المقامة السادسة: في تَعَرُّف يوسف عليه السلام بإخوته
الفصل الأول: في قدوم إخوة يوسف مع بنيامين من أرض كنعان إلى مصر
قال بعض الإخوة يخاطب يوسف عليه السلام: أدام الله السيد تاجًا على هام الوزراء، وعقدًا تزدان به أجياد العظماء والأمراء، نَعْرِض أننا أَنْجَزْنا ما وَعَدْنا، وجئناك من الشام بأخينا بنيامين وعُدنا، فالحمد لله الذي منَّ علينا برؤية محيَّاك، يتلألأ بدر عزِّك في سماء علاك، وها هو واقف وقفة المغترف من دأماء عليائك، المقتطف ثمرة الفرج من دوحة حكمة قضائك، فانظر إليه بعين الشفيق، وارأف به رأفة الشقيق بالشقيق، ولعله يشفع لديك في فكِّ أَسْر أخيه، ويرجع بنا رافعًا علم الفوز لأبيه.
قال ممثل يوسف عليه السلام: لقد أحرزتم قصب السباق في ميدان الإنجاز، واتَّخذتم الحقيقة لقضاء حاجتكم خير مجاز، فلعل أباكم يكون في عيشة من الشوائب صافية، رافلًا من نعمة العافية، في مطارف ضافية، وعسى أن يكون قد اتَّخذ الصبر لباب الفرج مفتاحًا، وأَيْقَنَ بأنه سيُقَدِّرُ له الله في غابر الأزمان نجاحًا متاحًا، بارَكَ الله فيك يا بُنَيَّ بركة طَيِّبَة، وصَبَّ عليك من غيث الإكرام وابِلَهُ وصَيِّبَه.
قال قائل منهم: لا زال الوزير بحرًا تُلْتَقَطُ منه لآلئ الفضائل، وبدرًا تَجْتَاب أضواؤه بروج الأندية والمحافل، إن أبانا ما برح حيًّا إلى الآن يثني عليك بلسان الشكر الذي هو خير لسان، وكيف لا يقابل أمر السيد بالطاعة، والتمسك بسبب الصبر الذي هو لمثله بضاعة، وثبته بالله كشف تلك الكروب، وشروق شمس صفائه التي كادت تجنح إلى الغروب، لا برحت نعماؤك موصولة بصلة البقاء، مكتسية على مدى الأيام أردية ثناء ودعاء.
قال ممثل يوسف عليه السلام: قد حقَّت علينا معاملتكم بالجميل، وإيثار دلالة أخيكم البينة على ألف دليل، فأَكْرِم وفادَتَهُم أيها الوكيل إكرامًا، وأَعِدَّ لهم على مائدتي اليوم طعامًا، وها نحن مقتفوك لنتناوله مع أولئك الأمناء الغرباء، الذين ليسوا كما علمنا عيونًا ورقباء.
الفصل الثاني: في إرسال يوسف عليه السلام وكيله خلف أخوته عقب رحلتهم من مصر
قال ممثل يوسف عليه السلام يخاطب الوكيل: عليك باقتفاء أثر أولئك الرجال، والبحث عن السقاية لعلك تستخرجها من بعض الرحال، وقل لهم: ما بالكم أسأتم إلى مَنْ أَجْزَلَ قِرَاكم وأحسن بكم وآواكم.
الفصل الثالث: في ما جرى بين الإخوة وبين الوكيل وأصحابه
قال وكيل يوسف عليه السلام: أيها القوم، كيف مددتم أيدي الأطماع، وأقدمتم على السرقة التي حَكَمَ بحرمتها الإجماع، أما عَلِمْتُم أن الإساءة مِنْ حيث يُرْجَى الإحسان أَضَرُّ، والإغضاء عن تأديب الكنود تقوم بتجريحه دعوى النظر، فابسطوا لي حقيقة ما جرى، وعند الصباح يحمد القوى السرى.
قال قائل منهم: حاشا لله أن نمدَّ إلى السرقة يدًا، وتالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض أبدًا، أوَلَمْ نُضْرِبْ عن أنكار ما جُعِلَ في رحالنا من البضاعة إضرابًا، ولم نُرِدْ أن نجعله لسيف الطمع غمدًا وقرابًا، وكيف لا ندرأ عنَّا شبهة هي لحميد الخلال منافية، أو نجرأ على استجلاب سخط رب الجلال الذي لا تعزب عنه خافية.
قال الوكيل: فما جزاء من وُجِد الصواع في رحله، ونوى أن ينقلب به راجعًا إلى أهله؟!
قال قائل منهم: من وُجِد في رحله فهو جزاؤه، كما أنا نكون عبيدًا لمولاك يحق علينا ولاؤه، ويخفق على رءوسنا علم عدله ولواؤه.
ثمَّ فتَّش رحالهم فاستخرج السقاية من رحل بنيامين، فقال: الآن حصحص الحق وزهق الباطل، وتبين أن قولكم عن حلية الصدق عار عاطل، فهلمَّ إلى صاحب السقاية ليعاقب السارق بما يشاء، أدبًا له وعبرةً لغيره من ذوي الأغراض والأهواء.
قال قائل منهم: ما هذا الأمر الموجب للهوان؟ وما هذا العار الذي لم يكن لنا في حسبان؟ بل ما هذا التواني عن شق الجيوب، وبث لواعج الحزن على بني يعقوب؟ وا أسفاه على حلول هذه المصيبة، التي سهامها في العصابة الإسرائيلية مصيبة، ليتنا لم نتأبط عصا الرحلة بنية الرجوع، أو انتهشَتْنا ببلاد كنعان أنياب الجوع، ولكن هيهات الفرار، مما رَقَمَتْه في اللوح المحفوظ أقلامُ الأقدار.
الفصل الرابع: في وقوف الأخوة بين يدي يوسف عليه السلام، وما جرى بينهم وبينه من الحديث في هذا المقام
قال ممثل يوسف عليه السلام: ما بالكم قابلتم نعمتنا بالكفران؟ وجازيتمونا بالإساءة مكان الإحسان؟ هلا انتهجتم محجَّة الهداية؟ وعالَجْتُم بدواء الرشاد داء الغواية؟
قال قائل من إخوته: لا سبيل لنا إلى ردِّ الجواب، أو التَّفوُّه ببنت شفة في معرض الخطاب، فدونك رجالًا يعتكفون في محاريب نَهْيك وأَمْرك، ولا يكتفون إلا بمطلق التقيد بقيود أَسْرك.
قال ممثل يوسف عليه السلام: أنَّى لي أن آخُذَ الجار بذنب الجار، وأنحرف عن جادَّة الصواب كمن ظلم وجار، لا والله لآخُذَنَّ أخاكم الأصغر أسيرًا، ولا أراه يُحَاسَب على الجناية إلا حسابًا يسيرًا، فامضوا إذن من حيث أتيتم، واشهدوا لدى أبيه بما شاهدتم ورأيتم.
قال قائل منهم: أيها العزيز أَعَزَّ الله شانه، وحَفِظَه من طوارق الحدثان وصانه، إن له أبًا شيخًا كبيرًا فخذ أحدنا مكانه.
قال ممثل يوسف عليه السلام: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، ومن سَرَقَ مِنْ أحد صار بمقتضى الشريعة عَبْدَه، فليأخذ كلٌّ منكم عصا التسيار باليمين، آيسًا بالمرة من تحرير رقبة بنيامين.
قال قائل منهم: لا بَرِحَتْ ملحوظةً بطرف الكمال صفات كمالك، ونِيلُ الوفاء يستمد من مقياس أصابع يمينك وشمالك، أعرض لسيدي وأنا استغفر الله حياءً من الناس، وأضرب مما جرى به القدر أخماسًا في أسداس، إننا حين راجعنا أبانا بقصة شمعون واعتقاله، وراودناه عن بنيامين مع تعليق العودة على شرط إرساله، عَظُمَ عليه هذا الأمر، وكاد — لولا الصبر — يتقلب على الجمر، وقال: ما بالكم أطنبتم في رواية خبري إطنابًا، وجعلتم لها رءوسًا وأذنابًا، حتى ارتاب الأمير في حقيقة حالكم، وأحبَّ أن ينجلي له صِدْق مقالكم، أتجاوَزْتُم حدَّ الآداب، ولم تميِّزوا في قولكم بين خطأٍ وصواب، أم تناسيتم ما سوَّلَتْه لكم النفس الأمَّارة من الخداع، وأردتم أن تُلْقُوا بنيامين كما أَلْقَيْتُم يوسف في جب الضياع. فقلنا: لا، بل ما حسب الأمير جوهر مقصدنا إلا عرضًا، وما ظنَّ أنَّ لنا من المآرب السياسية إلا غرضًا، فلم نُلْفِ مناصًا من كَشْفِ تلك الظنون، والاستدلال من ترجمتنا على البراءة من سواد العيون، فليطمئن قلبك من جهة الغلام، فإن له من الله عينًا كالئةً لا تنام. فأصرَّ على عدم الرضى، وقال: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه فيما مضى، ثمَّ رأى أنَّ رَدَّ البضاعة لا يلائمه السكوت، وأحكام الضرورة قاضية بالذي يَحْفَظُ الرمق من القوت، فأخذ علينا من الله موثقًا وعهدًا، بأن لا نألُوَ في العناية بحفظه جهدًا، فعاهدته على ذلك عهدًا وثيقًا، وأَلْجَأْتُه لأن يرسله معي قرينًا ورفيقًا، فإن شَهِدْنا أمامه تصريحًا وضمنًا، وقلنا إن ابنك سَرَقَ وما شهدنا إلا بما علمنا. قال: بل سوَّلت لكم أنفسكم أمرًا، وايم الله لقد جئتم شيئًا إمرًا، وإن قلنا أكله الذئب كان أَوْجَعَ لقلبه بإعادة الحزن القديم، وقال: عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا، إنه هو العليم الحكيم. فبالله كيف أصبر على الحنث في يميني، أو أصافح أباه لدى العودة بيميني، لقد عزَّ عليَّ التخلص من هذا الإشكال، ولم أَصِلْ إلى نتيجة من مقدمات تلك الأشكال، فأناشدك بالله أن ترأف بي أيها الأمير الأمين، فلن أَبْرَحَ الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
قال ممثل يوسف عليه السلام: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه، وأدرَكْتُم مآل إلغاء كل منكم لأواخيه، ولقد أنبأ ظَاهِرُ فِعْلَتِكم بانقيادكم إلى الجفاء الذي ليس له ثبوت، وتمسُّككم بسبب الاعتداء الذي هو أَوْهَن من بيت العنكبوت، ثمَّ كدتم لأخيكم من أبيكم كيدًا، ولم يَأْتِكُمْ أن الله إنما يمهلكم رويدًا، وقد ظهرت دلائل عدله سافرة القناع، ومنَّ عليَّ وعلى أخي بمنة الاجتماع، وهي منة لاح في صحيفة التقوى عنوانها، ودل على حصول الفرج بعد الشدة برهانها.
قال قائل من أخوته: تالله لقد آثرك الله علينا بأنواع الفضائل، وأَنْطَقَكَ بقولٍ فَصْل لم يَبْقَ معه مقال لقائل، فلله درك من ذي سيرة حسنة شهودها عدول، وسريرة ما لها عن ابتغاء مرضاة الحق عدول، ولئن أخطأنا في صُنْعِنا بك خطأً بيِّنًا، وعَدَدْنا قطيعة الرحم أمرًا هيِّنًا، فنحن مسيَّرون لما سَبَقَ في علمه تعالى، وحلمك يطمعنا في أن نتفيَّأ من الفضل ظلالًا، ولا مرية في أن العفو شأنُ أولي الشان، وإسداء المعروف على كَرَمِ المحتد أَوْضَحُ عنوان.
قال ممثل يوسف عليه السلام: إن رحمة الله لَأَوْسَعُ من أن تحصرها الأحلام، ويختص بها قوم دون قوم ولو في الأحلام، فلا تثريب عليكم اليوم ولا عتاب، وعفا الله عمَّن استغفر مولاه وتاب، ولو لم تُسَيِّرْكُم فيما صَنَعْتُم أحكام الإرادة، لما وَصَلْتُ لمقام مهد الله لحفظ عشيرتكم مهادة، فابشروا بشرى من استمطر غيث العفو ففاز بأعظم منحة، أو ميئوس من بُرْئِه اشْتَمَّ من روض الألطاف عبيق عبير الصحة، وها هو يوسف يخاطبكم بلسانه، ويترحَّم عما وَقَعَ من الحوادث بترجمان بيانه، فليكن إعلامكم لأبي مصوغًا في قالب التحقيق، كافيًا في الدلالة على أن الصلاح عنوان التوفيق، بحيث لا يجد لتفنيد مقالكم مجالًا، وائتوني بأهلكم أجمعين نساءً ورجالًا، وإليكم مني هدية تدل على صدقكم في الرواية، وتبعث أباكم لأن يلحظكم بطرف الرعاية.
فأنشأ ممثلو الإخوة يقولون ما معناه: