١٩
رنوت إلى شمس الأصيل الغاربة، والمآذن وأسطح البنايات والأدوار العليا.
أخذتني الطريق، لم ألحظ الشوارع التي سرت فيها، ولا إلى أين تتجه. اخترقت الشوارع القريبة من البحر، كل شارع لا بد أن ينتهي إليه، تركت لقدميَّ السير في الشوارع الضيقة، المتوازية، المتقاطعة، المتشابكة، المتسربلة بالرمادية أو بالظلمة، المتجهة — في تلاحقها — إلى طريق الكورنيش، في يقيني الله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله. أفتش بين الوجوه عن وجه أعرفه، ينادي كلٌّ منا الآخر باسمه. أطيل التوقف أمام المزارات التي يُستحب فيها الدعاء. أبذل للكثيرين ما أقوى عليه من الإحسان والصلات. أنزل السلالم المتكسرة إلى السراديب والأركان والحنايا المظلمة والبدرومات. أتلو الرقى والتعاويذ، أهمس بأدعية تُذهِب الشر، أحرص على فعل الشيء الصحيح، أن يكون كل شيء في موضعه تمامًا.
حل المساء، بعد أن توارت الشمس في نهاية الأفق، مخلِّفة وراءها ألقًا من اختلاط الألوان. أُضيئت المحالُّ والمقاهي والكازينوهات على طول الكورنيش، من مرسى القوارب إلى انحناءة الشاطبي.
أعرف الكثير ممن يكتفون بالقرآن الكريم والحديث الشريف والسنة المحمدية، لا يجاوزونها إلى ما يرَونه مزاعم وانحرافات وميلًا إلى الزندقة. يرفضون المتصوفة، ويستنكرون الشيعة والخوارج والمرجئة والرافضة والقدرية والمعتزلة والجهمية والكرامية والأشعرية وغيرها، أما الزنادقة والملاحدة والمارقون من الدين فإن موضعهم في قاع الجحيم.
فاعلم أن التعبير عن الإيمان هو في يقيننا ليس بتلاوة القرآن والذكر والصلاة والقيام والصوم، وإنما بفطرة القلوب على الإيمان. التصوف لا يقتصر على الحضرات والأوراد والأحزاب والتهدج. نور الذكر المنبثق من إخلاص المرء، يتقيه الشيطان، فلا يحاول الاقتراب.
أشعر أن أوقاتًا قاسية على وشك المجيء.
طريق الصوفية تختلف عن الطرق التي يسير فيها الناس العاديون. للصوفية أسرارها التي تستعصي على الأفهام. على المرء أن يحسن التوقعات ودراسة الاحتمالات، لا يهمل أي شيء مهما يبدُ تافهًا وبلا قيمة. ذرة الغبار قد تؤذي العين.
يسقط المرء منذ مولده في الكثير من الحفر، يخلِّص جسده ونفسه، لا تنتهي معاناته إلا في الحفرة الأخيرة، حفرة القبر.
علمتني الصوفية أن الإيمان يستطيع تحريك الجبال، الصوفي — بالاستغراق في التأمل — قد يصبح واحدة من موجات البحر.
ما اختبرته في الحياة الدنيا، وفي البرزخ، ومن يقين إدراكي بأن ولي الله يعرف البدايات والنهايات، الطبائع والهواجس وما تحمله النفس. يخاطبه الناس بالضرورة بما في نفوسهم.
هل الخطأ في الفهم، أو في تقصير الأولياء عما أهَّلهم له العلم؟
الصوفي الحقيقي لا يسأل كيف تستغرقه الصوفية، ماذا يفيد من طرائقها، وإلى أي الفرق يتجه. هو يُقبِل على العبادة بالحب المبرَّأ من الشوائب، لا غرض شخصيًّا، ولا سعيًا إلى المكاشفات والكرامات وخوارق الأفعال، هو يحب الذات الإلهية وحدها.
أذكر عظتي في جامع العطارين: إذا عارض كشفك الكتاب والسنة، فتمسك بالكتاب والسنة، ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى قد ضمن العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإلهام والمشاهدة، مع أنهم أجمعوا على أنه لا ينبغي العمل بالكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة، إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة.
الصوفية طريق الرياضة والمجاهدة. البعرة تدل على البعير، والصوفي يرى أثر قدرة الله في كل شيء.
الصوفي يتخلق بأخلاق الله.
إذا كان مريدو الصوفية ينجذبون إلى ولي، يلتمسون مدده، يستمطرون بركاته وأفعاله الخيرة، فإن انجذاب الصوفي الحقيقي إلى الله تعالى، يحظى بالقرب والوصل في ظل أنس الله ورحمته.
تفرعَت عن الطريقة الأحمدية ست عشرة طريقة، لاحظت التشابه فيما بينها، ما تنسبه كل فرقة لنفسها من تفرد في الطقوس والأذكار لا يكاد يبين.
أجد في الطريقة الرفاعية ما يدعو إلى تقديرها، يحزن القطب أحمد بن علي أبو العباس لمن ينضمون إلى الطريقة بلا حرفة يعملونها، والاطمئنان إلى الدعة وفقدان الهمة. الغلو في المذاهب والفرق مما يصعب التهوين منه، أو إغفاله. لا شأن لولي الله الرفاعي بشق الجلابيب، ولطم الخدود، وابتلاع النار، وأكل الثعابين والحيات، ومضغ الزجاج المجروش، والتمدد على المسامير، وغرس الأسياخ في الوجنات، وضرب الصدور بالسلاسل الحديدية.
الصوفي يسلك الطريق الصحيح، ما دام على الكتاب والسنة، مقيد بهما.
لا يخرج الصوفية عن طريق أهل السنة والجماعة، طريق روحي يحرصون على السير فيه.
المسالك لا نهاية لها، أو أنها مسدودة لو ابتعد المرء عن الكتاب والسنة. الوقوف عند حدودهما، وضبط إلهاماته وتصرفاته وأقواله عليها.
أول ما يُعنَى به أولياء الله تيسير ما تعسَّر من أحوال المسلمين، وحل ما تعقد من أمور حياتهم، والتفريج عن الكربات التي يعانونها، ومساعدتهم على تطهير أنفسهم من الآثام، وتفريغها عن كل ما يشغلها. عندما شاركت في الحروب، فقد كان ذلك لنصرة المسلمين، الضعفاء منهم خاصة.
ما يشغل الأولياء تقريب الشرع من أفهام الناس، وتبصيرهم بمبادئ الكتاب والسنة، وريادتهم إلى ما فيه صالحهم الشخصي، وصالح الأمة. أشفق من التصور أن الولي يقدر على كل شيء؛ يحيي الموتى، يشفي المرضى، يعين الناس على مجاوزة قساوة الظروف. أوقِن — أو أكاد — أن من يرتدي خرقة التصوف، لم يستحم، ولا بدَّل، أو غسل، ما ارتداه من سنوات. يكاد يبلغ مرتبة الشرط أن من ينضم إلى الشاذلية لا بد أن يكون مشتغلًا بحرفة.
الصوفي لا يحيا عالة على الغير. بل يشغل ذهنه، يتعب بدنه، يكسب من يديه. أعرف متصوفة زاولوا من الأعمال والحرف ما تعجز عن أدائه أبدانهم الضعيفة.
الدوائر تتلاحق، المسالك تفضي إلى دروب ومفارق وتقاطعات ومنعطفات، تعاني التشابك في الخلاء والسواحل والبنادر والمأموريات والمراكز والنواحي والقرى والعزب والكفور، ما يذكِّرني بشاذلة، قرية الإقامة في تونس، قبل أن أتجه إلى مصر.
ثمة شيء غيبي تلوح نُذره وتأثيراته. يفتقد المرء اليقين، فتتساوى نظرته إلى كل الأشياء. نظرتي في المآذن والأبراج والقلاع وأسطح البنايات والأدوار العليا.
جاوزت المشاهد القريبة إلى ما في امتدادات الرؤى من الميادين والشوارع والحارات والأزقة، والأسواق والدكاكين، والدور والقصور، والوكالات والحمامات والرباع والقيساريات، والطواحين والأفران، والفنادق والقهاوي، والكتاتيب والجوامع والمساجد والزوايا والمدارس، والأسبلة والمستشفيات، والمعسكرات والغيطان ومساقي الدواب وأبراج الحمام والأسوار.
قبل أن أبدأ الخطو، رنَت عيناي إلى السماء.
أطلتُ التأمل، ثم واصلت السير.
المسالك على حالها، لكن الأعين لا تحسن الرؤية ولا التبصر، تنشغل بالجوانب والتفريعات، فتخطئ اتساق الطريق.
لمَ لا يلجأ الأولياء وخلفاؤهم إلى علمهم، ورؤاهم الصائبة، لإغاثة فرق الصوفية من المزالق التي تنحدر إليها؟
الرسل والأنبياء والأولياء أكمل العارفين. النُّذر تشي بما يغيب عن البصر غير المتبصر؛ أُهملَت موارد الرزق، تماهى الحلال والحرام، كثر السلب والنهب، غاب الأمن، ذوى العزم وتلاشى في نفوس المسلمين، عانى الناس منعهم من الأخذ بالأسباب، والإرهاق الذي يصعب احتماله، ومن استشراء الفساد والفتن والشرور. انطوى بساط الخير من تحت الجميع.
لا شأن للصوفية بزمان ولا مكان، هم مسئولون عن ناس العالم، أي أرض يعيش فوقها مسلمون، وهب الله الصوفي أسراره، وأراه ما يغيب عن أعين الآخرين، يصبح البعيد عن مكانه قريبًا، يخترق الجدران، يعبر الأبواب الموصدة، يَرى ما لا يُرى، لا يصدُّه عائق من أي نوع، حتى المحيطات والبحار والأنهار، والجزر والجبال والكهوف والغابات والأودية.
شغلني أن أجوب أركان العالم الأربعة. أسيح في كل ما تطؤه قدماي، لا صحبة، ولا جواد، ولا حتى عصًا أتوكأ عليها، أمضي في مسالك أهل الصلاح، قضاة الديوان — صوت الغلابة والمنكسرين، ومن لا صوت لهم — أصحاب المكاشفات والكرامات ومشايخ الطرق. أشد الرحال إلى أضرحة الأولياء ومقاماتهم وجوامعهم ومساجدهم وزواياهم وخلواتهم في المدن والقرى، مهما يبتعد المكان.
اللهم إنا قد عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا، من حيث نعلم بما نعلم، فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم؟
أتاحت لي الأيام، وما حصَّلتُه من معارف وعلوم، وما أفدتُه من تجارب وخبرات، أن أتعرف إلى حقائق أهل القرب، من يعرفون الفَرق بين مسالك الرشد ومعالم الضلال. غاية همتي ومرادي بلوغ الإنسان المؤمن، أيًّا يكن موضعه. في داخل المرء تدينه الذي قد لا يختلف عن تدين الآخرين في جوهره، لكنه يختلف في فهمه للتفصيلات الصغيرة، ما ينبغي أن يكون عليه الأداء.
لن أَقصُر رحلتي إلى فِرق لها أقطابها الكبار.
سأمضي إلى الروافد، الفرق الصغيرة التي يؤمها شيوخ أرادوا القرب وليس إنشاء أنهار صوفية، السالكون في طريق القرب، لا أستثني حتى السالكين المبتدئين، الفرق التي تحاول انتظام ترددات الأنفاس. من طال انتظارهم لهدي الطريق. نسبوا أنفسهم إلى الصوفية، فعليهم أن يعملوا بمبادئها، لا يخلطون بين قواعد التصوف وسلوكيات الحياة، يستغرقون — عن يقين وبصيرة — في بحر التوحيد والعرفان. أخاطبهم، يعينون أتباع فرقهم على عبور ما يعترضهم من مفاوز وأخاديد، ما يمنع الروح من عالم الرؤى والمشاهدات. ربما حذفت ما لا ينبغي إظهاره، واكتفيت بالإيماءة والإشارة، يستمر السالكون على المجاهدة، يمرون — بأحوالهم وليس بعلمهم — على المنازل والمقامات، يسلكون الطريق إلى غاية لا بد من بلوغها، عين الحكمة، عين اليقين. تتلاشى الظلمة، يحل بدلًا من الليل نهارٌ دائم، تحمل أشعة الشمس نسائم طرية، تختفي الرياح والعواصف والأعاصير، تتفتح الورود في غير أوانها، تتناهى ألحان علوية، تمتد آفاق ملكوت العظمة والهيبة والجلال.
سلكت طريق البحر، سرت في موازاته.
الشمس تشرق ثانية، ترافقني.
أتوق للقاء من أصارحهم بما في نفسي، ما يعانيه الناس، وأعانيه، وأطلب الفهم.