١٣
خلفت الحجاري إلى شارع سليم البشري. امتد سيري إلى نهاية الشارع، ثم ملت ناحية اليسار في اتجاه جامع ولي الله عبد الرحمن بن هرمز بشارع رأس التين.
رقيت الدرجات إلى المسجد المعلق، الصحن مستطيل، يتوسط سقفه المرتفع نافذة صغيرة مربعة. ملتُ إلى يسار المحراب، في زاويته الجنوبية حجرة بها ضريح ولي الله عبد الرحمن بن هرمز، إلى جانبه ضريح باني المسجد، الحاج درويش أبو سن.
قرأت الفاتحة للولي، ولأبي سن الذي أوصى أن يُدفن إلى جواره.
فاعلم أنه ليس الشأن من تُطوى له الأرض، فإذا هو بمكة أو غيرها من البلدان، إنما الشأن من تُطوى عنه أوصاف نفسه، فإذا هو عند ربه. كما يدرك الأولياء والعارفون، فإن أدنى المقامات هو السير على الماء، والطير في الهواء، إلى غير ذلك مما يُنسب إلى الكرامات.
فرائض الله الظاهرة هي الصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، والحج إلى البيت الحرام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وغيرها. أما الفرائض الباطنة فهي العلم بالله، والحب له، والتوكل عليه، والثقة بوعده، والخوف منه، والرجاء منه، إلى غير ذلك.
الأولياء هم عباد الله الذين اصطفاهم لمعرفته، وخصَّهم بمحبته، وأتاح لهم من المكاشفات والكرامات والشطح ما يبين عن قربهم من حضرته. أنوار الأولياء لا كسوف لها ولا غروب.
ولي الله عبد الرحمن بن هرمز، أستاذ أساتذتنا من كبار العلماء والمتفقهين. تخرج على يديه عشرات العلماء في فقه الدين، والأصول، والتفسير، والعبادات، والسلوك، والأخلاق، وفقه اللغة، وأنساب العرب، وعلم الكلام، والتصوف، والفلسفة، والطوائف، والفرق.
منحه الله فرصة التلمذة على عدد كبير من الصحابة، أخذ القراءة عن أبي هريرة وابن عباس، صار أقرب تلاميذ أبي هريرة إليه، صحبه، وأخذ عنه، وروى عنه الحديث. آخر سنوات حياته قضاها في الإسكندرية، شغله التدريس ورواية الحديث. عرف الناس عن ولي الله سائر أموره وأحواله وأفعاله وأقواله، اطمأنوا إلى علمه، وحصيلته المعرفية، في علوم الدين والشريعة واللغة العربية والنحو. أذكر قول الإمام مالك إنه انقطع — في مشوار العلم — إلى الولي عبد الرحمن بن هرمز سبع سنين، لم يخلطه بغيره.
كل شيء كما ثبت في الذاكرة؛ الباب الخشبي الضخم زُين بمسامير من الحديد في هيئة دوائر متداخلة، السلالم الخشبية المتآكلة تصدر صريرًا تحت القدمين، ترقى إلى الطابق العلوي، القاعة التي جعلها الشيخ زين قمر الدين موضعًا لحضرته، يستقبل الخواص والمريدين وطالبي الحوائج والمشورة والنصيحة والعظة؛ عالية السقف، لها نافذة وحيدة، خشبية، تترامى منها أصوات الطريق.
انفراجة الباب أتاحت تسلل حزمة من أشعة الشمس، صنعت على أرضية الحجرة نثارات فضية ملتمعة.
طالت نظراتي إلى ما حولي، تريد استيعاب المكان.
توسطت القاعةَ مائدةٌ نحاسية مستديرة، وتناثرت لصق الجدران وسائد مزينة بالنقوش. لم يكن في المكان كراس ولا دولاب ولا طاولة بأي حجم، وإنما تبعثرت فيه الأغطية والوسائد والكتب والأوراق. زينت الجدران والأسقف بأشكال على هيئة أوراق نبات، ومربعات هندسية، وحروف متداخلة، ونقوش. المجامر المدلاة يتضوع منها شذا الند والمسك والصندل والعنبر.
فاعلم أن المرء إذا أظهر الله فيه ما اعتبره الناس من الكرامات زاد خوفه من الله، وخضوعه، واستكانته، وتذلُّله. لم يدع الشيخ زين قمر الدين لنفسه كرامة، ورفض ما نسبه إليه أتباعه من الكرامات.
في نشوء الطريقة، عكف الشيخ على التعبد في الخلاء المواجه للبحر، لا يشغله المكان، وإن حرص على امتداده في الأفق.
أحسن اختيار المكان، بالقرب من بحري، أو أنه في قلب الحي. يسهل بلوغه على مريديه ومحاسيبه، لطريقته طقوسها التي تميزها، على مريديه أداؤها، أخلصوا فيها.
سأل المريد عرفة الزايط: لماذا اخترت أرضًا خالية؟
قال الشيخ: أنت ترى خلو المكان، لكن الله حاضر وناظر، والملائكة تشغله.
ألف مريدوه دعوتهم — في نهاية كل موسم صيد — إلى الوقوف بالتذكر والحداد على أرواح الصيادين الذين ابتلعهم البحر.
الكثير من الخلفاء ورثوا قطبية فرقهم عن الآباء والأجداد. القلة أخلصوا في المجاهدة، والقرب من الولي، حتى نالوا ثقته.
انتقل ولي الله عبد الرحمن بن هرمز إلى الحياة البرزخية.
توالي من بعده المشايخ، الخلفاء، كرَّت حبات المسبحة بخلفاء، لم يخرجوا عن طريق السلف، يحملون لواء الطريقة وأعلامها وشعاراتها، وما خلَّفه من أوراد وأدعية وابتهالات. أخذ المريدون وعامة الناس على كل خليفة جديد أنه يسير فيهم سير الخلفاء السابقين، ما لم يضعه القطب نهجًا للطريقة.
الشيخ زين قمر الدين آخر الخلفاء، يسكت عن مغالاة المريدين في اعتقادهم ببركاته؛ يتبركون بطرف ثوبه، يشربون ماء وضوئه، فيه خير، وبرء من أمراض وأوجاع، يتيممون بالتراب الذي تدوسه قدماه.
يذكر أهل بحري زمن انفلاته من دكان أبيه المعلم عبد المنعم قمر الدين تاجر الياميش بسوق النقلية، إلى جامع الشيخ إبراهيم، يحضر دروس المغرب. لما عرف أبوه ما يحدث سكت عنه، وأتاح له وقت القراءة، والتردد على مجالس العلم. تدبر ما قرأ في كتب الصوفية، ما أملاه وكتبه العلماء والفقهاء وأقطاب الفرق والطرق.
تفرغ بالكلية لصحبة صابر يعقوب شيخ الطريقة الأحمدية الشاذلية، لازم مجلسه، أصغى إلى نصائحه وعظاته، نهل من مَعينه، أخلص في خدمة ولي الله، وخدمة مريديه وزواره، خصَّه الولي بمكاشفات لا تُتاح إلا لخواص الخواص، سلكه في المقامات، يتحقق في مقام، فينتقل إلى مقام أعلى.
لأنه امتلك أفكارًا في توجهات الطريقة وأدائها؛ عهد إليه شيخ الوقت بما جعله في موضع النقيب، أقرب خواصه منه. نسب إلى نفسه وراثة علم الشيخ، أخذ منه الطريق، حمل أمر مشيخة الطريقة.
ترقى في مدارج الصوفية حتى درجة القطب الولي، من حقه، وواجبه، أن ينصح الناس، ويرشدهم، ويدعوهم إلى ما فيه خيرهم. تيقن أن ما يشغله، ويدعو إليه، هو علم القلوب، وعلم الأسرار والأحوال والسلوك. جرد قلبه، وأقبل بهمته إلى الله، الرياضة والسلوك والعبادة والطاعة والزهد وترك الدنيا، والابتعاد عن الناس. همه أن يصفي باطنه من الشواغل والشواغب. يتخلص من أثقال الدنيا. يخوض بحار الأشواق. يرقب الوارد، هذا النور الإلهي الذي يقذفه الله في قلوب عباده المحبين.
رفض أن تبدل الأفكار أحوال الطريقة، كل شيء يجب أن يظل على حاله، لا إضافة ولا حذف، ما كان يكون، كما خلقه الله، لا أشياء مما يصرف المرء عن دينه وطقوس عباداته. جنة المؤمن وطنه الحقيقي، لا يعادلها أسرة ولا قرية ولا عائلة ولا مدينة، إذا دخل المريد الطريقة، فإنه ينبغي أن يهمل ناسه وأرضه، ويَقصُر رؤاه على القطب والأوتاد والنقباء والمريدين. أمر أتباعه أن يباعدوا السياسة، لا يتدخلون فيها برأي.
نسب الناس مناقبه إلى القدرة الإلهية، أخذهم ما صدر عنه من خوارق العادات. تعددت الروايات عن امتلاكه الكثير من القدرات الروحية.
يظل باب بيته مفتوحًا لأي زائر، لا يشغله إن كان من مريديه، أم من زائري أولياء الحي، يحدوهم الأمل في البرء من المرض، وفي النصفة والمدد.
يقرأ في جوانب البيت فاتحة الكتاب وآية الكرسي وآيات من سورة آل عمران وخواتيم سورة البقرة، يشفي الأمراض بالطب النبوي، والأعشاب، يفيد من الرقية الشرعية، والعلاج بتلاوة المعوذتين وآية الكرسي، يحفظ الكثير من الأدعية والرقى، يقرؤها فوق رأس المريض، فيشفى بإذن الله، يُعِد لشفاء المريض تحويجة من جوزة الطيب والقرنفل والقرفة، يهديه أعشابًا، يحتسي نقيعها، فيزول الألم.
يعالج العقم، وأوجاع الظهر، وآلام الروماتزم والمفاصل، وتعب الجسم. يمتلك أدوية لإيقاف نزيف اللثة، ووجع الأسنان، والتهاب الجيوب الأنفية، وعلاج أمراض العين، وما يطفح دمامل وبثورًا على بشرة الجسد، وهشاشة العظام. ربما صنع ما أفادته الممارسة؛ يغيِّر على الجروح، يختن الأطفال، يعطي الحقن.
راحة يده مباركة، إذا مسَّد بها الجزء المصاب، فهو يشفى ببركة الله. تمسيد يده علاج يشفي جميع الأمراض، ليست الأمراضَ الجلدية وحدها، إنما كل ما يعانيه جسد الإنسان. هو يداوي المريض ليبرأ من مرضه، ليعود إلى حياته — كما كان — صحيحًا معافًى، أهم مشغولياته خدمة المولى سبحانه، والسعي في أوامره.
لما اشتد المرض على المريد حسن الزرعي، قَدِم الشيخ لعيادته.
قال الزرعي: ألا يعلم الله بمرضي؟
تأثرت ملامح الشيخ.
– تكفر؟! الله يعلم بكل شيء!
قال المريد: هل أقوى على مخالفة ما يعلمه ربي؟!
اقتحمه الإشفاق لما سأل عن أحمد حبيشي خادم جامع طاهر بك. عرف أنه أغلق عليه باب بيته، لا ينزل إلى الجامع حتى يبرأ من المرض. المؤمن المؤمن، من يرضى بكل ما يجريه الله عليه مما قد يؤلم الجسد من مرض، ويتعبه في القعود والحركة والنوم، ربما كانت علة الجسد رحمة، يفرغ فيها المرء لعبادة ربه، ويصبر على ابتلائه، ويسلِّم لحكمه. الإقبال على الطاعات أفضل من التداوي. الله هو الشافي، والمبرئ من المرض. يقينه أن الأمراض تُذهب السيئات، كل ما يعانيه المرء — حتى لو كان شكة دبوس — يخفف من الذنوب. إذا حُم القضاء، فإن الموت يوصل العبد إلى خالقه، الحبيب إلى حبيبه.
فاجأه قول الرجل: ربما يقيدني الله بالمرض عن المعصية، فيغيب الدافع لارتكابها.
وهمس في صوت مكدود: لا أحتاج إلى مداواة الطبيب، وإنما إلى عون الله.
كاشف المريد بأنه يخشى عدم الرغبة في طول العمر، والحرص على الدنيا، وحب البقاء، خلقنا الله لنعيش دنيانا، ونعد أنفسنا للآخرة.
انضم إلى الطريقة — بتوالي المكاشفات — عدد كبير من الأتباع والتلاميذ والمريدين والتابعين والمحاسيب والمحبين. يضعون ثقتهم فيه، ينصتون إلى نصائحه، يلبون إيماءاته وإشاراته. أخذ الكثيرون عنه، وانتسبوا إليه. منحهم شعورًا بالمؤانسة والطمأنينة والأمان، بوسعهم أن يعتمدوا عليه.
لم تعد كرامات الولي مقصورة على ضريحه أو مقامه، امتدت إلى ناس الحي في المساجد والزوايا والبيوت والأسواق. اعتقد الناس أن البركة سكنت بحري بمناقب ولي الله. اعتقده الناس اعتقادًا عظيمًا. نسبوه إلى أهل الأسرار، هو ولي حواش، يلبي استغاثات الناس، يحل ما يواجهونه من مشكلات، يدرأ عنهم الأخطار.
فاعلم أن الانجذاب إلى الصوفية لا يأتي بالقراءة، ولا تلقي الدروس، ولا الجلوس إلى العلماء. ربما هي خطوات تالية، تثبت نور المعرفة في النفس.
ألفت رؤية الشيخ زين قمر الدين يطوف في الصحن عقب صلاة الفجر، يشخط فيمن ظلوا داخل الجامع، يتظاهرون بالقراءة، أو ناموا لصق الأعمدة. ينتبهون إلى صرامة الصوت، وإن غاب مصدره. تأخذهم الهرولة إلى خارج المسجد.
أعرف أنه دائم التجوال في صحن الجامع، يتفقد المنبر والدكك والدواليب والحُصر والسجاد وإضاءة القناديل. تُغلق بعد صلاة العشاء أبواب المسجد، فيُعنَى الخدم بتنظيف الصحن، وما يلحق به من حجرات ودورات مياه، يُعاد فتح الأبواب قبل صلاة الفجر.
•••
حدث ما فاجأ الناس، وبدل أفكارهم.
علت الهمسات باختيار الشيخ ساحرًا، تخفَّى عن الأبصار، وإن رسمت الروايات هيئته بأنه عجوز، يتوكأ على عصًا، ويرتدي ثيابًا غريبة، أتى به الشيخ من بلد لا يعرفونه، يمتلك قدرة على تسخير الجان، ويجيد علم الحروف والطلسمات والسيمياء والكيمياء، وعلوم الأسرار والتنجيم والغوامض السحرية.
دلَّه الساحر على طرائق تعامله مع المريدين، لكل مريد خطاب تؤهله طبيعته لتلقيه. إذا لم يمتثل الرجل لأمر الولي، سمَّره بتعازيم في موضعه، لا يقوى على تركه. ضمَّن عباراته ما كان شاحبًا في أذهان الناس أو مهجورًا؛ الشياطين، المردة، القرناء، السحرة، العرافين، المنجمين، ضاربي الرمل، قارئي الودع.
تناقل أتباعه روايات عن إتقانه التنبؤ، وقراءة الغيب والمستقبل، وأفعال القدر، وكشف المحجوب والأسرار، وإشارته إلى الكثير من التصرفات والوقائع قبل حدوثها، بما يرفعه عن سواه من الأولياء، ويحقق له مكانة الدرجة العليا، تساوي مكانة الأقطاب الكبار.
وهبه الله قدرة فك ألغاز النفس، وكشف أسرارها. أشياء لا يرَونها، ولا تخطر في الأذهان، لكنه يفاجئهم بالتكلم فيها، يطيل الكلام عن التفصيلات والمنمنمات، كأنها أمامه. يكوِّن أفكاره عن الناس من تأمل أقوالهم وتصرفاتهم، تعكس ما في نفوسهم، وما قد يضمرون. يعرف ما سيقوله المريد قبل أن يتكلم، تَنفُذ عيناه إلى ما يجول في ذهن محدثه، يدرك مغزى النظرات، وما يدور في النفس.
أيقنوا من استطاعته قراءة الطالع، وفك الربط، وكتابة التعاويذ والتمائم، وصنع الأحجبة للمرضى، وقراءة الطلسمات لإبعاد الخطر، وجلب الرزق والمنفعة والخير، وعلاج تأخر الزواج، والعنوسة، وجلب الحبيب، وعدم الإنجاب، والربط بين الزوجين، ورد المطلقة. عُرف بقدرته الخارقة في التطهير من تلبيس إبليس، وفك السحر الأسود، وصد الأذى، وعلاج المس الشيطاني، واستعمال الرقى لصرف ما يعانيه المرء في الأوقات العصيبة والمحن، وتلاوة الأدعية في الآذان، لطرد الأرواح الشريرة التي ربما تسللت إلى الجسد من ثقبَي الأذنين. حتى من يصيبه مس من الجن، يغطِّسه أهله في المالح، يخرج الجان من بدنه، ويستردُّ نفسه.
رآه الكثيرون بأم أعينهم وهو يكشف عن أحوال الموتى، ويرد القوى غير المنظورة، ويطرد الأرواح الشريرة والجان والشياطين. الموجودات السفلية طوع إرادته، يصنع الوصفات السحرية من الأعشاب البرية والجافة، وريش الطير، والخنافس والصراصير المسحوقة، وجلود الثعابين والحيات، والقواقع الصغيرة. يأمر بدسها داخل الثياب، أو في دورات المياه. يجيد صنع خلطة أعشاب مسمومة، يمسِّد بها الجسد، يموت صاحبه دون أعراض أو علامات.
قد يكتب أحجبة لمنع موت الأجنة في بطون الأمهات، أو في سن الرضاع. يكتب التعاويذ والتمائم، يصنع الأحجبة للمرضى، وللعاقرات، يجيد صنع الأحجبة على الورق والجلد والقماش، والتميمة التي تدرأ الخطر بتعليقها حول العنق، والتعويذة من عظام موتى البشر والحيوان والطير، يحفظ من التعاويذ ما يعمِّق سيطرته على أهل العوالم السفلية.
يمسح بيده على رأس المرأة كي يزول عقمها، تتهيأ للحمل والإنجاب، يمن الله عليها بالذرية الصالحة. ربما زار المرأة في المنام، بثياب بيض، تحيط به مخلوقات نورانية، لعلها ملائكة، يهمس بأدعية، فيرزق الله المرأة ما تتمناه. تعود إليها خصوبتها، وقدرتها على الإنجاب، يهبها الله العوض.
رُوي أنه يشفي من أمراض الشيخوخة، يُطيل عمر المريض حتى ينسى الموت. يعالج السكر والاستسقاء والسرطان بجرعات من لبن الناقة وبول الجمل. تناثرت تأكيدات بتعدد حالات شفائه الأبكم والأبرص والمجذوم، بأعشاب في قِدر تُغلى بالماء، يضيف إليها قواقع وأصدافًا جمعها من رمال الشاطئ، يرفد علاجه بقراءة الفاتحة، وسورة تبارك، وآيات القرآن. يقرأ سورة يس، ثم سورة الإخلاص، فالمعوذتين والتسبيحات والأدعية، يردد أسماء الله الحسنى. يمتلك — بما زوده به الساحر— قدرة عجيبة على الإيحاء، ينقل أفكاره إلى الآخرين بنظرات محدقة، يرَون ما غابت عنهم رؤيته، أو ما سعى إلى غرسه في رءوسهم. نفى أن يكون مرض المرأة مسًّا شيطانيًّا، أو فعل الجان، إنما هو عارض نتيجة ظروفها القاسية.
ألف المريدون رؤيته في أماكن كثيرة. يمتلك القدرة على الوجود في كل مكان، ثمة سحابة تلازمه في سيره ووقفاته، يدعوها فتلبِّي، يغتسل أو يتوضأ بمائها. يلامس بعصاه البحر، فتجمد المياه، يجيد التعزيم على الماء، يحقق به ما تحتاجه نفسه، نسب إليه مريدوه السيطرة على المطر، يعرف أين يوجَد المطر، السحب كثيرة، لكن القليل منها مثقلة بالمياه، يحدق فيها بنظراته، يخترقها، يتعرف إلى الخبيء من المياه، يتمتم بأدعية يستجيب لها الغيم، فتهطل الأمطار، أو يدعو، فتوقف السماء غوثها. يمتلئ البيت بالناس في أوقات النوات، وعدم استطاعتهم نزول البحر.
صنع له الساحر حجابًا بحجم سترة واقية، يغطي بها صدره. لما زاد سخطه على أهل بحري دعا الساحر، فأظلمت سماء الظهيرة، وعلت الأمواج، واشتدت الريح، تحول كل شيء إلى نوة عنيفة.
تكاثرت الروايات عن الزيادة في عبادته عمن سبقه من الأولياء والعابدين. فاض المدد الإلهي — في رواياتهم — بما أسعده. صار من أهل الخطوة، يمشي على الموج، يطير في الهواء، تُطوى له الآفاق، تُتاح له الرؤية عبر المسافات والحواجز، يبلغ الموضع الذي يقصده في ومضة عين، يمتلك القدرة على تحويل النحاس إلى ذهب، يتلقى أوراده عن النبي ﷺ في اليقظة لا في المنام، يقطف من ثمار الجنة، دون أن يغادر موضعه. يقينه — من طوالع الساحر — أن عمره سيطول بأكثر مما عاشه النبي نوح، وربما يهبه الله الحياة إلى يوم القيامة، فلا يموت أبدًا.
لم يكن يأذن لأحد بالاقتراب من عالمه، أو بمجرد الاقتراب منه. أحاط نفسه بسياج من اللامبالاة، لا يأذن لسؤال، أو ملاحظة، أو نظرة فضول، أن تنفذ إليه.
عزل نفسه عن الناس، وإن اعتادوا تردده على إسطبل أول شارع السيالة، يختار حصانًا يركبه إلى المنتزه — على طريق الكورنيش — ويعود. ربما ركب حصانه في احتفالات أبناء بحري بالمولد النبوي، ومولد أبي العباس، والمناسبات الدينية الأخرى.
قلت لخليفة ولي الله: الدين يعترف بالسحر، لكنه يكفِّر من يمارسه!
وحدجته بنظرة متأملة، أتبين في ملامحه انعكاس الكلمات: معجزات النبوة من الماضي، عصا النبي موسى لن تكون موجودة — بقدرة الله — فتكشف عصي السحرة وحيلهم!
أطلق ضحكة عصبية، لم أستطع فهم المعنى الذي تنطوي عليه.
– إذا حاورتك فستغلبني، ليتنا نتكلم فيما قدمت من أجله.
وهز أصابعه المتكورة: أعرف أن ما يهمك هو أمور المسلمين.
– هل هذا ما يهم مريديك؟
– هل لديك ملاحظات على سلوكياتهم؟!
– عندما يعجز الناس عن بلوغ مرادهم فإنهم يصدقون ما لا ينبغي تصديقه!
– الصوفية اقتداء بالرسول، وسعي للتقرب من الله.
سقطت المسبحة — بالانفعال — من يده، سبقه خادم المسجد في الانحناء والتقاطها. قال الخليفة وهو يعيد كرَّها بأصابعه: نحن أهل الباطن. أهل الظاهر ليسوا أهلًا لمناقشتنا.
فاعلم أنه لا تصوف بدون مشيخة، ولا تصوف بدون مريدين. هم أصل الطريقة، الفرقة. من يأخذ عن شيخ، لم يأخذ عن شيوخ سبقوه. اعتمد على اجتهاده، ورؤاه الشخصية، وتصور نفسه عالمًا بما لا يحتاج إليه من أحد، قد ينزلق في الخطأ. العهد الذي يأخذه عن الشيخ التزام ديني، ينقله — عند الترقي — إلى مريديه.
تأمل اللهب الأزرق المتراقص تحت الكنكة، بعد أن قلَّب تلقيمة البن والسكر والماء.
– إن العلم اللدني يتنزل عليَّ، فأعمل بما فيه.
– نحن قد ننشغل بملاحظة أخطاء إخوتنا وننسى أخطاءنا.
ورمقته بنظرة استياء: هل أنت الشيخ زين قمر الدين الذي أعرفه؟!
وفي لهجة محذِّرة: إذا خضت بقدميك في مياه الساحل، فحاذر أن تجتذبك المياه العميقة.
نظر — خلل النافذة — إلى الغيم المتناثر في زرقة السماء.
– أمتلك من العلم ما يعصمني.