٩
أول ما لفتني في الجامع خلوُّه من مئذنة. أوسط الأبواب الثلاثة يؤدي إلى ضريح ولي الله ياقوت بن عبد الله، ياقوت العرش في تسمية الصوفية. الشيخ سعد الخضري يستند إلى المقصورة المربعة، تعلوها قبة هائلة. غزل العنكبوت نسيجه في الزوايا والأركان وأفاريز السقف.
فاعلم أن الولاية ليست في الألقاب والمسميات، ولا كثرة المريدين والأتباع، ولا الملبس الذي يضفي الهيبة، بل في التعامل مع الناس، والقدرة على التأثير فيهم.
أجمعَت المجالس التي ترددت إليها على أنه لا أحد يعرف ما الطريقة الياقوتية، ولا متى أُطلقَ عليها هذا الاسم، ولا كيف انضم إليها مريدوها، كما لا يعرف أحد أصل الشيخ يونس مجاور ولا فصله، ولا الظروف التي قَدِم بها إلى بحري.
حين قَدِم إلى الحي — للمرة الأولى — استقبله مشايخ الطريق ومريدوها، أكرموا وفادته، عُنوا بأمره، مهدوا له سبيل الإقامة. أنزلوه في نفوسهم منزلة رفيعة.
أخذ طريقته — حسب قوله — عن ولي الله ياقوت العرش، ياقوت بن عبد الله. زاره في المنام، أحاطه بسبحته الهائلة، أقعده، وضع عمامته على رأسه.
قال ياقوت العرش: سِر في طريقي، وليس من الضروري أن تسير في طريقتي.
لُقب العرش لأن قلبه كان — وظل — تحت العرش، وإن بقي جسده على الأرض، وحسب علمي فإنه يسمع أذان حَمَلة العرش. أقرب تلاميذ أبي العباس إليه، قام على خدمته طيلة حياته. وتتلمذ عليه ابن عطاء الله السكندري، بعد أن هجر أبو العباس دنيا الناس.
له مناقب معروفة بين الشاذلية. لم يترك مؤلفات مكتوبة، إنما هي نصائح وعظات، توزعت في دروسه داخل المساجد والزوايا.
اعتدت لقاءه بين العشرات من العلماء والفقهاء والمريدين، واظبوا على حضور جلساتي للوعظ والإرشاد بجامع العطارين.
التقيت في حضرته ولي الله شمس الدين بن اللبان، من أئمة الطريقة الشاذلية. ما أعرفه من محاسنه وصفاته الجميلة يفوق الحصر. تلقى عن ياقوت العرش، كما حضر دروسًا على يد أبي العباس.
جعله ياقوت العرش صهرًا للمرسي أبي العباس، ومن أقاربي. زوَّجه — لقربه منه — ابنته التي رُزق بها من حفيدتي مهجة.
زاد تقديري لابن اللبان حين أوصى — بعد وفاة زوجته — أن يُدفن تحت رجليها. الوصية نفسها لياقوت العرش — قبل أن يغادر الدنيا — بتوسيده تحت قدمَي مهجة. همه التعبير عن تعظيم المقام.
تبع خطوات شيخيه فيما تفرضه الصوفية على أهلها من تبحُّر في العلوم الشرعية، كالأصول والفقه والتفسير والحديث والتوحيد، والنحو والصرف، والمعاني والبيان والبديع، والمنطق. حاكى من تتلمذ على أيديهم بأوراد وأذكار، كتبها، أو أملاها، ووجد ما قد يغنيه فيما خلفته من أحزاب.
دخلت من الباب المفضي إلى المقام، تعلوه عبارة «مقام سيدي ياقوت العرش».
السور المعدني يعلو بالكاد عن قامة إنسان، المصاحف متناثرة فوق المقام الخالي من الكسوة، المقام من الرخام، الحوائط رخامية، تعلوها أسماء الله الحسنى، وآيات القرآن، النجفات المدلاة بالأضواء والنقوش والزخارف والمقرنصات، السجاد الأحمر بنقوشه الزاهية، يجلس عليه المريدون والأتباع، يحيطون بدكة المبلغ، عليها الشيخ سعد الخضري.
صمت نصف الحلقة من حوله، إدراكًا بأنه يتابع سباحته في بحر النور المحمدي، يرى في كل شيء جانبًا داخليًّا، باطنيًّا، ويسلم وجهه لله، يعبده، ويرجو اليوم الآخر.
وسَّد إليه ولي الله ياقوت العرش الأمرَ، خاطبه في هاتف، فنسج على منواله، حرص على تتبع الإيماءات والاقتضاءات، قضى وأفتى، وروى، وحلم.
طالَب المصلين — عقب انتهاء صلاة العشاء — أن يظلوا في موضع الركوع. قال إنه صار منذ صباح يومه شيخًا للوقت، يتصرف بما يمليه فهمه وبصيرته في أحوال الناس.
غاب عن فهمه أني على معرفة بدرجات الأولياء، وحظ كل ولي من الكرامات وأفعال الخير.
الحال ومضة، ما يحدث في إصغاء أذنه لأصوات بعيدة، تغيب عن آذان المريدين. يرى — بعين البصيرة — ما يحدث في مواضع بعيدة. الومضة ينبض بها القلب، وتزول. ربما الومضة في نداء يتناهى من موضع لا يُرى. الحال مقدمة للمقام، الرؤى والمشاهدات والاستشعارات، تندرج حتى تصبح مقامًا، مدخلًا لما يتضمنه من طمأنينة دائمة للقلب. المقامات تختلف بتعدد الفرق، هي أربعة في فرقة، وسبعة في ثانية، وتسعة في ثالثة، وتُقارب المائة في فرق أخرى، وهي بلا عدد محدد، ويشوبها الغموض في العديد من الفرق.
الرضا، كما تعلم، آخر المقامات.
قال الشيخ سعد الخضري إنه يستغرق — منذ سنوات — في مقام البقاء. أتاه الرسول في اليقظة لا في المنام، لقَّنه أوراد الطريقة. الشعور بالتماهي مع الذات الإلهية — سبحان الله العظيم — يملي عليه أفكاره وأقواله وتصرفاته. جعل العلاقة بينه وبين الله سرًّا مستغلقًا، لا يبوح به حتى للخواص من إخوانه.
جاوز في علمه — حسب قوله لمريديه — حد المعاني الظاهرة، فهو يكشف المعاني الباطنة التي يخص بها أهل الحقيقة، أهل العلم والمعرفة. أحاط علمه كل شيء، عرف أسرار الحروف والطلسمات، انتهت إليه جميع أحكام الدين من أصل وفروع. أرجع ما يقوله أو يفعله إلى إرادة الله، اختصه بما لم يهبه سواه من عباده، فني عن ذاته، فحصل على مقام الإحسان، يعبد الله كأنه يراه، خصه الله بما تفرد به قبلًا ولي الله ياقوت العرش؛ فالله أجاب على دعائه بأن يشفِّعه في كل من زار ضريحه، ويكتب له حجة وعمرة. خشي الناس زعمه علم الغيب، له حق القبض والبسط، الخفض والرفع، الإحياء والإماتة، التصرف في خلق الله.
إن واجهته مشكلة خلا إلى ربه بعيدًا عن الناس، لا يتردد على أضرحة الأولياء ولا مقاماتهم ولا شيوخ الطرق؛ حتى لا يتوكل على غير الله، يشاهد الملائكة وأرواح الأنبياء، يخاطبهم، يستمع إليهم، يشرحون ما غمض، يتلقى الواردات من اللوامع والبوارق واللوائح.
أذاع أعوانه أن الله اختصه بما يغيب عن بقية الخلق. الأئمة يعلمون ما لا يعلمه المريدون، ولا عامة الناس، ما ينتسب إلى دقائق الأشياء، والأسرار، يظل باب الاجتهاد مغلقًا، أو يوارَب، لمن تقل مكانته الروحية، ويُفتح على مصاريعه لفقه الأئمة، يشرحون، ويفسرون، ويستخرجون المخفي من الأسرار.
اعتاد المريدون صمته عما يشغله، لا يبوح بما في نفسه. إذا تحدث فإنه يكتفي بالكلمات التي لا تؤدي معنًى محددًا. يحرص على إيصال معنًى بأنه يستند إلى قوًى غامضة، ذات نفوذ. أذاعوا بين الناس أنه اطلع على اللوح المحفوظ.
أَلِف خواصُّه تطلُّعه إلى السماء، إلى الكواكب والنجوم، يتعرف فيها إلى ما مضى، وإلى الحاضر الذي يحيوَنه، وتوقعات المستقبل. لم يعد في الكون ما يخفى، كل شيء أمامه مكشوف. هو على معرفة بما يجري في العوالم العلوية والسفلية. يجيد التخاطب مع الحيوان والنبات والجماد، يفك طلاسم تحيَّر أمامها الإنس والجان.
عند تهيؤ المريدين لمغادرة المسجد، فاجأهم الشيخ سعد الخضري بالقول إنه قد أَلِف في الليالي الأخيرة رؤية رسول الله في مبشرة. عرف الرسول حيرته في مسائل مهمة، فزاره، تلقى منه الشيخ ما أعانه على فهم الأمور في صورتها الصحيحة، وعلى السير في النهج القويم.
لا يعرف المريدون متى أسلم نفسه — وأسلمهم — إلى قياد الآخرين. جعل من الوجهاء وذوي المكانة والفضل في بحري مجلسًا للشورى، يبحثون شئون الطريقة، ما صدم المريدين أنه لم يعد الشيخ الذي يليق بالخلافة؛ يصدر القرارات والأوامر القاسية، يكتم أسراره حتى عن خواص مريديه، يرفض مقابلة المريدين والمحاسيب، يتسللون لمناقشته، يفاجئهم جلوسه مع الشيوخ في موضع التلميذ، يتلقى التعليمات من الأقطاب والعارفين والعلماء، يرد كل شيء إلى شيوخه، يرشدونه بتوجيهاتهم ونصائحهم إلى ما يعين الناس على تدبير الرزق، وقضاء الحاجات. ربما همس الهاتف في أذنه بكلمات لا يحسن تأملها، يرددها أمام مريديه.
لزم طريق أئمته وشيوخه. أسلم نفسه لنصائحهم وتوجيهاتهم، يتكلم بما يضعونه على لسانه، لا يبدل ولا يحور، لا يضيف ولا يحذف.
أدرك الناس خضوعه الأعمى لأساتذته. يقر بالتسليم الكامل للأشياخ، وعدم الاعتراض. يسيطرون عليه، يحكمون الطريقة. جاوزوا ما كان الناس يتصورونه من دور له في الفتيا والشورى والقضاء بأحكام الشرع.
لاحظ الشيخ الخضري — أو لاحظ أساتذته — تعاظُم الفِرق الأخرى.
حذر من تداعي أتباع الفرق من دون سبب ولا مكروه، يُظهِرون السلاح، ويجاهرون بالعداء، شرط على مريديه عدم الجلوس إلى شيخ آخر، أو الانتماء إلى طريقة أخرى، العهد صلة يملك الشيخ فصمها وحده.
العهد بين الشيخ والمريد يُلزِم المريد بشيخه، وبالطريقة، لا يقصد شيخًا آخر غير شيخه الذي أخذ العهد عليه، يلتزم طاعته، ولا يبوح بالسر، ولا يلتفت إلى طرق أخرى. المريد بين شيخين كالمرأة بين رجلين.
قال المريد مرعي أبو الفرج في نبرة هامسة: أعلم أن من يحترم شيوخ الوقت هو الذي يأخذ عنهم جميعًا، ويفيد من علمهم.
قال الشيخ الخضري: من سأل أستاذه «لمَ» لا يفلح أبدًا.
وأضمر انفعاله بابتسامة شاحبة: المريد الصالح لا يجادل.
واهتزت بالانفعال لحيته البيضاء الكثة.
– أحسِن الإنصات لما يُلقَى عليك، أو فارِقنا بإحسان.
قال المريد: ما قاله زميلنا لا يستحق اللوم!
قال الشيخ ليحسم الأمر: حين يختار المرء شيخه، فهو يلغي اختيار نفسه.
•••
أحب سكينة الحسامدية. هي أول امرأة — غير أمه وأخواته — يحبها في حياته. أخذته الصوفية، فلم يفطن إلى سواها.
هل قاده صوتها إلى ما لم يفطن إليه طيلة حياته؟
تملكته مشاعر جديدة، لم يعرفها من قبل. لاحظ في نفسه كثرة تذكُّر سكينة، وذكر اسمها، استعادة كلمات الإنشاد والابتهالات والتسابيح، يفسرها بما يعكس معاناته، تذكره بلقاء، لحظات استماع، خلوة يشاركه في صمتها طيف الحسامدية. تيقظت في نفسه مشاعر غائبة، أو أنها لم تكن موجودة، اضطرم قلبه بانفعالات المحب، ملك عليه حبها كل قلبه، لا يشغله إلا التفكير فيها، يترامى إلى سمعه في وجوده بين مريديه وخلوِّه إلى نفسه أصداءُ إنشادها، والدق على الدفوف، والنفخ في المزمار، والضرب على العود.
لم تعد نفسه تنشغل — بغير العبادة — إلا بها، يهيم قلبه عند ذكر اسمها، يلوح له الطيف، فيحاول إبعاده، التخلص منه، باستعادة ما غاب عن باله، أو بافتعال حوار مع خواصه ومريديه، يتردد — بما قد يُضعِف مكانته الروحية — على أمكنة إنشادها.
نفض رأسه بالسؤال: هل أحب المرأة، أو أحب صوتها؟
لم يعد يشغله إلا أن يكون بالقرب منها، يتبعها في الموالد والسرادقات وحفلات الإنشاد في ساحات بحري.
لو أنها وافقت فستُتيح لروحه كل ما كانت تصبو إليه في الدنيا، منَّى قلبَه بموافقتها على عرضه بالزواج. اطمأن — بمكانته — إلى قبولها، يرفعها معه إلى مقامه، يرقى وضعُها إلى درجة لا تخطر لها ببال، ربما وجدت في لزوم بيته ما يغنيها عن التنقل بين الموالد والخيام والسرادقات.
حدثته سكينة عن الله، أواها إلى قربه، آنسها بذكره، أوحشها من الأغيار. تبدلت حياتها من اللحظة التي خاطبها هاتف المرسي، لم تعد المرأة التي تَقصُر نفسها على الإنشاد، ثمة لوامع، بوارق، لوامح، ومضت في خاطرها، أحست بقربها من السلطان. عزفت عن مباهج الدنيا وملذاتها، أعرضت عن غير الله، أقبلت عليه بوجدانها وعقلها، شغلت اللسان بالذكر، والقلب بالتفكر. شغلتها الروحانيات عن المحسوسات، صفت النفس، أشرقت الروح، ما تمتلكه من حب يفوق الحب الإنساني، لا تقيده قيود الحس، ولا تجرفه شهوات النفس.
فاعلم أن المحبة آخذة من الله لقلب عبده عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته، والفعل متحصنًا بمعرفته، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغمورًا في مشاهدته. من أحب الله، وأحب الله فقط، تمت ولايته، والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته.
جعلت سكينة حبها لله خالصًا، تهمل ما يوزِّع حبها، فهي تَقصُره على الذات الإلهية وحدها.
الحب الإلهي مطلق الصفاء والنقاء والطهر، لا يُقاس إليه حب العلاقات الحسية، والشوائب التي تتطلب التطهر. استغنت عن الإشارات والإيماءات والتعبير بالأداء التمثيلي، هي من أهل المحبة القلبية، تسامت بحبها، تجاوزت الوجود الحسي إلى ما وراءه، إلى ما هو أسمى وأرقى من المشاعر الطارئة.
– ما تتكلم عنه هو حب حسي.
وران تكسُّر في صوتها: هذا هو حب الشهوة الوقتية.
وامتلأ وجهها بالحيرة: كيف يفكر المرء في أسفل جسده، بينما قلبه مشغول بالعبادة؟!
لم يكن السؤال قد خطر حتى تلك اللحظة على باله.
غالب ما لم يتصوره.
– الزواج حلال.
حدجته بنظرة أسًى: ماذا عن أم عيالك؟
وهو يغالب الارتباك: أحل الله الزواج بأربع.
شردت فيما لم يتبينه: امتلأ قلبي وفاض بحب محبوبي، لا موضع في القلب لسواه.
– هذا كلام إنشاد.
– بل هو كلام مَن فهمَت معاني إنشادها.
ورمقته بنظرة غاضبة: لماذا تصر على تذكر أنك رجل وأني امرأة؟!
امتلأت نفسه بالحسرة على رفضها. لم يتصور أنها تغلب مكانتها الدنيوية على مكانته الروحية.
عاود عرضه.
أعد نفسه لما قد تواجهه به. أزمع أن يأخذ نفسه بما يعانيه المحبون، تتيقظ في نفسه مشاعر غائبة، أو أنها لم تكن موجودة، تتفجر الأشواق والعذابات.
فاجأه تخليها عن السفور، أسدلت على رأسها ووجهها، ما لا يبين إلا عن ثقبين تطل منهما عيناها. اندفع نحوها بعاطفة لم يقوَ على مغالبتها.
اخترقته بنظرة غاضبة: قلبي ملك خالقي.
– هذا حلال، ولا زهد في الحلال.
– هل تطمع في شيء يمتلكه سواك؟!
فطن إلى أنها ليست معنية بما يقول، المعنى الذي تريد توصيله هو ما يشغلها. غاظه أنها جهلت قدرها حين أرادت شغل نفسها بما يشغل السالكين والواصلين وأهل الكشف. أَنِف لنفسه من ذل الخضوع لحبها، حب لا يجد المقابل في استجابتها الظاهرة. زل لسانه بما ندم على نطقه: مثلك كثيرات في كازينوهات الكورنيش.
لم تُعنَ بالرد عليه، ولا التفتت ناحيته، كأنها لم تسمع ما قاله.
أدرك أنه أساء القول.
حاول أن يعوض غيابها من حياته باستحضار طيفها، تجسد المخيلة صورتها الحقيقية، أو التي يتمناها، يستغني بها عن الدنيا. تعدَّد صحوه من منامه، بعد أن رآها في أجمل صورة، كلَّمته بما لم يذكره، أو اكتفت بطلتها التي وسعت الكون.
زاد من ألمه اعتزامها الرحيل إلى الحسامدة، خلصت من دنياها وآخرتها، لم يعد لها غاية إلا لقاء الحبيب.
أذنتُ له — بعد أن عرف أني أعرف — فحكى عن الجمال البشري الذي اجتذبه إليها؛ القوام الفارع، والوجه الرائق السمرة، والعينان السوداوان، الواسعتان، المحددتان بالكحل، والأنف الدقيق، والشفتان الرقيقتان كورقتَي وردة، والشعر الأسود المسدل على الكتفين. إن ابتسمت عَمُقت الغمازتان في خديها.
تلفَّت حوله بارتباك: هل كنتُ أكلم نفسي؟!
حجبتُ الهاتف؛ حتى لا أزيد في ارتباكه.
وهو يحني رأسه فوق صدره: ماذا لو أني لم أكن أكلم نفسي؟!
لم أشر ولو بإيماءة إلى ما يعرف أني أعرفه. كتمتُ رفض السيدة الحسامدية كلماته، حتى لا أسيء — ولو بيني وبين نفسي — إلى مكانته بين أهل العلم. أحزن للطبيب الذي ينهى مرضاه عما يفعله.
قلت: أراك تصدر القرارات، ثم تتنصل مما قد تنطوي عليه من أخطاء، بدعوى أنك تلجأ إلى رأي الجماعة.
في نبرة معتذرة: هذا صحيح، لكنني أتحمل تبعات القرار بعد أن أصدره!
– تعتبر كل معارضة لك نوعًا من التمرد؟
– رأي الجماعة شورى، القرار لمن يتحمل نتائجه.
– فارقٌ بين القرار الذي يخص الفرد، والذي يخص الجماعة.
– الولي الحقيقي لا يستحي من كراماته.
اتجهت نظرتي إلى عنكبوت توسط النسيج الذي صنعه في زاوية القبة.
– أنت تطلب رأي الجماعة الصغرى، فلا تظلم الجماعة الكبرى بقرار الفرد!