١٥
خلَّفتُ الميدان، سرت في شارع رأس التين حتى تقاطعه مع إسماعيل صبري. لمحت قطعة خبز ملقاة في الطريق، التقطتها، وضعتها على جانب، فلا تُداس بالأقدام.
اخترقت شارع فرنسا، البنايات والأفران ومحالُّ الأقمشة والأثاث، الشوارع المفضية — من ناحية — إلى شارع الميدان، والشوارع المتصلة به حتى الترسانة البحرية، من الناحية المقابلة إلى شارع محمد كريم الموازي لطريق الكورنيش.
تناهى — من موضع قريب — أصوات تلاوات وأدعية ونداءات، مضيت في اتجاه اختلاط أصوات المنشدين، وقارئي الأوراد، وابتهالات الذاكرين، ونداءات الباعة.
الباب الخارجي يفضي إلى ردهة، على يمينها السُّلم الصاعد للطابق العلوي.
يخلو المسجد من ضريح أو مقام ولي، أنشأه كما تعلم الحاج إبراهيم تربانة، التاجر المغربي.
هو — منذ إنشائه — بيت الله.
رقيت الدرجات الجرانيتية من السُّلم الخارجي إلى الطابق العلوي. الأعمدة تعود إلى عصور اليونان والرومان، والأرضية مفروشة باختلاط الحصير والسجاد. من السقف تتدلى مصابيح كهربائية، تختلف عن القناديل التي كانت في الماضي.
عُنيتُ بترتيب ما تبعثر في صحن المسجد من مصاحف وكتب استعارها المصلون من المكتبة الخشبية المجاورة للمنبر، كنست الصحن بيدي، فيه ثواب أطلبه.
فاعلم أن حقيقة القرب أن يغيب المرء في القرب عن القرب لعظيم القرب، كمن يشم رائحة المسك، فلا يزال يدنو، وكلما دنا منها تزايد ريحها، فلما دخل البيت الذي هو فيه، انقطعت رائحته عنه.
حين جلست إلى الشيخ مرسي رحيل لصق حائط الغرفة المطلَّة على شارع فرنسا، تترامى منه النداءات والأدعية والابتهالات، كنت قد اخترقت شوارع وحارات وتقاطعات ومَفارق.
يقيم وحده في البيت، ما بين ورش المراكب وقصر رأس التين. لا يكاد يبرح البيت إلا إلى الحلقة، أو للصلاة وإلقاء العظات في جامع طاهر بك بالحجاري. المسواك في يده، يحرص أن ينظف به أسنانه.
هاتفته فيما يشغلني، ما قَدِمت به من حميثرا إلى حي الأولياء، التلاميذ.
تلفَّت الشيخ مرسي حوله كمن يأمل الغوث. أخرج من جيب العباءة مسحوقًا، نفثه في الفراغ، همس بأدعية غامضة الكلمات.
أعرف ميله إلى الزهد والتصوف ومحاسبة النفس، منذ هجر عمله في وكالة تربانة بشارع سوق الترك، يُكثِر من محاسبة نفسه، ومن العبادة، ويحرص على قيام الليل والتهجد. وضع في جيب العباءة نوتة صغيرة، يعود إليها إن خلا إلى نفسه، يضمِّنها كل ما رآه، أو استمع إليه، أو دار في خاطره وتأملاته من أمور الدين والدنيا. تقتصر عظاته على شرح الأحاديث، والسنة النبوية، توضيح ما قد يكون غامضًا من معانٍ وأحكام.
الناس تجتمع إليه في المسجد، وحيثما اتفق يجدون فيه ما لا يجدون عند سواه من الشيوخ، يعظهم، يجيب عن أسئلتهم، يشغله أن ينقل إليهم ما تعلمه، يحثهم على الرياضة والمجاهدة والمعرفة والقرب، وأداء حق الله في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
سُمي مرسي لأن أباه رأى في المنام قبل ولادته وليَّ الله أبا العباس يدعوه لأن يُطلِق اسمه على المولود المرتقب. عَهِد به أبوه إلى فقيه، يعلِّمه القراءة والكتابة ومبادئ الحساب والقرآن الكريم. تعلم صنعة تجليد الكتب على يد أبيه، تردد — في أوقات تبطُّله — على مقابر العمود. يتلو آيات القرآن، يعيش على ما يقدِّمه له زوار مقابر العامود من الأقراص والمنين والفاكهة، رحمةً ونورًا على أرواح الموتى.
لم يدخل الصوفية إلا بعد أن تزوَّد بمعارف وعلوم أهَّلَته للفهم. لا يذكر متى ولا كيف تصاعدت في نفسه تجليات العلوم والحكم والمعارف. تعدد ظهور الخضر والشاذلي والمرسي وأولياء لم يميزهم في نومه، تكرر صحوه على ما يدفعه إلى التلفت، لا يعرف إن كان ما عاشه أحلامًا أم كوابيس. صحا وجد نفسه فوق صخرة الأنفوشي، تسبح في الأمواج تحتها حيواناتٌ هائلة الأحجام، تصده عن التفكير في العودة إلى الشاطئ القريب. خالط الناسَ — في الأيام التالية — بجسده، يكلمهم ويكلمونه، يأخذ منهم ويعطي، لكن الطريق أمامه ضبابي، غير واضح الملامح، لا يعرف ما فيه، ولا إلى أين يتجه.
شعر أن هذا هو عالمه الحقيقي، طال غيابه عنه.
ترك الوكالة، رحل — بقلبه — إلى معرفة ربه، والْتماس رضاه. عُني بإقامة أوامر الله تعالى، حافظ على الصلاة، وأكثر من ذكر الله، وداوم على تلاوة كتابه الكريم. مال إلى ترك الدنيا، والابتعاد عن الناس، انقطع للعبادة والرياضة وسلوك الطريقة، ترك معاملة الخلق، وكل ما يشغل القلب عن الحضور مع الله.
لزم باب الله، لا يبرحه حتى يقبله الخالق.
جاهد نفسه، روَّضها، هذَّبها على الطاعة. زاد ميله إلى الوجد والشوق الروحي في أقواله وأفعاله. انتوى أن يخرج من مصائب الغفلة، يقطع العلائق بمن حوله، وما حوله، يجمع قلبه على الله تعالى، صفَّى أوقاته عن شوب الأكدار. أكثر من الندم والاستغفار والتوبة. يغلب عليه الصمت، يذكر الله بقلبه لا بلسانه. إن سجد أطال السجود والدعاء، امتلأت نفسه بأنوار المعاني، وانكشفت أستار الغيوب، ترادفت نسائم المحبة والشوق، جذبَته، غيبَته عن حسه بالكلية.
صفات الخالق هي الغنى، والقدرة، والعزة، والقوة. الصفات التي تقابلها — لعبيده — هي الفقر، والذل، والعجز، والضعف. تتقابل الصفات برحمة الله، ويقين العبد. يتماهى تمام القدرة في تمام العجز، يمد الله في قلب العبد ما يقابله من أوصاف العلي القدير. يتحقق الاكتمال.
أكثر من التردد على الجوامع والمساجد والزوايا والأضرحة والمقامات والمزارات في بحري، وفي أحياء الإسكندرية ومدن مصر وقراها، يقرأ الفاتحة، يؤدي ركعتَي السنة، يجالس المريدين، يقضي أوقاتًا في الحضرات، تأخذه حلقات الذكر.
اختار السير في طريق السلف من التمسك بالكتاب والسنة، وترك البدع والضلالات. دعا لأن يجاوز المسجدُ دورَه مكانًا لأداء الشعائر، يتحول إلى ساحة للعبادة والقراءة والتأمل، يقينه أن مهمة المسجد تعميق عقيدة التوحيد، وتنقيتها مما عَلِق بها من شوائب.
صار من أهل الكشف والأحوال والدعوة والإرشاد والاستمساك بالسنة المطهرة. عظم صيته في بحري، وتناقل الناس في الأحياء والمدن الأخرى فقرات من عظاته. أعرف عن مريديه دوام حضور مجلسه، والإنصات إلى عظاته وإرشاده، والمبادرة إلى تلبية ما يشير به، أو يطلبه، يَلجئون إليه لفهم ما خفي من العلوم المبهمة والأسرار. لا يتصدر المجلس، ولا يختار لنفسه موضعًا، هو يجلس حيث يجد المكان. لا يتكلم إلا ردًّا عن سؤال، وإن تكلم اكتفى ببضع كلمات تؤدي المعنى. إشارة يده تحدد للمريدين تحركهم؛ القعود والقيام والكلام والإصغاء والمغادرة. يربِّي مريديه بالنظر والإشارة، ولي الله البدوي مثله الأعلى وقدوته، لا يأخذ عنه مريدوه علمه بالعهد، إنما يعلمهم بالنظر، يرنون إلى عينيه، يلبُّون إشاراته، يهبهم فيض علمه وأنواره.
قبل أن يدخل الخلوة يغتسل غسل الجنابة، ويرتدي ثيابًا نظيفة، مكوية، وينوي قلبه التقرب إلى الله، لا يجالس الناس إلا لضرورة. يحرص على قيام الليل، والتهجد فيه، تؤلمه قبضة النوم، تأخذه من الصحو، فيصمت عن ذكر الله. فسَّر كثرة ترديد الشهادتين بأنه لا يعرف متى يفارق الدنيا، ولم يكن يأمن بقاء حياته من وقت صلاة إلى وقت الصلاة التالية. ربما اكتفى بترديد كلمة الله في حضوره مع الناس، وبينه وبين الناس. قد تدخل الأنفاس فمه، فلا تخرج. إذا حان وقت الصلاة، فإنه ينقبض عن كل من حوله، وما حوله، ويهمل كل شيء، ويُقبِل على الوضوء، تأهبًا لأداء الصلاة.
رُوي أن المصلين فارقوا صلاة التراويح وراءه على صيحات استغاثة من الطريق، جرَوا بالخوف، أو بنيَّة الإنقاذ. أَطفئوا النيران في نصبة شاي على الرصيف المقابل. عادوا إلى الجامع، فوجدوا الشيخ وحيدًا، مستغرقًا في صلاته، حتى أنهاها.
قال لمن أظهروا الإشفاق: هل تأخذني نار في الدنيا عن نار الآخرة؟!
صار شيخًا للوقت، لا يأسف — في قول القطب الشبلي — على الفائت، ولا ينتظر الوارد، طريقته هي الاقتداء والإلزام بما في القرآن الكريم، وسنة الرسول، وأقوال الصحابة والتابعين، اعتبره مريدوه شيخ مشايخ الصوفية، وقطب عصره، واعتقده الناس اعتقادًا تامًّا.
يقضي الوقت ما بين الخروج من البيت، والعودة إليه في ارتياد الأسواق، والشراء من المحالِّ، والجلوس على القهاوي، والتوقف — بالفضول — للفرجة على ما يثير الدهشة. يتردد على أسواق العطارين والباب الجديد وشارع الميدان، يقتني ما يستلفت نظره؛ أثر قديم، مسبحة شحب لونها، ساعة بكتينة، حجاب، ما يستهويه من التحف والكتب القديمة.
روي خواصه أنه إذا تناول مالًا فيه شبهة، أو طعامًا يشك في مصدره، فإن الجفاف يصيب حلقه، يعاني النطق، أو يعجز عن الكلام. لم يكن يوافق الشيعة في الكثير من طقوسهم، لكنه كان ينصح بالبكاء إذا واجه المرء مشكلة صعبة، البكاء اعتراف بالضعف، وتنفيس.
شرط على نفسه أن يعيش المريدون كما يعيش هو حياته، إحياء الروح، ومجاهدة النفس، والارتقاء بها، بما تقتضيه من العادات والقراءات والأفكار والأفعال والأقوال والأحوال والأخلاق، يَقصُر توجيهاته على الإيماءة والإشارة، لا الإفاضة في الشرح والتفسير. رفض أن يكون للضريح صندوق نذور، من يريد فعل الخير عليه أن يتجه بصدقاته إلى المُعوِزين.
يحب لشخصه أن يتوارى خلف مريديه، يلقي عظاته ونصائحه، يشير إلى ما ينبغي أن يفعلوه، لكنه يرفض الخوض في التفصيلات، لكل مريد ظروفه التي تملي عليه تصرفه، ما عليه إلا فعل الشيء الصحيح، وإن أظهر ضيقه إن قصده امرؤ في شيء من أغراض الدنيا.
حتى يقوى المريدون، وينمحي الخوف من قلوبهم؛ حثَّهم على أن يكون توضؤهم أسبق من الوقوف في الحضرة، يُسبِغون الماء على رءوسهم ووجوههم وأذرعتهم وسيقانهم، بما يزيل وساخة الجسد وخطايا النفس، الماء يزيل ما قد يتلبَّس الجسد من الجان والأرواح الشريرة، حتى الصيادون يستطيعون التوضؤ بماء البحر، فهو طَهور.
قَويَت الطريقة، وكثر أتباعها ومريدوها. يطرحون أسئلة، يأملون لها أجوبة. يرضَون بما يمنحه لهم الشيخ من ومضات الخبرة والعظة، وغوامض الأسرار. اعتبروه — تحفُّه الهيبة والجلال — واسطةً بينهم وبين حضرة الله تعالى.
خاف على ضعاف الإيمان من مريديه أن يعتنقوا ما يبعدهم عن طريق التصوف، تهجر الطيور أعشاشها قبل أن تتعلم الطيران، تميل قلوبهم إلى غير الله. دعا خواص مريديه، الأوتاد والنقباء ومَن دونهم، إلى تحفيظ القرآن، وتفقيه الناس في أحكام الشريعة، واتباع السنة. حدد لكل واحد من مريديه ما ينبغي أن يفعله، يتولى عددًا من المريدين، يعلِّمهم، يفقِّههم في أمور الدين، يشير بما يجدر بهم صنعه في مشكلات دنياهم. يقوِّم الضال من أتباعه، يرشده إلى الطريق الصواب. لا يؤنب المريد، ولا يوبخه إلا إن جاوز حد الأدب، للحد شواهد واشتراطات.
ضاقت بأتباعه شوارع بحري وحاراته وأزقَّته.
عرفت ضيقه — في الآونة الأخيرة — من آراء لا تلم بالقضايا المطروحة. استعصى أن يلزم أصحابها السير على نهج محدد، لا يجاوزونه، يلزمون التجرد عما سوى الله، يبتهلون إليه تضرعًا في حال المنع، ويشكرونه في حال العطاء. زال الورع من النفوس، وطُوي بساطه. أدرك أن عليه أن يفعل ما يزيل الغمة، فيسكت الرعد، وتنقشع سحب الأمطار القاتلة. تحل أنوار التوبة والاستغفار والتسليم والزهد والتقوى والقناعة والإخلاص والورع والعرفان والخير وذكر الله تعالى.
أعلم أنه يعيش وقته في حالة من التأمل؛ يحدق في أفق البحر، يرنو إلى القمر، يلوذ بدفء الشمس، يحصي النجوم. تستغرقه الأحوال، الأحوال مواهب إلهية، بداية الحال: ومضة، بارقة، لمحة، وغيرها من المترادفات. تسبح روحه في بحار الشوق، تنجذب إلى مواطن القرب، تغيب عن كل ما سوى الله. لا شمس ولا قمر، لا ليل ولا نهار، إنما هو نور دائم يضفي على النفس إحساسًا بالراحة والدعة والسكينة، لا يشعر بالتعب، ولا تُعوِزه الحاجة إلى النوم.
وهو يقف على ساحل التمني.
– أحيانًا، يعروني شوق للقاء من أصارحه بما في نفسي.
وفي نبرة كالهمس: أخشى أني سأُضيع العمر في انتظار ما لن يأتي!
– لا تتسول الحكم على فعلك من أحد. أنت خير من يحكم على صحة ما تفعله.
وفي لهجة تحذير: أخشى أن الطريق التي تسير فيها ليست هي الصحيحة.
ومض في عينيه ما يشبه الدمع: إن لم تكن، فالعيب في العين التي قد لا تبصر جيدًا.
ودعت الشيخ، واتجهت ناحية محطة الترام، في شارع محمد كريم.