتوبر ١٩٩٣م، ص٤٢٠–٤٢٦.
٢٢  وهكذا فإن حجرًا ما أو قطعة من المعدن أو الخشب هي مجرد شيء بلا هوية أو معنًى، ولكنها حين تتشكل طبقًا لمبدأ روحي ما، لا تصبح حجرًا أو قطعة من معدن، بل تشكيلًا يجسِّد روح حضارة أو نظام ثقافة ما.
٢٣  وهكذا، رغم أن السياسة تتحدد بالثقافة، فإنها تحددها كذلك.
٢٤  محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط١، ١٩٨٤م، ص٣٤٦.
٢٥  بل إنه إذا كان هذا التحول قد انبثق في الإسلام، بعد أن تبلورت حوله سلطة تحكم باسمه، وتمارس أقسى ضروب القمع العقلي والسياسي، حتى لقد آلت إلى ضرب من الاغتراب المادي والروحي للإنسان في العالم، فإن هذا التحول يبدو عامًّا وشاملًا، وذلك من حيث قدَّم هيجل تحليلًا لظاهرة التحول هذه يتعلق بالديانة المسيحية، في كتابه «وضعية الديانة المسيحية». وفيه رد هيجل تحول المسيحية من دين لا مجال فيه لاغتراب الإنسان عن ذاته، إلى مذهب كهنوتي جامد، إلى تحول المسيحية إلى «سلطة» تحقق أهدافها عن طريق خنق كل حرية للإرادة والعقل. ولهذا جعل هيجل مهمة جيلنا (وإذا كان يقصد جيله، فإنها مهمة جيلنا أيضًا) أن يضطلع بجمع الكنوز التي بعثرها أسلافنا لحساب السماء، وذلك عبر تقويض ما هو كهنوتي وجامد في المسيحية. انظر: محمود رجب، الاغتراب، دار المعارف بمصر، ط٢، ١٩٨٦م، ص١٢٥، ١٢٧، ١٣٣؛ وزكريا إبراهيم، هيجل، مكتبة مصر، القاهرة، ١٩٧٠م، ص٤٤-٤٥.
٢٦  فقد صار ابن خلدون إلى أن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة، يستعين بهما على أمره، إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف، ما دام أهلها في تمهيد أمرهم، أشد من الحاجة إلى القلم؛ لأن القلم في تلك الحال خادم فقط منفِّذ للحكم السلطاني، والسيف شريك في المعونة، وكذلك في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتها كما ذكرنا، ويقل أهلها بما ينالها من الهَرَم الذي قدَّمناه، فتحتاج الدولة إلى استظهار بأرباب السيوف، وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة والمدافعة عنها كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها، فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين، ويكون أرباب السيف حينئذٍ أوسع جاهًا، وأكثر نعمة، وأسنى إقطاعًا. وأما في وسط الدولة، فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف؛ لأنه قد تمهَّد أمره، ولم يبقَ همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضبط ومباهاة الدول وتنفيذ الأحكام، والقلم هو المعين له في ذلك، فتعظم الحاجة إلى تصريفه، وتكون السيوف مهملة في مضاجع أغمادها، إلا إذا نابت نائبة، أو دُعيت إلى سد فرجة، وما سوى ذلك فلا حاجة إليها، فيكون أرباب الأقلام في هذه الحالة أوسع جاهًا، وأعلى رتبة، وأعظم نعمة وثروة، وأقرب من السلطان مجلسًا، وأكثر إليه ترددًا، وفي خلواته نجيًّا (أي: مسامرًا)؛ لأنه (أي: القلم) حينئذٍ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه، والنظر في أعطافه، وتثقيف أطرافه، والمباهاة بأحواله، ويكون الوزراء حينئذٍ وأهل السيوف مستغنًى عنهم مُبعَدين عن باطن السلطان، حَذِرين على أنفسهم من بوادره. ابن خلدون، المقدمة، ج٢، دار نهضة مصر، القاهرة، ط٣، بدون تاريخ، ص٦٩٥-٦٩٦. وإذ يبدو ابن خلدون، هكذا، نموذجًا للمثقف الذي يرى في الثقافة مجرد مطية لصاحب الدولة، يمتطيها حين يشاء؛ فإن الغريب حقًّا أن ثمة مِن الحكام أنفسهم مَن كان أكثر وعيًا بالدور الذي يلعبه المثقف للسياسي. فهذا نظام الملك (الوزير العباسي المشهور) نموذج ﻟ «السياسي» الذي يعرف قيمة كبيرة ﻟ «المثقف»، الذي كانه الغزالي. فإذا كان من جملة ما سعى به البعض ضده عند السلطان أن قال للسلطان إنه لينفق في كل سنة على الفقهاء والصوفية والقراء (وهم مثقفو العصر) ثلاثمائة ألف دينار، ولو جيَّش بها جيشًا لطعن بها باب القسطنطينية! فاستحضر السلطان نظام الملك الوزير، واستفسره عن الحال. فقال: يا سلطان العالم، إنك تنفق على الجيوش المحارِبة في كل سنة أضعاف هذا المال، مع أن أقواهم وأرماهم لا تبلغ رميته ميلًا، ولا يضرب سيفه إلا ما قرب منه، وأنا أجيِّش لك جيشًا تصل من دعائهم سهام إلى العرش لا يحجبها شيء من الله. انظر: صدر الدين علي الحسيني، أخبار الأمراء والملوك السلجوقية، تحقيق محمد نور الدين، دار اقرأ، ط٢، بيروت، ١٩٨٦م، ص١٤٠-١٤١. وهكذا، فقد كان الحكام بحاجة ماسَّة إلى تقريب العلماء وتكريمهم ليؤيدوا سلطانهم الدنيوي بسلطان العلماء الروحي. انظر: أحمد الشرباصي، الغزالي والتصوف الإسلامي، دار الهلال، القاهرة، دون تاريخ، ص١٣.
٢٧  ولعل سيادة هذا النمط من التفكير النقلي تتأتى من أن النقل كان الآلية الجوهرية التي اشتغل بها العقل الإسلامي طوال حقبة ممتدة، وحتى اللحظة المركزية في تشكل الثقافة الإسلامية، أعني لحظة التدوين، بل وأثناء هذه اللحظة، وحتى بعدها؛ إذ الحق أن معظم العلوم التأسيسية في الثقافة، والتي كان يتشكَّل فيها العقل بمثل ما كان يشكِّلها، قد راحت تتبلور أساسًا حسب هذه الآلية النقلية، وحيث المؤلفون في التفسير في ذلك العصر كانوا يعتمدون على نقل ما رُوي من تفسير الآيات عند الصحابة والتابعين، فإن زادوا شيئًا فترجيح أحد هذه الأقوال. وكذلك الشأن في الحديث، أهم ما يشغل المحدِّث جمع الأحاديث وامتحان أسانيدها (رواتها ونَقَلتها)، لمعرفة جيدها من رديئها، وهكذا. ومثل ذلك يُقال في علم اللغة والأدب؛ إذ هما تأثرا بالعلوم الدينية، ونمط الرواية في الحديث، فاللغوي يروي ما سمع من العرب، أو يروي ما سمع من علماء شافهوا العرب، وهكذا، والأديب يروي ما سمع من أعرابي أو عالم، وكثيرًا ما يذكر السند كما يذكر المحدث، مثل الذي نرى في كتاب الأغاني. انظر: أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج٢، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٨م، ص١٦. وإذ يبدو، هكذا، أن النقل يمثِّل الآلية الجوهرية التي تشكلت بها الثقافة، فإن ذلك ما يبرر مركزيته داخلها.
٢٨  إذ الحق أن آلية التفكير النقلي كانت تلائم تمامًا وضعًا تاريخيًّا واجتماعيًّا، راح يقصد إلى تثبيت الأوضاع القائمة لصالح الأجنحة المتميزة اجتماعيًّا واقتصاديًّا من قريش، والتي حسمت الأمر لنفسها على نحو نهائي منذ الفتنة، وراحت تسعى إلى تثبيت دعائم سلطتها من خلال أنظمة الثقافة. والحق أنه يلزم التأكيد هنا على أنه فيما يكون العقل، خصوصًا حين يتسلح بالنقد، هو آلية نفي القائم وتقويضه، فإن نقيضه (النقل) في المقابل، يكون آلية تثبيت هذا القائم وتكريسه.
٢٩  والحق أن أولوية التوحيد على العدل عند القاضي عبد الجبار تتجاوز ما صار إليه البعض من أن قيمة التوحيد أعلى من قيمة العدل — انظر: تصدير أحمد فؤاد الأهواني لكتاب القاضي «شرح الأصول الخمسة»، نشرة عبد الكريم العثماني، مكتبة وهبة، القاهرة، ١٩٦٥م، ص١٠ — إلى أن تكون نتاج الأشعرية المبكرة للقاضي، الذي كان في ابتداء حاله يذهب في الأصول مذهب الأشعرية. انظر: ابن المرتضى، باب ذكر المعتزلة، من كتاب المنية والأمل، تصحيح توما أرنولد، دار صادر، بيروت، ١٣١٦ﻫ، ص٦٦. ولعل ذلك يعني أن الأشعرية المبكرة للقاضي عبد الجبار لم تفارق تمامًا بناء تفكيره، بل تخفَّت داخل لاوعيه المعرفي، وراحت تنتقم لنفسها بأن فرضت هيمنتها على بناء الشكل عنده، وحتى على بناء المضمون أحيانًا. ولا بد هنا من ملاحظة أن الأمر فيما يتعلق بانسراب الآليات الأشعرية إلى الاعتزال يتجاوز الشخصي إلى الموضوعي، وأعني أنه يتجاوز ما هو خاص بالأشعرية المبكرة للقاضي، إلى شروط الحصار الأشعري للاعتزال، والتي دفعته لاواعيًا إلى تبنِّي آلياته.
٣٠  انظر قراءة أوسع لظاهرة الانسراب المعرفي إلى الخطابات المناوئة في: علي مبروك، السياسة والتاريخ: الخطاب التاريخي في علم العقائد، دار التنوير، بيروت (تحت الطبع)، الفصل الرابع بالذات، الذي يتابع، في أحد جوانبه، ظاهرة الانسراب الأشعري إلى خطابات الفرق المعارضة، وبالذات الشيعة والمعتزلة؛ وكذا: الانكسار المراوغ للعقلانية: من ابن رشد إلى ابن خلدون، في «ألف» (مجلة البلاغة المقارنة)، الصادرة عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد ١٦، ١٩٩٦م، عن «ابن رشد والتراث العقلاني في الشرق والغرب»، ص٨٩–١١٥. حيث الأمر يتعلق بمتابعة ظاهرة الانسراب نفسها، فيما يُعرَف بالخطابات الأكثر عقلانيةً عند ابن رشد وابن خلدون؛ وكذا: الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية: قراءة أولية، في «أدب ونقد»، العدد ١٤٠، ١ أبريل ١٩٩٧م، ص٨٩–٩٥، حيث متابعة الظاهرة نفسها في أحد الخطابات المعاصرة، والحق أن الظاهرة في حاجة إلى دراسة أعمق.
٣١  وإذا كان يُشار في ضرب المثل على هذه المشاركة، إلى القول الشهير الذي خاطب به أبو بكر رعيته، قائلًا: «إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني»؛ فإن ما جرى أثناء تولية علي بن أبي طالب يكشف عن حدود هذه المشاركة على نحو كامل، فقد بويع عليٌّ خليفةً، لا بوصاية مباشرة من خليفة كما أوصى أبو بكر بعمر، ولا بمجلس ينعقد لاختيار الخليفة كما حدث لعثمان، واختاره أولئك الذين أسماهم معاوية أوباش أهل العراق، وحمقى الفسطاط (مصر)، وغوغاء السواد، وليس أشراف القوم وسادتهم. وهكذا للمرة الأولى والأخيرة، فيما يبدو، يختار المستضعفون من العامة والغوغاء، وليس السادة والرؤساء. والحق أن عليًّا نفسه لم يستوعب، لأول وهلة، ما ترتب على قتل عثمان من تغيُّر جوهري — كان مؤقتًا للأسف — في بنية النظام السياسي، فإنه عندما أتى «الناس»، وليس «السادة»، عليًّا في داره، فقالوا: نبايعك، فمُد يدك، لا بد من أمير، فأنت أحق بها، فإنه قد قال: ليس ذلك اليكم، إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر، فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة. وهكذا تقف حدود المشاركة عند «الصفوة» من أهل الشورى وبدر، ولا تبلغ «العامة» أبدًا، ولولا أن الناس قد خوَّفوا عليًّا وثاروا عليه فقَبِلها منهم، لكان قد عصر عينيه عليها ثالثة، حسب إقرار الأشتر النخعي (أحد خلصائه). انظر: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، تحقيق طه الزيني، طبعة الحلبي، القاهرة، ١٩٦٧م، ج١، ص٤٧، ٧٤.
٣٢  ولقد كشف معاوية عن هذا الطابع المراوغ لسياسته، حين راح يغطي على جوهرها التسلطي قائلًا: «إنا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا»، فبدا وكأنه يسمح للناس بدور ولو كان مجرد الثرثرة، وهو الذي سمح لنفسه بالتعالي بمسألة توريث الحكم ليزيد ابنه من كونها أمرًا تحقق بإرادته وقضائه الخاص، إلى كونها قضاء من الله، وذلك حين مضي في مواجهة ناقديه، إلى أن أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخِيَرة من أمرهم. انظر: ابن قتيبة، المصدر السابق، ص١٥٨.
٣٣  وفيما يناسب القول الأول واحدًا من المعتزلة الأوائل الذين مارسوا الثورة في حقل السياسة، فإن هذا القول الأخير يناسب واحدًا من المتأخرين الذين انشغلوا بالمعارضة في خطاب الثقافة.
٣٤  محمد رضا المظهر، عقائد الإمامية، بيروت، ١٩٧٣م، ص٧٤.
٣٥  وهكذا، فإن نظام إنتاج المعرفة المتداول في حقل التاريخ مثلًا، لا يختلف فقط عن نظيره المتداول في حقل علم آخر، كالبلاغة مثلًا، بل إنه يختلف داخل نفس حقل التاريخ عند ابن خلدون عنه عما كان قبله، وبالطبع دون أن يَحُول هذا الاختلاف عن انطواء نظام الثقافة الكلي عليها جميعًا.
٣٦  ولعله يرتبط بذلك ما صار إليه هيجل، من أن أكمل وعي يمكن أن تحصله أية حقبة تاريخية عن نفسها، إنما هو ذلك الوعي الذي تحصله لدى الفلاسفة.
٣٧  وهنا يُشار إلى ما صار إليه بعض الأشاعرة، من اختتام نصوصهم بذكر ما لهم من المصنفات في الأدب وعلوم اللغة، وتفسير القرآن، وعلم السنة والحديث، والفقه، والتاريخ، والتصوف، وغيرها من العلوم، التي «ليس لأهل البدعة مَن هو رأس في شيء منها، فهي مختصة بأهل السنة والجماعة»، حيث لم يكن قط للروافض والخوارج والقدرية تصنيف معروف يُرجَع إليه في تعريف شيء من الشريعة، ولا كان لهم إمام يُقتدَى به في فروع الديانة، [وحتى إذا] صنف بعض متأخري القدرية [مثلًا] في تفسير القرآن على موافقة بدعتهم، [فإن] ذلك لا يتداوله من أهل صنعة التفسير إلا مخذول. انظر: الإسفراييني، التبصير في الدين، نشرة عزت الحسيني، مطبعة الأنوار، القاهرة، ١٩٤٠م، ص١١٨. وهكذا يكشف النص عن الوعي بأن الحقول المعرفية السائدة في سياق الثقافة الإسلامية إنما تنتمي إلى بنية النسق المهيمن داخل علم الكلام (وهو نسق الأشعري)، وأن الأنساق المناوئة لهذا النسق لم تنتج إلا المهمَّش وغير المتداول في الثقافة.
٣٨  وهنا يُشار إلى المنجَز البلاغي الكبير للجرجاني، الماثل في نظرية النظم — التي تُعَد رأس الأمر وتمامه في البلاغة العربية — لا يمكن أن يجد تفسيره كاملًا إلا في كونه قد تبلور كجزء من الانشغال بقضية كلام الله، التي تُعَد أحد قضايا علم الكلام الهامة.
٣٩  والحق أنه يلزم التمييز — فيما يتعلق بنشأة العلوم — بين كلٍّ من الأسبقية التاريخية والأسبقية المعرفية؛ إذ ثمة من العلوم ما يكون الأسبق تاريخيًّا في التبلور، لكنه تابع معرفيًّا لما تبلور لاحقًا عليه، وذلك من حيث يجد في الذي يلحقه مجمل الشروط المعرفية التي تجعل تبلوره ممكنًا. ولعل ذلك ما تؤكده مثلًا حقيقة أن علم أصول الدين هو الحقل الذي يؤسس معرفيًّا لعلم أصول الفقه، رغم أن هذا العلم الأخير قد أنجز اكتماله المنهجي قبل أصول الدين. ولهذا، فإنه لن يكون غريبًا أن يمضي باحث كبير إلى أن القواعد المنهجية التي قررها الشافعي (في أصول الفقه) كانت توجِّه، من الداخل، القواعد العقدية التي قررها الأشعري (في أصول الدين)، تمامًا مثلما أن القواعد العقدية التي قررها الأشعري هي نفسها التي وجَّهت، ومن الداخل كذلك، القواعد المنهجية التي قررها الشافعي. انظر: الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط١، ١٩٨٤م، ص ١١٦. إذ كان يعني، بالطبع، أنه إذا كانت قواعد الشافعي المنهجية قد وجهت قواعد الأشعري العقدية، انطلاقًا من الأسبقية التاريخية للأول على الثاني، فإن قواعد الأشعري العقدية كانت توجه قواعد الشافعي المنهجية انطلاقًا من الأسبقية المعرفية والمنطقية لعلم أصول الدين على أصول الفقه. وليس من شك في أن المعرفي، وليس التاريخي، هو ما يُعوَّل عليه في سياق تحليل بنيوي للثقافة.
٤٠  وذلك، لحسن الحظ، ما يؤكده باحث معاصر راح يسرد تجربته راويًا: طيلة سنوات عديدة كنت أعقد أن الحل يكمن في الإبستمولوجيا، وككل باحث عربي غادر بلاده إلى أوروبا وجامعاتها، كنت مسحورًا قبل كل شيء بالحداثة والعلم والتكنولوجيا، وكنت مسحورًا بتلك النظرية التي أتاحت نشأة هذه الأشياء في أوروبا، وأتاحت لأوروبا أن تتفوق على جميع الأمم الأخرى منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم. ففلسفة العلوم، أو فلسفة المعرفة، هي التي تدرس شروط إمكانية وجود المعرفة الصحيحة وتمييزها عن المعرفة الخاطئة، وهي التي تبلور معايير التقدم وطرائق الاكتشاف والبحث العلمي. ولكن بعد فترة طويلة من التخبط والتيه، رحت أكتشف — ويا لدهشتي الكبرى — أن الحل يمكن أولًا في الثيولوجيا لا في الإبستمولوجيا، أنه يكمن في علم الكلام، في علم الله، في علم اللاهوت، قبل أن يكمن في علم الطبيعة أو الفيزياء أو الرياضيات، وفهمت عندئذٍ أن تحرير السماء سوف يسبق حتمًا تحرير الأرض، وعرفت أن لا جدوى من تحرير الأرض قبل تحرير السماء، هذه السماء الضاغطة كالسقف فوق رءوسنا، هذه السماء التي تراكمت فيها الغيوم السوداء، وادلَهَمَّت على مرِّ القرون الاسكولاستيكية. انظر: هاشم صالح، الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية والتحديات، مقال ضمن مجلة الوحدة التي تصدر عن المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، العدد ١٠١، ١٠٢، فبراير-مارس ١٩٩٣م، ص٢٤.
٤١  وهكذا، فإن هيمنة مذهب أو تيار، كالأشعرية مثلًا، في إطار العلم والثقافة بالتالي لا ترجع — على عكس ما يجري الإيهام به — إلى أي جدارة أو تميز خاص، بل ترجع إلى التاريخ الذي يحقق هيمنة بعض الممكنات، ويفرض تهميش غيرها، ولكنه إذ يستنفد هذا الذي يحقق هيمنته، وبحيث يجعل التحول عنه لازمًا، فإن دوام هيمنة مذهب ما، رغم استنفاد ممكناته، يكون مما يستحيل إلا بالنسبة لوعي لا تاريخي، وهذا هو أساس حضور الأشعرية للآن.
٤٢  ابن خلدون، المقدمة، ج٣ (سبق ذكره)، ص١٠٦٩.
٤٣  يلحُّ الكثيرون على ربط هيمنة النسق أو الخطاب الأشعري بكونه خطاب الوسط لأمة جعلها الله أمة وسطًا. والحق أن قراءة عميقة لبنية الخطاب الأشعري لتتكفل بالكشف عن كونه ليس خطابًا للوسط بحال، بل إنه خطاب إطلاق وإلغاء بلا وسط؛ إطلاق الفاعلية والتأثير للمطلق (إلهًا في المجرد، وحاكمًا في المتعيِّن)، وإلغاء فاعلية الإنسان والعالم. والحق أن ذلك يعني أنه لا علاقة لهيمنة الخطاب بمضمونه المعرفي الحق، بل الأمر يتعلق بدواعٍ أخرى غير معرفية.
٤٤  البغدادي، الفَرْق بين الفِرَق، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ١٩٧٣م، ص٢-٣.
٤٥  الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ١٩٧٣م، ص٥٤.
٤٦  المصدر السابق، ٦٣، ٨٣.
٤٧  ولعله يُشار هنا — مثلًا لا حصرًا — إلى أن ثمة من أدرك في التصور الأشعري لصفات الله أنها قديمة وزائدة على ذاته، ما يؤدي إلى إثبات قِدَم مع الذات، فإن «من أثبت معنى صفة قديمة فقد أثبت الهين»، وذلك على قول واصل بن عطاء الذي أثبته الشهرستاني، وذلك من حيث يكون مع الذات — والحال كذلك — ما هو غيرها؛ لأنه زائد عليها، وليس هو هي، ورغم ذلك فهو قديم. والملاحَظ أن هذا البناء للصفات قد ارتبط جوهريًّا بالسعي إلى تصورها بمَعزِل عن أي شرط إنساني، في حين ارتبط تصورها في هوية واحدة مع الذات، حسب المعتزلة، بالتأكيد على الدور الإنساني في بنائها.
٤٨  الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام (سبق ذكره)، ص٨٥.
٤٩  الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام (سبق ذكره)، ص٨٤.
٥٠  الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، مكتبة الحلبي، القاهرة، د.ت، ص٤٣، ٤٧.
٥١  الباقلاني، التمهيد، تحقيق يوسف مكارثي اليسوعي، منشورات جامعة الحكمة، بغداد، ١٩٥٧م، ص١٠٥.
٥٢  المرجع السابق، ص١٢٩.
٥٣  الجويني، الإرشاد إلى قواطع الأدلة، تحقيق محمد يوسف موسى (وآخر)، مكتبة الخانجي، القاهرة، ١٩٥٠م، ص٣٦٧.
٥٤  الباقلاني، التمهيد (سبق ذكره)، ص٣٣٠. وإذ يبدو الاحتكار، هكذا، فعلًا من الله، لا من المحتكر، فإن ذلك يؤكد على قصد النسق إلى التستر بالله على كل ضروب الممارسة اللاإنسانية من تسلط واحتكار وغيره.
٥٥  علي مبروك، النبوة: من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ، دار التنوير، بيروت، ط١، ١٩٩٣م، ص١٨٢، وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤