٤
ألغيتُ — بعين الخيال — ما حل بالميدان من تغيرات، أتصوره في تعاقب أحواله، خاليًا من كل ما طرأ عليه.
حرصت على التواصل مع تعاقب المريدين، التابعين للأحمدية الشاذلية، لم يشغلني الحضور الجسدي، إنما شغلني إقامة الطريقة للحضرات، وتلاوة القرآن، وقراءة الأوراد والأحزاب، والتسابيح والابتهالات، والإنشاد وحلقات الذكر.
تعدَّت شهرة الطريقة حدود الإسكندرية إلى أقاليم مصر، امتدت إلى الشام والحجاز وبلاد المغرب وغيرها من أقطار العالم الإسلامي.
غادرت المقام، انطلقت من الوادي المسمى باسمي، بين جبلَي حميثرا والمظلوم، خلَّفت سلاسل الجبال القصيرة إلى المدى في انتهائه إلى بحري. أزمعت أن أقصد الخواص من أولياء الحي، ومن يقاربهم في المكانة. أفيد من قواهم الروحية وأفعالهم الخيِّرة، علاقاتهم بكائنات لا تُرى، يُخضعونها لتنفيذ مطالبهم، صدَقوا الله فصدقهم الله، أودع الله قلوبهم يقينًا، صاروا به خزائن الله في أرضه.
الأولياء الثلاثمائة، لا يزيدون ولا ينقصون في توالي الأزمنة، من يأخذه الموت، يحل مكانه من هو في مثل علمه، النجباء السبعون، والأوتاد الأربعون، والنقباء العشرة، والعرفاء السبعة، والمختارون الثلاثة، أحدهم القطب الغوث. إن مات الغوث نُقل من الثلاثة — بأمر مولانا الخضر — واحد فصار الغوث، ونقل من السبعة إلى الثلاثة، ومن العشرة إلى السبعة، ومن الأربعين إلى العشرة، ومن السبعين إلى الأربعين، ومن الثلاثمائة إلى السبعين، ومن سائر خلق الله إلى الثلاثمائة. يتواصل الانتقال إلى يوم الحشر العظيم؛ حيث ينال كل امرئ جزاء صلاحه وتقواه وخيره ومعروفه، وما فعلت جوارحه من الخطايا والآثام.
الطرق كثيرة، للسُّنة طرقها، وللشيعة طرقها، طريقتنا لا تحيد عن طرق السنة. الصوفية هي علم القلوب، علم الأسرار، علم المعارف، علم الباطن، علم الأحوال والمقامات، علم السلوك، علم الطريق، علم المكاشفة. الصوفي ينصر السنة، وينكر البدعة، ويمتثل لأوامر الله ونواهيه. يعرف أن السماء تراقبه، تحاسبه على أفعاله.
كما تعلم، فإن عدد الفرق الصوفية يقارب الثمانين طريقة، غالبيتها متفرعة — والحمد لله — من الطريقة الشاذلية، قوامها خمسة أصول؛ تقوى الله في السر والعلانية، اتباع السنة المحمدية في الأقوال والأفعال، الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، الرضا عن الله في القليل والكثير، الرجوع إلى الله في السراء والضراء.
تعلمَ من الشاذلية وانبثق عنها: العزمية، البكرية، السلامية، الخواطرية، الجوهرية، الوفائية، الحامدية، الفيضية، الهاشمية، السكائية، العفيفية، العروسية، الشابية، الجزولية، المحمدية الشاذلية، وغيرها من الفرق. تعدد الشيوخ، وانقسمت الفرق إلى أسماء كثيرة. وجدَت الطريقة امتدادات لها في فروع الجازولية والدرقاوية والناصرية والعيسوية والصداقية والزروقية والحمادية والخضرية والتابعية وغيرها.
عدا الشطط والغلواء، فإن الحرص على القرب من الله مما يُحسب للصوفي. يترك اللهو والباطل، ينقطع إلى الزهد، والصوم والطهارة والسكوت، وترديد الأذكار والأحزاب والأوراد والابتهالات والأدعية، ونفي الخواطر، ينفي ما سوى الله عن قلبه، لا إله إلا الله محمد رسول الله في البدء والمنتهى، يسعى لاستدراك ما فات، يتهيأ لاستقبال اللوائح والأسرار، التجليات والمعارف الإلهية.
أولياء الله — في أرض مصر — يزيدون عن الأربعين، اتخذوا طرقًا ومسالك وأضرحة ومقامات من الإسكندرية إلى جبل الأولياء. لمناقبهم تأثيرات يصعب إغفالها، ولا إنكارها، في حياة الناس.
أول ما أعتز به بداية سلالتي في السيدة فاطمة الزهراء، ثم في الحلقات الطاهرة، الشريفة، السيدة زينب، الشهيد الحسين، زين العابدين، وإلى السيدة رقية، والسيدة نفيسة، والسيدة فاطمة النبوية، وإلى سيدي الخضر، والمهدي المنتظر، وأولياء الله، يقضون بالرأي الصواب. لم يعد أمام الناس للخلاص من المعاناة سوى نفخ الصور، وانشقاق الأرض، وبعثرة القبور، والوقوف — يوم الحشر العظيم — بين يدَي الله، يُثيب كل امرئ بما فعل من خير، ويعاقبه جزاء ما جنَت يداه.
اخترقت طريقًا مختصرة في شوارع الأنفوشي والسيالة، شوارع ضيقة، ومتقاطعة، وحارات ترابية، ساخت في أرضها — بفعل الأمطار والأوساخ — الطوابق التحتية وأبواب البيوت.
أبطأت خطواتي أمام ضريح ولي الله كظمان.
قرأت الفاتحة، ثم اتجهت ناحية ميدان الأئمة، يلتقي عند الميدان الواسع شوارع كثيرة، تشكِّل امتداداتها ما يشبه الحي.
أشعة الشمس تنعكس على مئذنة جامع ولي الله أبي العباس وقبابه، وعلى أسطح البيوت المحيطة بالميدان.
تناهى الإنشاد من سرادق، أول الطريق إلى الميدان:
تمتمت بالصلاة على أشرف المخلوقات وأطهرها.
حين نفض ربيع الحلاق فوطته، وودع الرجل الخمسيني بالدعاء: حج مبرور بإذن الله؛ عرفت أن الرجل يعد نفسه لزيارة ضريح الشاذلي، حجة صغرى تلزم التقصير.
صوت أميزه، أفتقده إن غبت عن حميثرا، يصنعه قراءة القرآن والأحزاب والأوراد والابتهالات والإنشاد، وتلاغط المناقشات، والنداءات، والزحام.
قرأت الفاتحة للأولياء في مجمع أضرحتهم؛ محمد مسعود، محمد المنقعي، محمد الشريف المغربي، ابن وكيع، محمد أبو وردة، محمد بركة، محمد غريب اليمني، محمد الغريب، يوسف الجعراني، محمد الطرودي، محمد الحلواني، محمد إجابة، محمد صلاح الدين. صاروا — منذ نُقل رفاتهم إليه — قريبين من أقطاب الشاذلية، زادوا من أريج الروحية في الميدان وما حوله، يلجأ إليهم الناس للقضاء والمشورة، يتوسلون بولايتهم في قضاء الحاجات، وحل مشكلاتهم، وما يعانون.
اختنق الميدان بالزحام، كأن أهل الإسكندرية تجمعوا فيه.
أعرف أنه زحام الليلة الكبيرة لمولد المرسي أبي العباس، اليوم الختامي لاحتفال الناس بميلاد سلطان الإسكندرية. تقاطروا من بحري والأحياء الأخرى، أقبلَت وفود من خارج الإسكندرية، يترنمون بالإنشاد والتراتيل والتسابيح والأدعية. نداء المريدين: يا أبو العباس يا مرسي، أعادني إلى نداء ناس حميثرا: شاذلي يا أبو الحسن.
على الأرصفة، تناثر المريدون والأحباب والمحاسيب والدراويش والشحاذون، وطالبو المدد والتبرك والشفاعة وتيسير العسير، وأداء النذور، وباعة المصاحف والكتب والأوراد والأحزاب والأدعية، والبخور والطيب والعطور والأعشاب، والتمر وعسل النحل، والمسواك والسبح وسجاجيد الصلاة.
تناهى من صحن الجامع إنشادُ الذكر وأوراده.
الجامع يمتلئ بالمصلين، من لا يجدون مكانًا في الداخل يفترشون الحُصر في الميدان والشوارع الجانبية. تناثرت لصق جدران الجامع، دواليب صغيرة صُفَّت بداخلها كتب ومجلدات. التمعت أشعة الشمس تتخلل زجاج النوافذ الملونة، في دائرة القبة العالية.
ازدحم المريدون حول المقام، يحيط به سور من النحاس اللامع، يكسوه غطاء من الحرير الأخضر، فوقه الشموع ومناقد البخور، في المنتصف تمامًا، صينية ممتلئة بالحناء، غُرست فيها دائرة من الشموع المضاءة.
يقصدونه للتبرك والدعاء، وتقديم النذور، وطلب المدد والعون، يلفُّهم اليقين أن ولي الله يقف بجانب قاصديه، وطالبي مدده وشفاعته.
أخليت لبسمة الإشفاق سبيلها إلى شفتيَّ.
المنشدة سكينة الحسامدية.
رأيتها — قبل سنوات — في سرادق أول الطريق إلى الموازيني، تنشد قصائد ابن الفارض وذي النون والسهروردي وابن عربي والجيلي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي والشيرازي وغيرهم، على ألحان فرقتها، أو على نغمات الذكر. السماع — كما تعلم — جائز لإنشاد القصائد بالألحان الطيبة، والنغم المستلَذة.
حين علا الدف، يرافق مديحها، وسَّطت الهواء مقاطعة: لا حاجة للمديح بالموسيقى.
– هذا دف.
– الكلمات تكفي.
بدأت بالمحاكاة، وإعادة ما يردده المنشدون والمداحون في سرادقات الموالد والمناسبات الدينية. شاركت في الإنشاد بحضرات الطرق الصوفية، أول اختياراتها حضرات الطريقة الأحمدية الشاذلية، وأورادها، وأذكارها. استحضرت — في ليالٍ تالية — سير الخلفاء الأربعة والصحابة والتابعين.
حفظت الكثير من سير الأنبياء، وحكايات الأولياء، والقصائد المغناة، والمدائح، والابتهالات. أجادت الوصل والوقف في إنشادها، وإن قصَرَت أداءها على الترتيل والتسبيح والتهليل، وعلى مدح الرسول، والمعاني الروحية، وأحوال الأرواح والقلوب. تطايرت في كلماتها معاني الوجد والشوق والحنين.
نوَّعَت — بتقضِّي الأيام — في أدائها، أجادت فهم طبيعة الجمهور الذي يتجه إليه إنشادها. التعرف إلى رغبات المستمعين، وتغير الاستجابات. تنتقل من مقام موسيقي إلى مقام موسيقي آخر، دون أن تبدِّل الإيقاع، ولا طريقة الأداء. ربما أضافت كلمات توافق المناسبة، تُماهي استجابات الجمهور، ما تطلبه مشاعره؛ اسم الولي الذي تنشد في ساحاته، ما تعرفه من مكاشفاته وبركاته، ما أسداه إلى الناس من غوث.
المديح يحتاج حلقة ذكر، يتوسطها رجل، يستغني عن الآلات الموسيقية، أو يكتفي بالقليل؛ دف، أو نقرزان، أو رق. الإنشاد خيمة من المرددين والآلات الموسيقية وتطوحات الذاكرين.
عرفت الحسامدية — فيما بعد — أن المادح أبا المعاطي الدمياطي أضاف العود والكمان والكولا إلى الآلات المصاحبة، التقته في صحن أبي العباس. ردت سلامه، ولم تشر إلى إهمال النصح.
ما تنشده ببركة المرسي، فهي تقصر اقترابها المكاني من ولي الله. لا تغادر الجامع، إلا للإنشاد في الموالد والمناسبات.
فاعلم أن الحب الصامت — في يقين المتصوفة — هو الحب الأعظم، يتعذر التعبير عنه بالكلمات.
صار أعز الأولياء إلى نفسها.
وجدت في عظات الشيخ محسن الطويل من فوق منبر جامعه ما يدفعها إلى الإنصات والمتابعة، رددت كلماته، نقلًا عن السلطان: «إلهي! معصيتك نادتني بالطاعة، وطاعتك نادتني بالمعصية، ففي أيهما أخافك؟ وفي أيهما أرجوك؟ إن قلت بالمعصية، قابلتني بفضلك فلم تدع لي خوفًا، وإن قلت بالطاعة، قابلتني بعد ذلك فلم تدع لي رجاء. فليت شعري كيف أرى إحساني مع إحسانك؟ أم كيف أجهل فضلك مع عصيانك؟»
ملكَت عليها الكلمات أقطار روحها. أدركت أنها انتقلت من عالم الأرض إلى عالم السماء، تمازجت العظات ببركة المرسي، السيرة العطرة والموالد والأذكار والخلوة والكرامات. تبدَّلَت طريقة إنشادها، لم تعد تقتصر على ما يردده كل المنشدين، لا تخترع، ولا تفتش في القرارات عما يطرب، تتجاوز رتابة التكرار والإيقاع بتبديل الكلمات والألحان، تضيف، تحذف، تنوِّع النغم ومناطق الصوت، تنتقل من مكان إلى آخر، فيغيب التوقع، تعيد التشكيل والصياغة بما يرضي استجابة المتلقين. صارت تؤدي بقدر توصيل اللحن والكلمات، ومدى التأثير الوقتي على الحضور. أنشدت من كلمات ابن الفارض وابن عربي.
زاد تعلقها بولي الله، وهيامها فيه، تجد من حضور القلب أمام مقامه، ما لا تجده في سرادقات الإنشاد والحضرات ومجالس الذكر. أزمعت ملازمته للالتماس من بركته، وتدارك ما فاتها من تقصير في عبادة الله تعالى.
زاحمت الطائفات حول المقام، واللائذات بمكاشفات أبي العباس، يتنفسن روائح البخور والصندل والعنبر والمسك وعرق الأجساد والشمع المذاب، يجذبن كسوة المقام، يمسحن بها الوجوه، تهمس الشفاه بما يعانين، يطلبن الشفاعة والنَّصَفة والمدد، يهمسن بالأمل في إنجاب الذكور. حتى الزغاريد يتصورنها لإبعاد الأرواح الشريرة. أتاحت لنفسها موضعًا لصق المقام، تكوم طرف الغطاء الأخضر في يدها، تدنيه من فمها، وتقبِّله.
لم تعد — من يومها — تبدِّل جلستها. يفسح لها النسوة فرجة — عقب عودتها من السعي — حتى تطمئن إلى استنادها على الأعمدة المعدنية.
لو أنها عاشت في زمن ولي الله، لتمنَّت أن تكون زوجته، تَقصُر حياتها على خدمته، تطهو طعامه، تغسل ثيابه، ترفوها، تكويها، تبذل من نفسها ما يصرفه إلى علمه ومريديه.
تكرر وقوفها في الظلمة، مستترة بالعمود الجرانيتي الضخم، قبالة الباب المُفضي إلى السيالة. أملها أن يصعد السلطان إلى المقام، تحدس وجوده بين قاصديه للبوح، أو للنصفة والغوث، أو طلب الشفاعة لدى أولي الأمر.
ذات ضحًى، غافلَت الخادم، وهبطت السلالم إلى أضرحة المرسي وابنَيه. المقام في زاوية الصحن، الضريح — إلى جواره ضريحا الابنين — في الطابق الأرضي.
لما اقتعدت أمام الضريح، ونادته، كانت قد بادرته — من قبل — بأسئلة، وأظهرت في اتصال الكلام أنها اطمأنت إليه، يعطيها سمعه، فتحكي، وتعلق، وتبدي الملاحظات. لجأت إليه لتيقنها أنه لن يسيء فهمها، أو يفسر ما تطلبه تفسيرًا خاطئًا.
شكَت له إعراضه عنها، وتأبِّيَه عليها.
تناهى إلى سمعها ما يشبه الهاتف: أتصور الدرويش الذي لاحظ أن لزوم المرأة مجلسه لحبٍّ تملَّكها من شخصه، وليس اتباعًا لعظاته ونصائحه. أراد تنفير المرأة منه، أزال حاجبيه ونصف شاربه، ولطخ بالسواد أسنانه.
بحلقت عيناها بالدهشة: لماذا يشوِّه المرء خلقة الله؟!
– حتى يفرغ حياته للعبادة.
قالت: لن تعطلك عن العبادة من وجدَت في علم المخلوق ما يقرِّبها من الخالق.
– أعلم، همَّني أن أرفض المغالاة.
تنقلت بين الجوامع والزوايا والسرادقات وساحات الإنشاد الديني وأماكن العلم، تقرأ فيها القرآن، وتذكرة سيرة الرسول منذ مولده إلى وفاته، وما بينهما من كرامات ومعجزات، وتقرأ أوراد الصوفية. أتقنت التجويد والترتيل والنغم، وما تيسر من القراءات السبع. رفضت تسمية «الصييت»، هي مريدة للسلطان، تبعت الطريقة الحامدية الشاذلية، حياتها في الإنشاد والمديح والابتهالات والتواشيح، ورواية سير الرسول والصحابة والتابعين.
اقتصر أداؤها على الناي، أو السلامية والربابة، والصنوج والأبواق، والنقرزان الذي قد يحل الدف بدلًا منه. تجيد الأوزان والإيقاعات والمقامات والقفلات الموسيقية. إذا أخفقت في استدعاء بعض الكلمات، حاولت تعويضها بالدندنة، وتعبيرات اليدين، وملامح الوجه. ربما نغَّمت بصوتها، فلا تشاركها أصوات البطانة والفرقة المصاحبة، وإن ظلت كلماتها من مقام الراست، تعبر عن معاني الشجن والحب. استغنت عن الخمريات الصوفية، الكلمات ذات المعاني المحيرة؛ المشاهدة، المعاينة، الجمال، الحب، الغرام، الصبابة، الشوق، الوجد، السماع، الخمر، السكر، القرب، البعد، الصد، الوصال، العناق. تعرف أنها تجليات وأحوال ومقامات، لكن خطأ الفهم ربما يسيء إلى معانيها. لفظة المحبة اختيار رابعة العدوية، المنبثق من علم وافر، هي لا تضمِّن اللفظة إنشادها، فلم تحصِّل ما حصَّلَته رابعة من القراءات، ودروس العلماء، والاستلهامات. حتى لغة السيم استغنت عنها، فهي لا تنشد إلا ما استقر في فهمها، ولا تلجأ إلى السيم، ولا المفردات الغامضة، أو المُلغِزة.
ظلت على عبادة الله بالصوم والصلاة والذكر والتسبيح والشكر والحمد، تنطوي على نفسها، لا تعلو جرأتها بالكلمات وتعبيرات الأيدي، إلا حين تثيرها كلمات مغازلة، أو مداعبة.
قبل أن تبلغ الأربعين، أنهت الست سكينة صلتها بالمديح والإنشاد، وإن ظلت على اطمئنانها لمناقب المرسي؛ تلزم مقامه، ترجو إشارة الرحلة إلى قريتها القريبة من سوهاج، تقضي فيها بقية عمرها.
لفتني استناد المرأة على أعمدة المقام، أسدلت الملاءة السوداء على جسمها، لا يبين إلا اختلاط نحيبها وكلماتها، وإن علا الصوت فبلغ معظم ما قالته سمعي.
أحزنني أن المرأة تطلب من الولي أن يتشفع لها عند الخالق الرحيم، فيأخذها — قبل زوجها — إلى رحابه، المرأة تزوجت على دينها، تخشى أن يموت زوجها المسلم، فلا تجد — عند فراق الدنيا — من يُعنَى بأمر دفنها.
قبل أن أتدبر حال المرأة، تزاحم نسوة — لعلهن قَدِمن صحبةً — فغابت عن نظري.
اعتدت ما رأيت؛ عبارات الغوث، وشد الأزر، ومنع الأذى، وجلب الخير، على أبواب الجوامع والمساجد والزوايا والمزارات، أمام المقامات والأضرحة، حين الخلوة إلى الذات؛ امرأة تشكو للولي ما تعانيه من زوجها، يضربها بقسوة، يخمشها، يعضها، يلكمها، ثم يبكي ويغسل قدميها بدمعه. رجل يهمس بتكرر دخوله على زوجته، فلا يقوى على المضاجعة، امرأة تعتذر — بقِلة الحيلة — لأنها لا تقدِّم ما اعتزمَته من نذر في موعده، رجل مُقعَد على كرسي تدفعه زوجه، تحرك الرجل في قعدته، دعا على ظالمه يعتريه بخلل العقل، فلا يثبت في أقواله ولا تصرفاته، ويسيء التصرف بما يزيل المكانة التي بلغها.
أدعو الله العليم بأحوال عباده، أو أهجس في الخاطر بما يحثُّ النفس على التبصر والمراجعة.
جاوزت المقام نحو السلم المُفضي إلى الأضرحة، تحت الأرض.
القِلة أَذِن لهم الخدم بالنزول إلى الأضرحة، يوقدون القناديل والشموع، يقبِّلون الأعتاب. المرسي أبو العباس هو من أرجو رأيه الصواب. أذكر وصف ابن عطاء الله له، بأنه يجمع بين علم الأسماء والحروف والدوائر. عُني بتسليك الفقهاء. قوله لتلميذه وصهره ياقوت العرش: ليس الشأن أن تسلك كل يوم ألفًا من العوام، بل أن تسلك فقيهًا واحدًا في مائة عام. أرجع إليه فضل اعتبار الطريقة الشاذلية طريقة خامسة إلى جانب الطرق الأربعة الرئيسة. جعل لطريقته حضرات وموالد تنفرد بها، تختص بأورادها وأذكارها. خالف — بزهده — أسلوب القطب الأكبر، منذ بدأت — على عادة أهل المغرب — رحلتي إلى المشرق؛ لأداء فريضة الحج. لا أسأل، لا أناقش، لا أحاول حتى إيماءة المباعدة بين السير في طريق التصوف والورع والزهادة، وبين رفض التقشف، والاستمتاع بالحلال من الدنيا.
من حق الولي، مثلما هو حق آحاد الناس، ألا يهمل نصيبه من الحياة الدنيا، ولا يتشدد على نفسه في استملاك الطيبات من الرزق.
ما لم يحرِّمه الله، فهو حلال. أحل الله تعالى ما يسعد المرء، دون أن يغضب ربه، أو يؤذي الآخرين.
أرى العمل خير عبادة، هو تسبيح دائم باسم الله، أفرغ لساني للذكر، وقلبي للفكر، ويدي لمتابعة الأمر. اشتغلت — حتى أصدر الله أمره — بالزراعة وتربية الثيران. يحزنني الركون إلى البطالة، الارتزاق من سؤال الناس، بحُجة الزهد، والتفرغ للعبادة. لعلي كنت أتمنى أن يظل تلاميذي في أعمالهم، لا تأخذهم عنها الطريقة، ولا ما تتضمنه من عبادات. أرفض تصور التكية في المكان. العمل وسيلة الحياة داخل المجتمع الخالي من الأسوار.
التصوف في النفس، هي التي تدرك الصواب والخطأ فيما تنوي الأخذ به. كي نبذل الصدقات، ونؤدي الزكاة؛ فلا بد من الكسب الحلال. أُرجِع إلى الغلوِّ رفضَ البعض تناول الحلال، وإتيانه، بداعي الزهد والتقشف. قول الله سبحانه: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ يعني الإقبال على طيبات الحياة، حلالها، ليس في الطعام وحده، إنما فيما عداه من مشرب وملبس ومؤانسة غير مشوبة.
ثمة من يجد في توافر شروط المشيخة داخل الولي، أفضل من ارتداء الثوب القشيب، والعيشة الأبهة، وخلع ألقاب التدين والعلم، ما يحرص عليه شيخ الطريقة هو التواضع والمباسطة.
أرديتي — كما تعلم — من الحرير والصوف والوبر والكشمير، لكن القلب هو الذي يتصوف، وليس اللباس. أمتطي جوادًا أسود عليه سرج ثمين. أنفق وقتًا في تربيته، أطعمه بنفسي اللوز والبندق والفستق. لم أدرِّبه — كما تُدرَّب الجياد — على النزال والطعان بالسيف والسنان والترس، هو رفيقي في رحلات تنشد قلوب الأحبَّة. وكَّلتُ به سائسًا لخدمته، أدس قطع السكر في فمه، أطمئنُّ إلى سلامته، أتفحص حوافره حتى لا يواجه أثناء السير ما يؤذي، أمسِّد رأسه وعنقه وبطنه وعجزه، ينتقل إلى نفسي ما يرين عليه من هدوء وسكينة، تجري أصابعي على كثرة السبح التي أبدلها؛ الكهرمان والمرجان واليسر والفيروز والعاج وسن الفيل والزجاج والعود والصندل. ربما أهديت منها إلى النساك والزهاد، والذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم.
لكي نُبعث، فلا بد أن نموت، ولكي نمضي في رحلة الآخرة، فلا بد أن نعيش رحلة الدنيا. نصيحتي لكل من يطلب النصيحة: اعرف الله، وكن كيف شئت.