١٨
عبرت قضبان الترام في اتجاه البحر. أبطأت في انحناءة الطريق. أعدت تأمل ما حولي، وواصلت السير.
لأن حكاية ولي الله الزاهدي — هذه هي التسمية التي أطلقها على نفسه، ورددها الناس — شغلت أولياء الله في أضرحتهم ومقاماتهم، قبل أن نبدأ في فك الخيوط المتشابكة، نعيد الأمر إلى بداياته، نتعرف إلى ما يحيطه من ملابسات، فقد قصدت ضريح الزاهدي في الساحة الخلاء، على الساحل، بين الشاطئ والبحر، بين بحري وأحياء الرمل. اعتاد المصلون تقافز النوارس فوق قبته.
همَّني أن أتعرف إلى بواعث البدايات، وتناميها، حتى حدث ما لم يَدُر في بال أحد، من رسو حكايات الترفد إلى ما انتهت إليه، وخفوت الأضواء الساطعة حتى التلاشي.
كان الرجال بلا طريقة ينتسبون إليها.
يتناثرون في الجوامع والزوايا، وأمام الأضرحة والمقامات، يترددون على أعتاب أولياء الله، ومقاماتهم، ويشاركون في موالدهم.
حين بنَوا القبر في الساحة الخلاء، تعددت الاجتهادات حول المعنى، والشخص الذي اختير الموضع لمقامه الأبدي، لا يعرف ناس بحري شيئًا ذا بال عن نشأته، وحياته الأولى، وإن أجمعت الروايات أنه لم يتدرج على المعرفة، إنما خُلق عليها، وتلقى أسرارها. لم يجلس إلى ولي، ولا تلقى العلم عنه.
لم يكن من آل البيت، ولا الصحابة، ولا أقطاب الأولياء. سيرته غير معروفة، وثمة ترجيحات بأنه مقطوع نذره، فهو غير مدفون في الضريح.
الرواية التي مال الناس إلى تصديقها أنه كان يلقي الطراحة على امتداد الساحل، يعود بحصيلتها إلى بيته، في خلاء يبعد عن الإسكندرية. بدَّل مألوف حياته عندما سمع هاتفًا يهتف به، ينبهه إلى ما غاب عنه. ترك الدنيا، اتجه إلى الزهد والتقشف والنسك والاعتكاف.
قيل إنه جاوز درجات الولاية، فبلغ الصديقية. يعرف دخائل النفوس وما تخفيه الصدور، ويحكم على المرء بمجرد رؤيته. يرى ما لا يراه الناس، يدخل الأشياء، ويخرج منها، ويسير فوقها، ويحلِّق في السموات دون عناء. تماهى — بالصدق — ظاهره وباطنه، وحظي بمقعد صدق عند مليك مقتدر.
طال عمره حتى تخرج على يديه الكثير من الأوتاد والأخيار والنجباء والبدلاء والنقباء والمريدين والأحباب.
رُوي أنه يوم وفاته قال لخاصة مريديه إن هاتفًا زاره في المنام، وهمس في أذنه: آن الأوان للمحب كي يلتقي حبيبه.
تهيأ للترقي.
قال الخواص إنه لما أتى أجله، نودي في شوارع الإسكندرية أن الشيخ الزاهدي مات، وأن جنازته ستمضي من ميدان أبي العباس إلى جامع الشيخ، للصلاة عليه، ثم يُدفن الجثمان في موضع — حدَّده — يطل على البحر، المنطقة الواصلة بين نهاية بحري وأحياء المدينة.
تحدَّث الخواص عن طيور كالنوارس رفرفت على موكب جنازة الزاهدي، حلَّقت بعيدًا، وعادت، طار بمشيعيه إلى الناحية التي اختارها موضعًا لدفنه.
قيل إنه أحب الخلاء في حياته، فتمناه بعد الموت، وقيل إنه هو الذي اختار موضع ضريحه بنفسه، وحدد مساحة الحرم الذي يحيط به؛ أرض خلاء، لم يشر إلى أصحابها، عُني بإنشاء الضريح المكسو بالستان الأزرق، إلى جانبه صندوق خشبي باللون نفسه للنذور.
لزم الخضوع من يومها عشرات الدراويش، قدموا من تناثرهم في مواضع الأئمة، أقاموا حول الضريح، يرددون ما اعتادوا إنشاده من أدعية وابتهالات ومدائح.
حرصوا — في أوقات لزوم الساحة — أن يقتربوا من الضريح، فينالوا القدر الأوفى من البركة، ويحصلوا على المزيد من النور والرضا. قالوا إن روح سيدنا الخضر تلبست ساكن الضريح، أمرته بفعل ما فيه خير العباد والبلاد. حذروا من يحاولون التعدي على حمى ولي الله، فإنهم يضعون بأنفسهم نهاية حياتهم.
أحاطوا نهايات الساحة بسور كبير، بابه الوحيد يدخل منه مريدو الولي ويخرجون، لا يُقدِم أتباع الطرق الأخرى على الفعل نفسه إلا بشروط. لكي تتحقق الأخوة، فلا بد أن نقبل بها، انحراف المريد عن الطريق التي اختارها له وليُّه، هو مسئولية الولي، يحذره، أو يعاقبه، يقطعه بسيف الطريقة، لا يعني المريد إن اتهمه الناس بما ليس فيه، هو بريء أمام الله، وفي قلب الولي. المحب لا يغار من المحبين الآخرين، ولا يسلم قلبه للضغينة والعداء.
جعلوا للطريقة بيرقها، وعلمها الخاص، ألفوا القصائد والأغنيات التي روجوا بها لكرامات ولي الله الزاهدي ومكاشفاته وفيوضاته وإشراقاته الكاشفة، هو الملجأ والملاذ، يهب النصيحة والبركة والعلاج والدواء لكل من يقصده من الذين عانَوا العلل.
جعل لمريديه لغة خاصة، مفردات ومصطلحات وتعبيرات، يتبادلونها فيما بينهم، يعرفون — وحدهم — معانيها، تَغمُض، أو تغيب، في أسماع الآخرين، فلا تشيع أسرار الطريقة في غير أهلها، ومنعًا للدخيل بين الطريقة، فلا يعرف ماذا يشغلهم، ولا ماذا يتدبرون، ويسعَون إلى تحقيقه. يغلبهم الوجد، فيتكلمون اللغة الخاصة التي تعلموها من الولي، لغة غير مفهومة للناس، وإن اطمأنوا لها.
أظهر الناس دهشتهم، فلا يعرفون سوى العربية، سمَّوا اللغةَ الغريبة رطانةً، وانصرفوا عن سماعها.
قال أتباع الولي للنظرات المندهشة، والمستغربة، إنها لغة التخاطب بين ولي الله وبينهم، خصَّهم بعلمها، فلا يعرف سواهم مفرداتها وتركيباتها. كان يتعمد إخفاء المعاني الكبيرة، لا يكشف عنها لغير خواص المريدين والسالكين، يخشى من إساءة الفهم، أو الإفشاء بغير المعاني الحقيقية، يكتفي بالإيماءات والتلميحات والإشارات، وإن خضع كل مريديه لطقوس وأسرار، تقتصر عليهم، لا يأذن بأن يعرفها سواهم.
ما لاحظه مريدو الزاهدي ومحاسيبه، وأحفَظَهم على مريدي آل البيت، والأقطاب من أولياء الله؛ أنهم لا يشاركون في احتفالات مولده. أخضعوا أنفسهم لولاية الشاذلي والمرسي وياقوت العرش والبوصيري ونصر الدين وكظمان والبدوي والدسوقي والتيجاني وخضر وغيرهم من الأقطاب، لكل جماعة سجادتها المعتمدة، وأعلامها وبيارقها، والإيقاعات التي تفرق كل طريقة عن الأخرى، والآلات التي تكاد تقتصر عليها، يدينون بالولاء لمن اختبروا مكاشفاتهم وكراماتهم، وأنسوا إلى ريحهم الطيبة، لكن ولاية الزاهدي — في يقينهم — بلا جذور تنتسب إليها.
كتب مريدو الزاهدي مؤلفات تناولت حياته، ونسبت إليه من الخوارق والمعجزات ما يضعه في مكانة متقدمة بين الأولياء. قالوا: نحن لا نقرأ عن ولينا، إنما نقرأ له. هو رحل، لكنه ينصحنا، ويدلنا إلى الطريق الصحيحة. وقالوا: القراءة لغير القطب تصدمنا فيما تعلمناه، وتشوِّش على عقولنا.
دل تلاميذه على طرق العبادات والمجاهدات والرياضات، وعلى أحوال المراقبة والقرب والوصال، والخوف والرجاء، والشوق والأنس والطمأنينة وغيرها. أرجع التلاميذ بعض العبارات التي تحمل عنفًا أو قسوة إلى أحوال تملكت الشيخ، فعباراته صدرت عن إرادة لا تخصه.
تداولوا الخوارق والمعجزات المنسوبة إلى ولي الله، رقي مراحل السلوك، بدايةً من مجاهدة النفس، فتعدُّد المقامات والأحوال، حتى منازل القرب. انتهى إلى ما يرى الناس تأثيراته، يجدون في الولي قطبًا عالي المكانة، تجلى له الحق بكل أسمائه الحسنى، وهبه من نوره ما ساعده على كشف الماضي والحاضر، والتنبؤ بالمستقبل، أعطاه علم أسرار المفاتيح على اختلافها.
صار مأوًى لتلاميذه، يؤمنون بأفعاله، يلتمسون في حضرته النصفة والمدد، وما بالجنة من النعيم الدائم؛ أنهار اللبن والعسل والخمر، والأشجار والأنوار وأنواع الكرامة والخدم والغلمان والحور العين، يكنسون تراب المقام، يقبضونه في أيديهم، يضعونه في جيوبهم.
اعتاد التلاميذ الوقوف في ساحة ضريحه، يشير المريض إلى موضع الألم في جسده، ويتمنى الشفاء، من يستغث بالولي للبرء من المرض، زال المرض بعون الله من جسده، لا يرى يد الولي حتى خواص تلاميذه، تمسِّد مواضع الألم فيغيب، كأنه لم يكن.
رُويَت حكايات عن قدرته على التبرئة من مرض الموت، وتجفيف مياه البحر، وتحويل الماء المالح إلى عذب، وقطع المسافات البعيدة في ارتجافة رمش، والطيران في السماء، والوجود في أكثر من مكان في وقت واحد، وإخضاع الحيوانات المتوحشة والجان. صلته بالجان لا تقتصر على مخاطبتهم، والتوسل لرد ما يعدُّونه لأذى الناس، إنما هو يأمر، فيلبي الجن أوامره.
قيل إن ما يُنسب إليه من أفعال، استمده من قوًى إلهية يعجز البشر عن إدراكها. وكانت عيناه تريان أشياء لا يراها مريدوه، كأنه ينظر بعشرات الأعين، لا يفلت حتى ما لا يتصور أحد أنه رآه.
تعالت ذات ضحًى صيحات الواقفين على الكورنيش الحجري، أمام المينا الشرقية، لسقوط صياد سنارة من فوق الصخور اللزقة، بدا أن صدمة وقوعه في المياه أفقدته الوعي. قبل أن يحاول الناس إنقاذه، امتدت يد تنتزع الصياد من الموج المرتطم بالصخور.
أدرك الناس أن ما حدث هو بركة من ولي الله.
عرف عنه الناس إمكانية تصرفه في الكون، رآه المريدون يخاطب طيور الساحة، والطيور تجاوبه، هي لغة الطير وليست لغة البشر، تعكس تصرفات الطير ما بين سكون وتحليق وأفعال تفاجئ الناس باستجابة الطير لمخاطبة ولي الله، واستجابتها لأوامره.
أهم ما يمتلكه سيطرة مذهلة على الأفاعي والثعابين والحيات، يومئ لها بفعل الخير، أو يتغاضى عن أذاها لمن يستحقون الأذى.
الله هو الذي يهب القدرة على الكرامات والمكاشفات لمن يشاء من عباده، يمدهم بما يعينهم على قضاء حاجات الناس، والتحرك بالأفعال لإصلاح أمور الناس، وحمل أثقالهم. من يقف على المقام وله حاجة، فلا بد أن تُقضى.
لم يهب الزاهدي الولاية لنفسه، إن حدث، فقد منحتها له القوى العلوية، ثبتت في ذاكرته المقامات والأحوال والسلوك، مثل المحبة والرجاء والخوف والرضا والصدق والتوكل، أملاها على تصرفاته، يعبُر — بلا مشقة السباحة — بحار الطريقة، يجاوز الترقي في المقامات ليصبح قطبًا، وليًّا، عالي المكانة.
قطع درجات البعد والانقطاع — في روايات مريديه — وتجاوزها، دخل في الصفات الخفية، وفي درجات القرب، وحدوث الترقي الحقيقي، تدرج في أحوال المراقبة والقرب والمحبة، والخوف والرجاء، والشوق والأنس والطمأنينة والمشاهدة واليقين، بلغ في اجتهاداته مرحلة المكاشفات والرؤى الروحية. رقَت به أفعاله إلى الأفق المبين، نهاية مقام القلب.
رد أقطاب الطريقة ما أثارته الفرق الأخرى من شكوك وتوجسات، ما نُسب إلى الولي من أفعال تحوطها الظلال، دافعوا عنه بكل ما أوتوا من قدرة على الإقناع، أذاعوا الحكايات التي ترفع من قدر وليهم، وتنسب إليه مظاهر القوة والخوارق والمعجزات، ضربوا مريدًا في الطريقة الشاذلية، ظل على رفضه لولاية الزاهدي. ترصدوا له في انحناءة الطريق إلى الشاطبي، زايلوه بعد أن فقدَ القدرة على الحركة تمامًا، نقله الناس إلى المستشفى الجامعي.
الولد خليل بداية سعي أولياء الله لقطع دابر المشكلة، فلا يشرف بالولاية إلا من يؤهله لها يقينه الديني، وما نشأ عليه من زهد في متاع الدنيا، ومعرفة بالأصول، وتذوق معاني اسمه الصمد.
أعلم أنه حين اشتد الكبر والمرض على الزاهدي، اصطنع خادمًا، ليحل بدلًا منه في إمامة المريدين، والقاصدين من الغلابة والمنكسرين وطالبي المدد.
تشفع المعلم عبد الله البنط للزاهدي كي يبرئ الله «خليل»، ابنه الوحيد، من مرض أقعده عن الحركة، نذر إن نهض الولد من مرضه، أن يفرغه لخدمة صاحب المقام، ينظف حول المقصورة، والميضة، يمسح المياه التي يخلِّفها وضوء المصلين، يتولى تنظيف المقام ورعايته، يمد الحصير في الساحة المحيطة، يشتري ما يحتاجه من زيت الإضاءة واللمبات والشموع والبخور والمكانس، ينظِّم تردد الناس. كانوا قد زادوا بحيث يصعب عدهم.
اصطفى الزاهدي الولد خليل لحضرة أنسه، قرَّبه، وخصَّه بكلماته وتعاليمه وتوجيهاته ونصائحه، ترك له أمر تدبير المقام، وما يحتاج إليه، وتلبية احتياجات المترددين عليه، إفادة من الصلة الكريمة بين الذات الإلهية وبينه.
ظل خليل على صلة بالقطب، يلتقيه في المنام، وفي لحظات الصحو التي يستغرقها الشرود، يوصيه بما يجب فعله، يحذره مما قد يشوب أداء الطريقة.
لازم خدمته، وأزمع ألا يفارقه.
رأى من أحوال الزاهدي ما دفعه إلى الإيمان بولايته، بأقواله وتصرفاته، وما يشغل قلبه من محبة الناس.
أودع في نفسه أسرار الزاهدي، كتمها كأنها أسراره الشخصية، وإن رُوي الكثير عن ميله إلى حياة النسك والتقشف والزهد، تمضي الأيام فلا يدخل جوفَه شرابٌ ولا طعام، تتوالى قراءاته في كتاب الله، يرهقه التعب، أو تشتد حاجته إلى النوم. يتجه — بعينيه وهتافه — إلى من يراه هو وحده، يطلب المدد، تعروه في اللحظة التالية طمأنينة وهدوء، يُقبِل على ما بين يديه من قراءات، كأنه قد بدأ في اللحظة نفسها.
بعد وفاة الزاهدي، أشرف الخادم على تجهيزه بنفسه، وصلى عليه، وسعى وراءه حتى وُسِّد الترابَ.
لزم خليل خدمة مقام الزاهدي. أزمع أن يُمضي حياته إلى جوار المقام، لا يتركه حتى يأتي الأجل.
أهم ما عُني به ترغيب الزوار في صاحب المقام، يروي ما ثبت في ذاكرته من مكاشفات الولي وبركاته. وكان أجمل ما يعتز به الخادم متعلقات الشيخ؛ الجبة، القفطان، العمامة، النظارة الطبية، الحذاء، العصا، المسبحة، المسواك، معجون الأسنان، فرشاة الحلاقة، المناديل الورقية، يجفف بها عرقه.
أسند الخادم إلى نفسه مهمة التعريف بولي الله، لمن غابت عنه مكانته بين أهل الإسكندرية والمترددين على مقامات علمائها، تنقَّل بين موالد الأولياء، وتطوح في حلقات الذكر، تكلم عن أصل ولي الله، ونسبه، ومن أوحى إليه بإنشاء الطريقة، وماذا تحقق للناس على يديه، والكرامات والمناقب التي تحققت بها فوائد كثيرة. ما يعرفه من أسرار الزاهدي هوامش على متن الخوارق التي ينفرد بها ولي الله، يصعب أن يحيط بها بشر عادي؛ لأنها وليدة الصلة بين الحضرة الإلهية والولي.
حكى خليل من سيرة القطب ما لا يعرفه الناس، ما لا يبلغه أحد من تاريخه، نسب إلى وليه ما لا يدخل في حصر حاصر. زاد إقبال الناس على زيارة الضريح، والْتماس البرء من العلل، والتخلص من المظالم والشرور، والتفريج عن ضيق النفس والقلق والخوف، واستمالة من يضن بحبه، وإلحاق الأذى بمن بادر بالشر، ومحو مرتكب الكبائر بالكلية.
فتح لي الأوتاد والنقباء والمريدون — ليلة قدومي إلى بحري — أولى الصفحات، فسهل عليَّ تقليب الكتاب حتى نهايته، والتصرف وفق ما يمليه خلاص بحري من مدعي الولاية.
أهمل الخادم أن تكون لمولد الزاهدي — مثل الطرق الأخرى — سرادقات خاصة، يعلو فيها الإنشاد والمديح والشروح والأوراد والأحزاب والقصائد، أجاد توزيع المريدين في الساحة الخلوية، بدَوا حشدًا هائلًا، يعمقه حلقات الذكر وسرادقات الإنشاد وجماعات المنشدين، وإيقاعات الأبواق والنايات والمزامير والصنوج والمندولين والدفوف.
جماعات المريدين تخرج في مواكب، تعلوها الشارات والأعلام، تردد الأهازيج والأغنيات، تطيل التوقف أمام المواضع التي يعرفون أن ولي الله زارها، مر بها، أو أقام فيها. هي مواضع نالت بركة، يجد فيها المريدون مزارات تخصهم، يؤدون الطقوس التي تختلف عن طقوس الفرق الأخرى.
لم تعد إقامة المريدين تقتصر على السرادقات والخيام ومداخل البيوت، ولا في طريق الكورنيش، والشوارع الضيقة الجانبية، تناثروا في الأرجاء؛ ينامون على الأرصفة، يأكلون جماعات وفرادى، يُلقون المخلفات، ويقضون حاجتهم، لصق الجدران، وعلى الأرصفة، وفي قلب الطريق.
حاول خليل أن يضيف إلى الطريقة، ويغيِّر. لما غلبه اليأس أزمع المسايرة، وإبقاء الحال على ما هو عليه، حتى يأذن الله بالتغير الذي يأمله.
ضاق مأمور قسم الجمرك بالحال، فأوقف الجلوة التي تحتفل بمولد ولي الله. كانت طلائعها تخطو ناحية شارع الأباصيري. أمر أن يقتصر احتفال المولد على مساحة الأرض المطلة على البحر، فيه تُقام السرادقات والخيام والأكشاك، تعلو الزينات، ترتفع إيقاعات الطبول والدفوف والمزامير، لا يزاحمون مريدي أولياء الله في ترددهم على ميدان أبي العباس وميدان الأئمة، لا يزورون مساجدهم، فيطلبون ما خصهم به الله من الشفاعة والنصفة والمدد.
حذره خليل من أن يتعرض لاحتفالات مولد الولي، أو لمقامه، أو ضريحه، تحدث عن قدرته على إيذاء من يتعرض لسيرته، أو لضريحه، بالإساءة. أرجع المأمور تحذيرات الخادم إلى الخرافة وأفعال السحر.
ابتلع الضابط كلماته، ودخل في حالة توبة، عندما نزل من السماء — في رواية أتباعه — ضوء خاطف، لم يتبين الناس تفصيلاته. أكل بنيرانه ثلاثة أو أربعة من جنوده، كادت النيران تلامس ثيابه، لولا لطف الله، صدمة ما رأى أذهلته عن نفسه، صارت التوبة هي الملاذ الذي احتمى به.
أخذ خليل على من يقصدون المقام أنهم لا يزكون طلباتهم من ولي الله، لا يتوسلون بهدايا لشفاعته وكراماته، كي يبرءوا من المرض، ويتجنبوا الأذى، ويُنصَفوا من الظلم، ويستعيدوا الحقوق. تقاطر مريدو الزاهدي ومحاسيبه على الضريح للتبرك، وقراءة الأوراد والأذكار، يذبحون على أعتاب المقام ما نذروه من العجول الصغيرة والخراف والماعز، ربما اكتفى أحدهم — لقِلة حيلته — بذبح إوزة.
قدم الكثيرون من خارج الإسكندرية، أخذتهم حكايات الزاهدي، وما نُسب إليه من خوارق ومعجزات، اعتادوا الاستشفاء بتراب قبره. حملوا نذور النقود واللحم والفول النابت والفطير والدقيق والسكر والعسل والتمر، دفعوا الهبات والصفات والنذور، ينفق الخادم من حصيلتها على مولد الشيخ السنوي.
خيَّم مريدوه والمؤمنون بمناقبه حول المقام، حتى تخلَّق ما يشبه الحي المنفصل عن بحري، والمتصل به. أهملوا التردد على أضرحة أولياء الحي ومقاماتهم، وخيام الرواة، وحلقات الذكر، ومجالس قراءة القرآن. تحولت الساحة — أمام الضريح — إلى سوق كبيرة، تشغي بالأحباب والمريدين والتلاميذ والأصحاب والمحاسيب والهتافات والأدعية والتهدجات، وسرادقات الإنشاد والمديح والخطب، والسماع والغناء، وأكشاك الحلاقة والختان والوشم، والباعة وألعاب المولد.
سكت مريدو أولياء الحي عن الشرط الذي حمله خادم الزاهدي، أن تكون كلمته نافذة على كل الشيوخ؛ يلتزمون بما يقضي، من يأذن له بورد يرفض أن يتركه أبدًا، هو الورد الذي رضي به الشيخ، ومن واجب المريد ألا يخالفه.
أعلم أن المرأة خاصمت مقام الزاهدي؛ لأنها قدَّمت من مدينتها البعيدة ما يفوق طاقتها من الهدايا والأعطية والنذور، فلم يزايلها العقم، طال ترددها على المقام، بعد أن أسلمت نفسها لجراحات صغيرة، لكن حلم الإنجاب ظل بعيدًا.
نقل إليها الخادم خليل قول الزاهدي — لم يقل الميت شيئًا، إنما هي فِرية أملاها تشويش على ذهنه — إن ما تعانيه عيب خلقي في رحمها، تسلم جسدها للدحرجة، فيغيب العيب، ويسترد الرحم عافيته.
خص الله دحديرة أبي العباس ببركاته، من يصعد إليها، أو يهبط منها، في المسافة بين الميدان وشارع الموازيني، ويكثر من الأدعية والتشفع في ولي الله؛ ينعم بالطمأنينة والستر في حياته، ومن تسلم جسدها للتمرغ على الأرض الترابية، يمنحها الله ما استعصى على بطنها من الخلفة.
حدد الولي أربع مراحل؛ أولاها التقلب على الدحديرة، يليها الكشف، والاستمالة، وإخراج المعاناة من الجسد المتعب.
حين أبدت المرأة تخوفها، تحدث الخادم عن حسن الاعتقاد في ولي الله، وأن الإيمان بقدرات الولي، والتسليم بأوامره، وسيلة التغلب على أوجاعنا.
أقنعت نفسها بالتمرغ على الدحديرة، البركة هي ما يهمها، لا يشغلها إن كان السر في القرب من جامع المرسي، أم في الولي الذي انتهت أيامه.
لقَّنها الخادم تعويذة الدحرجة، كرر التعويذة حتى حفظتها جيدًا، تبدأ قولها ببداية الفعل، لا تسكت حتى تتمها، تكررها في توالي الدحرجة، إلى النهاية التي حددها الولي. ينفض الجسد عنه ما تلبَّسه من جان وأشباح وأرواح شريرة، يساعد على الفعل ما يردده خليل من تعازيم وتعاويذ، نقلًا عن ولي الله، تحل على الجسد بدلًا مما تنزعه عنه بركات الولي وكراماته.
عملت المرأة بنصيحة ولي الله، أهملت جسدها أعلى الدحديرة، تدحرج الجسد بما لم تتوقعه، ولا تصورته، كأن يدًا خفية تدفعه، تزيد من انحداره على الدحديرة، شملتها ارتعاشة لم تستطع إيقافها، ولا السيطرة عليها، كأن الشيطان مسَّها، أو حلت فيها روح تعكس وجودها، في اختلاط النشيج والصراخ والعبارات المدغمة.
لم تفلح المرأة في التشبث بنتوءات الحجارة، ولا صيحات الاستغاثة، ولا العوائق التي قذف بها الناس أمامها، سقط حتى الرجال الذين حاولوا إيقاف اندفاع الجسد، كأن قوًى خفية أملت على جسد المرأة إرادتها، اتسعت — بتوالي الدحرجة — مواضع انبجاس الدم، غطت الجسد بالحمرة.
توقف الجسد — ببركات الست مدورة — أول الدحديرة، لحقتها يدا الست الطاهرتان قبل أن يأخذها الموت. أنفاس المرأة تشي بحياتها. ما أثار انتباه الناس وفزعهم، تدفقُ ما يشبه الدماء السوداء من جسدها، تصاعدت الدماء مثل نافورة، غطت المكان في دائرة واسعة حولها، وتناثرت على الجدار الجانبي للجامع، وعلى واجهات البيوت المقابلة.
ما جرى للمرأة لأن الشاذلية من المريدين، والساعين إلى النصفة والمدد، استغاثوا بالأولياء في بحري كي يطمسوا ما يمتلكه أتباع الزاهدي من السحر الأسود.
صحب الناس المرأة إلى مستشفى رأس التين، لقيت رعاية، استردت بها صحتها، عادت إلى زوجها قطب الطويل الفريش في حلقة السمك وأبنائها الثلاثة.
نظرات الغضب تابعت الولد خليل وهو يمضي فوق قارب مبتعدًا في اتجاه أفق المالح، حتى اختفى.
تملَّكَت مريدي الزاهدي الحيرةُ، وعجزوا عن التصرف.
بدا ذلك هو الوقت المناسب ليعرف الناس من الشيخ عبد المولى الطويل، شيخ الطريقة الشاذلية، أن المرسي يرفض ما لم يقضِ به.
أدرك الناس أن قطب الشاذلية لا يعرف الولي الجديد، وأنه من اختراع مريدي طريقته. زرع الكراهية في نفوس المريدين، فهم يرفضون ما عدا أفكاره وأقواله وتعاليمه وأوامره، والسير في طريقته.
عرفوا أن الضريح في الأرض الخلاء يضم من لا يملك شفاعة ولا مددًا، المكاشفات والبركات في حياته، وبعد رحيله، دعاوى مريديه، هي تآليف وحكايات نسجتها الأخيلة، يضيف إليها احتواء الطريقة من يعتقدون السحر والكهانة، من مريدي طرق أخرى، أو أنهم بلا طرق ينتسبون إليها.
عادت معارك الشوم والسيوف والسكاكين والزجاجات المليئة بالرمل، وغيرها من المعارك التي تصوَّر الناس زوالها بزوال أيام أبي خطوة وحميدو الفارس وعلي التتة ومحمد الدلو ومحمد النجرو والسكران.
انطفأت الشعلات في أيدي الآلاف من مريدي الزاهدي، بدت الطريق مسدودة، أو تفضي إلى خواء.
ظلت الساحة خالية موحشة، لا يتحرك فيها سوى اختلاط التراب والرمال والأعشاب الجافة والأوساخ، تدفعها الريح القادمة من البحر.
توقعي — بحدس النبوءة — قلة عدد المترددين على الضريح بنذورهم وهداياهم ودعواتهم بالشفاعة والمدد حتى التلاشي، تتهرأ كسوة المقام، وتشحب خضرتها، وتتشقق في جوانب منها، ويتقشر الطلاء، تمسي بلا لون. تهرؤ أعلام الطريقة وبيارقها في الزوايا، تمزقها، تحولها إلى أعمدة خشبية بلا زينات وتعاليق.
يقيني أن الزاهدية — في قادم الأيام — من الماضي، يتذكرها الناس للدرس والعبرة.