تادرس وهبي بك
هذا الكتاب يحمل بين طياته كتابًا تراثيًّا نادرًا، كُتِب عليه النسيان والضياع، كما كُتِب عَلَى مؤلِّفه التجاهل من قبل الأدباء والكُتَّاب! فالكتاب هو: «عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق»، الذي نُشِر عام ١٨٨٥، أمَّا مؤلِّفه فهو تادرس وهبي بك أستاذ وناظر المدرسة القبطية بحارة السقائين، ومدير مدرسة الأقباط الكبرى بالأزبكية، وناظر المدارس القبطية في مصر! ورغم هذه المناصب، ورغم بَكَوِيَّتِهِ، إلا أنه لم يَحْظَ بأي تقدير أدبي أو تاريخي حتى اليوم، إلا من بعض الكتابات اليسيرة، التي جاءت في تراجم بعض المعاجم، وإن كان أفضل ما كُتِب عنه، الصفحات القليلة التي كتبها محمد سيد كيلاني في كتابه «الأدب القبطي قديمًا وحديثًا»!
واليوم يقوم المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية بإحياء هذا الكتاب مرة أخرى، بعد مائة وعشرين سنة من طباعته لأول مرة، وذلك بإعادة نشره بصورته التراثية المطبوع بها أول مرة. ودراستنا هذه إتمام لهذا الإحياء، حيث سنتعرض فيها إلى الحديث عن حياة المؤلِّف ونشأة المدارس القبطية — وبالأخص مدرسة حارة السقَّائين — ومؤلَّفاته في النحو والصرف والتراجم والمراثي والمسرحيات والخُطب والأشعار، ودوره الريادي في مجال المسرح المدرسي … إلخ هذه الأمور التي نأمل من ورائها إجلاء صورة هذا المعلم والأديب المنسي؛ لنعيد إليه مكانته التاريخية في مجال الأدب والتعليم.
(١) حياته
(٢) نشأة المدارس
إنه من سجايا عظمة خديوينا الأكرم، ومكارم جلالة عزيزنا الأفخم، وجنوح جوانحه لنجاح العلوم، وانعطاف عواطفه لخير العموم، تعلَّقَتْ إرادته السامية وتوجَّهَتْ عنايته السنية الكافية بإرماق مدارسنا القبطية بلواحظ الامتنان، غامرًا إيَّاها بمناهل الجود والإحسان.
ومما أَنْعَمَ — لدوام توطيدها وإصلاحها ونجاحها وتأييدها — امتحان تلامذتها امتحانًا سنويًّا حافلًا بأشرف رجال حكومته، مجلَّلًا بكواكب دولته. وعلى هذا الأثر انتظم عقدُ الامتحان العامِّ بهذا العامِ في جِيد الهناء والسرور والابتسام … في المدرسة الكبرى بدار البطريركية بعد أن الْتأمَتْ داخِلَها تلامذتُها لاستقبال سعادة الذوات الكرام … حضرة المولى الأستاذ شيخ الجامع الأزهر مفتي أفندي الديار المصرية، وحضرة العلَّامة مفتي مجلس الأحكام القُطْرية، وحضرات الذوات الكرام: سعادتلو شريف باشا ناظر الداخلية، وسعادتلو إسماعيل باشا صدِّيق ناظر المالية، وسعادتلو عبد الله باشا رئيس مجلس شورى النواب، وسعادتلو حافظ باشا ناظر الدائرة السنية الرفيع الجناب، وسعادتلو بهجت باشا ناظر المدارس والأشغال الميرية، وسعادتلو أحمد باشا صادق محافظ مصر، وسعادتلو ثابت باشا وكيل الداخلية، وعزتلو محمد بك سيد أحمد ناظر قلم عربي الداخلية كاتب سر المجلس الخصوصي الأكرم، وعزتلو مصطفى بك وهبة كاتب سر مجلس شورى النواب الأفخم، وعزتلو إسماعيل بك الفلكي ناظر المهندسخانة والرصدخانة، وعزتلو السيد بك صالح مأمور إدارة المدارس الميرية المصانة، وعزتلو شافعي بك رئيس مدرسة الطب الشهير، وسيادة السيد المطران وكيل البطركخانة الكلي الاحترام.
ومذ شرَّف كلٌّ في مكانه وأَخَذَ افتتاح الامتحان في إبانه، وكان المترأَّسُ عليه مَنْ أَجْزَلَ المولى نِعَمَهُ لديه سعادةُ الأستاذ رفاعة بك رافع الشائع سني صيته الذائع، تقدَّم التلميذ الابتدائي تاليًا خطبة استفتاحية من قلم مصطفى أفندي رضوان خوجا أول فرنساوي ذي الفصاحة الألمعية، وكان التلميذ يوسف وهبه أفندي النجيب الذي أجاب فيما سُئل بإيضاح اللفظ والمعنى المصيب، وتلاه التلميذ يسي أفندي عبد الشهيد الغصن البارع المجيد.
ويؤخذ من هذا الوصف عدةُ ملاحظات، منها؛ أوَّلًا: أن مدرسة الأقباط كانت مدرسةً مُعترفًا بها من قبل وزارة المعارف، وتدخل ضِمْن نطاقها، حتى ولو كانت مُعانَةً من قِبَل طائفة الأقباط، بدليل إشراف رفاعة رافع الطهطاوي عَلَى امتحانها. ثانيًا: كان الاهتمام بها من قِبَل الخديوي والحكومة لا يقل عن الاهتمام بأية مدْرسة أخرى، بدليل هذا الكم الهائل من المسئولين ممن حضروا هذا الامتحان من الوزراء ووجهاء الحكومة. ثالثًا: حضور شيخ الأزهر، مما يعكس مدى التسامح الديني الذي كان منتشرًا في هذا الوقت. رابعًا: التعرف عَلَى المواد العلمية التي كانت تُدرَّس في هذه المدرسة، وهي النحو والحساب والجغرافيا واللغات الفرنسية والإنجليزية والقبطية. خامسًا: وجود مسلمين ضمْن تلاميذ وأساتذة هذه المدرسة، مثل: الطالب أحمد مصطفى، والأستاذ مصطفى رضوان. سادسًا: وجود مَدْرَسَتَيْن قبطيتين في هذا الوقت؛ كبرى وصغرى، فالكبرى هي مدرسة الأقباط بالأزبكية، وأمَّا الصغرى فهي مدرسة الأقباط بحارة السقَّائين، كما سنرى.
مدرسة حارة السقَّائين
ومن العجيب أن كنيسة الأقباط بحارة السقائين، ما زالت موجودة حتى الآن في موضعها، الذي بناها فيه أبو الإصلاح كيرلس الرابع، وهي كنيسة الملاك غبريال، التي ما زالت تؤدي دورها الديني! والعجب العُجاب أن مدرسة الأقباط ما زالت موجودة وشامخة بجوار هذه الكنيسة بحارة السقائين أيضًا، منذ أن بُنِيَتْ عام ١٨٧٥! ولكن بكل أسف موجودة كأطلال لا حياة فيها، حيث توقَّفَتْ عن رسالتها التعليمية منذ سنوات قليلة، حيث تم إغلاقها كمدرسة تعليمية قبطية، وتفرَّق طلابها عَلَى بقية مدارس إدارة عابدين التعليمية، منذ عام ١٩٩٨ فقط!
ففي صباح أحد أيام شهر يونيو ٢٠٠٤ ذَهَبْتُ إلى حارة السقائين المتفرعة من شارع الشيخ ريحان بعابدين بالقاهرة، وهي حارة ضيقة نوعًا ما، رغم امتدادها المتعرج الطويل، فوجَدْتُ بها كنيسة الملاك غبريال، وهي الكنيسة الوحيدة الموجودة في الحارة، وبابها الحديدي القديم كُتِب في أعلاه أن الكنيسة تم تجديدها عام ١٨٨٢، وعندما دخلْتُها وجدْتُ ساحةً صغيرة فارغة، عَلَى يسارها مبنى الكنيسة الأساسي، وهو مبنًى أثري قديم، رغم بعض التجديدات التي شوَّهت جماله التراثي القديم من الخارج. وعلى يمين الساحة مبنًى من طابقين، وهو مبنى المدرسة القبطية التي أُغلِقت من ست سنوات. وطابقها الأول أو الأرضي مُستغَلٌّ الآن كحضانة، أمَّا طابقها الثاني أو العلوي فمهجور ومغلق، ومُنِعْتُ من صعوده أو رؤية ما بداخله من قِبَل العاملين بحراسة الكنيسة، الذين أخبروني بأن المدرسة كانت متكون من ثلاثة طوابق، وتم هَدْم الطابق الثالث منذ مدة ليست بالطويلة. كما وجدْتُ في الساحة، صورتين كبيرتين زيتيتين مرسومتين، تم تعليقهما عَلَى الجدار الخارجي للطابق الأرضي من المدرسة. الأولى لقداسة الباب كيرلس الرابع، ومكتوب أسفلها: البطريرك رقم ١١٠ وتاريخ تقليده للبطريركية من ١٧ / ٤ / ١٨٥٣ إلى ٣٠ / ١ / ١٨٦١، والأخرى لقداسة البابا كيرلس الخامس، ومكتوب أسفلها أيضًا: البطريرك رقم ١١٢ وتاريخ تقلده للبطريركية من ١ / ١١ / ١٨٧٤ إلى ٧ / ٨ / ١٩٢٧.
وشعرت بفرح شديد عندما علمْتُ أن مدرسة الأقباط بحارة السقائين، التي عمل بها تادرس وهبي مدرِّسًا فناظرًا لها، كانت تؤدي رسالتها التعليمية حتى ١٩٩٨. فهذا يعني أن إدارة عابدين التعليمية التي كانت المدرسة تابعة لها، تَعْلَم عن المدرسة شيئًا أو عن تاريخها أو أو … إلخ. فذهبت في اليوم نفسه إلى المسئولين في إدارة عابدين، ويا ليتني ما فعلت! فعندما كنت أسأل أحدهم عن هذه المدرسة، التي أُغلِقت منذ ست سنوات، كان يقول: «ياه! من ست سنين وجاي تسأل عنها دلوقتي!» فيا تُرى ماذا سيكون ردُّه لو عَلِمَ أنني أبحث عنها من أجل أستاذ وناظر، كان يعمل فيها منذ مائة وعشرين سنة!
وبعد مشقة كبيرة، أَخْبَرَنِي أحد الموظفين بأن أذهب إلى إدارة المباني بالإدارة التعليمية، لعلَّني أجد إجابة عن هذه المدرسة. فذهبت ولم أَجِدْ من يستمع لي! فقال آخَرُ: اذهب إلى إدارة كذا، ولم أجد غير الضحك والسخرية، عندما أَبَنْتُ أنني أبحث عن ناظر لهذه المدرسة كان يعمل منذ أكثر من قرن مضى، فرد عليَّ أحد الموظَّفين: «طيب اسأل عنه، مش يمكن يكون لسه عايش؟» … إلخ التعليقات المحبطة! حتى لاحظت إحدى الموظفات، واسمها يدل عَلَى أنها نصرانية، قالت لي: اذهب إلى البطرخانة بالعباسية؛ لأن هذه المدرسة كانت مُعانة من قبل الأقباط، فاستحسَنْتُ رأيها الذي أثلج صدري بعد يأس كبير.
وفي اليوم التالي ذَهَبْتُ إلى البطرخانة بالعباسية. والحق يُقال، فقد تم استقبالي عَلَى أحسن وجْه ممكن أن يُقابَلَ به أيُّ مواطن من قِبَل الموظَّفِين! وقابَلْتُ شخصين يعملان في سكرتارية ديوان البطرخانة، وشرحْتُ لهما الموقف كله، وأنا في حرج شديد باعتباري أحد المسلمين، يريد أن يكتب عن أحد النصارى! والحقيقة أن استقبالهما وحوارهما معي أزالَ هذا الحرج، وشعرت للمرة الأولى بمعنى التسامح الديني بين المسلمين والنصارى بصورة عملية! وعندما عَلِمَا بموضوعي، راح كلُّ فرد منهما يبحث في أوراقه وملفَّاته عن خيط يؤدي بنا إلى معرفة المزيد عن تادرس وهبي، ولكن بكل أسف دون جدوى! فعلى سبيل المثال، تم البحث في كشف المقابر القبطية في مصر، لعلنا نجد مقبرة باسمه، ومن خلالها نعلم من هم ورثته أو أولاده، ولكننا فشلنا في هذا. وذهب أحدهما إلى رئيس الديوان لعله يعلم شيئًا عن هذا الرجل، دون جدوى أيضًا. وفي النهاية أَخَذَ الموظفان عنواني وطُرُق الاتصال الخاصة بي، لعلهما يجدان شيئًا مفيدًا قريبًا، فيسارعان بإخباري به. ولكن للأسف حتى كتابة هذه السطور لم يصلني أي شيء منهما!
هذه هي قصتي مع مدرسة الأقباط بحارة السقائين، أردْتُ ذِكْرَها بصورة تفصيلية ليَشْعُرَ القارئ بقيمة وأهمية التاريخ الذي يَضِيعُ بين أيدينا، وليشعر أيضًا مدى المعاناة التي يتكبَّدها الباحث وراء المعلومة. فكنت أتمنى أن أجد كل شيء عن هذه المدرسة، حتى تكون خلفية لدور تادرس وهبي، والذي عمل أستاذًا وناظرًا لها منذ مائة وعشرين سنة، ذلك الدور الكبير، الذي سنحاول التعرف عليه من خلال مؤلَّفاته.