المقامة السابعة: في قدوم يعقوب عليه السلام من أرض كنعان إلى مصر
الفصل الأول: في اجتماعه بيوسف عليهما السلام
قال ممثل يوسف عليه السلام: مرحبًا بمن عزَّ عليه الفراق، وجرى لما جرى به حُكْم القدر دَمْعُه المهراق، مرحبًا بمن لبث مدة محجوبًا عن الناظر، ولكنه لم يبرح مصوَّرًا في مرآة الخاطر، يناجيه الضمير بلسان الولاء، ويراعيه بإنسان غَشِيَهُ ما غَشِيَهُ من يَمِّ البكاء، مرحبًا بمن اتخذ الصبر الجميل شعارًا، وهَبَّتْ ريح يسره رخاء بعد أن لاقت إعصارًا، مرحبًا بمن وازرني دعاؤه فأصبحت وزيرًا، وحقَّ علي ولاؤه صغيرًا وكبيرًا.
ولقد ألفيت لشرح رسائل الشوق وسائط ووسائل، فلا ترام على عنقك أخاطبك يا أبتاه بلسان القائل:
فما أسعد يومًا روى مني الغلة، وشفى من فؤادي المفئود أَيَّمَا علة، بل ما أحسن إدبارًا عاقِبَتُه إقبال، ويومًا تزري براعةُ مطلعه بكل أمرٍ ذي بال، ولَتِلك عادة الأيام تحسن وتسيء، وتولي آونة وآونة تجيء، لا أذاقنا الدهر صرْف صروفها الماضية، ولا برحت طوالع سعودها بجمع الشمل قاضية.
قال ممثل يعقوب عليه السلام: ليت شعري، بماذا أجيب وأشرح ما خامر الخاطر من السرور بلقاء الحبيب، أم بأي وصفٍ أَصِفُ يومًا انتظم عقد وفائه، واجتلب مَنَازِلَ السعود بَدْرُ صفائه، وقد أحيى ببهجته ميِّت الأحياء، ونبَّهَ طرف أمله — ولله الحمد — بعد الإغفاء. ليت شعري، أنَّى يتهيأ لي بث الشوق، ويهنأ لي أن أسوقه بلسان البيان أَجْمَلَ سَوْق:
فمرحبًا بك يا قرَّة عيني، يا من عزَّ فراقه لديَّ، مرحبًا بمن لم يبرح في سويداء الفؤاد، ومحله من العين قرين السواد، مرحبًا بمن أبرأ داء أشجاني بلقائه، وردَّ فؤادِيَ المسلوب بسحر بيانه الحلال وحسن إلقائه.
فهنيئًا لك بنعمة قُلِّدَ بها جيدُك، وعُزِّزَ بطريقك من المجد تليدك، بل هنيئًا لي فلأنعم الآن بالًا، وأقبل عَلَى اجتلاء أنوار طلعتك المباركة إقبالًا، ملتمسًا منك العفو عمَّن أساءوني وإيَّاك، ونووا أن يوقعوك من الضياع في أشراك، حتى نكون متفقين في اغتفار الإساءة، مستبقين في قضاء ما أوجب الله علينا قضاءه، لا برح سَعْيُك المشكور مَشِيدَ الأركان، مؤسِّسًا بنيانه عَلَى تقوى من الله ورضوان.
قال ممثل يوسف عليه السلام: إن لله ألطافًا لا يحوم عليها طائر فِكْر، ولا يقوم بحق ثنائها لسان الشكر، فطوبى لمن استقبل قبلة الطاعة، وأنفق في سُبُل البِرِّ رَأْسَ مال البضاعة، فهو المنتهج خطة الهدى، الموفَّق لما يُحمد عليه اليوم وغدًا، وقد لَاحَظَتْني عيون العناية بيقين، وتَسَنَّى مع نعيم الدنيا ليوسف صلاحُ الدين، نظرًا لحرصي عَلَى ابتغاء مرضاته، وعلى اتقائه تبارك وتعالى حَقَّ تقاته، وَلَكَمْ راوَدَتْني التي كنت في بيتها عن نفسي فأَبَيْت، وآثرت السجن عَلَى قضاء لبانتها وهي صاحبة البيت، ودَخَلَهُ معي فَتَيَان اُتُّهِمَا بالخيانة الملوكية أيما اتهام، أحدهما صاحب شراب الملك والآخر صاحب الطعام، فقص عليَّ هذان الفتيان، حلمين كانا فيهما يستفتيان، فنبَّأتهما بما كشف عن تأويلهما النقاب، ورُدَّ أحدهما إلى وظيفته كما استوجَبَ الآخر العقاب، ثمَّ رأى الملك رؤيا تشعبت فيها الآراء، وأعجز تأويلها من بمصر من السحرة والحكماء، فجرى ذكرِي عَلَى لسان رئيس السقاة، ووسمني أمام فرعون بسمة الكملة الثقات، فدُعِيتُ لأن أعبر تلك الرؤيا تعبيرًا، وأَتَنَسَّمَ من خلال أزهار أسرارها مسكًا وعبيرًا، فرأيت معناها بعيدًا قريبًا، ومؤدَّاها أمرًا عجيبًا غريبًا، يستدعي استنهاض الهمم، والسعي في ادِّخار الزاد عَلَى ساق وقدم، فرارًا من غائلة قحط يعز تلافي إتلافه، وينتشر بخيله ورَجْله في أطراف القطر وأكنافه، فقلَّدني الله مقاليد التدبير، وأقامني لديه — أيده الله — مقام الوزير، كل هذا ببركة دعائك، وتيسيرًا لوسيلة بقائك وبقاء أبنائك، فجزى الله أخوتي خيرًا عَلَى هذه الفعلة، التي هي من قبيل الإرادة الإلهية في الجملة، وكيف لا ألحظهم من طرف مكارم الأخلاق بإنسان، ولا أتغاضى عن إساءة كلما وايم الحق إحسان، أم كيف لا أقتدي بأبي، وقد أحسن تأديبي، ولا أهتدي بنجوم آدابه الزواهر، وهو ولي تهذيبي، فيا إخوتي ثقوا بي وثوقًا كليًّا، واعلموا أني لا أَنْكُثُ عهد الإخاء ما دُمْتُ حيًّا.
قال قائل من أخوته: لقد استوفيْتَ أَجْرَ من ابْتُلِيَ فصبر، وجُوزِيتَ جزاء من أغناه مولاه فشَكَرَ، فلله درك ما أزكى شمائلك، وما أكرم في مقام العصمة فضائلك، وإن عَفْوَك عنَّا لقطرة من ديم تلك المآثر، ومكرمة يحق لنا أن نفاخر بها ونكاثر، حيث استَرْضَيْنَا جانب الابن وأبيه، وأمضينا نية جمع الشمل بين الوالد وبين بنيه، فلنسجد لله عَلَى هذه المنن شُكْرًا، ولنثبتها لك في جريدة الثناء الجميل ذخرًا.
الفصل الثاني: في اجتماع يعقوب عليه السلام بفرعون مصر
قال ممثل يوسف عليه السلام يخاطب فرعون مصر: يا حضرة الملك، هذا أبي يشيد بيت مديحك تشييدًا، ويبتهل إليه تعالى بأن يؤيدك بتوفيقه تأييدًا، قادمًا يزجي لمصر ركائب الأشواق، طامعًا في ما تحلَّيْتَ به من مكارم الأخلاق، فلا تصدَّهُ عن تفيُّؤ عوارفك الوارفة الظلال، والسقيا من مورد كرمك الأعذب من الماء الزلال، لا زالت حياض آلائك مورودة، ورياض حماك لكل آمل مقصودة.
قال فرعون مصر: كرَّم الله وجهك أيها الشيخ الذي قصد حمانا، وقلَّدنا من قلائد المنة درًّا وجمانًا، كيف لا نُسَرُّ بقدومك وأنت معدن الحكمة والبركة، ومهبط أسرارٍ هي بينه وبين يوسف مشتركة، فدونك بلدة طيبة تعيش فيها حيث شئت رغدًا، وبشراك وأهلك فقد يَسَّرَ الله لكم من أمركم رشدًا، ولَكَمْ سعى نَجْلُكَ في نفع هذه الديار، فكُلِّلَتْ بإكليل النجاح مساعيه، وكفاها مؤنة الافتقار وإنسان عين العناية يرعاه ويراعيه، فلهج بشكره أهلها، وصار في قبضة أَسْرِه كثرها وقلها، فهكذا تكون ثمرة تربية الآباء، بل هكذا يكون مظهر نجابة الأبناء، إذ لولا تعلقه بأهدابك واقتداؤه بآدابك، لما شبَّ مترشِّحًا لمباشرة الأحكام، متوشِّحًا بوشاح الكياسة المعقود بنطاق الأحكام، ولا مرية في أن الولد سرُّ أبيه، أشبه شيء به جل من لا له شبيه.
قال ممثل يعقوب عليه السلام: لا زالت روضة مآثرك الغراء دانية القطاف، وعروس الأدب بإنشاء محامدك وإنشادها مترنِّحة الأعطاف، هذا فؤادي يقتبس دراريَّ الأمل من سماء آلائك، ويلتقط درر الثناء الجميل من بحار ولائك، فهبْني استنزلت لشكرك الدراري في أفلاكها، أو أتحفتك بالدرر منضدة في أسلاكها، لما حسبت إلا محدِّثًا عن روايتك، آخذًا في المديح برأيك ورايتك، ولئن استرضاك ولدي بالإقبال عَلَى خدمة هذا الوطن، وسار في أهله سيرة النبلاء أولي الفطن، فقد اقتدى بحضرة الملك قدوة الفرع بأصله، وعمل عَلَى شاكلته في حكمه وفصله، كيف لا وقد توسَّمت فيه الخير فاصطنعته لنفسك، وسقيته خمرة السياسة الملكية من سقايتك وكأسك، فهو غَرْس نعمتك ونبات راحك وراحتك، وقد بلغت من العمر مائة وثلاثين سنة إلى الآن، جلُّها بل كلُّها أكدار وأحزان، تنحرف في خلالها الأيام عني انحرافًا، وتريني الأحداث والكوارث ألوانًا وأصنافًا، بَيْد أن فضلك الجم أَنْسَانِي ما سلف، وجعل لي — ولله الحمد — مندوحة عن الأسى والأسف.
وستراني بأرض رعمسيس راعيًا عَهْدَك وذمامك، راجيًا منه تعالى أن يجعل عاقبة الخير ختامك.
ثمَّ أنشأ يعقوب يقول ما معناه: