المقامة الثامنة: في نَقْل جثة يعقوب عليه السلام من مصر إلى أرض كنعان
الفصل الأول: في رثاء يوسف ليعقوب عليهما السلام
قال ممثل يوسف عليه السلام: ما لي أرى الأيام مولعة بالجفاء، مغرمة بتفريق الآباء من الأبناء، لم تهدأ لها حال إلا اضطربت، ولا اتخذت يدًا إلا استلبتْ ما وَهَبَتْ، فواهًا لأرومة الأفضال اغتالَتْها يد الردى، وجرثومة الكمال ذهبت بها ريح الفناء سُدًى، ووا حسرتاه عَلَى بحر المعارف غِيضَ ماؤه، وبدر العوارف حُجِب عن الأبصار ضياؤه، ودَّع فأودع بقية من الأحشاء، بقيت ويا للعب دون سهام الأيام طي غشاء.
ولقد أنست بوالدي في مصر سبعة عشرة سَنة، ثمَّ تنبَّه لي طرف المنية بعد السِّنة، فأُنْسِيتُ في لحظةٍ حلاوةَ تلك الأيام، التي مرت وما كأنها إلا أضغاث أحلام، وقد اطمأنت نفسي بلقياه بعد الغياب المدة الطويلة، وفاتني أن الدهر كَلِف بتفريق الأحباب يتوسل إليه بأية وسيلة، فما أبعد المغتر بزخرف الدنيا عن مهيع السداد، وأقرب المطرحها ظهريًّا من الفوز بمرضاة رب العباد.
فهلم نستمطر لرثائه سحب الدموع من سماء الجفون، ونفجر على ذكرى مآثره المبرورة عيون العيون، فقد عزَّ عليَّ الصبر على فَقْده، ولا أعلم يا إخوتي من يكون لنا بمنزلته مِنْ بَعْدِه.
قال بعض أصحابه: فَسَحَ الله لسيدي في أمَدِ بقائه، وشرح صدره للمطالعة في كتاب عزائه، لقد عَظُمَتْ لدينا الفجيعة التي فجعك بها الحدثان، وحق علينا أن نشاركك في بث لواعج الأشجان، دفعًا لغائلة الهمِّ بجيش التعزية، ورفأً لثوب الغم بخياط التسلية.
وفي علم مولاي كتب الله له بذلك أجرًا، وأَلْهَمَهُ على هذا المصاب عزاءً وصبرًا، أن هذه الدنيا ليست بدار إقامة، بل هي سفينة يُتَوَصَّل بها إلى بر سلامة أو ندامة، فيا سعادة من تزوَّد منها بالأعمال الصالحة، وكانت تجارته في سوق الحياة الدنيا رائجة رابحة، ويا شقاء من باء منها بصفقة خاسرة، ولم يتزوَّد في أولاه بزاد الآخرة، ولا ريب أن أباك قد وَرِثَ الجنة بأعماله، وانبعث في أفقها من شمس الهداية شعاع كماله، يتهلل فرحًا بالفوز في مصاف الأنبياء، ومن أعقب فكأنه في عداد الأحياء، فطِبْ نفسًا بما أوتي من جزيل الثواب، واعلم أن الرضى بحلول القضاء عين الصواب، وقاك الله شر انتياب النوائب، وجعل هذا الرزاء خاتمة ما ألمَّ بك من المصائب.
الفصل الثاني: فيما خاطب به الإخوةُ يوسفَ عليه السلام
قال بعض الإخوة: لله هذا الصاحب، فقد أعرب عما في ضمائرنا، وأغرب في التسلية فشرح صدر أوَّلنا وآخرنا، فناهيك أيها الأخ عظة بمقاله، وقدوة بمثاله البديع وأمثاله، وما لنا نجزع على وفاة الوالد عليه السلام، ولا نطمع في الحصول بالعمل الصالح على حُسْن الختام، وله تعالى وحده الملك والملكوت، ومآل كل حيٍّ في الدنيا أن يموت ويفوت.
فلنكن يدًا واحدة في إنجاز وصية الوالد وعَهْدِه، وننقل جثته من مصر إلى قبر أبيه وجدِّه، لتكون جامعة عظام آبائنا بلاد كنعان، قيامًا بحب الوطن الذي حُبُّه من الإيمان.
قال ممثل يوسف عليه السلام: هلم بنا نُقْبِل على إخلاص الولاء، ونتمسك بعروة مراعاة شئون الوفاء، وَلَكَمْ عَزَمْتُ أن أفتتح باب الحديث في هذا المقام، وهَمَمْتُ أن أقوم بوفاء العهد أيما قيام، فرأيت أني عن إبداء هذه الملاحظة لفي عقال، وكأني أسير لا يُطْلِق إلى ساحة الحرية المقال، وقد بعث الله لي منكم مُعينًا على إنجاز تلك الأمنية، التي أَوْشَكَ أن يبوح بها يقينًا لسان حال النية، فينبغي علينا أن نقوم والحالة هذه بحفظ الذمام، ونحتفل بتشييعه سعيًا على الأحداق لا سعيًا على الأقدام، بَلَّغَنا الله الأوطار بالرحلة إلى تلك الأوطان، وحَقَّقَ ما وعد به آباءنا فيما غبر من الزمان، إن الله لا يخلف الميعاد، وإليه تبارك وتعالى المرجع والمعاد.