٣
بداية حياة أعتز بها منذ قدومي إلى مصر، حتى نهاية صلتي بالدنيا الزائلة في حميثرا. أفق البحر يلغي الزمان والمكان، هو هو على حاله منذ الأزل، التغير في الأرض، شغلها العمران بما بدَّل ظاهرها.
الشيخ محمود البوريني.
وقفته في مواجهة البحر لم تغيب صورته التي أذكرها. عقد يديه وراء ظهره، وتطلع — بعين متأملة — إلى امتداد الأفق.
القامة القصيرة، النحيلة، الوجه الباسم ذو الملامح المطمئنة، والعينان السوداوان، العميقتان، تطل منهما نظرة هادئة. أحفظ نبرة صوته، وحركات يديه أثناء الكلام.
تابعت إمامته في جامع البوصيري، ثم في قصر رأس التين، وانتقاله إمامًا في الباخرة «المحروسة»، زمن الخديو عباس حلمي الثاني.
هل يستعيد أيامًا خالية؟
رواياته المتكررة لسيرة رسول الله، وسير الصالحين من آل البيت والصحابة والتابعين؟ دعوته إلى التمسك بأصول الإسلام، بالقرآن والسنة والحديث؟ خطبه المدافعة عن الخديو الذي عزله الإنجليز؟
آخر علاقة الشيخ بالإمامة، وبالعيش في الديار المصرية، لما استعاد الشيخ قطب الزهار — إمام مسجد ياقوت العرش — قول الله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.
أفاض الإمام في شرح الآية. حذَّر من مخالفة السلطان، أو التمرد عليه، المؤمن العاقل يقدِّر عواقب مخالفة الرعية لأوامر الراعي.
علا صوت الشيخ البوريني، قبل أن يتهيأ الإمام للنزول من المنبر: لا طاعة في معصية!
ولوَّح بقبضته، كأنه يؤكد ما يقوله: الحاكم الظالم لا بد من زواله، وإن تمسك بالحكم يجب قتاله!
قال الإمام: من يعارض حاكمًا فهو يُحرَم بركة أهل زمانه، ويخالف أمر الله!
قال البوريني: أحب مولانا ابن عربي، لكنني أتحفظ على قوله إن الله إذا سلط ظالمًا على قوم، فيجب ألا يقاوموه لأنه عقاب من الله.
– قول طيب، فالحاكم يملك ما لا نملك، وهو الذي يمنح ويمنع.
وتفحَّص المصلين بعينيه، كأنه يرى أثر كلماته: لو أن الحاكم يعصي الله، فمن يقوى على تنحيته؟
هتف البوريني في صوت كالصراخ: كلنا … أنت ونحن.
أخذ على الإمام غلبة التصنع في عظاته؛ فهو يتعمد تقطيع الكلمات، ورفع الصوت، وخفوته، والتعبير بهزات الرأس، وتلويح اليدين، وتبيُّن تأثير العظات في أعين المريدين.
عاب ما غلب على كلماته من الحشو والغموض والتعقيد. يتكلم ويتكلم، يعلو صوته مستطردًا، يضيف إلى الحيرة في أعين المريدين، لا يعرف المريدون ماذا يريد، ولا المعنى الذي يقصده. يميل إلى كثرة الاقتباس والتضمين والتورية والمجاز، مع الإسراف في الجناس، وغيرها من المحسِّنات اللفظية. تشي كلماته المنفعلة بأنه يؤكد المعاني لنفسه أكثر مما يؤكدها للحضور، ولعله لم يكن مقتنعًا بما يرويه. آلمهم منه كثرة البكاء، والزفير والشهيق، والغشية، والصراخ والصياح، والتلفظ بكلمات الشكر. قادهم في طريق ضبابية، وفارقوه قبل أن يبلغوا نهايتها.
عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، برحيله لم تعد الحلقات موصولة: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. آفة الرئاسة الفخر. أصلح نفسك، يصلح لك الناس. أنتم في حاجة إلى إمام فعَّال، أحوج منكم إلى إمام قوَّال. الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق. من لم يرحم الناس، منعه الله رحمته. من تجبَّر على من دونه كُسر. تَذكُر أن أهالي خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم، والسلام. رحمك الله يا أبا بكر، لقد أتعبت من جاء بعدك. جمال السياسة العدلُ في الإمارة، والعفو مع القدرة. لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة، لظننت أن الله تعالى سائلي عنها يوم القيامة. أيها الناس، إني قد وُليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأشدكم استصلاحًا بما ينوب عن مهام أموركم، ما توليت ذلك منكم. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، فإن رأيتم فيَّ اعوجاجًا فقوِّموني. فاعلموا أيها الناس أن أكيس الكيس التقى، وأن أحمق الحمق الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق. يا معشر الناس، إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين، إن الله فرض فرائض، وسن سننًا، من أخذ بها لَحِق، ومن تركها مُحقَ، ومن أراد أن يصحبنا فليصحبنا بخمس؛ يوصل إلينا حاجة من لا تصل إلينا حاجته، ويدلنا من العدل على ما لا نهتدي إليه، ويكون عونًا لنا على الحق، ويؤدي الأمانة إلينا، وإلى الناس، ولا يغتب عندنا أحدًا، ومن يفعل فهو في حرج من صحبتنا والدخول علينا. أصابت امرأة، وأخطأ عمر. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ لو أن الناس كلما استصعبوا أمرًا تركوه، ما قام للناس دنيا ولا دين. إذا فاتك خير فأدركه، وإن أدركك فاسبقه. لا تقيدوا مسجونًا في سجنه؛ لأن ذلك يمنعه من تمام الصلاة. أنتم إلى إمام فعَّال، أحوج منكم إلى إمام قوَّال. أشقى الولاة من شقيت به رعيته. لا يكن أهلك وذوو ودك أشقى الناس بك. اضرب ابن الأكرمين. من خاف اللهَ أخاف اللهُ منه كل شيء، ومن لم يخف اللهَ، خاف من كل شيء. والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. لا ينجو من الله سبحانه من لا ينجو الناس من شرِّه. يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن. قليل الحق يدفع كثير الباطل، كما أن القليل من النار يحرق كثير الحطب. لا يقعدنَّ أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقني. همُّ الدنيا ظلمة في القلب، وهمُّ الآخرة نور في القلب. اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك، فأحبَّ لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلم كما لا تحب أن تُظلم، وأَحسِن كما تحب أن يُحسَن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقُل ما لا تعلم، وإن قلَّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يُقال لك، ولا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرًّا. اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يحسبون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.
غاب عدل الخلفاء، وأساء إليه النزوع لترف الحياة الدنيا. لو أن الأسماك ابتعدت عن المسار السهل ما وقعت في شباك الصيادين.
كوَّن جماعة، سماها «الحلقة السادسة»، شاغلها تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق، وطلب الخليفة السادس، لا تؤطر اجتهاداتها المذاهب، ولا الأهواء الشخصية. هي بالفعل جماعية التفكير والتصرفات، نظامها شورى. لا يرقى شيخها إلى مرتبة الخلافة الراشدية — لها التوقير — إنما يمثل الجماعة، يتحدث عنها، يرجع إليها في كل القضايا والمشكلات قبل أن يتخذ — باسمها — قراره.
لم ينتقل من داره في حارة الشاروني إلى البيت الذي تبرع به حامد الجزايرلي عضو الجماعة، ثلاثة طوابق تطل على ميدان الأئمة.
هلل البوريني بالترحيب: هل قدمتم بالهمة؟
قلت مداعبًا: ركبت عربة من زمنكم!
رأى نهاية زمن العربات ذات الخيول الأصيلة، المطهَّمة، يهرول أمامها سائسان، يرتديان ثيابًا ملونة، فضفاضة، ذات أكمام واسعة، ومزينة بخيوط الذهب. في يد كلٍّ منهما عصًا طويلة، يسبق التلويح بها هتاف في المارة: وسع!
حلت السيارات بدلًا من العربات ذات الجياد، حتى اختفت. عرف طريق الكورنيش — بعد إنشائه — عربات البنز، في النزهات المنفردة، وسباق المناسبات، ثم قلل الزحام من سيرها.
ذكَّرته بما كان.
عُرف عنه السعي إلى إغاثة الملهوف عند الحكام. عَرف عنه الحاكم، ومن بيده زمام الأمور، عزوفَه عن التردد على مجالسهم، أو التداخل معهم، وأنه لا يطلب لنفسه ولا لسواه صلة تيسِّر الحياة. عانى الدين — في فتاوى العلماء المحسوبين عليه — أضعاف ما عاناه على أيدي الكفار.
تعددت زيارات والي المدينة إلى بيته في ميدان الأئمة. خاطب وده أهداه أموالًا وألبِسة. قبل أن يغيب موكب الوالي في انحناءة الطريق، وضع الشيخ البوريني ما أهداه له الوالي على باب بيته، ودعا الناس إلى أخذها، كلٌّ حسب احتياجه، فلا يخضع لإغواء نفسه. هو لم يرفض الحاكم لأنه راعٍ مسئول عن رعيته، لم يسعَ إلى الانتقاص من قدره ولا مكانته، إنما لمَيل الحاكم عن العدل وقبول النصيحة.
ظلت لهجة البوريني على حالها، لم تتبدل.
قال: لم أخَف السلطان قدر خوفي من الحريصين على إرضائه.
أضاف كمن يحدث نفسه: لا أتصور أن عالمًا حقيقيًّا يدافع عن ولي الأمر.
– الحرية من أخلاق المتصوفة.
وهو يخفض نظره: هذا ما تعلمناه من أقطابنا.
ما أشار إليه البوريني كان هو الباعث لهجرة موطني.
بدأت رحلتي — في سن الشباب — إلى بلدان الشرق، كنت أطلب القطب الغوث. القطب الغوث — كما تعلم — هو قطب الأقطاب عند الصوفية.
تركت قريتي «عمارة» التابعة لمدينة فاس بالمغرب. كانت رحلتي إلى الشرق سعيًا لتجدد التصور بأن ما أريده من حرية هو في المعرفة الروحية، والقول بما يصدر عن الفهم، وأن التصوف ليس بالرهبانية، ولا بأكل الشعير والنخالة، ولا ببقبقة الصناعة، وإنما بالصبر على الأوامر، واليقين في الهداية.
وجدت ما سعيت إليه في أستاذي عبد السلام بن مشيش، علَّمني، حثَّني على التطهر من حب الدنيا، ومحو الصفات الرديئة، وتقديم المجاهدة، والإقبال، بكل الهمة، على الله سبحانه، يسَّر لي — بنصحه وتوجيهه — ما كان غائب الملامح، أو ضبابيًّا.
بطَّنت تساؤلي بالود: أصبحت سالكًا؟
– بحري حي صيادين.
استطردت بالود: والصوفية؟
– ليست كل الفرق من أبناء الحي.
– أضرحة الأولياء ومقاماتهم ظاهرة في بحري.
– نحن ضد الأضرحة، لكننا لا نهدمها.
أومأت بابتسامة ليواصل الكلام.
– مولانا أحمد الرفاعي حذَّر من أن يجعل الناس — بعد رحيله — من قبره صنمًا.
قلت في نبرة تأكيد: هدم الأضرحة لن يسهِّل تقدم البلاد.
وربتُّ كتفه بود: احترام الناس للأضرحة والمقامات هو احترام للأولياء، وليس عبادة لهم!